دأبت الكاتبة فى كل عمل إبداعى أن تُجرب. فتقتحم بجرأة كل ما ترى فيه الإبداع. ولما كان المبدع –بالضرورة- يترك بعضا من حياته فى كل إبداع. فكرت، لما لا أحول حياتى وذكرياتى إلى أدب. فكانت كل تجربة، قصة قصيرة. وإذا جُمعت. شكلت فى النهاية مجموعة قصصية. رأت الكلمة أن تنشر منها كل عدد، بعضا من هذه التجارب، ليكون لدينا فى النهاية مجموعة "من ذاكرة هالة البدرى".

طفولة

هالة البدري

 

سِنة لولي

تحركت سنتي الأمامية، وضعت إصبعي عليها، ورحت ادفعها إلى الأمام مرة، وإلى الخلف مرة.

قالت أمي: ستشوهين فمك. اتركيها. ستقع دون مساعدتك، وسنرميها نحو الشمس، ونغني: "ياشمس يا شموسة خدي سنة الجاموسة، وهاتي سنة العروسة".

سألني أخي: كيف تحركينها؟

 ازحت شفتي بإصبع، ووضعت عليها الإصبع الثاني.

قال أخي: دعيني أضع إصبعي أنا أيضاً عليها.

سمحت له. ضحكنا. وضع إصبعه في فمه، وحاول تحريك سنته، فلم يستطع. حاولت أنا أيضاً تحريكها فلم أستطع.

بكى أخي، وسأل أمي: لماذا تتحرك سنتها، ولا تتحرك سنتي؟

قالت: تتحرك في العام القادم إن شاء الله. أختك أكبر منك بسنة.

كلما تعاركت مع أخي، حركت سنتي إلى الأمام، وإلى الخلف بسرعة، وهززت رأسي دون كلام. يصرخ أخي، وهو يضربني، وتقول أمي:

لماذا تعتدي عليها بدون سبب؟

يقول: تغيظني.

مالت سنتي أكثر إلى الأمام، وتحركت سنتي الأخرى.

 قالت أمي: في الصباح ستقع، ونحتفي بها ونحن نرميها.

قال أخي: نعم. سنقول "ياشمس يا شموسة خدي سنة الجاموسة وهاتي سنة الحمار"

بكيت ثم نمت، وجاءت الشمس توقظني. قلت لها أين أشعتك التي ستأخذ سنتي؟

 قالت: امسح بها رأسك، وأمس خديك. افتحي عينيك. ماذا ترين؟

رأيت نجوما تتلألأ، شموعاً تتراقص، أشرعة سفن تتهادى، ملائكة ترفرف بأجنحتها من حولي، صخوراً، وأعشاباً، أشجاراً مثمرة، ووروداً، بشراً يرتدون أقنعة، ووصايا تحمل قبس من نار فراغا واسعا، وأزمنة متجمدة في ثلوج بيضاء، ومرايا تعكس صوراً لصبايا رائعات الجمال، وعروسا تعطيني ظهرها، تتحد مع شاب بلا ملامح. صباحات كثيرة، وكائنات صافنة، لا أعرف لها شكلاً، ولا اسماً. سألت الشمس، وأنا أشير إليها:

 من هي؟

قالت: هي الأسرار، ولكل سر مفتاح، يدور في مرحلة من حياتك. لا تتعجلي.

قلت: وإذا أخذت أحدهم الآن؟

قالت: سيعذبك الحنين، وتتبعثر نذورك في الأرض، وتأخذك -الطواطم إلى تيه، ولن يفك أسر روحك غير ذلك الذي لم تتعرفي على ملامحه الآن.

 

 شطة

سألت دادة فادية: أين أمي؟ وقبل أن تجيب، قال أخي أكرم :

أريد أمي. .

قالت: ذهبت أمكما إلى الطبيب.

قال أكرم: لكنني أريدها الآن.

قالت دادة فادية:انتظراها. العبا هنا بهذا القطار حتى تعود.

 قال أكرم: أريد أمي.

 قالت دادة فادية: سوف اذهب إلى المطبخ لأعد لكما الساندوتشات. لا تتحركا من هنا.

أغلقت الباب، سمعنا صوت المفتاح يدور، ثم اختفت. طال انتظارنا. مللنا اللعب بالقطار، نادينا طويلا. بدأ أكرم يبكي، وهويضرب الباب، لم ترد علينا. سمعنا صوت قدميها، فتحت الباب، ووضعت أمامنا الطعام.

قال أكرم: أريد الزبادي.

 ذهبت ثم عادت بالزبادى، وملعقتين ثم تركتنا، ومضت، وهى تقول:

 كُلا طعامكما، لا أريد أن أسمع لكما صوتاً.

 سمعنا صوت المفتاح، وهو يدور في الباب. أكل أكرم الزبادي، وراح يضرب الأرض بالملعقة، وهو ينادي عليها. لم ترد. ضرب الباب، وهو يصرخ:

أريد الحمام.

 لم ترد. علا صراخنا. لم ترد، بعد قليل، فتحت الباب، وهى تحمل برطمان الشطة، أمسكت بأكرم، وفتحت فمه، وألقمته ملعقة شطة، وهو يصرخ، ويرفصها بقدميه، ثم امسكت بي، ووضعت ملعقة أخرى بالشطة في فمى.

 حاولنا أن نزيل الشطة بأصابعنا، ريلنا، واتسخت ملابسنا باللون الأحمر، وانهمرت دموعنا سيلا من عيوننا، ومن أنفينا، وراح وجه أخي يتضخم وينتفخ، حتى لم أعد أر عينيه. يحرقني فمي، أضع يدي عليه، تحرقني عيناي، أدعكهما بيدي، أصرخ، ويصرخ أخي.

في الصباح، رأينا دادة فادية، تحمل حقيبة ملابسها، وهى تغادرالبيت.

 سألناها معا: إلى أين؟

قالت أمي وهى غاضبة: عائدة إلى القرية.

قلنا معاً، ونحن نمسك بذيل جلبابها: خذينا معك

 

 مصيدة الأرانب

 سافرنا مع أبى الذي أعير للعمل قاضياً في ليبيا.علمنا أن المعلمين والقضاة والأطباء يوفدون إليها على نفقة الحكومة المصرية. وصلنا إلى مدينة طرابلس، ونزلنا في فندق يطل على البحر، قضينا فيه الاسبوع الأول، ثم تركناه بعد أن أجر أبى لنا بيتًا فى المدينة، كان البيت واسعًا، وله حديقة كبيرة، مزروعة بالفاكهة؛ تين، ولوز، وبرتقال، وكان سورها من شجر كثيف، يفصلها عن صحراء، تقف بها عربات قطار، دمر فى الحرب العالمية الثانية. صدرت لنا تعليمات بعدم تجاوز السور، وعدم اللعب فى المخازن، لأن المالك قاض ليبى، نقل هو وعائلته إلى مدينة أخرى، وسمح لنا بإيجار البيت تاركًا أغراضه اكرامًا لأبى.

سرعان ما مددنا أعناقنا لنتجاوز السور، وبعد وقت قليل، استكشفنا الصحراء، وعربات القطار الصدئة، مع أبناء الجيران.

 كلما خرجنا فى الصباح المبكر إلى الحديقة، فرت من أمامنا أرانب جبلية. لم نستطع الإمساك بها أبدًا، لم نكن نهتم بالأرانب التى يأتى بها أبى ودادة فكرية من السوق، لكن الأرانب التى تمرح ليلًا فى الحديقة، وتهرب إلى الصحراء، من مطاردتنا أطارت صوابنا.

 ذات عصر، اكتشفنا جحرها بجوار باب الشرفة، وانتظرناها بالساعات، كانت تطل علينا، وأنوفها ترتجف، ثم تركض مختفية فى الجحر، حفرنا وراءها ولم نطلها، واعتبرناها شغلنا الشاغل، حتى اكتشفنا مواعيدها فى الصباح المبكر جدا.

أفصح الصباح عن مفاجآت؛ التين يتفتح، ويصلح للأكل، نجمعه ونلتهمه، قبل أن يستيقظ أهل البيت، دون أن نبالى بطلبات أبى" اتركوا واحدة، الفاكهة من فوق الشجرة لها طعم آخر".

لم يضبطنا أحد، ونحن نقض أمن السحالي، ونفتح "الزلع" التى يخزن فيها أصحاب البيت "القديد"، لم نستسغ طعمه، فتركناه، كما تركنا اللوز المر، والخوخ الأخضر، وقررنا انتظارالأرانب بقفص فارغ من أقفاص الفاكهة، اختبأنا خلف كنبة كبيرة حتى خرج جسم الأرنب بالكامل، وألقينا فوقه القفص. لكنه أفلت بأعجوبة، في المرة العاشرة، لم يفلت، ركضنا ونحن نحمله من أذنيه كما علمتنا أمى، ثم وضعناه فى قفص كبير، وكلما اصطدنا آخر حبسناه معه، نطعمه الخضراوات والجزر كل صباح، ونتحسس فراءه الرصاصى الناعم. أصبح لدينا عشة أرانب.

فى جولاتنا للنكش فى الحديقة عثر أخى على شىء. أمسكه بيده، ودخل يركض نحو أمي وهو: يصيح حبل، حبل.

ضربت أمي الثعبان، فأوقعته ميتًا، وهي تصرخ: يا نهار اسود.

جاء الجناينى على صراخها قائلا: لاتخافى هذا حبل صغير لا يؤذى.

سمعنا ضجة وطرقات على الباب، ودخلت نساء كثيرات يولولن. مات القاضى صديق أبى. حملن متاعنا، وعدنا إلى الفندق، في انتظار سفرنا إلى مدينة مصراتة، التى انتقل إليها أبي، تاركين صيدنا فى القفص الكبير، وعربات القطار فى الصحراء، واللوز فوق أغصانه، وشجر التين على حاله لم نقطعه، حتى لايخرج عفاريته وجنياته، لتملأ البيت كما يقول الجناينى.