يتناول الباحث المغربي هذه المسألة التي تعد حجر الزاوية في أي فهم لفلسفة شوبنهاور، متتبعا أصولها في معمار فكره، وعلاقتها بمفهومي التمثل والإرادة الأساسيين عنده، وصولا إلى طبيعتها وما يقترحه لها من حلول أبرزها الفن واللذة الجمالية كخطوة أولى نحو حل معضلة الشر في الوجود، وثانيها الزهد بصورته المتعالية والمطلقة.

معضلة الشر في فلسفة شوبنهاور

عبد الله كسابي

 

المقدمة:

من المهم أن نحدد بدقة ما ننتظره من شوبنهاور في هذا المقال، ذلك أن الفيلسوف قد لا يكون هدفه طرح إشكالية الشر بالذات والبحث عن حلول لهذه الإشكالية. ولذلك، سنحاول تكوين صورة متكاملة ما أمكن عن تصور فيلسوف التشاؤم للشر وسبل مواجهته، وذلك من خلال الاقتراب من فلسفته في خطوطها العريضة، باعتبارها الأساس الذي يقوم عليه هذا التصور. وفي ضوء هذا النهج سنعمل بتدرج على الإجابة عن الأسئلة الآتية: ما المقصود بالفكرة القائلة إن العالم تمثل؟ وبأي معنى يكون العالم إرادة؟ وما هي أشكال وتجليات الشر في عالم شوبنهاور المنقسم هذا؟ وما الترياق الكفيل بجعلنا قادرين على مواجهة الشر المستشري في جسم العالم؟ 

الإجابة عن هذه الأسئلة ستتحقق، كما سلفت الإشارة، من خلال مرافقة حركة الكتاب الأساسي لشوبنهاور "العالم كإرادة وتمثل" بجزئيه، في عرضه للتصور الأساسي القائل إن العالم تمثل من جهة وإرادة من جهة أخرى، وفي جرده لأشكال الشر وتمظهراته، ثم في مواجهته لهذه الأشكال والتمظهرات واقتراحه، في نهاية المطاف، حلولا أو مسالك للإفلات منها.

أولا: شوبنهاور، فيلسوف الدهشة والإرادة:

  1. شوبنهاور، الفيلسوف المتشائم:
    ولد أرتور شوبنهاور في الثاني والعشرين من فبراير من عام 1788 بدانتزيغ. وفي سنة 1813 قدم رسالة دكتوراه بجامعة يينا بعنوان "الجذر الرباعي لمبدأ العلة الكافية". وفي سنة 1818، ظهر كتابه الأساسي "العالم كإرادة وتمثل". لكن هذا الكتاب لم يعرف النجاح والانتشار إلا في الطبعات اللاحقة أواخر حياة الفيلسوف. وفي سنة 1836، خرج شوبنهاور من فترة صمت من خلال كتاب "الإرادة في الطبيعة". تلاه عام 1841 نشر كتاب "المشكلتان الأساسيتان في الإتيقا (في حرية الاختيار\ أساس الأخلاق)، وأخيرا كتابه "الحواشي والبواقي". وفي الواحد والعشرين من سبتمبر من عام 1860 وُجد شوبنهاور ميتا بمنزله في فرانكفورت([1]).

من الشائع تفسير فلسفة شوبنهاور بالرجوع إلى سيرة حياته ومزاجه الخاص، إذ كثيرا ما يقال إنه استمد فروضه عن الإرادة ولا جدوى الحياة من مزاجه العصبي وعزلته وانطوائه على نفسه. لكن شوبنهاور نفسه يرفض هذه الفكرة، مؤكدا أن دراسة سيرة حياة الفيلسوف بدلا من دراسة أفكاره، شبيهة بإهمال لوحة والنظر في إطارها. غير أن هذا لا يمنع من الإشارة إلى أن حياة شوبنهاور المبكرة، رغم ما يقال عنها، اجتمعت فيها الشروط الكفيلة بخلق العبقرية الفلسفية (تحرر الشخصية، الاطلاع المبكر على التراث الفلسفي، التحرر من الاضطرار إلى كسب القوت اليومي). وإضافة إلى هذه الشروط الأولية لتفتق عبقرية شوبنهاور، نجده يصرح بمصادر رئيسية لفلسفته. يقول بهذا الصدد: "إن فلسفة كانط هي إذن الفلسفة الوحيدة التي يتطلب هذا العرض [يقصد كتابه "العالم كإرادة وتمثل"] مطلقا المعرفة المعمقة بها. أما إذا كان القارئ، بالإضافة ذلك، قد جاور طويلا مدرسة الجليل أفلاطون، فإنه سيكون مهيئا أكثر، لفهم ما أقول."([2])

ولعل الجانب الذي تأثر به شوبنهاور من فلسفتي أفلاطون وكانط هو الجانب المشترك بينهما، والمتمثل في التمييز بين عالم الحواس والأشياء أو الظواهر، وبين عالم المثل والمعقولات أو الشيء في ذاته. فالعالم كتمثل، عند شوبنهاور، يناظر العالم الحسي أو عالم الظواهر عند أفلاطون وكانط، والعالم كإرادة لديه يناظر عالم المثل أو الشيء في ذاته عندهما. ويضاف إلى ما سلف، تأثر شوبنهاور بما يسمى ب "الهجرة الروحية إلى الشرق"، هذه الظاهرة التي بدت واضحة لدى الشعراء والكتاب، لتنتقل بعد ذلك إلى الفلاسفة من ذوي النزعة الرومانسية، ومن ضمنهم شوبنهاور. بل يمكن الجزم بالصلة الوثيقة لهذا الأخير بالفكر الهندي القديم وخاصة ما يتعلق بالحكمة البوذية التي نجد لها حضورا خاصا في فلسفته، وبصفة جوهرية في تصوره لكيفية الخلاص من شرور الحياة([3]).

  1. شوبنهاور والدهشة
    من الممكن أن ندرج فلسفة شوبنهاور ضمن المسار القديم الذي اختطه كل من أفلاطون وأرسطو. فعلى منوالهما، يعتبر شوبنهاور أن الفلسفة كنشاط إنساني تجد منبعها في الملكة المميزة للإنسان والمتمثلة في الدهشة. لقد أشار أفلاطون في محاورة "تياتيتوس"، وكذلك فعل أرسطو في "الميتافيزيقا"، إلى أن تفلسف الإنسان يعود الفضل فيه إلى قدرته على مساءلة ذاته ومساءلة الواقع، وعلى الإمساك بما هو إشكالي في هذا الأخير. أما شوبنهاور فيعتبر الإنسان "حيوانا ميتافيزيقيا" لأن لديه القدرة على إدراك العالم بوصفه لغزا، وهذه الدهشة الفلسفية من شأنها أن تطال كل الأشياء. بل إن شوبنهاور يعتبر أن هناك سلما حقيقيا أو درجات في القدرة على الدهشة: ففي المستوى الأدنى نجد الإنسان الذي يبدو له كل شيء حاملا في ذاته لمعناه، وكيفية وسبب وجوده. هنا نجد الصورة الأفلاطونية للإنسان الذي يعتقد أنه يعرف، وانطلاقا من ذلك، تنغلق أمامه كل إمكانية للتفكير الفلسفي: فالتساؤل يفترض نوعا من وعي المرء بجهله، كشرط أساسي لكل بحث عن الحقيقة. أما بالنسبة للدهشة العلمية، فهي تفرض بدورها قدرا من وعي الإنسان بجهله وعدم كفاية معارفه الخاصة، لكن هذا النوع من الدهشة لا يحدث إلا بالنسبة للظواهر النادرة والغريبة. وعلى العكس، فأن تفكر فلسفيا معناه "القدرة على الدهشة من الأحداث المألوفة ومن أشياء الحياة اليومية، وأن تتخذ كموضوع للبحث الأشياء الأكثر عمومية والأكثر اعتيادية"([4]).

الفلسفة إذن تولد من هذه الملكة الكونية المتمثلة في الدهشة، ومن القدرة على التساؤل حول الأشياء الأكثر بساطة، فـ"بشكل عام، ليست ملاحظة الظواهر النادرة هي التي تقود إلى اكتشاف الحقائق الأكثر أهمية، بل دراسة الظواهر الأكثر بداهة والتي في متناول الجميع: المسألة إذن لا ترتبط بالكشف عما لم يسبق لأحد أن رآه، بقدر ما ترتبط بالتفكير فيما بإمكان الجميع رؤيته، دون أن يفكر فيه أحد"([5]).غير أن اعتبار الدهشة منبعا لكل تفكير فلسفي، لا يعني، بالضرورة، فهم ما يجعل هذه الدهشة ممكنة. أي أن الأمر هنا يتعلق بالدهشة من إمكانية الدهشة نفسها. والحل الذي يقترحه شوبنهاور لهذا اللغز، هو ما سيمكنه من إحداث القطيعة مع كل من أفلاطون وأرسطو.

تفترض الدهشة عند أفلاطون وأرسطو العقل كملكة عليا ومستقلة للبحث عن الحقيقة كغاية في ذاتها، وهذه الملكة تتجاوز غيرها من الملكات، وخاصة الإرادة والرغبة، ما دام أن الوظيفة العادية للعقل هي التحكم في هاتين الأخيرتين. إن سمو العقل واستقلاليته هو بالضبط ما يرفضه شوبنهاور: مبدئيا، العقل بالنسبة لهذا الفيلسوف ما هو إلا ملكة في خدمة الحياة والمحافظة عليها. فالوظيفة الأولى للعقل وظيفة بيولوجية، وهذا يجعل منه مجرد خاصية بارزة لإرادة الحياة وفي خدمة هذه الأخيرة. فالقدرة الإنسانية على الدهشة هي إذن أكثر إدهاشا، لأن الملكة التي تجعل الإنسان يندهش، لا ترتبط، في وظيفتها الأولية، بمجال المعرفة. وهذا ما قاد شوبنهاور إلى تمييز الدهشة جذريا عما سواها من أنواع الشعور الأخرى القريبة منها كالفضول والاستقصاء. فبينما ترتبط الأولى بتساؤل منزه (لا منفعة فيه)، فإن الأخرى ما هي إلا نشاط محموم يقوم به العقل خدمة للإرادة. والسؤال الذي يفرض نفسه إذن هو: كيف يمكن للعقل، كوظيفة بيولوجية بسيطة، أن يفرض نفسه كملكة للمعرفة الخالصة؟

إن الدهشة تفترض إذن تحرر العقل من الإرادة، وأن يدير ظهره، لحظيا، لوظيفته البيولوجية الطبيعية. وصعوبة حدوث هذه الحالة وما يجعلها نادرة هو أن ما هو عرضي (العقل)، في نظر شوبنهاور، يجب أن يسود ويقصي، بشكل ما، ما هو جوهري (الإرادة). إن الدهشة، وعملية المعرفة الخالصة التي تعطي انطلاقتها، هي إذن، غير مطابقة لماهية الإنسان ذاته، وبالتالي فهي لا تبرز إلى الوجود، بهذا الشكل، إلا بصورة استثنائية بوصفها مخالفة للمسار الطبيعي للعقل. وهذا يترتب عنه أن الفلسفة بعيدة عن أن تكون شأنا عاما لجميع الناس، بل إن هناك، بحسب شوبنهاور، أرستقراطية عقلية حقيقية. يقول: "إن الطبيعة لا تمنح النبوغ العقلي إلا لعدد قليل جدا، ولا تهب العبقرية إلا كميزة نادرة جدا. أما الحشد الأكبر من النوع البشري، فلا تمكنه إلا من القدرات العقلية الضرورية لحفظ الفرد والنوع"([6]).

إن الدهشة إذن منبع لكل فلسفة، لكنها، بشكل خاص، منبع لفلسفة شوبنهاور. فدهشة هذا الأخير هي، على وجه الدقة، دهشة أمام وجود الشر. أكيد أن هذا الفيلسوف ليس أول من طرح سؤال الشر لكنه الوحيد الذي طرحه بوصفه عاما وشاملا، يسري ويشيع في جميع أجزاء العالم، بالشكل الذي يسمح بتشبيه هذا الأخير بخشبة مسرح حيث تلعب تراجيديا أزلية. وإذا كانت الدهشة منبعا لكل تفكير فلسفي، وكانت دهشة شوبنهاور، بالأساس، دهشة أمام لغز الشر، فإن فهم هذا اللغز، من وجهة نظره، يقتضي الوقوف على الملامح الكبرى لتصوره للعالم كإرادة وكتمثل. فبأي معنى يكون العالم تمثلا في نظر شوبنهاور؟

ثانيا: العالم كتمثل وكإرادة

  1. العالم كتمثل
    "العالم هو تمثلي"([7])، هذه هي الأطروحة الأولى لشوبنهاور. فبالنسبة للذات العارفة الواعية، العالم هو موضوع معطى للإدراك. وعادة ما يفترض الإنسان أن هذا العالم يوجد كما يتم إدراكه، أي أن هناك نوعا من التوافق والتطابق الكامل بين العالم كما يتمثل في الوعي، وبين العالم كما يوجد في ذاته ومن خلال ذاته. والنتيجة الأولى لهذا الاعتقاد التلقائي هي الفكرة القائلة إن العالم لن يكف عن أن يكون ما هو، حتى عندما لا تكون هناك ذات عارفة لتُدركه. إن علاقة التطابق هذه، التي نسلم بها تلقائيا بين العالم كما هو مدرك، والعالم كما هو في ذاته، تجد مصدرها، بحسب شوبنهاور، في نوع من الواقعية الساذجة. وبالمقابل، يعتبر الفيلسوف أن الموضوع المدرك هو بالضرورة خاضع للتغير والتحول بفعل عملية الإدراك نفسها: فشكل الموضوع وخصائصه ترتبط وتشتق ليس فقط مما هو عليه، بل أيضا من الشروط التي يظهر في إطارها للذات. والوعي بحسب وجهة النظر هذه، ليس مماثلا لزجاج شفاف يتيح رؤية الأشياء كما هي موجودة، بل على العكس يعيد تشكيل العالم انطلاقا من محدداته الخاصة.

إن العالم بالنسبة للذات التي تدركه، هو أولا مجموع الخواص المعطاة من خلال الحواس الخمس: فالعين تكشف لي عن الضوء وعن ألوان العالم، أما الأذن فتقدم لي أصواته وضجيجه، وعبر الذوق والشم، أتذوق طعم الأشياء ورائحتها، وأشعر ببرودتها أو حرارتها، وبصلابتها أو هشاشتها من خلال اللمس. وهذه الخواص الحسية، عادة ما نمنحها، في علاقتنا المباشرة مع الواقع، قيمة موضوعية. وهذا يفضي بنا إلى الاعتقاد بأن الإحساس، بوصفه أساس كل معرفة، يقدم لنا العالم كما هو في ذاته.

لكن شوبنهاور يدعونا إلى القطع مع هذه الواقعية الساذجة: فالخواص الحسية هي أبعد من أن تكون منتمية إلى العالم، باعتبارها سماته الموضوعية؛ إنها تمثل، على العكس، وبشكل جلي، جانبه الذاتي. وقد سبق لكانط أن درس في "نقد العقل الخالص" (1781) البنيات التي تقوم عليها المعرفة الإنسانية للعالم، محاولا التمييز في هذه المعرفة، بين ما يشتق من التجربة الحسية التي للإنسان عن العالم، وبين ما ينتمي، على العكس، إلى الذات العارفة. ونتيجة هذا الاستقصاء الكانطي نجدها في "الإستيتيقا الترنسندنتالية" حيث يعتبر أن المكان والزمان شكلان أوليان لكل معرفة: فالزمانية والمكانية تشكل العلاقة الأكثر أصالة للإنسان بالعالم، مادام أنه من غير الممكن إدراك الأشياء بشكل مستقل عن المحددين الزماني والمكاني، أو بتعبير آخر، بشكل مستقل عن علاقات التتابع والتجاور. وهذان الشكلان (الزمان والمكان) خاصيتان للذات العارفة، بنيتان أو صورتان قبليتان نجدهما في ذواتنا قبل أية تجربة حسية عن العالم والأشياء.

على أساس هذه الأرضية الكانطية، يؤكد شوبنهاور أن العالم ليس هو الذي يفرض على وعينا بنياته المكانية والزمانية، بحيث نكتفي بتلقيها منه بكيفية سلبية؛ بل على العكس، هذا الوعي هو الذي يسقط على العالم نظام التتابع والتجاور الذي يتجلى به. بتعبير آخر ليس الإنسان هو الذي يوجد في المكان والزمان، بل على العكس، المكان والزمان هما اللذان يوجدان في الإنسان. غير أن الظواهر لا تتابع في الزمان بطريقة عشوائية وغير منظمة، وذلك لأن عملية تأمل بسيطة للعالم تجعلنا ندرك النظام المميز لذلك التتابع، إلى حد أن بعض الظواهر تبدو لنا مترابطة فيما بينها بشكل ضروري. وهذا التتابع الضروري للظواهر يرتبط بمبدأ السببية: وهكذا فإذا كانت صورة المكان هي ما يسمح للموضوعات بأن تكون مدركة بوصفها خارجية ومتجاورة، وكانت صورة الزمان هي التي تتيح إدراكها بوصفها متتابعة ومتعاقبة، فإن السببية هي التي تنظم كل هذه التغيرات والتحولات في الزمان. غير أن النظام السببي للعالم لا ينتمي إليه مثلما لا تنتمي إليه صورتا الزمان والمكان: فالتجربة الحسية ليست هي التي تفرض على العقل العلاقة السببية بين الظواهر، بل إن العقل هو الذي يفرض على التجربة بأن تنتظم بحسب مبدأ السببية. إن الزمان والمكان والسببية إذن، بعيدا عن أن تكون خواص للعالم، ما هي إلا كيفيات يقوم من خلالها العقل الإنساني بإدراك هذا العالم وبَنْيَنَتِه.

وإذا كان العالم، كما يظهر للذات العارفة، مرتبطا بصور الحساسية، وبشكل أساسي بمقولات الفهم، التي تنظمه بحسب المكان والزمان والسببية الخاصة بها، فإن هذا العالم، بحسب شوبنهاور، لا يتوافق مع العالم كما هو في ذاته. فـ "العالم الموضوعي، أي العالم بوصفه تمثلا، ليس الوجه الوحيد للعالم، إنه لا يمثل إلا أحد وجهيه: الوجه الخارجي بمعنى ما. فالعالم يحوز أيضا وجها آخر، وجها مختلفا كلية عن الأول، والذي هو ماهية العالم الحميمية ونواته؛ والشيء في ذاته الحقيقي"([8]).

إن شوبنهاور إذن، يأخذ لحسابه الخاص التمييز الكانطي في "نقد العقل الخالص" بين الظاهرة والشيء في ذاته: معرفة العالم كظواهر أو كتمثل معناه معرفة وجوده النسبي (أو السطحي) فحسب، أي مظهره المدرك من قبل الذات العارفة؛ وهذا المظهر يرتبط بالشروط القبلية للحساسية والفهم. إن هذا العالم كتمثل مختلف عن العالم كما هو في ذاته وفي وجوده الحميمي، أي في وجوده بشكل مستقل عن كل ذات تتمثله، والذي يتوخى تحقيق غاياته من خلال هذه الذات نفسها. إن العالم كتمثل من قبل الوعي يمكن فهمه، عند شوبنهاور، بدلالة مسرحية خالصة، إنه خشبة تلعب فوقها "كوميديا وهمية"، ومخرج هذه الكوميديا هو الإنسان نفسه([9]). الحقيقة الأولى في فلسفة شوبنهاور إذن أن العالم هو تمثلي الخاص، وبأنني أجهل الكيفية التي يوجد بها خارج هذا التمثل.

  1. العالم كإرادة
    إذا كان هناك تمييز بين عالمين: العالم بوصفه تمثلا والعالم بوصفه إرادة، فإن الإمكانات المعرفية للذات القائمة على الزمان والمكان والسببية تقف بها في حدود العالم بوصفه تمثلا؛ هذا العالم الذي لا يتعدى كونه وهما وسطحا ومسرحية من إخراج الذات نفسها. من هنا ضرورة التساؤل عن الكيفية التي تتيح الاقتراب من العالم الحقيقي، عالم الإرادة؛ فما السبيل الكفيل بجعل الإنسان ينفد إلى عالم العمق هذا ويسبر كنهه ويقف على حقيقته؟ الموضوع الذي من شأنه أن يسمح لنا بحل لغز العالم، ليس إلا الوجود الجسمي الذي نكونه. ذلك أن وجودنا في العالم، لا يمكن اختزاله إلى وجود ذات خالصة للمعرفة: إننا، إضافة إلى ذلك، بوصفنا أجساما، تمظهر للشيء في ذاته؛ وبشكل أدق، التمظهر الوحيد للشيء في ذاته، الذي لا يمكننا معرفته إلا من الداخل.

أكيد أن شوبنهاور لا يجهل أن جسدنا هو بدوره، معطى على شكل تمثل. ذلك أن هذا الجسم مدرك، على الدوام، في مكان ما وفي لحظة محددة من الزمان، وحركاته تتمظهر دائما، كآثار للموضوعات الحسية الخارجية، وإذا كان الجسم موجودا على هذا النحو، فإنه موجود على نفس المستوى مع ظواهر العالم الأخرى الخاضعة لإطاري الزمان والمكان والمندرجة ضمن شبكة العلاقات السببية. غير أنه، وفي الوقت الذي توجد فيه الموضوعات الأخرى لعالم التمثل خارج الذات العارفة التي تتمثلها، فإن الجسد تتحقق فيه وحدة الذات والموضوع؛ بالشكل الذي أكون به، داخل الجسد ومن خلاله، في الجانب الآخر من المرآة.

إن الجسم الذي نكونه، ما دام أنه موضوع معرفة مزدوجة، يشكل المسار العميق أو التحت-أرضي، الطريق السرية التي ستدخلنا (كما لو أن الأمر يتعلق بخيانة) إلى القلعة، حيث تختبئ ماهية العالم([10]). هنا بالتحديد نجد قلبا جذريا للتقليد المثالي الذي وضع أسسه أفلاطون: فبالنسبة لهذا الأخير، التحرر من الجسم ومن متطلباته وقيوده الحسية هو وحده ما يسمح للعقل بالوصول إلى إدراك الماهية العقلية للأشياء (المثل). أما بالنسبة لشوبنهاور، فعلى العكس تماما، العقل هو الذي يصبح مجالا لمظهر عقلي، والجسم هو مكان الكشف الميتافيزيقي عن العالم. إن التجربة المباشرة التي للإنسان عن جسمه ليست بالتأكيد وحدة، بل تعدد وكثرة من الأفعال والحركات والعواطف. غير أنه وراء هذا التعدد الظاهر، يدعونا شوبنهاور إلى استكشاف هوية مبدأ واحد، وهذا المبدأ الواحد هو الإرادة. لا يمكن لأي حركة أو فعل إنساني مهما كان أن يفهم حقيقة إلا باعتباره تجليا لقوة ما، وهذه القوة نفسها لا يمكن أن تفهم إلا بوصفها قوة الإرادة. فحتى هذان القطبان الأوليان للإحساس: "اللذة والألم، ليسا، إلا تغيرات للإرادة وللا-إرادة، إنهما فعل الإرادة الخالص، عندما تحدث تأثيرها خارجا"([11]). فالإرادة إذن، هي التي تشكل الوحدة العليا للوعي والماهية الحميمية لوجودنا، وما يمكن معرفته فينا بكيفية مباشرة، وليس كتمثل فقط.

إن الإرادة، بوصفها ماهيتنا الأكثر حميمية، تجد الشكل الأساسي للتموضع في الجسم. وشوبنهاور يقيم هنا قطيعة جذرية مع الكيفية التي تفهم بها عادة العلاقة بين الجسم والإرادة، ذلك أننا نقيم بين الإرادة وحركات جسمنا علاقة سببية([12]): فعندما أرفع يدي أو عندما أبدأ بالمشي، أعتبر أنني أردت ذلك؛ وبكلمات أخرى، أعتبر أن إرادتي سابقة على حركاتي الجسمية، وبأنها هي التي تحدد هذه الأخيرة. في مقابل هذه الثنائية، يعتبر شوبنهاور أن هنالك تطابقا وهوية: فالإرادة لا تصدر عنها الحركة الجسمية كما لو أن الأمر يتعلق بعلة ومعلول، بل إنها تتماهى وتتطابق معها. أكيد أنه بالإمكان إقامة تعارض بين الإرادة والفعل، لكن هذا التعارض لا وجود له إلا في الفكر، لأن الحقيقة هي أنني لا أريد إلا ما فعلته، والقيام بالفعل هو وحده الذي يثبت وجود الإرادة. إن هذا التطابق بين إرادة خاصة وبين فعل معين، نجده عند شوبنهاور، بين الجسم في كليته وبين الإرادة في وحدتها: فكل جسمي ما هو في ذاته إلا إرادتي مرئية ومتموضعة. وعلى هذا المستوى من التطابق، لا يتعلق الأمر فقط بتطابق حركاتي الجسمية مع إرادات فردية أو مفردة (إرادة الأكل أو المشي مثلا)؛ بل إن الأعضاء الجسمية نفسها تترجم الميول الأساسية للإرادة. يقول شوبنهاور: "إن أعضاء الجسم تطابق كليا الشهوات الأساسية التي تتمظهر من خلالها الإرادة، إنها التعبير المرئي عنها، فالأسنان والبلعوم والقناة الهضمية هي الجوع المتموضع، والأعضاء التناسلية تمثل الدوافع الجنسية المتموضعة"([13]).

وهكذا، فالإرادة والجسم ليسا إلا وحدة، وهذا التماهي، في نظر شوبنهاور، بمثابة الحقيقة الفلسفية بامتياز والمعجزة التي سينكشف من خلالها سر العالم أمامي([14]). وإذا كان هناك تقابل بين المعرفة غير المباشرة للظواهر الخارجية، التي لا يمكن أن تدرك إلا من منظور التمثل، وبين المعرفة المباشرة التي للإنسان عن نفسه بوصفه إرادة، فإن هذه المعرفة المباشرة نفسها هي، في واقع الأمر، نسبية: فالإرادة، في هذه المعرفة الداخلية، تكون قد تخلصت من عدد من الحجب التي تخفيها، دون أن تصل إلى حد أن تتبدى مباشرة وبدون حجاب. فما الذي يخفي الإرادة ولا يسمح بأن تُرَى كما هي في ذاتها؟

إذا كان حدس الإنسان لعالمه الداخلي متحررا من إطاري المكان والسببية، فإنه يظل أسيرا للبنية التمثلية للزمان، ذلك أن حالات الوعي الداخلية لا تدرك إلا بوصفها متتابعة ومتعاقبة. بالشكل الذي يجعل أن إرادتي لا تحضر وتتمثل في ذاتي في وحدتها وبساطتها الأصيلة، بل من خلال التعدد المتتابع للحالات والأفعال، التي تشكل تمظهراتها الخاضعة لصورة الزمان. حجاب الزمان هذا يسمح لنا أن نخمن ماهية وجودنا كإرادة، دون أن يمكننا من رؤيتها مباشرة. وبالرغم من ذلك، فمثلما يمكن أن نخمن ملامح وجه من وراء حجاب يخفيه، فكذلك من الممكن ملامسة الإرادة هنا حيث الوجه الظاهري الذي يغطيها أقل سمكا وأقل قدرة على الحجب والإخفاء([15]). لكن، ما الذي يضمن أن الجسم يشكل المفتاح الذي من شأنه أن يسمح لنا بالدخول إلى ماهية العالم ذاتها؟

الحجة التي وظفها شوبنهاور، في هذا السياق، قائمة على المماثلة: إذا كان جسمنا مماثلا لموضوعات العالم من وجهة نظر التمثل، فإن موضوعات العالم يجب بالمقابل، أن تكون مماثلة لجسمنا من وجهة نظر الإرادة التي تشكل ماهيته. بتعبير آخر، تماثل جسمنا مع العالم على مستوى الظاهرة، هو ما يتيح لنا التسليم بتماثلهما على مستوى النومين أو الشيء في ذاته. وهذا يترتب عنه أنه انطلاقا من الجسم الذي نكونه، يمكن أن نؤكد الخاصية الكونية للإرادة باعتبارها "الجوهر الأكثر حميمية، نواة كل وجود فردي، مثلما هي نواة الكل (العالم)، إنها هي التي تتمظهر في كل قوة عمياء للطبيعة، مثلما تتمظهر في كل سلوك مفكر فيه للإنسان. فالاختلاف بين الاثنين لا يعدو أن يكون اختلافا في الدرجة يهم الظاهر وليس ماهية ما يظهر"([16]). واضح من هذا القول إذن، أن شوبنهاور يتجاوز المنظور الفلسفي التقليدي الذي لا يتمثل الإرادة إلا باعتبارها مرفقة ومضاءة بالمعرفة والوعي، بالشكل الذي يجعلها محصورة غالبا في المستوى الإنساني، ليعطيها دلالة كونية: إنها تتجلى أولا في القوى الأولية الفاعلة في العالم غير العضوي (طاقة عمياء وغامضة: الوزن، المقاومة، المغناطيسية.) ثم في العالم النباتي كقوة غامضة وغير واعية، وبشكل أوضح في الغريزة الحيوانية التي تدفع الحيوان إلى القيام بما لا يملك عنه أدنى فكرة (بناء العش من قبل الطائر مثلا)([17]).

فمن التمظهر الأكثر بساطة، إلى ذلك الأكثر تركيبا، لا يتعلق الأمر إلا بعمليات تموضع Objectivations متعاقبة لإرادة واحدة وكونية. وهكذا، فالعالم خارج تمثلي ما هو إلا تجل خالص لإرادة محايثة عمياء، لنزوع كوني وأصم نحو الحياة؛ وهذه القوة الكونية ليست مرفقة بالمعرفة إلا في أعلى درجات موضعتها. وهذا يعني أن كل قوى الطبيعة ينبغي النظر إليها كتجليات وتمظهرات لإرادة كونية واحدة ووحيدة. وبتعبير آخر الإرادة، بهذا المعنى، لا تتجلى كقوة إلى جانب قوى أخرى، بل بوصفها الدينامية المحركة لكل قوة من الداخل. عالم شوبنهاور إذن، عالم مزدوج: فهناك العالم بوصفه إرادة، والعالم بوصفه تمثلا. والإرادة، بوصفها قوة مطلقة، تحقق عبر عملية التموضع، وعبر درجات من التموضع، عالمنا الواقعي، أو العالم بوصفه تمثلا. وبعد ذلك تحقق في هذا الأخير، عبر مبدأ الفردية، وجود الكائنات في الزمان والمكان، هذه الكائنات الخاضعة لمبدأ السببية. والإنسان في نظر شوبنهاور يلعب دور الوسيط بين العالمين: عالم التمثل وعالم الإرادة.

يمثل التموضع المحطة الأولى في سيرورة تشكل العالم انطلاقا من الإرادة. إنه أشبه بتحول أو طفرة للإرادة لا تكتمل إلا بتحقق عالم الظواهر أو العالم بوصفه تمثلا. وعملية التموضع هذه من الصعب فهم الكيفية التي تتم بها، لأنها تتم خارج نطاق الزمان والمكان والسببية. إلا أن هذا لا يمنع من القول بأن هذه العملية عبارة عن انتقال حر للإرادة من وحدتها ولا تحددها إلى مستوى أول من التعدد والتحدد، بحيث أن هذا التموضع يفضي إلى ما يشبه المثل الأفلاطونية. وهذه الأخيرة هي أشياء لا شكل لها، لكنها محددة وثابتة، وتحمل في ذاتها بشكل ما موضوعاتها الفردية الخاصة، وهي تتمظهر في هذه الموضوعات بوصفها صورتها الأزلية أو نموذجها؛ إذ من خلال هذه الأشكال الأزلية وهذه النماذج تتحقق مختلف الكائنات في عالم التمثل. غير أن عملية التموضع لا تتم على مستوى واحد، بل على درجات أو مستويات بدء من الجماد ومرورا بالنبات والحيوان، ووصولا إلى الإنسان. ف"العالم المرئي بأكمله ليس إلا تموضعا للإرادة، مرآتها التي تعرف من خلالها ذاتها"([18]).

وبعد عملية التموضع، تصل الإرادة في تحققها، إلى سيرورة ثانية هي التفريد individuation وانطلاقا من هذه العملية تحقق الإرادة فعليا عالمنا الواقعي أو العالم بوصفه تمثلا، الخاضع لإطاري الزمان والمكان ولمبدأ السببية: يتعلق الأمر في هذه العملية بتحقق مادي للكائنات الفردية المتعددة والمتباينة انطلاقا من مثلها ونماذجها بدءا من الحجر ووصولا إلى الإنسان. وهذه الكائنات الفردية المتعددة والعابرة لا تعدو أن تكون مظاهر لإرادة واحدة ووحيدة. فـ"من زاوية نظر الإرادة، الفرد ليس إلا تجليا من تجلياتها، نموذجا وعينة. وعندما يموت فرد ما، فإن الطبيعة في مجموعها لا تعاني من ذلك، ولا الإرادة نفسها؛ مادام أن النوع وحده يحظى باهتمام الطبيعة"([19]).

ثالثا: العالم بوصفه شرا

  1. العالم شر، تشاؤم شوبنهاور
    لقد قلنا فيما سبق إن دهشة شوبنهاور، بالأساس، دهشة أمام الحضور المروع للشر في العالم. فاعتبار الإرادة، كقوة كونية عمياء بدون هدف أو غاية، الماهية العميقة العالم، واعتبار عالمنا الواقعي مجرد تمثل يدرك فيه الإنسان ما هو واحد (الإرادة) متعددا ومبعثرا ومتصارعا (الكائنات الفردية)؛ يفضي إلى نتيجة جوهرية هي عبارة عن صرخة تشكل فلسفة شوبنهاور، بل حياته أيضا تعبيرا صادقا عنها: "العالم شر". وإذا كان الشر حاضرا في كل ركن من أركان الوجود، فإن هذا الحضور لا يتخذ صورة أو شكلا واحدا، بل يمكن أن نميز فيه بين شر كوني يمس الكائنات جميعا من أدناها إلى أعلاها، من المادة غير العضوية وصولا إلى الإنسان، وبين شر طبيعي يتداخل فيه ما هو فيزيولوجي وما هو سيكولوجي في الإنسان، وبين شر أخلاقي يتجلى في علاقة الناس ببعضهم البعض. فما هي تجليات حضور الشر في العالم وفي حياة الإنسان بشكل خاص؟ وما هي أشكال الترياق التي يقترحها شوبنهاور لمواجهة هذا الداء المستشري في جسم العالم؟

أ. الشر الكوني:
الحرب الكونية:
إن الوجود شر في نظر شوبنهاور لأن العالم من أقصاه إلى أقصاه حرب دائمة ونزاع مستمر، وهذا التطاحن المهول للكائنات والأشياء يكمن بالأساس في التناقض الجوهري للإرادة الكونية مع وجودها ذاته: فإذا كانت الإرادة واحدة ووحيدة، فإن تمظهراتها متعددة ومتكثرة، وذلك كما رأينا سابقا، بوساطة عمليتي التموضع والتفريد. وإذا كانت ماهية الإرادة هي التأكيد والإثبات، فإن كل تمظهر من تمظهراتها في عالم التمثل (كل كائن من الكائنات الفردية)، لا يمكنه إثبات وجوده، إلا عبر ممارسة النفي على غيره. يقول شوبنهاور: "وهكذا، فنحن نرى، في كل جزء من الطبيعة، صراعا ومعركة وتعاقبا للانتصارات والهزائم، وهنا بالضبط يمكن أن نلاحظ بشكل جلي التشظي الجوهري للإرادة (...) ويمكن أن نتتبع، عبر الطبيعة، بأسرها أثر هذا الصراع، إلى حد القول تحديدا، إن الطبيعة نفسها، لا توجد إلا من خلاله (...) وهذه المعركة الكونية تجد تجليها الأكثر وضوحا في المملكة الحيوانية (...) ذلك أن كل حيوان لا يمكنه أن يحافظ على وجوده إلا عبر الإعدام الدائم لحيوان آخر، بالشكل الذي يجعل إرادة الحياة تفترس دائما نفسها"([20]).

إن الصراع الكوني إذن، إنما هو صراع الإرادة مع نفسها، لأن هذه الإرادة "يجب أن تقتات من ذاتها، ما دام أنه خارجها ليس هناك شيء، كما أنها إرادة جائعة ونهمة، ومن هنا هذا الصراع، وهذا القلق وهذه المعاناة التي تميزها"([21]). ولعل التمثيل الرمزي الملائم لهذا الصراع الكوني، الذي لا نهاية له، يمكن أن نجده في الدائرة، وتحديدا في الأوروبوروس L’ouroboros، هذا التنين الشهير الذي يلدغ ذيله. إن نزاع الكائنات مع بعضها، وكون هذه الكائنات تمظهرا لإرادة واحدة، يعني أن جوهر هذا النزاع إنما هو أسنان الإرادة تنهش في لحمها ذاته. ويقدم شوبنهاور مثالا على هذا الافتراس الذاتي للإرادة وللعالم هو نملة bouledogue الأسترالية. يقول: "عندما تتم قسمتها (أي النملة) إلى قسمين، تنشب معركة بين الرأس والذيل: الذيل يلدغ الرأس، وهذا يدافع باستماتة ضد الآخر عبر وخزه بشوكته، والمعركة بين القسمين يمكن أن تستغرق نصف ساعة، إلى غاية الموت النهائي"([22]).

إن معركة العالم هذه مع ذاته نجدها بحسب شوبنهاور في مختلف درجات موضعة الإرادة، لكنها تتمظهر بشكل أكثر وضوحا عبر الحرب الدائمة، التي تشكل عمق التاريخ البشري، فالإنسان كان على الدوام وما يزال ذئبا لأخيه الإنسان([23]).

ب. الهيمنة الكونية:
إن هذا التطاحن الدائم وهذه الحرب المستمرة بين الكائنات، ليست الشكل الوحيد للشر في بعده الكوني، إذ تضاف إليه صورة أخرى هي الاستيعاب المهيمن: فإذا كان النموذج السابق، يثير الانتباه إلى المعاناة الملازمة لكل وجود ولكل حياة، فإن هذا النموذج من شأنه أن يلقي الضوء على الكيفية التي تنتقل بها الإرادة من تمظهراتها الأكثر بساطة إلى تلك الأكثر تركيبا وتعقيدا. يتعلق الأمر هنا تحديدا بالإكراه والنفي الممارس على المستويات الدنيا للإرادة، الشيء الذي يتيح انبثاق تمظهراتها العليا.

وإذا كان هذا الإكراه والنفي والصراع لا ملاذ منه، ولا فائدة فيه كما رأينا في العنصر السابق، فإن شوبنهاور يعطيه هنا بعدا خلاقا: فما كان لأي ظاهرة عليا أن تنبثق من هذا الإكراه والنفي الممارس على الظواهر الدنيا، لو لم تكن الإرادة، التي تشكل هذه الظواهر تمثلا لها؛ ميلا مستمرا لإثبات وتأكيد الذات، واتجاها أزليا نحو الوجود، وانتشارا وتوسعا ذاتيا لجوهرها الخاص([24]).

وخاصية الإرادة هذه تفسر لنا ذلك الترادف الذي يقيمه شوبنهاور بين لفظي الإرادة وإرادة الحياة: فالأكيد أن الحياة لا يمكن أن ننسبها لكل الأشياء، والتمييز بين العالم العضوي والعالم غير العضوي، في فلسفة شوبنهاور، هو على درجة كبيرة من الوضوح والجلاء. غير أنه إذا لم يكن كل شيئا حيا، فإن كل شيء إرادة. والحياة، بوصفها التمظهر الأعلى لماهية الإرادة، هو ما تريده هذه الإرادة. وبهذا المعنى، فالإرادة التي تتمظهر في الجاذبية، في جوهرها، إرادة للحياة، رغم أن الحياة لم تتحقق بعد فيها. وهذا يعني أن ما يشكل نسيج الواقع، ليست الدرجات الدنيا والبدائية لتمظهراتها، بل هو ماهيتها الإثباتية والتأكيدية، أي ميلها الدائم للتموضع في ظواهر أعلى.

غير أن هذا النزوع نحو الأعلى يخلو من أي انسجام، فليس هناك تكاثف سلمي أو توافق نهائي بين أجزاء العضوية الناشئة: فالنموذج الأعلى يجب، على العكس، أن يتفوق بشكل دائم على مقاومات النماذج الدنيا التي يتضمنها ويستوعبها، وذلك لأن هذه الأخيرة تتجه، بصورة دائمة، نحو تأكيد وجودها وإظهار ماهيتها بكيفية مستقلة وكاملة. وكمثال على ذلك صراع الجسم الإنساني مع العناصر الفيزيائية والكيميائية، فالأمر يتعلق بصراع الأعلى مع الأدنى رغم الوحدة الماهوية؛ وهذا الصراع يفضي إلى العياء والمرض والموت.

وإذا كان تأكيد الوجود بالنسبة لكل تمظهر من تمظهرات الإرادة يقوم على التفوق على التمظهرات الدنيا، فإن كل تفوق ما هو إلا فقدان للقوة، وهذا يعني أن كل هيمنة هي هيمنة مؤقتة، مما يفسر الخاصية العابرة والعارضة للصحة وللحياة نفسها. فإذا كان امتلاء الجسم وحيويته، من وجهة النظر هذه، تدل على تفوق الكائن الحي على القوى الفيزيائية والكيميائية للمادة، فإن الجثة المتحللة تدل، بالمقابل على انتقام هذه القوى نفسها من الوظائف الحيوية([25]).

ج. الشر الطبيعي (الفيزيولوجي، النفسي):
إذا كان الشر كوسمولوجيا حاضرا في العالم من أقصاه إلى أقصاه، فإن حضوره في حياة الإنسان أكثر جلاء ووضوحا. ولفهم مكانة المعاناة في الحياة البشرية، ينبغي أن نضع الإنسان في موقعه في سلم الكائنات، ذلك أن الكائن الإنساني ليس فقط الكائن الذي يتحقق من خلاله الوعي في العالم، بل هو أيضا ذلك الذي يتجسد في حياته القدر الأكبر من الآلام. إن الإنسان ككائن واع يتربع على عرش المعاناة في العالم، وهذان البعدان (الوعي/ المعاناة) مترابطان: فالقدر الذي يمتلكه كائن ما من الوعي هو الذي يحدد قدرته على المعاناة واستعداده للشقاء. (مثال المادة الجامدة، الحشرات، المعاناة تتجلى بصورة أكثر لدى الفقريات وعلى رأسها الإنسان). يقول شوبنهاور: "نريد الالتفات إلى هذا الموضع المضاء بالمعرفة الأكثر حيوية، حيث كل شيء يبدو بالبداهة القصوى: الحياة الإنسانية. لأنه، مع الاكتمال التدريجي لتمظهر الإرادة، تصير المعاناة أكثر فأكثر جلاء...والذي يزداد علمه يزداد ألمه"([26]).

يضاف إلى ما سبق، أن الحيوانات لا تعاني إلا من الحاضر، إذا إنها على جهل بالمخاوف الناتجة عن التمثلات المتعلقة بالماضي أو بالمستقبل. وعلى العكس من ذلك، فالعقل الذي يمتلكه الإنسان يجعله يتجاوز الحاضر والإطار الضيق للإحساس المباشر. ومن خلال هذا يصبح فريسة لمعاناة أخلاقية (الندم من تأنيب الضمير) أكثر وطأة وأبقى أثرا([27]).

إن الهدف الأساسي الذي وضعه شوبنهاور نصب عينيه في الكتاب الرابع من مؤلفه الأساسي "العالم بوصفه إرادة وتمثلا" هو إثبات أن وجود الإنسان شر، إذ أن هذا الوجود معادل للمعاناة، بحيث أن الألم يشكل عمق كل حياة إنسانية؛ ويستدل على هذه الأطروحة من عدة زوايا:

  • إذا كان الإنسان، انطلاقا من قدراته العقلية، لا يمكنه إلا أن يدرك الأشياء، باعتبارها غائية؛ فإن غياب الهدف والغاية خاصية جوهرية للإرادة، التي لا تعدو أن تكون جهدا دائما بلا نهاية ولا غاية. وهذا ما ينطبق على الرغبة الإنسانية، التي ليست إلا التجلي الأعلى لهذه الإرادة الكونية؛ ف"هذه الإرادة ليست إلا رغبة عمياء في الحياة"([28]). إن الرغبة تصدر، من هذا المنظور، عن دفعة عمياء، لا تتجه في مسارها نحو موضوعات معينة إلا بصورة عرضية، وهذا ما يفسر عدم القابلية للإشباع المميزة لها؛ إذ ليس هناك شيء بإمكانه إسكاتها. فهي لا تفتأ تولد من رماد الإشباع، وتَحققُ هدفها ليس إلا نقطة بداية لرحلة بحث جديدة. ف" كل رغبة تولد من حاجة، أي من نقص، وإذن من حرمان؛ والإشباع يضع لها حدا، لكن في مقابل كل رغبة مشبعة، يجري إحباط عشر (...) والإشباع النهائي ليس إلا ظاهريا: فالرغبة المشبعة سرعان ما تدع مكانها لرغبة غير مشبعة"([29]). ومن هنا، يمكن أن نفهم الخيبة المرافقة لعملية الإشباع: فالحصول على شيء مرغوب فيه لا يؤدي إلى اللذة المأمولة، بل إنه يكشف عن خاصيتها الوهمية، وعن كونها تفتقر لكل قيمة موضوعية. وهذه الخيبة المرافقة للإشباع، أبعد من أن تكون علاجا للرغبة، فهي تقودنا، على العكس، إلى الاندفاع خارجا، وذلك إلى ما لا نهاية. وهكذا، فحياة الإنسان ما هي إلا تأرجح بين ألم الرغبة غير المشبعة وبين خيبة الرغبة المشبعة. ولعل وهم الغائية هذا هو الذي دفع شوبنهاور إلى اعتبار الحياة مجرد خدعة. يقول بهذا الصدد: "يتعلق الأمر دائما بوهم اكتشاف شيء في الحياة لا وجود له فيها: الإشباع النهائي للرغبات (...) والحال أن كل وهم من هذا القبيل سرعان ما سيتبدد، وعندما يتحقق ذلك، سيكون ثمنه آلام مرارتها لا تقل عن الابتهاج الذي خلفه ظهوره"([30]).
  • إن حياة الإنسان شر لأنها معاناة وألم وشقاء، ومقارنة بسيطة بين أتراحه وأفراحه، ملذاته وآلامه، تؤكد ذلك. ف" إذا قدنا المتفائل المحدود النظر عبر المستشفيات وغرف العمليات الجراحية، والسجون وأقبية التعذيب وإسطبلات العبيد، وعبر ساحات المعارك وأماكن تنفيذ الإعدام (...) فإنه سينتهي يقينا بدوره إلى فهم أفضل العوالم الممكنة هذا"([31]). إن السمة الغالبة على الوجود البشري هي المعاناة، وغلبة المعاناة على البهجة لا ترتبط فقط بالعوائق التي تضعها الحياة عرضا في طريق الإنسان، بل إنها تجد منبعها، بالأحرى، في طبيعة الوجود العضوي ذاته، يقول شوبنهاور: "ليس لدى الحيوانات إلا ما هو ضروري لحياتها، ولغذاء صغارها، وهذا مشروط بالجهود المضنية التي ينبغي أن تبذلها. فإذا فقد حيوان عضوا ما، أو حتى الاستخدام الأمثل لهذا العضو، فإن مصيره الموت في الغالب. والجنس البشري نفسه، مهما تكن قوة الأدوات التي يمنحها إياه الذكاء والعقل، فإن تسعة أعشار من الناس يحيون في صراع دائم مع الحاجة، على شفير الهاوية على الدوام، يحافظون على توازنهم هنالك بمشقة وصعوبة كبيرة."[32] فكل الكائنات، والإنسان ضمنها، تخوض إذن، وعلى الدوام، صراعا مريرا ضد الحاجة والعوز والافتقار، بالشكل الذي يجعل وجودها هو المعاناة ذاتها. ويضاف إلى هذا النقص وهذه الحاجة الملازمة للإنسان، ضعفه وهشاشته: فأقل اضطراب مناخي أو جوي كاف ليجرف معه ملايين الأرواح. والطبيعة، بحسب شوبنهاور، لا ينطبق عليها وصف الطبيعة المعطاء أو الطبيعة الأم، بل هي طبيعة جشعة وشحيحة. وهذا وحده ما يفسر تفوق الآلام على الملذات: ففي كل عضوية قصور طبيعي وتشوه أصلي هو مصدر هذا التفاوت الكبير بين اندفاع الكائن نحو أن يعيش ويحيا وبين قدرته على ذلك، بين ما يسعى إليه وما يحظى به فعليا. فما تعطيه الحياة للإنسان "شبيه بالصدقة التي ترمى للمتسول: فهي تنقذ حياته اليوم، لجعل بؤسه يمتد إلى الغد"([33]).
  • إن حياة الإنسان شر لأن المتع والملذات التي يمكن أن تمنحها إياه الحياة ليست فقط أقل عددا من الآلام، بل أيضا أقل واقعية: فاللذة لا يشعر بها الإنسان إلا بوصفها استجابة لحاجة أو إشباعا لرغبة. وبهذا الشكل، فلذة الشرب تتولد عن العطش، ولذة الأكل عن الجوع. غير أن الحاجات والرغبات ما هي في ذاتها، إلا نقصا ومكابدة لحرمان، أي أن كل إشباع هو في حقيقته إفلات من ألم موجود سلفا، أي أنه لا ينشأ إلا بوصفه توقفا لمعاناة سابقة، وهذا يعني أن اللذة ليس لها وجود من خلال ذاتها، أما المعاناة والحرمان والنقص والألم فهي وحدها واقعية وتتمتع بوجود إيجابي. يقول شوبنهاور: "كل إشباع، أو ما نسميه عادة بالسعادة، ما هو في حقيقته وماهيته إلا سلبي، ولا يمكن أن يكون بالمطلق إيجابيا"([34]). ويؤكد غير بعيد في الفقرة ذاتها بأن "كل سعادة ما هي إلا من طبيعة سلبية وليست أبدا إيجابية، ولا يمكن أن تكون لهذه العلة نفسها إشباعا دائما قادرا على جعل الإنسان سعيدا، لأنها فقط إيقاف لألم أو نقص"([35]). وهذه الخاصية السلبية للإشباع واللذة تجعلها عابرة، إذ أنها لا تعدو أن تكون لحظة خاطفة بين ألم تم إيقافه وألم أعطى لنفسه إشارة الانطلاق.
  • إن حياة الإنسان شر لأنها ضجر وسأم، ذلك أن الإفلات من الألم المرتبط بالحرمان من إشباع الرغبات لا يؤدي بالإنسان إلا إلى السقوط في شر أكبر. وهذا الشر هو الضجر، يقول شوبنهاور: "الحياة تتأرجح، مثل بندول، من اليمين إلى اليسار، من المعاناة إلى الضجر، فهنا نجد العنصرين اللذين تتشكل منهما."[36] والضجر معناه أن الإنسان ليس لديه ما يشغله، لا نشاط ولا رغبة ولا إلزام يمكن أن يدفعه للقيام بهذا الشيء أو ذاك. وهذا الفراغ الذي لا يحتمل هو، في حقيقته، ألم ومعاناة. لكن ما يعاني منه الإنسان هنا، بالنظر إلى غياب أي علة خارجية موضوعية للشقاء، هو تحديدا فعل الوجود ذاته. ففي حالة الضجر، عدم انشغال الإنسان بأي موضوع، يجعله مباشرة أمام فعل الوجود، بشكل مستقل عن أي شرط مسبق؛ ومعاناته لا تربط بشرط المرض أو العبودية أو الشيخوخة، بل فقط بشرط كونه موجودا. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الحياة ليست لها قيمة حقيقية في ذاتها. إن شعور الإنسان بالضجر، لا يعني فقط أنه ليس لديه شيء ليقوم به، بل يعني أساسا أن الرغبة لا تدفعه نحو موضوع ما. وبتعبير آخر، لا يتعلق الأمر بغياب واقعي لأي نشاط، بل بعزوف الرغبة عن كل الموضوعات. وهذا التحرر من الرغبة يترتب عنه التحرر من وهم الخاصية الغائية للوجود. وغياب غائية حاضرة أو مستقبلية هو منبع كل معاناة: فما دام الإنسان خاضعا لرغبة، فوجوده يبدو ظاهريا على الأقل أن له هدفا واتجاها ما ونهاية محددة، وبالتالي له قيمة ومعنى، يمكن أن يبررا الآلام التي يكابدها. أما الضجر المنبثق من الرغبة المشبعة، فيجعلنا ندرك، على العكس، بأن وجودنا حركة فاقدة لكل معنى يسير على غير هدى. وبتعبير آخر، فالضجر هو الذي يكشف عن كون الوجود بلا معنى: والإنسان هنا لا يعاني من شيء ما، بل فقط من الخاصية العبثية للحياة، وهذا ما يجعل أن الألم الناتج عن الرغبة غير المشبعة أكثر قابلية للتحمل، مقارنة بالضجر الناتج عن انطفاء الرغبة. إذ "يمكن أن نعتبر أنفسنا سعداء بما يكفي، إذا كان ما يزال هنالك شيء نأمله ونرغب فيه، بحيث يمكن أن نكمل هذا العبور الأزلي من الرغبة إلى إشباعها، ومن هذا الإشباع إلى رغبة جديدة (...). فهذا العبور، على الأقل، ليس هو الجمود الذي ينتج عنه الضجر المرعب، والذي هو رغبة صماء بدون موضوع معين، فتور وانحطاط قاتل"([37]).

د. الشر الأخلاقي:

لا يتمظهر الشر فقط في الألم والمعاناة الناتجين عن تأرجح الإنسان بين النشاط المفرط للرغبة وبين الشلل التام للضجر، بل يمكن النظر إليه أيضا بوصفه شرا أخلاقيا يتجلى بالأساس في الأنانية والخبث. فكيف يمكن أن نفهم الأنانية والخبث بوصفهما مظهرين أساسيين للشر الأخلاقي؟

    • الأنانية:

تعتبر الأنانية أكثر أشكال الشر الأخلاقي شيوعا وانتشارا، وهي تعني تفضيل الإنسان لذاته على كل ما سواه ووضعها في مركز العالم. وتكمن غرابة الأنانية تحديدا في الاختلاف بين انعدام أي قيمة موضوعية للفرد في الوجود، وبين المركزية التي ما فتئ هذا الفرد ينسبها لذاته. "فكل فرد، رغم قلة أهميته، ورغم تيهه وضلاله وكونه لا شيء في عالم لا نهائي، فإنه لا يكف عن اعتبار ذاته مركزا لكل شيء، وجعل وجوده وراحته فوق وجود وراحة الآخرين، إلى حد أنه مستعد للتضحية بكل ما ليس هو، ولإعدام هذا العالم لمصلحة هذه الأنا، لمصلحة قطرة ماء في محيط."[38] والتفكير في الأنانية يقتضي الانتباه من جهة لهذه الأهمية القصوى التي ينسبها كل فرد لذاته، رغم أنه في حقيقته هو لا شيء، ومن جهة أخرى، لهذه اللامبالاة التي يعامل بها كل ما سواه. والوقوف على هاتين المسألتين يقتضي أن نتذكر تصور شوبنهاور للعالم بوصفه إرادة واحدة من جهة وتمثلا يسمه التشظي والتعدد من جهة ثانية. إن الأنانية تنبني بداية على "مبدأ تعدد الأفراد"، فلكي يفضل الفرد ذاته، يجب أولا أن يظهر له الآخرون، بوصفهم مختلفين عنه. وهذا التعدد والاختلاف لا يرتبط، بحسب شوبنهاور، إلا بعالم التمثل. أما ماهية العالم الواحدة والموحدة فتكمن في الإرادة الكونية، والقوى الطبيعية المختلفة ما هي إلا التمظهرات التراتبية لهذه الأخيرة، وفي الدرجة العليا لهذه التمظهرات ينبثق العقل، ومن خلاله ينبثق عالم التمثل الخاضع لمحددي الزمان والمكان: فبوساطة هذين المحددين يظهر ما هو واحد في ماهيته (الإرادة) متعددا ومتكثرا (الكائنات الفردية)، سواء بمنطق التجاور(المكان) أو منطق التتابع (الزمان). ولذلك، فالأنانية ترتبط أساسا بانبثاق العقل، إذ أنها تفترض تعددا لا وجود له إلا في عالم التمثل. وإذا كان التمييز بين الأنا واللاأنا شرطا ضروريا للأنانية، فإنه ليس شرطا كافيا لها، إذ تضاف إليه مسألة أخرى هي أن الإرادة كشيء في ذاته لا تتجزأ: فإذا كانت هذه الإرادة تتمظهر في عالم التمثل كظواهر وكائنات فردية متعددة، فإن هذا التعدد لا يمسها هي كإرادة وكشيء في ذاته. وهذا يعني حضورها في كل ظاهرة وفي كل كائن واحدة غير مجزأة، لأن "هذا التعدد لا يمس الإرادة بوصفها شيئا في ذاته، بل فقط ظواهرها، وفي كل واحدة من هذه الظواهر تحضر الإرادة كاملة وبصورة غير مجزأة، بحيث تدرك، فيما يحيط بها من الظواهر، الصورة المتكررة بشكل لا نهائي، لماهيتها الخاصة"([39]).

من هنا، إذا كان بإمكاني أن أضع ذاتي مركزا للعالم، فذلك لأن قلب العالم نفسه يوجد متمظهرا فيها. والفرد، بهذا المعنى، ينظر إلى ذاته بوصفها إرادة الحياة في كليتها؛ أما العالم الخارجي الذي ينتمي إليه الغير، فلا يظهر له إلا بوصفه تمثلا، وبالتالي يظهر له مرتبطا بذاته ووعيه ومتوقفا على وجوده، بل أقل واقعية منه. يقول شوبنهاور: "كل فرد معطى مباشرة بالنسبة لذاته باعتباره الإرادة كاملة، في الوقت الذي لا تُعطاه الموجودات إلا على مستوى التمثل، لهذا فوجوده واستمراره بالنسبة إليه، يجب أن يكون سابقا على العالم بأكمله"([40]). واضح من هذا القول إذن، أن الأنانية ناتجة عن كون الفرد السجين في عالم التمثل، غير قادر على إدراك قلب العالم وماهيته إلا في ذاته. وإذا كان الغير مجرد تمثل بالنسبة للذات، وبالتالي مجرد تحول بسيط لوعيها الذاتي، فإن هذه الذات بدورها لن تكون إلا تمثلا وتحولا بسيطا لوعي الغير. وهذا يترتب عنه أن الإنسان، السجين في أنانيته، لا يمكنه التفكير في شيء آخر غير ذاته، ولا يمكنه أن يبحث إلا عن مصلحته الخاصة. لكنه، ومن خلال هذا، يجد نفسه محكوما عليه بالقلق والحزن، ما دام أنه يشعر على الدوام، بكونه محاطا بظواهر (الغير) غريبة وعدوانية.

    • الخبث:

إذا كانت الأنانية هي المظهر الأكثر شيوعا للشر الأخلاقي، فإن المظهر الذي يصل فيه مداه وأوجه هو الخبث. ولعل ما يميز هذا الأخير هو أنه لا يتجلى إلا كظاهرة خاصة واستثنائية، وكذا كونه بخلاف الأنانية التي تنكشف فيها الماهية الإثباتية للإرادة، ميلا موجها للوقوف في وجه الإرادة نفسها.

والخبث يجد أصله، بحسب شوبنهاور، في عدم إشباع رغبة انفعالية، أي رغبة بلغت درجة عليا من الشدة: فعندما يعجز الإنسان المنفعل عن إرضاء إرادته، فإنه يلجأ إلى نفي إرادة الغير. وإذا كانت الرغبة، أي رغبة، بحسب هذا المنظور، ترافقها المعاناة، ما دام عدم الإشباع عنصرا جوهريا فيها؛ فإن هذه المعاناة درجات، بحيث أن شدة المعاناة ترتبط بالضرورة بشدة الرغبة.

وهكذا فعدم إشباع الرغبة الضعيفة الشدة، لا تصل بالإنسان إلى حد التسبب في شقاء الغير، وإن كان هذا لا يمنعه من الابتهاج من آلام هذا الغير والمعاناة من مشهد سعادته (الإشباع الذي يتحقق للغير يضاعف عدم الإشباع لدينا). أما الرغبة في درجة عليا من الشدة فيصاحبها ألم فظيع ومعاناة لا تحتمل، مما يؤدي إلى ظهور الخبث، بوصفه نتيجة لحالة الحرمان هذه وللألم الشديد الملازم لها.

وهذا الخبث ينشأ كمحاولة للإشباع غير المباشر من خلال اللذة التي يتم الحصول عليها من معاناة الغير. ومن خلال هذا يدخل الفرد في علاقة من طبيعة مغايرة مع الآخر، ذلك أن الأمر لا يتعلق بالابتهاج من شقاء الغير فقط، بل بالتسبب في هذا الشقاء. بتعبير آخر، لا يكفي أن يعاني الغير، بل ينبغي أن نكون سببا في معاناته. وهكذا نجد العزاء لعدم قدرتنا على أن نكون سعداء، من خلال ممارسة قوتنا على الغير وصنع معاناته وشقائه.

ومن خلال هذا يمكن أن نفهم أن الخبث لا يمكن اختزاله إلى الظلم (الناتج عادة عن الأنانية): فبينما نجد الإنسان الظالم مستعدا لنفي إرادة الغير لإشباع رغبته، نجد أن الإنسان الخبيث ينفي إرادة الغير، ليس لإشباع رغبته، بل فقط للتخفيف من الآلام الناشئة عن عدم إشباع هذه الرغبة. والاختلاف بين الظلم والخبث، جعل شوبنهاور يقارن هذا الأخير بالانتقام: ففي الحالتين معا نبادل شرا بشر، ونجد تخفيفا للشر الذي نكابده في الشر الذي نذيقه للغير([41]).

  1. مواجهة الشر:
    أفضت بنا فلسفة شوبنهاور إلى اعتبار الشقاء قدرا والشر ضرورة. وهذه النتيجة التراجيدية التي تعكس تشاؤم شوبنهاور لم تمنعه من التفكير في هول معضلة الشر في العالم: فإذا كان الإنسان التعبير الأكثر جلاء عن تناقضات الإرادة، فإنه أيضا الكائن الذي ينبثق من خلاله القدر الأكبر من العقل في هذا العالم، مما يجعله أكثر قدرة من غيره على التحرر من تلك التناقضات. فما هي السبل الممكنة وأشكال الترياق الذي يفترضها شوبنهاور للتعاطي مع مختلف ضروب الشر التي تفتك بالإنسان وتجعله أحيانا يفضل الفناء على البقاء؟
  • الشفقة:

إن الفلسفة الأخلاقية لشوبنهاور تهدف إلى القطع مع سابقاتها، ذلك أن الأمر هنا لم يعد يتعلق بتعلم الفضيلة، بغاية تكوين أناس طيبين، بل فقط بمحاولة فهم الكيفية التي يكون بها الخير ممكنا. هذا الرفض لكل تربية أخلاقية يمكن فهمه بوصفه ناتجا عن ميتافيزيقا الإرادة عند شوبنهاور: فإذا كان العقل لا ينبثق إلا كخادم للإرادة، فإنه لا يمكن أبدا أن يفرض عليها غاياته.

وهذا ما حدا بهذا الفيلسوف إلى البحث عن "الأساس الحقيقي" للأخلاق، وتخليصها من كل منظور نفعي، وخاصة القطع مع الأساس التيولوجي التقليدي. إن الأمر يتعلق هنا أيضا، وضدا على هذا الأخير، بالقطع مع مفهوم القانون: فأخلاق مؤسسة على القانون لا يمكن إلا أن تقود إلى فكرة الإله، وإلى الممارسة النفعية للفضيلة. وإذا كان القانون بوصفه ما يشرعه العقل العملي غير قادر على تأسيس أخلاقية أصيلة، فإن هذه الأخيرة لن تجد مبدأها الحقيقي إلا في دائرة العواطف والإحساسات: فهناك إحساس من شأنه أن يدفعني إلى الانتباه إلى الشر وإلى معاناة الغير كما لو كانت معاناتي الخاصة، وهذا الإحساس هو الشفقة. فإذا كان الإنسان يملك الامكانية لأن يكون خيِّرا، فذلك ليس بوصفه كائنا عاقلا، بل باعتباره كائنا عاطفيا (عطوفا).

غير أن اتخاذ الشفقة أساسا لكل موقف أخلاقي، وسبيلا من سبل الحد من الشر في العالم والشر الأخلاقي بشكل خاص، لا يوضح لنا ما يجعل الشفقة ذاتها ممكنة. فإذا كانت الأنانية تحكم على الإنسان بأن يدرك الغير بوصفه آخر بالنسبة لذاته، فكيف يكون بإمكانه أن يرى في هذا الغير ذاته؟ إن هذا الحدس، بحسب شوبنهاور، ليس ممكنا إلا عبر التخلص مؤقتا من هذا الانخداع بالمظهر المتعدد للعالم.

يقول بهذا الصدد: "إن مبدأ التفريد ليس انغلاقا مطلقا؛ والناس الآخرون ليسوا بالنسبة للفرد مجرد أشباح ليس لهم أي وجود واقعي... بل يجد فيهم ما يتشكل منه وجوده هو نفسه، يجد فيهم الشيء في ذاته الذي هو إرادة الحياة، إنه يتعرف عليها في وجود الغير كظاهرة"([42]).

وهكذا، فتجاوز مبدأ التفريد الذي يجعل الإنسان يدرك العالم بوصفه متشظيا إلى كائنات فردية متمايزة، يتيح له ملامسة هذه الوحدة الميتافيزيقية للإرادة وراء تمظهراتها المتكثرة، وهذا الحدس المباشر للإرادة الواحدة هو مصدر لتوسيع دائرة الأنا وامتدادها، لتصبح منفعتها هي ذاتها منفعة كل ما يعيش ويحيا.

  • الانتحار:
    إذا كانت الحياة، في عمقها، ألما ومعاناة، فقد يكون من الحكمة اللجوء إلى ما من شأنه أن يتيح الخروج السريع منها: الانتحار. وبالرغم من الرؤية التشاؤمية لشوبنهاور، إلا أنه لا يعتبر الانتحار حلا ممكنا للخلاص من شرور العالم، وذلك لأنه، من وجهة نظره، فعل غير مجدٍ، بل فاقد لأي معنى. فإذا لم يكن الانتحار جريمة، فما هو إلا طريقة أخرى للتيه والضلال. إن رفض الانتحار ليس إلا نتيجة منطقية لفلسفة شوبنهاور، وهذه النتيجة يكثفها في قوله: "بعيدا عن أن يكون الانتحار نفيا للإرادة، إنه بالأحرى نوع من الإثبات القوي لها، وذلك لأن ماهية النفي لا تكمن في فعل التخلص من آلام الحياة ومعاناتها، بل من لذاتها. والفرد المنتحر يريد الحياة، والظروف التي تمر فيها هذه الحياة هي وحدها التي لا ترضيه"([43]). واضح من هذا القول إذن، أن المنتحر يعاني من العوائق التي يصطدم بها، ولا يعترض عن الحياة إلا لأنه غير قادر على تجاوز هذه العوائق. وبتعبير آخر، فذلك الذي ينتحر لا يريد الموت فعليا، بل يتمنى بالأحرى أن يحيا بشكل أفضل، لكنه يائس من بلوغ هذا المسعى. وبالتالي، فالانتحار، بعيدا عن أن يكون فشلا لإرادة الحياة في ماهيتها الإثباتية، ما هو في حقيقته إلا تجل لهذه الماهية.

يضاف إلى ذلك، أن اعتقاد المنتحر بكونه سيدا لموته الخاص، مادام أنه لم يكن قادرا على أن يكون سيدا لحياته، إن هو إلا وهم جديد، وذلك لأن الإنسان في الانتحار، ليس هو الذي يقرر نهاية لإرادة الحياة، بل بالأحرى إرادة الحياة هي التي تقرر نهايته (الموت في الانتحار عربون لمحبة الحياة). إن الموت إذن، سواء كان مرهوبا أو مرغوبا، لا يضع نهاية إلا للشكل الفردي للإرادة، وليس للإرادة ذاتها، هذه الأخيرة التي تظل ثابتة وأزلية؛ والانتحار لا يحل تناقض إرادة الحياة، مادام أنها تحيا بالرغم من فناء تمظهراتها الفردية.

  • الفن:
    إذا كان تجاوز الشر يفترض التخلص من مبدأ التفريد فإن الخلاص من آلام الحياة يقتضي نفي إرادة الحياة ذاتها. وهذا الهدف، سبق أن أشرنا إلى أنه لا يمكن أن يتحقق عن طريق الانتحار، الذي ليس في نهاية المطاف، إلا إثباتا خفيا لهذه الإرادة. وإذا كان شوبنهاور لا يعتبر الانتحار حلا، فإنه يرى في اللذة الجمالية مدخلا للخلاص: ففي التأمل الجمالي، تنسى الذات الانشغالات الأنانية الخاصة بها، لكي تتطابق مع الموضوع المتأمل. والإحساس بالجمال نجد فيه، بهذا المعنى، مدخلا إلى الشعور بالشفقة، التي تشكل، كما رأينا الأساس الحقيقي للأخلاق، يضاف إلى هذا أن الإحساس بالجميل يدلنا على وجود إمكانية مهما تكن ضآلتها، لتجاوز الألم والمعاناة.

إن ماهية الجميل تكمن، بحسب شوبنهاور، في تعليق وتأجيل الرغبة الخاصة بذلك الذي يتأمله، والشيء لا يمكن أن يبدو للإنسان جميلا إلا بالكف عن النظر إليه من زاوية غايته المنفعية. وهذا التجاوز للعلاقة المنفعية بالشيء ليس فقط ظهورا لهذا الشيء في حد ذاته، بل أيضا تجاوز للمعاناة التي ترافق عادة علاقتنا بالعالم. إن الجميل بهذا المعنى، ما هو إلا خطوة نحو التعليق التام للإرادة، كما سنرى من خلال الزهد. وبذلك فهو يعطى بوصفه تذوقا أوليا للسعادة. فإذا لم يكن الفن والتأمل الجمالي قادرا على أن يمنحنا السعادة، فهو على الأقل، يعدنا بها([44]).

وهكذا فالفن خطوة أولى نحو حل معضلة الشر في الوجود، فالتعليق المؤقت للرغبة إن هو إلا وصفة أولى على طريق العلاج. واللذة الجمالية، بعيدا عن أن تكون إخمادا نهائيا للإرادة، هي مجرد تعليق هش لهذه الأخيرة، خاصة وأن أي تأثير خارجي، مهما كان بسيطا، من شأنه أن يقطع هذا التعليق. وهذا ما يجعل التأمل الجمالي عزاء مؤقتا للحياة أثناء الحياة، دون أن تكون له القدرة على إخراجنا منها فعليا.

د. الزهد:
يتأسس الزهد، في نظر شوبنهاور، على شرط أول هو المعرفة الحدسية لماهية العالم: فالإنسان القادر على إزالة حجاب المايا (حجاب الوهم المرتبط بمبدأ التفريد في عالم التمثل) يدرك أن ماهية الأشياء جهد عقيم وتناقض صارخ ومعاناة دائمة. يقول بهذا الخصوص: "يعرف الإنسان الكل (العالم) ويدرك ماهيته هذا الكل، ويراه انغماسا دائما في رغبات لا جدوى منها، في صراع داخلي ومعاناة مستمرة، وبنظرة أبعد مدى، لا يرى إلا إنسانية تسكنها المعاناة، وحيوانية تمزقها الآلام وعالما يمضي ويمر"([45]).

وأمام إدراك الإنسان العالم، بوصفه شرا لا متناهيا على هذا النحو، لا يمكنه إلا أن يكف عن الإرادة: إذ أنه لا يكفيه أن يحب الآخرين مثلما يحب ذاته وأن يقوم إزاءهم بما يقوم به إزاء نفسه (الشفقة). بل يتولد لديه نفور من ماهية إرادة الحياة نفسها، من هذه الماهية التي هي عمق وجوهر العالم، الذي لا يرى فيه إلا المعاناة المفجعة. فإذا كانت الشفقة تفضي بالإنسان إلى اعتبار معاناة الآخرين هي نفسها معاناته الخاصة، مما يدفعه إلى البحث عن خيره الخاص، فإن هذا البحث عن خير الغير لا يمكن اعتباره إنكارا للإرادة نفسها، بل إننا نجد في الشفقة إثباتا خفيا لهذه الإرادة، وهذا الإثبات لا يرتبط بتمظهر فردي للإرادة الكونية، بل بهذه الأخيرة في كليتها بوصفها تصل إلى إدراك تماثلها ووحدتها في كل تمظهراتها الفردية. وإذا كانت الشفقة، بهذا الشكل، إثباتا خفيا للإرادة الكونية، فإن الزهد هو، على العكس، نفور من هذه الإرادة، ونفي لها، وذلك بالإعراض عن الملذات والإقبال على الألم. يقول شوبنهاور:" الإعدام المفكر فيه للإرادة يتحقق بالإعراض عن الملذات والبحث عن الألم"([46]).

وهكذا، فالزهد، من منظور شوبنهاور، يقوم على الرفض القاطع لكل أشكال اللذة والرغبة، وليس فقط، بالإعراض عن تلك المخالفة للطبيعة، وأول ما ينبغي أن يتجه إليه هذا النفي هو المظهر الموضوعي الأول للإرادة، والمتمثل في الجسم. غير أن الزاهد لا يعرض عن الملذات فحسب، بل يبحث أيضا عن المعاناة، يقول شوبنهاور: "كل معاناة تأتيه من الخارج، سواء كانت بمحض الصدفة أو ناتجة عن خبث الآخرين، هي بالنسبة إليه، مرحب بها، فالشتائم والإهانات، وأشكال الهجوم، والخسائر والأضرار من كل نوع، كل هذا سيستقبله الزاهد ببهجة، إذ يجد فيها مناسبة لإعطاء الحجة على أنه من الآن فصاعدا لا يخضع للإرادة"([47]).

وهكذا يصبح العدو صديقا رغما عنه، لأن الشر الطبيعي الذي يذيقه لنا، بوصفه ما يتيح نفي الإرادة، ما هو في ذاته إلا خير (ميتافيزيقي). وإذا أصبح الألم بالنسبة للزاهد خيرا، فإن اللذة على العكس، تتحول إلى شيء يجب تجنبه، وذلك بحكم كونها تبعدنا عن النفي المطلق للإرادة، بوصف هذا النفي المطلق طريق الخلاص الحقيقي. إن احتمال الألم، بهذا المعنى، يمكن اعتباره مرحلة تمهيدية نحو الحكمة، التي لا تأتي إلا بالنفي الكلي والكامل لإرادة الحياة، حيث يتمكن الزاهد أو الحكيم من الوصول إلى الهدوء العميق والسكينة التامة والسلام الذي لا يمكن أن يعكر صفوه شيء؛ "فلا شيء يمكنه أن يجعله يتعذب، لا شيء يمكنه أن يثيره أو أن يستهويه، لأن هذه السلاسل الألف التي تربطه بها الإرادة إلى العالم لم يعد لها أي تأثير عليه"([48]).

وهكذا يلج الإنسان، من خلال إخماد الرغبة والإعراض عن الحياة، عالم "النيرفانا"([49])، ويضع حدا نهائيا لمعاناته وآلامه، وينعم بالسكينة الأبدية.

خاتمة:
إذا كان أهم ما عرف به شوبنهاور هو تشاؤمه، فإن هذا المقال يحاول إلقاء نظرة سريعة على البناء الفكري الذي يوجد في أساس هذا التشاؤم. فابتداء من تقسيم شوبنهاور للعالم إلى إرادة وتمثل، ومرورا بأشكال الشر التي يكابدها كل جزء وكل كائن في عالم التمثل، ووصولا إلى أشكال العلاج التي يقترحها شوبنهاور وبشكل خاص الحل الجذري المتمثل في الزهد والانغماس في عالم "النيرفانا"؛ عبر كل هذا المسار يقدم شوبنهاور إجابة وافية ومستفيضة وبالغة التناسق والجمال عن الجوانب الثلاث من مشكلة الشر: الأصل والأضرب والحلول الممكنة. لكن استفاضة هذه الصورة وتناسقها لا تمنع من نقدها، وخاصة ما يتعلق بالزهد بوصفه الحل النهائي الذي يقترحه شوبنهاور وخاصة قابليته للتطبيق، إلى حد إمكانية القول إن فلسفة شوبنهاور لا توصلنا إلى منفذ ما، بقدر ما تجعلنا متأرجحين بين شر لا ملاذ منه وزهد مستحيل.

المراجع References
العربية:
عزيزي، وفيق، شوبنهاور وفلسفة التشاؤم، دار الفارابي (بيروت)، الطبعة الأولى 2008.

الأجنبية:
Albin, Michel. Dictionnaire des philosophes, Encyclopædia Universalis, France, 2006.

Schopenhauer, Arthur. Le monde comme volonté et représentation 1, traduit de l’allemand par Christian Sommer, Vincent Stanek et Marianne Dautrey, Folio essais, Gallimard, 2009.

__________________. Le monde comme volonté et comme représentation 2, traduit de l’allemand par Christian Sommer, Vincent Stanek et Marianne Dautrey, Folio essais, Gallimard, 2009.

__________________. Philosophie et science de la nature (Parerga et Paralipomena), trad. Auguste Dietrich, Librairie Félix Alcan, Paris, 1911.

 

)[1]( Albin Michel, Dictionnaire des philosophes, (Encyclopædia Universalis, France, 2006), p. : 1469 – 1470.

([2]( Schopenhauer A., Le monde comme volonté et représentation 1, traduit de l’allemand par Christian Sommer, Vincent Stanek et Marianne Dautrey, Folio essais, Gallimard, 2009, p. : 50 – 51. (Abrégé en MVR 1)

([3]) عزيزي (وفيق)، شوبنهاور وفلسفة التشاؤم، دار الفارابي (بيروت)، الطبعة الأولى 2008، ص:54.

([4]) Arthur Schopenhauer, Le monde comme volonté et comme représentation 2, traduit de l’allemand par Christian Sommer, Vincent Stanek et Marianne Dautrey, (Folio essais, Gallimard, 2009), p. : 1396. (Abrégé en MVR 2)

([5]) Schopenhauer A., Philosophie et science de la nature (Parerga et Paralipomena), trad. Auguste Dietrich, (Librairie Félix Alcan, Paris, 1911), p. : 52.

([6]) Schopenhauer A., MVR 2, p. : 1600.

([7])  Schopenhauer A., MVR 1, p. : 77.

([8]) Ibid, p. : 123 - 124.

([9]) Ibid, p. : 764 - 765.

([10]) Schopenhauer A., MVR  2, p. : 1455.

([11]) Ibid, p. : 1465.

([12]) Schopenhauer A., MVR  1, p. : 908.

([13]) Ibid, p. : 259.

([14]) Ibid, p. : 247.

([15]) Schopenhauer A., MVR 2, p. :1457-1458.

([16]) Schopenhauer A., MVR  1, p. : 261 – 262.

([17]) Schopenhauer A., MVR  2, p. : 1642

([18]) Schopenhauer A., MVR  1, p. : 518.

([19]) Ibid, p. : 532.

([20]) Ibid, p. : 325 – 326.

([21]) Ibid, p. : 338.

([22]) Ibid, p. : 326 – 327.

([23]) Ibid, p. : 326.

([24]) Ibid, p. : 322 – 323.

([25]) Ibid, p. : 324.

([26]) Ibid, p. : 587 – 588.

([27]) Ibid, p. : 677.

([28]) Ibid, p. : 403.

([29]) Ibid, p. : 403. 

([30]) Ibid, p. : 600 – 601.

([31]) Ibid, p. : 612.

([32]) Ibid, p. : 2061 – 2062.

([33]) Ibid, p. : 403.

([34]) Ibid, p. : 603.

([35]) Ibid, p. : 605.

([36]) Ibid, p. : 591.

([37]) Ibid, p. : 355.

([38]) Ibid, p. : 624.

([39]) Ibid, p. : 623.

([40]) Ibid, p. : 624.

([41]) Ibid, p. : 678 – 681.

([42]) Ibid, p. : 674.

([43]) Ibid, p. : 731 – 732.

([44])Ibid, p. : 519.

([45])Ibid, p. : 700.

([46]) Ibid, p. : 702.

([47]) Ibid, p. : 705.

([48]) Ibid, p. : 731 - 732.

([49]) "النيرفانا": مفهوم روحي هندوسي مكون من جزأين: "نير" وتعني إخماد أو إطفاء و"فانا" وتدل على النار الملتهبة، وبذلك تحيل "النيرفانا" على إخماد النار المستعرة. وهكذا، فعالم "النيرفانا" هو عالم أخمدت فيه الإرادة والرغبات الإنسانية ولم يعد لها أي وجود.