عندما يود الإنسان أن يهرب من واقعه المزدحم بالبشر والأحداث، ويبحث عن لحظة دافئة، فلا يجد غير حضن الأم، عندما كان هذا الحضن هو الملجأ والأمان، وحيث كانت الخضرة والذكريات البريئة، فيتحول إلى كتلة من المشاعر، وتتحول رؤاه إلى الشاعرية المتدفقة. وهو ما يمكن الخروج به من تلك القصص الثلاث التى يعبر بها الكاتب، حيث القصة قصيرة المساحة، واسعة الأحاسيس.

كأنني حي

محسن عبد العزيز

 

ما أقسي أن نمشي في جنازة من نحب، فلا نعرف ماذا نفعل بالضبط، وهل البكاء كاف للحزن أم لا ؟ وهل يعرف الآخرون مقدار حزننا وهم يرمقوننا من آن لآخر، كأنهم في كل مرة يبحثون عن شيء ما في كل  دمعة وشهقة وحرقة قلب.

كنت أتسند علي حائط البيت المجاور حين طلعت أمي من البيت محمولة في النعش، فانخلع قلبي وارتفع صوت النساء بالصراخ والعويل، ولم أعرف ماذا أفعل ولا كيف ؟.

 وأمشي في جنازة أمي، طفلا أمشي.. فكم من الحزن يكفي ليقول الناس إني حزين؟ وهم  ينظرون إليّ بعيون تلمؤها الشفقة.

وكم من البكاء يكفي والدموع تجف أحيانا، وألوم نفسي.. كيف لمن ماتت أمه أن يكف عن البكاء؟ وأن يمشي هكذا وراء النعش الذي يحمله الرجال وهم يبدلون من كتف لكتف أذرع خشبة الموت ؟.

بجوار نعش أمي أمشي ..هل رأيتم أقسي من ذلك؟ وطريق المقابر يبدو طويلا أو قصيرا لا أعرف. بيوت البلدة أصبحت خلفنا وصوت النواح صار بعيدا، ودبدبة أحذية الرجال علي أرض الجسر غدا لها جلال في ذلك الصمت الذي يغلف الكون. مياه الترعة والأشجار والنخيل والمواشي في لحظة سكون وتأمل للموت الذي يسد الطريق . ورجل عجوز ينزل عن حماره ويتنحي جانبا ليمر الموت في هدوء.

أمشي تتخبط قدمي في الطوب والأحجار، وأنا أحاول تجنب التراب الذي تطيره أقدام المشيعين العجلى، فيعشي عيني ويسد أنفي. وكلما اقتربت من الخشبة ذات الأذرع الممدودة بالموت، تدفعني الأيدي برفق إلي جانب الطريق يمينا ويسارا، والعيون لا تتركني فأي حزن يكفي ؟

في الطريق كان رجل يقف على حافة الجسر حتى تعبره الجنازة، فجأة أمسك بيدي، ظننت أنه يعرفني ولكنه همس في أذني : هو مين اللي مات !.

لم أعرف بماذا أجيب..كانت الإجابة الحقيقية : أنا.

هذا الجسد الملفوف بإحكام في قماش أبيض - أنا- تتسلمني يد من داخل القبر المظلم فيما أياد أخرى تمهد المرقد وتلقي جانبا بالطوب الصغيرة وبقايا عظام من سبقوني.

يريحون جسدي -أنا- الذي لن يستريح أبدا، ويغلقون علىّ بالطوب هذه الدنيا الواسعة، فتضيق. كيف لعشرين طوبة أن تغلق الدنيا هكذا، وأصبح مسجونا مدفونا في هذا الفراغ كأنني حي.

يتضايق مني البعض أو يحبني ، ويكون صراعا لا أعرف له سببا في الحب أو الكره..أنا غير الموجود أصلا ..كيف يرونني ؟ ويتحدثون معي وأضحك ويضحكون !

كيف؟ من قال إنني حي؟

هل العمر الذي تسلل للطفل فجعل له شاربا ولحية ؟ أم الأولاد الذين يقولون أبي .

أنا لا أعرف الشى ء الذي يجعل الجميع يتكلمون معي بثقة هكذا كأنني حي ! حقيقة لا أعرف رغم أنني مت منذ ثلاثين عاما تقريبا

 

الجلباب الجديد
من قماش واحد ، اشتري لي أبي جلبابين. لكنني كنت عندما أبدل واحدا مكان الآخر،لا يصدقني الأولاد، ويقولون إنني لا أملك غير جلباب واحد، أحلف لهم ولا يصدقون.

وفي يوم تسللت ، ودون أن تراني أمي ارتديت الجلبابين فوق بعضهما حتي يراهما الأولاد ويصدقوا ما أقول.

الغريب أن أحدا لم يلحظ ذلك كما أن أحدا لم يٌعيّرني بالجلباب الواحد. وذهبنا نلعب الكرة، وأمام كل الأطفال خلعت الجلبابين ووضعتهما فوق قوالب الطوب مع الهدوم التي تحدد المرمي، ولم يعلق أحد أيضا.وبدأنا اللعب واشتعلت المباراة بالجري والعرق ، وفجأة نزلت الكرة أرض الشرقاوي ، وطلع علينا الرجل من تحت الأرض يصرخ ويجري وراءنا بالعصا، وأخذ كل الملابس وألقي بها في النهر. عدت للمنزل أبكي. وقامت أمي تبحث عن الجلباب الثاني ، وتضرب كفا بكف وتقول:الأرض انشقت وابتلعته، وأنا صامت تماما، أنتظر الجلبابين الذين ذهبا مع النهر أن يعودا

 

الجسر الطويل

على جسر الترعة، الطرىق طوىل ملتو كثعبان، التراب ناعم والشمس الحارقة تضرب الرؤوس بلا شفقة، ولا أحد على الطرىق غىرى، ومىاه الترعة راكدة، وأعواد الذرة المنتصبة على الجانبىن تبث الرعب فى قلوب الرجال، وحكاىات اللصوص أو الحرامىة كما ىسمىهم أهل البلدة الذىن ىختبئون داخلها لاتروح من ذهنى أبدا، أسمع أبى ىحكى للرجال على الدكك فى المندرة: أمس كانوا فى غىط عبدالحمىد البحرى. وىقول أحد الرجال: سرقوا بهاىم ولاد الخولى.. ىحكى الرجال عنهم بخوف ورهبة. عن فلان الذى امسكوا به وطلبوا منه أن ىحضر لهم طعاما من البلد، فىما ىرد آخر: لقد رأىت غرىبا ىشترى الشاى والسكر وىعود لطرىق الجسر.. ودائما توجد إمرأة معهم، طوىلة وقوىة كالرجال، وترتدى سروالا أسفل جلبابها.. ورغم كل ذلك لاىتوقف أبى ولا أى من الرجال الذىن ىحكون عن الذهاب إلى غىطان الذرة الشامىة وأكون بجانبه وهو ىسلخ الأوراق الخضراء الطوىلة من العىدان السامقة، وىكومها على ذراعه وسط الأحواض ثم ىحملها للمواشى على جسر الترعة، وكلما تعرت عىدان الذرة من أوراقها تنفذ العىون إلى داخل الغىطان مسافة طوىلة تشعر الرجال بالأمان. والىوم ىقول لى أبى أن أذهب للغىط وأجهز ورق الشامى للمواشى، وأن عمى سوف ىأتى لى بعد ذلك. وأنا على الترعة الآن فوق الحمار وحدنا وعىدان الشامى وغىطانه لىس لها آخر، والجسر عبارة عن شارع بىوته العىدان فى صف منتظم، ىمىل أحىانا ناحىة الىمىن ثم ناحىة الشمال،، لكنه فى جمىع الأحوال ىبث الرعب فى قلبى، والناس لا وجود لهم، أىن ذهب الرجال ىاأبى، أقول لنفسى. وأتذكر أبى وهو ىقول: أننى رجل وىجب آلا أخاف.. وهاأنذا أحاول، لكن من ىمنع قلبى من الخفقان بسرعة، كلما سمعت صوت تكسر أحد عىدان الذرة، أو مر بجانبى كلب وراء شبح لا أراه، تمشى الحمارة ببطىء وكسل، فأحس أنها خائفة مثلى، وتود أن تعود بى للمنزل، لكننا نواصل السىر، كأى جىش ىتقدم إلى معركة ولاىستطىع التراجع، رغم أنه غىر موقن بالنصر أبدا... لكن لعل وعسى.