رسالة ليبيا: احتفالية للصادق النيهوم

وثلاث نجوم إبداعية تنطفئ فجأة

محمد الأصفر

أبرز حدث ثقافي في شهر ابريل 2009 شهدته ليبيا هو إقامة إحتفالية كبرى تكريما للأديب الليبي الصادق النيهوم كذلك رحيل ثلاث مبدعين في أيام متقاربة من هذا الشهر هم: الشاعر المبدع محمد المهدي، وموسيقار المألوف الشهير حسن عريبي، والمخرج الفنان على النعاس. وفي هذه الرسالة قمت بتغطية شاملة للاحتفالية مع كتابة مقالة عن الشاعر محمد المهدي، وأفردت للروائي الليبي المخضرم د أحمد ابراهيم الفقيه المجال ليكتب عن رحيل الفنان حسن عريبي، وما يمثله هدا الموسيقار للفن وللمالوف بوجه خاص من قيمة كبيرة. على تمام العاشرة صباحا من يوم 22 ـ 4 ـ 2009 م انطلقت بدار الكتب الوطنية الليبية ومن داخل رواق قاعة الصادق النيهوم فعاليات احتفالية الصادق النيهوم الثقافية وهذه الاحتفالية التكريمية جاءت كرسالة وفاء ترسلها الحياة عبر تاريخ الإنسانية. لكل من أبدع وتألق وأخلص لمشروعه بصدق وشفافية ولكل من قدم رحيق فكره ودفء عرقه للإنسان حيثما وجد وأينما كان.. وجميل جدا أن تواكب هذه الاحتفالية التكريمية احتفال العالم كله بالعيد العالمي للكتاب وحقوق النشر والمؤلف، هذا الاحتفال الذي اعتمدته منظمة اليونسكو سنة سنوية منذ منتصف تسعينيات القرن المنصرم، تكريما للكتاب وللعلم ولمبدعين عالميين رحلوا في يوم 23 ـ 4 منذ قرون خلت منهم على سبيل المثال المبدع الانجليزي المعروف وليم شكسبير والمبدع الاسباني الكبير سرفانتس.

لقد جاءت هذه الاحتفالية التكريمية بعد المرور الكريم للأديب الليبي معمر القذافي في إحدى جولاته وتفقداته لمدينة بنغازي حيث توقف في دار الكتب الوطنية ذات مساء، واقترح أن تسمى المكتبة مكتبة الصادق النيهوم تقديرا لدور هذا الأديب في مدونة الثقافة الليبية والعربية والعالمية، ومن تلك اللحظة شهدت الدار عدة أنشطة ثقافية مهمة غلب عليها جانب الوفاء ولتتوج هذا الشهر باحتفالية كبيرة للأديب الصادق النيهوم تستذكره فيها بحب وتشعل مشعل ذكراه بزيت الوفاء الذي لا يجف أو ينفد مادامت في القلوب خفقات تعشق الجمال والحب والسلام.

ومعلوم أن الصادق النيهوم لم تنظم له أي احتفالية كبيرة منذ السنتين التي تلت رحيله في عام 1994م مع تقديري واحترامي لعدد من المناشط والملفات التي تناولته في العديد من المطبوعات.. لكن الشيء الجميل الذي أود تسجيله أو تسميته بالتكريم الصامت هو المجهود المشكور من الأستاذ الأديب سالم الكبتي والأستاذ الأديب محمد عقيلة العمامي والفنان الفوتغرافي فتحي العريبي من أجل لملمة وحفظ ذاكرة النيهوم ومنجزه الإبداعي من خلال إصدار كتبه وجمع رسائله ومتعلقاته وصوره وشرائطه وتقديمها للقارئ في صورة إبداعية جميلة. هذه الاحتفالية هي بالأساس احتفالية تكريمية ويغلب على الاحتفاليات التكريمية في كل انحاء العالم أن يتقدم الكتاب والباحثين والمشاركين بأوراق تذكر الشخصية المكرمة بالخير وتسلط الضوء على انجازاته وتمدحه وتقدره دون أن تنتقد أعماله أو مواقفه في الحياة فمن هنا غلب على الأوراق المقدمة ضمن فعاليات الاحتفالية الجانب الاحتفائي الخالص وحتى إن وجدت أوراق تنتمي إلى النقد فهي أوراق تحلل بعض أعماله بصورة موجبة دون أن تنتقد أو تسجل ملاحظات تضع منجز النيهوم الإبداعي على المحك النقدي الصحيح المنطلق من عدم وجود نص كامل في الحياة وكل النصوص المحكمة التي كتبها البشر من السهل حلها ورؤية ما فيها من ثغرات. ولا أعتقد أن دار الكتب الوطنية قد غفلت عن هذا الجانب وحتما ستخصص ندوة نقدية علمية تدعو إليها نقاد بارزين جادين متمرسين لتناول أعمال النيهوم وكل أعمال كتاب ليبيا خاصة كتاب الرعيل الأول بعيدا عن الجانب الكرنفالي المأتمي التكريمي الذي ينفع الجانب الوجداني من الإنسان ويزرع قيم الحب والوفاء في نفس المكرم وذويه ومحبيه لكن لا يقدم شيئا مهما للمستوى الإبداعي الليبي الذي يرغب الجميع في رقيه ورفعته وتطويره ليواكب الفضاء الثقافي العربي والعالمي وليتجاوزه بالطبع.

في هذه الاحتفالية رصدنا غياب العديد من المبدعين الليبيين سواء عن طريق تقديم الأوراق أو المشاركة الشخصية وأحترم وجهة نظر وأسباب الغياب عن هذا المحفل لكل غائب فالغائب كما يقولون عذره معاه.. مع العلم أنني اقترحت على أمين الدار استضافة بعض الأسماء الأدبية التي تجيد فعل القراءة والكتابة خاصة كتب النيهوم وقدمت مقترحي له في ورقة مع أرقام هواتفهم على سبيل المثال: الكاتب الفنان رضوان بوشويشة.. القاص عبد السلام الغرياني.. الناقد عبد الحكيم المالكي.. الروائي عبد الله الغزال.. الكاتب الهادي بن كورة.. الكاتب نادر السباعي.. الفنان أحمد فكرون.. الباحث عبد الحكيم عامر الطويل.. ووعد الأستاذ الشويهدي خيرا على الرغم من العدد الهائل الذي سيحضر هذه الاحتفالية حتى انه أخبرني عن مشكلة القاعة التي لن تكفي كراسيها الحضور واضطر إلى جلب أكثر من 120 كرسي صغير من أجل استيعاب العدد.

لقد لفت نظري أيام مجلة الناقد اللبنانية كيف أن مقالة النيهوم في المجلة هي المقالة الأهم وكيف أن القراء يتابعون هذه المقالة ويردون على أراء النيهوم والنيهوم يحاورهم ويرد عليهم مما أثرى المشهد الثقافي العربي بسجال فكري جميل تناول جوانب الحياة الكثيرة خاصة الدينية والسياسية.. ولعل الذي عجل بموت هذه المجلة وتوقفها هو غياب هذه المقالات برحيل كاتبها.. مع احترامي وتقديري لما يكتبه الشاعر الكبير أنسي الحاج وبقية الكتاب الآخرين الذين شكل معهم النيهوم بوتقة أدبية انتقدت أوضاع العالم وعرته من كل الأوراق ليراه القارئ على حقيقته.

وعلى الرغم من اللا مبالاة واللا اهتمام الذي لقاه النيهوم من قبل الصحافة الأدبية المصرية فلم أجد في جريدة أخبار الأدب التي يرأس تحريرها الكاتب جمال الغيطاني منذ تأسيسها في منتصف التسعينيات أي احتفاء بهذا الكاتب الليبي العربي الصادق النيهوم ولم يخصص له أي ملف عنه في هذه الجريدة مع حرصي على متابعة هذه الجريدة بصورة أسبوعية عبر الورق إن وجدتها في المكتبات أو عبر شبكة الانترنيت وأنا متأكد أنها لم تحتفي به ولم تخصص له أي ملف وإلا أخبرني بذلك الصديق الأديب المتخصص في الأدب الليبي الأستاذ سالم الكبتي ولوجدت الجريدة لديه أيضا.. لكن على الرغم من هذا التجاهل فقد أنصف هذا الكاتب قراء عاديين وأصحاب مكتبات ففي زيارتي الأخيرة للإسكندرية كنت أتجول في شارع النبي دانيال الشهير بأكشاك بيع الكتب القديمة ووجدت لدى أحد الباعة مجموعة الصادق النيهوم بهجة المعرفة وساومته لأعرف السعر وكان السعر غاليا.. لم يرض أن يخفض أكثر من خمس جنيهات مصرية.. قال لي دا كاتب كتبه تشتغل زي الفل عاوز كتاب آخر خده بجنيه بس وحتى ببلاش لكن بهجة المعرفة مش عايز ابيعها دي وجه الصندوق مثل الفاكهة.. تركته وتمنيت له التوفيق واستأذنته في التقاط صورة بالهاتف النقال لكتب الصادق فوافق مبتسما.

وهذه الأمور تعني أن الكتاب الجيد والكاتب الجيد له سحر خاص ومادته الابداعية ستتجاوز كل صفحات الظلام والشللية والمضاربة في مجال الثقافة وستشع مثل الشمس التي لن يستطيع كائن من كان أو أي سحاب من منعها من الشروق في موعدها وبث نورها ودفئها على الجميع بالتساوي.

جميل في هذه الاحتفالية أن نلتقي بكثير من الأصدقاء المبدعين من مختلف مدن الجماهيرية وأن نجدد أواصر الحب والود يظللنا إبداع النيهوم ودفء ذكراه وننتشي في ربوع كتبه وصوره وأشرطته التي تزين دار الكتب الوطنية وبنغازي جميعها ولو شرعت بلادنا في تشييد تماثيل لأعلامها في المجالات جميعها سيكون الصادق النيهوم في صدارتها هذا الكاتب الذي أجمع أغلب المثقفين والقراء على رفعة إبداعه مع احترامي بالطبع للمختلفين والمعتقدين أن منجز النيهوم لا يستحق كل الهالة ويعتبر غير ناضج قياسا ببقية المفكرين الآخرين في مصر وفلسطين ولبنان والمغرب وغيرها من البلدان وبالنسبة لرأيي الشخصي قد أوافق البعض في ذلك بعد أن يقدمون حججهم ودراساتهم المؤيدة لأرائهم لكن كلام مقاهي ابتسم له وأقول له عندك حق خاصة إن كانت القهوة والدخان ورصيد الليبيانا على حسابهم.

عندما اقرأ أي كتاب للنيهوم لا أشعر بالنعاس لأنني أقرأ الكتاب وأقرأ النيهوم معه في الوقت نفسه وماذا يفعل بالكلمات وكيف يرميها في الطبق مثل التكازة ثم يلمها سريعا ليرميها مجددا قبل أن تفقد تركيزك أو يسرقك منه الملل.. أنا أحترم هذا الكاتب وكل كتبه أعتبرها جيدة فيما عدا رواية من مكة إلى هنا لأنني أصنفها لأدب البحر وأدب البحر الذي كتب فيه ارنست همنجواي روايته أو قصته الطويلة على رأي الدكتور على القاسمي آخر من ترجم هذه الرواية قصة طويلة ومعظم روايات السوري حنا مينا الممتزج بحره بالواقعية الاشتراكية وغيرهما من الكتاب الذين تناولوا البحر وأدبياته في أعمالهم لم تستطيع كل الروايات البحرية التي قرأتها أن تتجاوز الرواية الأهم التي اعتبرها مقياسا للأدب الجيد وهي رواية ملفل (موبي ديك) الحوت الأبيض.

واعتقد أن الصادق نفسه غير راض عن هذه الرواية وفي حوار أجرته معه جريدة الأسبوع الثقافي من قبل الأستاذ عبدالرحمن شلقم والكاتب رضوان بوشويشة والروائي إبراهيم الكوني وشاعرة أعتقد أن اسمها فاطمة أفصح الصادق عن رغبته في إعادة كتابة الرواية مجددا وإدخالها ورشة التحسينات والتجويد.

لكن هذا لا يعني أن العنوان الذي نحته اسما للرواية ليس عنوانا إبداعيا كبيرا ويحمل رسالة حية هادئة مستمرة مستمدة من تاريخ ليبيا الضارب في أعماق التاريخ فمن مكة إلى هنا.. قد يقصد بهنا بلادنا ليبيا.. وقد يقصد بهنا القلب.. وقد يقصد أيضا قبل ذهابنا إلى الحج يجب أن نضع مكة في قلوبنا والخير في قلوبنا وقد يقصد أن المرافئ الأخرى التي نذهب إليها قد تأتي إلينا هي.. فهي أيضا دائما في حالة رحيل وحركة.. ولعل حرفي الجر من.. إلى.. هو الفكرة التي طغت على أدب الصادق.. الذي بدأ من منطقة سوق الحشيش ببنغازي وسافر إلى كل الدنيا.. ولم ينطلق من سوق الحشيش حتى جاءت له مكة أو المفهوم المقدس لرسالة المعرفة عبر كتب قيمه أبدعها من سبقوه من مفكرين وفلاسفة وفنانين وشعراء وروائيين ومترجمين وكتب سماوية مقدسة. فالعنوان الذي يجعلك تقصد كثيرا هو عنوان باهر لكن يقتضي ذلك أن تكون المادة المكتوبة متنا لهذا العنوان في المستوى نفسه كي يتطابق الظاهر مع الباطن ويرتقيان معا إلى سمو عظيم.

دائما النيهوم يبدأ مع قارئه من هنا إلى هناك.. خطوة خطوة.. ببطء وعلى مهل.. هو من الكتاب الذين يعشقون النحت.. والنحت صعب ويسبب ألما ويحتاج إلى جهدا رؤيويا وجسديا وعصبيا وهذا ما فعله الصادق بالضبط لقد قايض حياته القصيرة بكتب تركها للوجود.. في كل سطر منها ملايين من صادق النيهوم وهذا الكاتب كاتب مؤثر أي أنه يتسلل إلى أسلوب الكتاب الجدد وأفكارهم ورؤوسهم فيؤثر فيها ويصبغها نوعا ما بصبغته وينتظر أن تزول هذه الصبغة مع الأيام ليرى كاتبا جديدا اجترح طريقه بجهده ولم يستند على السابقين وإن لم تزل هذه الصبغة فيتيقن أنه قد أخطأ الطريق ويغادره ليتركه يتدبر أمره بلا سند فيكون أو لا يكون.. وهذا الأمر جعل الكثير من الكتاب الذين قلدوا النيهوم ينتهون في بداياتهم ومن استمر منهم في عالم الكتابة لا تستطيع أن تقرأ له سطرين لأنك تشعر أنك تقرأ للنيهوم وإن أردت قراءة النيهوم فستقرأ له مباشرة أي تقرأه في نسخته الأصلية.

وهؤلاء المقلدون مرتبطون بالنيهوم وجدانيا أكثر من إبداعيا أي أنهم يحبون النيهوم وكتبه وسيرته الذاتية ويتقمصونه في كل شيء ولا يمكن أن يتقبلوا نقدا في النيهوم والتقليد أمر غير حميد ومن الممكن أن أتقبل التأثر إلى حين أي في بدايات الكاتب أو في كتابين له بعد ذلك لابد أن يفصح عن أصالته وأسلوبه الخاص تاركا تأثره بعيدا عن حبره وخياله.. والتأثر من الممكن أن يتخلص الكاتب منه بقليل من المثابرة والجهد وهو أمر مشروع في البداية لكن التقليد لا ينتج كاتبا جيدا أبدا وقد ينتج قردا جيدا يجيد التسلق والرقص على الحبال.

في العدد الأول من النشرة المصاحبة للاحتفالية المعنونة بـ (الصادق) نطالع حوارا أجرته الأخت الصحفية إلهام بن علي مع أمين دار الكتب الأستا1 محمد علي الشويهدي وهو قاص وصحفي وأديب مخضرم له تجربته العريضة في مجال الأدب طرحت عليه الأخت سؤالا عن الذين حاولوا تقليد النيهوم وأجابها الشويهدي بأنهم تحولوا إلى كيانات مشوهة.. باستثناء الكاتب الكبير الراحل خليفة الفاخري.. وهنا أختلف مع الشويهدي في موضوع الفاخري.. فمن وجهة نظري أن اللغة التي يكتب بها الصادق والفاخري لغة واحدة مستمدة من التراث الإبداعي المشارقي خاصة الترجمات اللبنانية للأدب العالمي والفاخري يختلف عن النيهوم في الأفكار فعندما تقرأ قصة للفاخري وقصة للنيهوم بإمكانك فرز كل قصة وإحالتها لكاتبها من خلال ما تطرحه كل قصة من أفكار ورؤى في الحياة فمثلا معظم شخصيات النيهوم ستكون بطلة وتذهب إلى جانب البطولة بينما شخصيات الفاخري دائما تتقبل الهزيمة بروح رياضية وبينما يلجا النيهوم إلى التهكم بصورة كبيرة نجد أن الفاخري يتهكم بمقدار وبصمت أكثر والجميل أن الفاخري لم ينخرط في مجال الفكر وكبح جماح قلمه كي لا يغوص أكثر في مناقشة القضايا بطريقة المقالة ولجأ في أيامه الأخيرة إلى كتابة القصص التي وجد فيها نفسه فكان عازفا ماهرا موهوبا.. قصته شبيهة بالشعر.. جمله ذات إيقاع هادئ.. كلماته منتقاة بعناية.. تهبط على أوتار الورق فتحدث تلك الخشخشة الروحية التي يسميها أرباب القلم بالدهشة.. وهي حالة الإعجاب الشديد التي تصحبها آهة رضا ومحبة.

جميل أن يتم الاحتفال بالنيهوم واقترح أن يصدر بالمناسبة طابع بريد باسمه وطوابع بريد باسماء كل المبدعين الليبيين الذين رحلوا.. فطابع البريد رمز كبير.. وهو رسالتنا الحميمية لكل العالم فعبره تنقل الكلمات مثلما تنقل الأجيال منجزاتها العظيمة من جيل إلى جيل.. وها نحن نفتخر الآن بنقوش اكاكوس ونقاتل قتالا شرسا من اجل استعادة كل آثارنا المنهوبة في سنين ضعفنا.. فلن نسمح للعالم ولتجاره بأن يسرقوا ذاكرتنا وفي الوقت نفسه لن نبيع هذه الذاكرة بثروات الدنيا كلها. تحية واجبة التوجيه للأخوة في جريدة الشمس الذين أصدروا ملحقا جميلا بالمناسبة احتوى على عدة أعمال وشهادات للصادق وعن الصادق بالإضافة إلى اللفتة الكريمة التي احتوى عليها العدد حيث قدم كلمات وفية صادقة للراحلين الثلاثة في الأيام الأخيرة وهم الشاعر محمد المهدي والموسيقار حسن عريبي والمخرج على النعاس وقد كانت كلمات الشمس عن الراحلين كلمات مضيئة دافئة مفعمة بالوفاء والحزن ومعاهدة على حمل المشعل الإبداعي الليبي والانطلاق به إلى فضاءات بديعة. تحية واجبة للأخت ربيعة من قسم الإعلام بدار الكتب الوطنية والأستاذ احمد القلال على جهودهما في إصدار كتاب جميل عن الصادق احتوى على أهم محطات حياته مع أغلفة كتبه وصوره العديدة ونشاطاته وسيرته الذاتية. تحية أخرى لأسرة تحرير جريدة الصادق التي واكبت الاحتفالية والتي أشرف على إصدارها من أسرة تحرير وتصحيح وتصوير الطقم الفني لمجلة الثقافة العربية بالإضافة إلى مخرجة جريدة بنغازي الأخت خديجة الزوي.

مشهد آخر يحتاج إلى تحية بحجم القلب والكون وهو حضور المؤرخ الليبي والأديب الكبير وهبي البوري وهو يستند على عكازه ويمشي ببطء بمساعدة اثنين من أسرته.. لقد كان مبتسما وهو يرتقى دروج باب دار الكتب الوطنية بصعوبة وهو يتجاوز عتبة الدار.. كان يرد التحايا والجميع متلهفين لجلوسه على أول الكرسي كي يصافحونه ويحيونه وحضوره رغم كبر سنه وظروفه الصحية رسالة حب يرسها الإبداع لكل من يحب الإبداع ويعوّل عليه. 

كلمة أمين دار الكتب الوطنية الأديب محمد علي الشويهدي
الصادق رجب النيهوم كاتب مثير للجدل منذ بداياته في الصحف المحلية، ولعله كان أكثر إثارة للجدل عندما احتضنته صحيفة الحقيقة في الستينات من القرن الماضي، حتى صار ربما أهم كتابها تميُّز الصادق رجب النيهوم وموهبته وثقافته الغزيرة وطموحاته غير المحدودة كانت مطيته نحو أرض الله الواسعة، فانتشر في أهم عاصمتين عربيتين هما القاهرة وبيروت، ثم في كل العالم، يفكر وينظرٍّ، ويتفق ويختلف، ويطالعنا بكتاباته في الناقد والاسبوع العربي ثم بسلسلة كتبه وأصدارته التي لايتسع المجال لحصرها. إن الصادق رجب النيهوم الذي أقف منه موقف الزميل في صحيفة الحقيقة، ثم الصديق ثم القارئ، يجب أن نتفق على أنه كاتب عملاق نبت في أرض ليبيا المعطاءة وغزت ثمار فكره العقل العربي. ونحن نلتقي لنحتفي به لايتسع المجال للاختلاف معه فالرأي في فكره وابداعه تتسع له المنابر الثقافية التي تعددت وتنوعت. فأهلاً بكم في رحاب الصادق رجب النيهوم ذاكرة ثقافية وطنية تلتقي لتحتفي التزاماً بمبدأ الوفاء وتكريماً واكباراً وعرفاناً بعطاءاته المتنوعة. 

بعض الأوراق التي قدمت في الاحتفالية
الشاعر محمد الشلطامي ورقة بعنوان "العودة المحزنة إلى البحر"،
الإذاعي عبد الفتاح الوسيع "شهادة حق في يوم ذكرى الصادق النيهوم"،
د. عبد الجواد عباس "زاوية رؤية تجاه أدب الصادق النيهوم"،
الناقد سالم مسعود العرابي "مفارقات الشكل في أدب الصادق النيهوم" (من قصص الأطفال)،
الشاعر السنوسي حبيب "نجومية المثقف وشعبية النجم"،
القاص مصباح الغناي قجدور "الخصوصية الفلسفية لفكر الصادق النيهوم"،
الشاعر خالد درويش "رسائل النيهوم إلى الفاخري"،
الشاعرة جميلة الشيباني "وأحب الشعر أيضا"
الشاعر عذاب الركابي "الصادق النيهوم ناقدا".
الروائي محمد الأصفر "تجربة اسمها نعرف"
بالإضافة إلى أوراق من الكاتب سالم الهنداوي والقاص جمعة الفاخري والناقد عبدالحكيم المالكي والشاعر ادريس بن الطيب ومداخلات عدة من كتاب ليبيا المخضرمين د علي فهمي خشيم. الروائي د احمد ابراهيم الفقيه. الأديب أمين مازن وغيرهم من المتابعين. 

الروائي المخضرم إبراهيم الكوني رئيس شرف الاحتفالية
وقد كان ضيف شرف هذه الامتفالية ورئيسها الفخري الروائي الليبي ابراهيم الكوني الذي شرف الافتتاح وشارك في وضع صورة الأديب الصادق النيهوم صحبة الأستاذ نوري الحميدي أمين المؤسسة العامة للصحافة والدكتور سليمان الغويل أمين اللجنة الادارية لمجلس الثقافة العام في وضع بورتريه كبير للنيهوم في المكان المخصص له في دار الكتب وقد ألقى الكوني كلمة في الحضور أشار فيها لصداقته للنيهوم ولأهم ملامح تجربة النيهوم وأسلوبه في الكتابة والجدير بال>كر أن الكوني لم يزر بنغازي منذ وفاة النيهوم عام 1994 م إلى يوم 22/ 3/ 2009 يوم الاحتفالية حيث أنه هو من صحب جثمان الصادق النيهوم من مكان موته بجنيف إلى مدينة بنغازي مقبرة الهواري حيث مثواه الأخير. ويضاف الى هؤلاء مشاركات من كل من الأديب إبراهيم حميدان والناقدة د. فاطمة الحاجي وغيرهما من المبدعين. 

ليبيا تودع الشاعر محمد المهدي الكتاب أقرب إليه من فنجان القهوة
غيب الموت الشاعر والإذاعي الليبي المخضرم محمد المهدي الخميس إثر تعرضه لحادث سيارة قبل ايام قليلة. ويعتبر محمد المهدي من الشعراء الضالعين في اللغة العربية علاوة على صوته الاذاعي المميز واطلاعه الثقافي الواسع في مجال التراث العربي. وكان المهدي من مشجعي المواهب الشابة خاصة في مجال الشعر والأخذ بأيديهم لتمكينهم من امتلاك الأدوات السليمة وصقل موهبتهم فكان يشرف على مهرجاناتهم ويقيم الأمسيات مع أصدقائه الشعراء في مدارسهم ويصحح لهم نصوصهم ويرشح الجيد منها للنشر في الإذاعة أو الصحف. ويعرف عن المهدي صرامته القاسية في اللغة العربية مع كل المتعاملين معه من فنانين وإذاعيين وشعراء ولقد اشتغل مدة طويلة في الإذاعة الليبية وتخرج على يديه الكثير من المذيعين والمذيعات.

يتميز هذا الشاعر بالروح المرحة وبالنظرة التهكمية للحياة وباتخاذ ثقافة الحب مبدأ حياة له فلا تراه إلا منهمكا في قراءة كتاب أو داخل مكتبة يتفحص ويراجع الكتب وكثيرا جدا ما شاهدته داخل دار الكتب الوطنية وهو جالس في البهو أو واقف مع طالب جامعي يساعده في الحصول على الكتب والعناوين التي تساعده في إتمام رسالته الجامعية. كثيرا ما رأيته واقفا أمام المكتبات القديمة يقلب في الطبعات القديمة لعدة كتب وكثيرا ما شاهدته مشاركا في أمسيات شعرية يقرأ فيها قصائده بصوته العذب الرخيم الخالي من الأخطاء والنموذج المثالي لحسن النطق ولحسن سلامة الألفاظ من اللحن أو التأثر باللهجات.. أينما كانت المكتبات كان هذا الرجل وإن كان جالسا في مقهى فحتما سترى الكتاب أمامه أقرب إليه من فنجان القهوة.

ويسألنى عن آخر كتاباتي وأقول له: ماشي الحال. وعندما أسأله عن دواوينه ولماذا لا يطبعها عن طريق مؤسسات الثقافة الليبية مثل أمانة الثقافة أو مجلس الثقافة العام أو الدار الجماهيرية كان لا يجيبني ويغير الموضوع وأعرف من صمته ومن هروبه اللبق أنه يقول لي "خلي التبن مغطي شعيره". وداووين هذا الشاعر ظريفة صغيرة في حجم الكف أو في حجم قبضة القلب طبعها على نفقته الخاصة ووزعها بنفسه على المكتبات والذي أهداه منها لمحبي وعشاق الشعر أكثر من الذي باعه. ويبقى الشعر ولا شيء غيره رسالته في الحياة التي مزقتها له على غفلة منه هذه الحياة الغادرة عبر معدنها الصدئ المشتعل المتمثل في سيارة كان من المفترض أن تعود به إلى بيته بعد رحلة عناء يومي يمارسها الشاعر محبة في الكتاب والفن ومصافحة للأصدقاء والصديقات وتنسم عميق لهواء البحر والفضاء.

لا ننسى أبدا مواقف هذا الشاعر الوطنية وللعلم كان هو المذيع الذي أذاع فعاليات المسيرة الوحدوية الليبية المتجهة إلى الحدود المصرية من أجل الوحدة الإندماجية في سبعينيات القرن المنصرم وكان آنذاك يقرأ حلم الوحدة العربية بتأثر ويواصل قراءة تطورات المسيرة الساعة خلف الساعة. وماذا الآن بقى من حلم الوحدة العربية في ظل هذه الظروف الكابوسية السياسية التي يعيشها العرب والتي ستقتل كل الانتصارات التي حققتها الأمة في تاريخها المجيد.

"وولد في مدينة اجدابيا عام 1942. ومن برامجه الأدبية الإذاعية والمرئي براعم الأدب، قول وقائل، كلمات في الميزان، حكايات أدبية، محكمة الشعراء، وما هو؟".

واجرى الراحل لقاءات مع عدد من ابرز الشخصيات السياسية والفنية والثقافية العربية من بينهم الرئيس جمال عبد الناصر، الموسيقار محمد عبدالوهاب، المطربة نجاة الصغيرة، الفنانون محمود المليجي، توفيق الدقن، شكري سرحان، سناء جميل والشاعر أحمد رامي. وصدرت له دواوين شعرية: هكذا غنت العشرون، ديوان للحب والناس عام، هو الحب، أُحبكِ، أُحبكِ مرةً أخرى. ستظل هذه الحياة تذكر هذا الشاعر وستظل مدينة بنغازي وكل تراب ليبيا يذكر هذا الشاعر وستظل المدارس والقاعات التي شدى فيها بشعره تستدعيه كلما أشرقت الشمس أو تسلل نور البدر من نوافذها. هذا الشاعر الذي أخلص للكلمة وصان عمود الشعر وتفعيلاته وحافظ على اللغة العربية نطقا وكتابة وحلما ومنح جل خبرته للأجيال الجديدة التي لن تنسى ما سكبه من أنوار روحها في طريقها المملوء بحفر التجاهل واللا اهتمام. 

رحيل السادن الأبدي للموسيقى الشرقية.. حسن عريبى
بقلم الروائي: أحمد إبراهيم الفقيه
رحيل السادن الأبدي للموسيقى الشرقية.. حسن عريبىلا ادري منذ متى بالضبط بدأت علاقتي بالفنان القدير الاستاذ حسن عريبي ولكنني بالتأكيد عرفت فنه قبل ان اتعرف عليه شخصيا فقد سافر إلى بنغازي وترأس في مطلع الستينيات قسم الموسيقى بفرع الاذاعة في تلك المدينة التي كانت عندما سافر إليها احدى الولايات التي تتكون منها المملكة الليبية المتحدة، وهناك اطلق عددا من المواهب في الغناء كان من بينها أحد نوابغ الغناء الليبي الفنان الراحل محمد صدقي الذي صنع له لحنا خالدا مازال حتى اليوم يثير شجن من يستمع اليه واكاد شخصيا لا اسمع هذا اللحن الا خنقتني العبرات حسرة على غياب الفنان محمد صدقي وتأسفت لانه لم يكن يحظى بما يستحقه من مجد وشهرة وهو لحن اغنية كيف نوصفك للناس وانت عالي وهي اول اغنية يغنيها وينطلق بها كالصاروخ في سماء الفن، وقدم له في تلك الفترة مجموع اغنياته التي حققت له الشهرة وبلغ مجموع هذه الاغنيات التي لحنها له كما يقول الموسيقار الراحل 48 اغنية، وهكذا مع مطربين ليبيين اخرين من أمثال محمد رشيد وخالد سعيد واحمد سامي ومحمد مختار ومحمد الجزيري ووصلت ألحانه لمشاهير المطربين العرب من امثال المطربة التونسية نعمة والمطربة المصرية ذات الاصل اللبناني سعاد محمد والمطربة نازك وغيرهن من مطربين ومطربات، وبعد ان تم اتحاد الولايات وصارت هناك اذاعة مركزية راى ان ينتقل بجهده لتأسيس فرقة موسيقية شرقية تكون دعما لفرقة الاذاعة الرسمية خاصة وانه بدا يركز جهوده في تأسيس مكتبة اذاعية لفن المالوف والموشحات الاندلسية ويتصل بالشيوخ الكبار في الزوي والأربطة والمساجد في المدن والارياف حتى استطاع ان يسجل ذخيرة كبيرة يبدا بها تنفيذ مشروعه، ولهذا تأخر وصوله الى منصب رئيس قسم الموسيقى في الاذاعة الى النصف الثاني من عقد الستينيات حيث احتل رئيس قسم الموسيقى بالاذاعة بعد ان ذهب الرئيس السابق الفنان الراحل كاظم نديم رئيسا لقسم التمثيل، وهكذا صرف جهوده لتعزيز فرقة الاذاعة الرسمية مع تأسيس فرقة للمالوف والموشحات ايمانا منه كما يقول بالحرف الواحد "ايماني الشخصي بهذا الفن ـ اي فن الموسيقى الشرقة ـ لانني ارفض التغرب، واحب ان اكون عربيا ليبيا انطق بالحرف العربي واتغني بالنغم العربي، نعم لا اريد ان اتغرب وهو ما يجعلني احافظ على الموسيقى العربية وادعو كذلك الاجيال القادمة للحفاظ على الموسيقى العربية" لقد رأي بحسه العربي الفيضان الفني القادم من الغرب وراى ان يصنع للفن العربي محمية لا يصلها هذا الفيضان تكون عنوانا لهذا الفن ورمزا له وتأصيلا وتجديدا لما تراكم عبر الزمان من ألحان، عمل جاهدا كي لا تضيع فقام فعلا برصد ما عرفه التراث الليبي من مالوف لشيوخ المالوف الليبي وموشحات مما حفظوه من التراث الاندلسي وكان له فضل تسجيله وحفظه في وسائل الحفظ الحديثة وهي اجهزة التسجيل المرئي والمسموع واخيرا الاقراص الممغنطة وقد قام بتسجيل البومات كثيرة لا تزال موجودة تغني المكتبة الليبية ومكتبة الموسيقى الشرقية واضاف إلى هذا التراث ما قام بتلحينه من تأليف موسيقية مقتبسة من نفس المعين مثل قصيدة المنفرجة التي اخرجها من التراث وقدمها للمستمعين والمشاهدين العرب فنالت الشعبية الواسعة في شرق الوطن العربي ومغربه ونالت تشجيع زعماء مثل القائد القذافي وملوك مثل الملك الحسن الثاني وغيرهم تبنوا هذا العمل وسعوا لإعانته على نشره وتسجيله وتوزيعه وتقديمه في المحافل العربية، ولم يكن هذا الجهد في التوثيق والتاليف الموسيقى ينفصل عن جهده في التأصيل النظرى لفنون الموسيقى العربية فهو فنان مثقف صاحب ثقافة تخصصية من أعلى طراز في هذا المجال فكان مهما أن يردف بهذه الثقافة جهده التأسيسي في صنع مكتبة للموسيقى الاندلسية بحيث ظل يواصل حملات التوعية والترشيد والتنوير في بحوثه ومحاضراته ودروسه لتلاميذه ومريديه ولم يكن غريبا بعد ذلك ان يعقد له لواء الريادة والرئاسة في مجلس الموسيقى العربية ليحوز على رئاسته لعدة دورات استلمها من زميله واستاذه في المعهد الرشيدي التونسي الذي امضى فيه عدة سنوات الدكتور صالح المهدي، كما لم يكن غريبا ان يعهد اليه في مؤتمر الموسيقى الشرقية الذي عقد في سمرقند برئاسة ذلك المؤتمر الذي حضره 480 وفدا اجمعوا كلهم على اختياره رئيسا للموتمر الثاني المنعقد هناك عام 1981 وكان لأفكاره في ذلك المؤتمر تاثير كبير في وضع اسس للحفاظ على الشخصية المستقلة للموسيقى الشرقية واحترام كيانها في بلدان تتزاحم فيها الثقافات وتكاد تسلم قيادها للموسيقى الغربية، لا كراهية لتلك الموسيقى كما يقول الاستاذ حسن عريبي ولا تعصبا لصالح الموسيقى الشرقية أوضدها ولكن حفاظا على التنوع والخصوبة في منابع الفنون والاداب فلا تطغى شخصية واحدة ولا يطغى طابع واحد يؤدي بنا الى التنميط والنمذجة وضياع الهويات والثقافات فالتعدد الثقافي والفني والادبي ثراء وخير والتنميط افقار وامحال واغلاق لمصادر وموارد تغني الوجدان وتثري الروح وتفيد الحضارة الانسانية، ولابد ان تعرفي بالاستاذ حسن عريبي حدث بعد انتقاله من بنغازي الى طرابلس في النصف الثاني للستينيات حيث كنت انشط في الصحافة الثقافية واتردد كثيرا على الاذاعة مشاركا في برامجها ولابد انني في ذلك الوقت اجريت اكثر من لقاء صحفي مع الاستاذ حسن عريبي باعتباره رئيسا لقسم الموسيقى ينشط في تقديم الاحتفالات وتسجيل الاغاني وتقديم المطربين الجدد واستضافة الخبراء من مصر حيث عرفت فرقة الاذاعة في الستينات مشاركة اساطين الموسيقى المصرية للعزف والتدريب من امثال احمد الحفناوي ومحمد عبده صالح وعطية شراره وعبد الفتاح منسي وسمير القاوي وغيرهم وغيرهم وكثرت الاتصالات بيني وبينه عندما اصبحت مديرا للمعهد الوطني للموسيقى والتمثيل لان كثيرا من العاملين في المعهد اساتذة وطلبة يعملون معه في فرقة الاذاعة اعمالا اضافية فكان لابد من التنسيق والترتيب، وقد رافقته في رحلات كثيرة الى الخارج او التقيت به هناك في المغرب مثلا وفي مصر التي يزورها كثيرا بسبب مشاركاته في المؤتمرات السنوية لمجلس الموسيقى العربية ومناسبات فنية اخرى فكان اللقاء يتجدد ويتجدد معه حديث الفن والذكريات اما في طرابلس فقد كنت احرص دائما عندما اكون في طرابلس على زيارته في مكتبه بعد ان صار مديرا لقسم التوثيق والتراث حيث انصرف لاتقان عمل الفرقة التي يقودها والاسهام في احياء المهرجانات الغنائية والموسيقية ومهرجانات المالوف والمشاركة الدائمة في مهرجان لفن المالوف والموشحات مثل مهرجان تستور في تونس حيث تحظى مشاركاته باهتمام الاعلام ويحضرها محبو الفن في تونس من جميع انحاء الجمهورية بشهادة الصحافة في تلك البلاد ولم تقتصر مشاركاته على مؤتمر الموسيقى العربية ومهرجانات الموشحات وانما المهرجانات العربية للاغنية حيث شارك بفرقة الاذاعة ذات مرة في مهرجان المغرب العربي للاغنية في المملكة المغربية وفازت المشاركة الليبية بالترتيب الاول وتلتها المغرب ثم تونس ثم الجزائر حسب تقويم الجمهور الذي يحتكم اليه المهرجان. وقد انتقل بالفن الليبي الى مختلف بلاد العالم ويقول انه في مهرجان الموشحات في مهرجان تستور وصلت مشاركاته إلى 35 مشاركة علاوة على مشاركاته التي غطت الوطن العربي بكل اقطاره وبلاد شرقية واسلامية وافريقية اخرى، وكانت فرقته دائما وجها مشرقا تسعى قيادات السلطة الشعبية والمنظمون للمؤتمرات الدولية على تقديمها للضيوف الذين ينبهرون بإنشادها وعزفها وقد رايت بنفسي في مؤتمر وزاري عربي كيف كان اولئك الوزراء يتركون مقاعدهم ويتحلقون فوق الارض بالقرب من الاستاذ الراحل حسن عريبي وهو يقود فرقته ويشارك في العزف والغناء معها مقدما اجمل الألحان الاندلسية. وبمثل ما عرفت الاستاذ حسن عريبي فقد عرفت على المستوى الشخصى بعض من ساهم في تكوينه من فناني الجيل السابق لجيله واسهموا في تعليمه وبينهم الفنان القدير الاستاذ العارف الجمل الذي كان عند ادارتي للمعهد مدرسا لعزف آلة الكمان في المعهد واستاذه الملحن واستاذ آلة العود الفنان عثمان نجيم واستاذ مادة المالوف الاستاذ الشيخ محمد قنيص الذي عرفته في الخمسينيات مشرفا مدرسيا في المدرسة المتوسطة التي درست بها وهي معهد هايتي التجاري، وكلهم يعترفون بنبوغ تلميذهم حسن عريبي منذ صباه ويبادلهم هو الاحترام ولا يقصر في الاعتراف بفضلهم وعندما اصبح رئيسا لقسم الموسيقى بالاذاعة كان يدعوهم للمشاركة ويمنحهم الاولوية في التسجيل ويوليهم ما يستحقونه من بر واحسان وهناك نقطة في حياته لابد من استجلاء امرها وتوضيح ما اكتنفها من خلط وغموض فقد شاهدت عددا كثيرا من اصدقائه وعلى راسهم زميله ورفيق عمره ومهنته الراحل كاظم نديم يلومونه على ندوة اذاعية مرئية كان هو احد المشاركين فيها عقدت عقب حرق الالات الموسيقية الغربية تدافع عن هذا الفعل وكان اللائمون يعتبرونه عملا منافيا لقواعد السلوك الحضاري ويحتوي على مغالطات كثيرة احداها الجهل بان اغلب هذه الالات المسماة غربية تعود الى اصول مشرقية عربية مثل الجيتار التي تعود الى العود والكمان الى الربابة وغيرها وكان هو ينصت في هدوء ودون انفعال قائلا بان احدا لم يستشره في الامر والا لاشار بمنع اقامة هذه المحرقة اما وقد حدث فانه وان لايوافق على حدوثها يفهم دوافعها التي مبعثها الحرص على الهوية الثقافية خوفا من الغزو الثقافي وزحف ثقافة غريبة على ثقافتنا خاصة وان موجة التغريب في الموسيقى قد اكتسحت العالم العربي كله فانتشرت الفرق التي تروج للاغاني الغربية والموسيقى الغربية فجاء هذا التصرف الذي يحمل قدرا من التطرف كرد فعل على تطرف اخر في الجانب المقابل واستطرد قائلاً بأن أكثر من جهة اتصلت به للمشاركة في ندوة للدفاع عن هذا العمل الذي اراد بعض الناس استخدامه للنيل من الثورة وهو احد الذين امنوا بالثورة الليبية منذ أول لحظة لانطلاقها وانخرط في مسيرتها وعبر بألحانه عن مشاعر الفرحة بقيامها وارتبط بعلاقة ود وصداقة فيما بعد مع قائدها ولم يكن يرضى أو يقبل أن تتخذ الاوساط الاجنبية المعادية للثورة هذه العملية سببا للهجوم على الثورة فلبي النداء الذي جاءه من الاذاعة وأطراف ثورية أخرى للمشاركة في الندوة والدفاع عما حدث رغم انه لم يكن ليوافق أو يرضى به، والسعى لإيقافه لو علم به قبل حدوثه. وقد اردت توضيح هذه المسألة ايضاحا لها ووضعا للنقاط على الحروف كما يقولون.

حسن عريبي بالنسبة لي لم يكن حسن عريبي الفنان فقط، ولكنه حسن عريبي الانسان صاحب الثقافة العميقة المنزوعة من قلب الواقع واحداثه الساخنة وذكرياته المغموسة في حياة النضال اليومي والمعاناة وهو يعمل موظفا صغيرا في الارصاد يصحو مبكرا ليركب دراجته مهما كان البرد شديدا والمطر يهطل بغزارة ويقول انه من مرتبه الصغير اشترى الة عود ليستطيع ان يتلقى دروسه من الاساتذة الذين ذكرتهم وعندما وصل الامر إلى اسماع والده تنكر له واعلن في صحيفة طرابلس انه يتبرأ من ابنه لانه كان يرى العمل في الفن انحرافا عن الطريق القويم وانزياحا عن النهج الذي اختطه جده الشيخ والعالم الجليل من علما ء الدين ولعل هذا النزاع مع والده هو الذي دفع به إلى ترك طرابلس والانتقال ألى بنغازي ليبدأ من هناك طريقه لاتخاذ الفن حرفة له وينجح هناك في تأسيس قسم للموسيقى ويسهم في تكوين كوادر موسيقية يأتي في مقدمتها ملحن نابغة مثل الاستاذ يوسف العالم وملحن نابغة أخر مثل الاستاذ إبراهيم وقد تراجع الاب العنيد عن هذا الموقف الغاضب وأعلن عن رضاه على ابنه بعد ذلك، حسن عريبي أيضا صاحب أتجاه صوفي وله اتصال وثيق ببعض شيوخ الطرق الصوفية الذين بدأت علاقته بهم من اجل الحصول على الابتهالات والمدائح ثم تغيرت فيما بعد الى تلمذة في علم التصوف وحمل الاوراد والتسابيح والقراءة في كتب التصوف ويفاجئ الاصدقاء بحجم محفوظاته من اشعار الصوفيين امثال ابن الفارض وابن عربي وغيرهما. وكان ضنينا بالحديث عن هذا الجانب لا يفصح عنه إلا للاصدقاء الحميمين من امثالي لانه كان يعرف تقديري العميق لهذا الجانب فيه وايماني بانه من اصحاب البركة والايمان العميق.

ولم اكن اطلاقا أجد في كلامه عن الرؤى التي يراها في المنام ويحاور فيها الائمة والصالحين من أولياء الله مدعاة للشك حيث كنت اجد فيها صدقا وشفافية واقترابا من الينابيع العميقة للايمان والعقيدة كما لم يكن غريبا أن يتنبأ في لقاء اذاعي باقتراب رحلته في الحياة من نهايتها، يقول الاستاذ حسن عريبي في احدى مقابلاته الاذاعية الاخيرة أنه أعد لحنا لبردة البوصيري في مدح الرسول الكريم ويقول أنه اعد كتابا في المالوف والموشحات ارفقه بجزء يحمل ذكرياته الشخصية وأتمني من ابنه الذي أورثه حب الموشحات والمالوف وعلمه العزف على الكمان الشرقي وانابه عنه في قيادة فرقة حسن عريبي للموشحات والمالوف الاستاذ يوسف حسن عريبي ان يكون كريما مع جمهور ابيه فيشرع في اظهار تراث ابيه الذي لم ير النور وتقديمه لمحبي الفن الاصيل الذي كان حسن عريبي من رواده وصناعه العظام.

كثيرون يعزون جلطة المخ التي اصابته أثناء قيادته لسيارته وأدت فيما بعد إلى وفاته في مستشفى الخضراء بطرابلس الذي نقل إليه بسبب افراطه في التدخين وكان في فترة من الفترات يستخدم المبسم ظنا منه أنه يوقف السموم الموجودة في السيجارة من انتقالها إلى جسم المدخن ولكنه كان بالتأكيد يعرف أن المبسم أو الفلتر لم يكن بالتأكيد ينفع واقيا من اضرار السيجارة ولكنه نوع من خداع النفس الذي يقع فيه البشر تبريرا لسلوك يرضي الشهوة والغريزة، وحين تحين ساعة الاجل فإنه لاشيء يمنع حدوثها مهما كانت قوة الوسائل التي نتبعها لضمان الحماية والامان.

سيحزن الليبيون كثيراً على غياب حسن عريبي لإنه يترك فراغا كبيراً في الساحة الفنية الليبية التي كان يمثل فيها حضورا فاعلا وقويا على مدى خمسين عاما، وسيفتقده أهل الفن الشرقي على مستوى العالم كله، إلا أن الاصدقاء القريبين الذين عرفوا مثلي ثراء شخصيته وجمال ونبل عواطفه واتصلوا بالجوانب الروحية العميقة والموارد الصوفية الغزيرة لديه سوف يكون افتقادهم له ضيما وخسارتهم فيه خسارة جسيمة فادحة غير قابلة للتعويض وسأذكر في هذا اللقاء حكاية صغيرة حدثت لي معه حين كنت معه في القاهرة وخطر له أن يسألني عن نجيب محفوظ وكيفية تنظيم موعد للقائه فقلت نستطيع أن نراه في اليوم التالي في لقاء الثلاثاء الذي يقيمه في مقهى بمركب ثابت على النيل اسمه فرح بوت، وكان يرافق الاستاذ نجيب محفوظ في تلك الجلسة عدد من الروائيين من بينهم جمال الغيطاني ويوسف القعيد ونعيم صبري، وما أن نطقت باسم حسن عريبي اقدمه لهم حتى بدأ وكأن مسا كهربائيا سرى في تلك الجلسة فنهض الاعضاء جميعا ترحيباً وأكبارا وتعظيما للفنان الذي حقق لنفسه مكانة متميزة في قلوب المثقفين العرب ونهض جمال الغيطاني يعانقه ويقول له انه كان دائما يتمنى لقاءه وقدمه تقديما جليلا وكبيرا إلى نجيب محفوظ الذي وقف يحتضن الفنان حسن عريبي، وتركوا جميعا الحديث له ليثري الجلسة من فيض معارفه فكانت جلسة ظل نجيب محفوظ يذكرني بها ويثني على جمالها ولا زال جمال الغيطاني يذكرها وقد مر عليها بضع سنوات وكان أخر مرة ذكرني بها منذ اسابيع قليلة مضت عندما التقيته في واشنطن، لنشارك سويا في مهرجان الادب والفن العربي، ويسألني عن صحة الاستاذ حسن فاقول له انه في تمام العافية، ولم اكن اعلم ولا أحد غير خالق الكون يعلم ان الرحيل الى دار البقاء كان وشيكا ولقاء وجه ربه قد تحدد في اليوم السادس عشر من ابريل عام 2009 وقد امضى في هذه الحياة اربعة وسبعين عاما قضاها في التحصيل والعناء ثم الانتاج والعطاء فترك تراثا فنيا غزيرا كبير القيمة سيبقي اسمه مذكورا على مدى التاريخ سادنا ابديا لفن الموسيقي الشرقية بما حفظه من تراث وشخصية حية خالدة مع عظماء العباقرة من اهل الابداع الادبي والفني، تفخر بابداعهم الاجيال وتستمتع به جيل بعد جيل.

رحم الله الفقيد الغالي واسكنه فسيح جناته واجزل له العطاء بقدر ما قدم للناس والحياة.

إنا لله وإنا اليه راجعون.