ترثي الشاعرة والدارسة اللبنانية هنا هذا الشاعر الكبير، في واحدة من ثلاث مقالات ننشرها عنه بمناسبة رحيله، وتقدم لنا رؤية ثاقبة لمنجزه المتفرد ومصادر تجربته الشعرية الجنوبية، ومسيرته الطويلة، وما تتميز به من خصوصية تعبيرية وتصورية وفكرية. وتدخل القارئ في قلب تجربته وعمقها، وتقدم له مفاتيح قراءتها ومعرفة أسرارها.

محمد علي شمس الدين

البلبل الأصفر كتب رثاءه بنفسه

دارين حوماني

 

قبل أقل من ثلاثة أشهر رحل حسن عبد الله .. فكتب محمد علي شمس الدين: "الآن، ونحن على مسافة لا تصدّق من موت حسن عبد الله، نرغب في أن يكون موته كمثل قصيدته ’وهم من أوهام الربيع’ .. واليوم في رحيل محمد علي شمس الدين ونحن واقفون أمام هذا التعاقب الموجع للموت على مسافة شاسعة من حزننا على رحيله الذي لا يُصدّق، نعدّ هذا اللاوهم- الحقيقة- الموت في قصائده الأخيرة على صفحته الفيسبوكية، فما من قصيدة تخلو من الذين رحلوا وهذا القطار الذي لا نزول منه. يحدّث والده، إذ يقول: "إلام سيمتد جرحك يا والدي؟ ونفتح في كل يوم لأوجاعنا محفلًا/ وحتى متى نستعيد من الأرض أكفاننا/ لا يموت الذي مات منا".. و"لو أن الفجر تأخر ثانية عن موعده لنجونا/ لكن الموت!" ثم يكلّم جمال الدين بن شيخ وسقراط عن الموت، ثم يحدّث نفسه، يقول: "عليك أن تغادر المكان/ عليك أن تغادر الذين طالما ألفتهم/ عليك أن تذوب في المدى/ كنقطة الدخان/ وأن تغيب في البحار/ لا صدى/ ولا تعود" .. ثم يكلّم الله: "هاجرت إليك/ وأنا لا أملك جلدي في هذا الليل الثلجي/ هل تطردني من ملكوت سمائك أو من كهف يديك/ لا بأس أعود إليك/ لا بأس أعود إليك"..

حزنت بيروت كلها على رحيله، ولكن شمس الدين قد لا يحتاج لكل تلك المراثي التي كُتبت إثر وفاته، وقيلت عنه فقد رثى نفسه بقلمه، فإضافة لقصائده الأخيرة التي تهجس بالموت والتي كتبها آخر أيامه ها هو يكتب قصيدة رثائه في 31 تموز/ يوليو الفائت على صفحته وعنونها "حلم": أقبلتُ من جهة هنالك غير واضحة/ وأذهب نحوها متأبطًا عدمي/ جسدي وخمس حقائب أخرى/ كهذا القلب/ والعينين/ والشفتين/ وبعض مراكب لتقلني ليلًا إلى جهة مقابلة من النهر العظيم/ سمعت في ليل الرحيل المستحيل كأن مطرقة تدق الباب، قمت، فتحت، كان الله خلف الباب/ أهلًا، هل أتيتَ؟/ وقد مضى زمن وكنتَ على شفير الموت منتظرًا/ وأنتَ تكاد/ أقرب ما تكون/ وأنتَ أكثر ما تكون تمنعًا/ ضدان/ كنتُ ممزقًا/ وأموت من ألمي/ ألقى على جسدي يد الرحمن/ وافترع السكينة في دمي/ ومضى/ فمضيتُ أقطع لجة الأمواج/ والنهر العظيم يموج من فرط الغواية عاليًا/ وأروح أضرب بالمجاذيف الضباب/ وكأن ثمة فوق وجه الماء/ وجه الله".

هكذا يموت مبدع آخر من لبنان، الشاعر محمد علي شمس الدين، شمس الجنوب، واحد من أبرز "جماعة شعراء الجنوب" التي أسّسها رفقة إلياس لحود وجودت فخر الدين ومحمد وحسن وعصام عبد الله في أوائل سبعينيات القرن الماضي ناهلين من الفكر اليساري والمقاوم، فبرز شمس الدين كواحد من الذين حرّكوا وجع الجنوب بأقصى درجات التأثير التراجيدي والوجداني والوجودي منذ أول دواوينه "قصائد مهرّبة إلى آسيا" (1974). ولكنه يقول عن هذه المجموعة الجنوبية: "لا أتنكر، أقول إنني كشاعر حملت الجنوب وحملني. لكني انتهيت إلى أن أكون شاعرَ لغتي. وأنا كذلك منذ البداية، منذ "قصائد مهرّبة إلى حبيبتي آسيا". نحن شعراء نجوم لأننا شعراء كبار. قصيدتي أكبر من تلك الاتجاهات السياسية. والنتيجة: قصيدتي استوعبت الاتجاهات السياسية، ولم تستطع هذه الاتجاهات السياسية استيعاب قصيدتي. التسمية انتهت لكن القصيدة بقيت. الجنوب جزء من مكوّناتي. لكن أنا أنتمي الى اللغة". ويكمل شمس الدين شعره بنَفس ملحمي وإنشادي مع جانب خافت ديني وتأملي في دواوينه اللاحقة التي بلغت حوالي عشرين ديوانًا ومنها "أناديك يا ملكي وحبيبي" (1977)، و"الشوكة البنفسجية" (1981)، و"طيور إلى الشمس المرة" (1984)، و"أميرال الطيور" (1992)، و"أما آن للرقص أن ينتهي؟" (1992)، و"شيرازيات" (2005)، و"اليأس من الوردة" (2009)، و"النّازلونَ على الرّيح" (2013)، و"كرسيٌّ على الزّبد" (2018)، وآخرها "للصبابة للبلبل وللملكوت" (2021)، على أن قصائده الفيسبوكية الأخيرة كان في صدد نشرها في ديوان بعنوان "خدوش على التاج" كما ذكر على صفحته، لكن الموت كان أقرب.

كان شمس الدين الشاعر الذي يمتلك عدّة الفونومنلوجيا، ينبش في الصوت اللغوي من داخله هو ليُخرج أعمق ما فيه، ويبني عليه نصه الشعري في عملية متكاملة من الخلق الشعري واللغوي الجمالي وفلسفة الرؤيا الصوفية ودلالات الاغتراب والوعي العميق متمسكًا بثوابت وركائز للشعر، فكان أيضًا الناقد الذي يتلمّس الحساسية الجمالية في القصائد لمجايليه وللشباب، يقدّم لهم النقد الجميل والثناء الجميل، وهو المدافع عن الشعر في زمن النأي عن الشعر، فلطالما أثبت لنا بأن الشاعر تأتيه نشوة روحية هي نشوة الخلق وتتجاوز حدود العقل ولا يصل إليها الفيلسوف، فنشوة الفيلسوف عقلية بحتة، على الرغم من أنهما يمشيان على خط موازٍ هو خط الغيب.

يقول شمس الدين في كتابه النقدي "الكشف والبرهان ونقيضه" (2020) الذي يحرث فيه في أرض الشعر والفلسفة: "الشعر في البدء هو نفخ الموسيقى في كتلة اللغة التي هي كتلة صمّاء في الأساس. والشعر يجرح الوجود والأشياء والمعاني ليكشف عن دمها وأسرارها فهو جرح الوجود". وفي أحد حواراته يقول: "أنا أقول: الشعر هو ذاك التوالي بين الصوت والصمت، والتوالي بين الصوت والصمت أعمق بكثير من التوالي بين الصوت والمعنى؛ لأن مساحة الصمت بالشعر ليس فيها لا نثر ولا وزن. هي عمق الشعر". وعن شعره يقول: "أنا شاعر وجودي.. شعري على الإجمال إنما ينطلق من نقطة ما في الغيب، كائنة في القلب والعالم: أنا شاعر دين وميتافيزيك ولا شعر خارج الميتافيزيك، وأعوّل على هذا المنطلق في الشعر".

وخيارات شاعرنا متعدّدة فقد نحت لنفسه عالمًا متفرّدًا من بين شعراء جيله، فهو لم يكتب كشاعر فقط بل كفنان وكمصوّر فوتوغرافي وكموسيقي كأنه يضع على قماشة بيضاء مقاطع فيليمة حساسة تطل على معنى الحياة والموت والزمن والحب والإنسان والذاكرة؛ "تستوقفني أحيانًا/ وأنا أجلس في بيتي/ أصوات لا أعرفها/ تأتي من زاوية لم تكشف للشمس حواشيها/ أسأل نفسي: هل لحجارة هذا البيت فمٌ/ يختزن الأصوات ويُحييها؟/ هل لنوافذ هذا المنزل ذاكرةٌ/ تذكرُ أرواحَ محبِّيها؟".. ولطالما استذكر شمس الدين طفولته في قريته الجنوبية الحدودية مع فلسطين "بيت ياحون" لينمو الشعر هناك برفقة الطبيعة وجدّه الذي كان يتلو عليه أشعارًا من التراث العربي، فصكّت أذن الطفل شمس الدين على الشعر والصوت الكربلائي محبوكة بقراءاته الفكرية والفلسفية وبدراسته التخصصية لاحقًا في الدكتوراه بالتاريخ وبدرجات حداثية عالمية جعلت موهبته المتخمة بالجمال تتنقّل من التراتبية البصرية في القصيدة، والتراتبية السمعية الموسيقية، وتراتبية المعنى، إلى التفعيلة وإلى قصيدة النثر في تحريك للصوت الشعري يستلهم مفردات من التوراة والإنجيل والقرآن ومن رموز صوفية بقدر ما يستلهم من لوركا وبابلو ونيرودا ورامبو وإليوت ونيتشه وشيلر وغوته وهولدرلين إلى إنجلز وماركس تُعلي في قصائده العمق والمعنى الوجودي إلى أقصاه. فكأن كرة شمس الدين الشعرية تتدحرج على أرض لا نهاية لها، كلما نبشنا في معناها تبدّت لنا معانٍ أخرى، لنصير معه في غابة من الأشجار الصامتة المتكلمة عن الكون والغيب والزمن.

ومن أقنعته التي تفرّد بها شمس الدين تعريبه لـ 75 قصيدة للشاعر المتصوف حافظ الشيرازي، أطلق على كتابه "شيرازيات" في عملية تفكيك وترميم حداثية تميّز بها شاعرنا جمعت بين التعريب (عن لغات غير فارسية) وبين الروح الشعرية لمحمد علي شمس الدين. كان فيها ينشئ نصًا فوق نص؛ يقول عن اشتغاله الشعري هذا: "تصرّفنا تصرفًا ملحوظًا في التفاصيل، وسكبنا جوهر المعنى في إناء العربية بكل ما فيها من بلاغة وأصول وأوزان وتطور حديث، وذلك ما يدفعني لاعتبار هذا العمل يخصني بمقدار ما يخص حافظ الشيرازي، إلا إنني حافظت على الجوهر ولم أحد عنه، وآثرتُ أن أسمّي المجموعة بكاملها "شيرازيات" تذكيرًا بحافظ الشيرازي. ما قمتُ به هو كتابة قصائد عربية جديدة مؤسسة على معان عشقية ووحدة وجود وخمرة إلهية، وما إلى ذلك مما يضاف من أسرار يصعب وصفها، موجودة لدى حافظ وموجودة في وجداني في وقت واحد".

إلا أن أجمل ما فعله شمس الدين هو ذلك التواشج بين الشعر واللوحة، سننتبه إلى الألوان في معظم قصائده، "يأتي من جهة البحر، من جهة الصحراء طفل بدم أبيض"، و"الله حين رأى بياض الثلج/ قال: يكون في وجنتاها/ ورأى اخضرار العشب/ قال: يكون في نظراتها/ ورأى ترقرق نبع الريحان/ قال: يكون في كلماتها"؛ يقول شمس الدين عن ذلك: "في داخلي يوجد رسام والذي يقرأ قصائدي قد يجده ويجد الخط واللون والصورة". وفي مكان آخر يروح ويجيء محمد علي شمس الدين حول الفنان ولوحته محدّثًا بول غوغان: "هل تسمح يا غوغان/ أن أفتح باب الصورة/ أدخل كي أقتل ذاك الهر الجالس/ قرب حبيبتك التاهيتية/ كي يحرس نهديها/ هل تسمح يا غوغان/ أن أعصر نهد الجوز/ وأقضم حبّ الفلفل من شفتيها/ هل تسمح يا غوغان/ أن أطرد هذا الهر القاسي/ كي آخذ مطرحه في الصورة؟/ غوغان: اقتلتي أيها الصديق/ اقتلني/ أنا هو الهر". وكانت لشاعرنا الراحل تجارب شعرية أرفقها الفنان اللبناني حسن الجوني في لوحاته فشكّلا ثنائيًا فريدًا يجمع بين الشعر والفن التشكيلي.

كتب شمس الدين أيضًا الشعر للأطفال في مجموعته "غنوا غنوا" (1983)، كما كتب القصة القصيرة، فكانت له المجموعة القصصية "كنز في الصحراء" (1983). ونال الشاعر جائزة العويس الثقافية عام 2011. وقد تُرجمت العديد من كتب الشاعر إلى لغات أجنبية وكتبت عنه الصحافة الأجنبية كما العربية، ومن أبرز ما كُتب ما قاله المستشرق الإسباني بدرو مونتابيث عنه: "يبدو لي أن محمد علي شمس الدين هو الاسم الأكثر أهمية، والأكثر وعدًا في آخر ما كتب من الشعر اللبناني الحديث. في هذا الشاعر شيء من المجازفة مكثف وصعب؛ لا سيّما أنه عرضة لكل الإشراك. شيء ما يبعث على المجرد المطلق، المتحد الجوهر، اللاصق بالشعر في أثر شمس الدين، وقلة هم الشعراء الذين ينتصرون على مغامرة التخييل، ويتجاوزون إطار ما هو عام وعادي، وهؤلاء يعرفون أن مغامرتهم مجازفة كبرى، ولكنهم يتقدمون في طريقها".

يموت محمد علي شمس الدين.. "لكن لا يموت الذي مات منا"، تلك كلماته الأخيرة. وهو نفسه البلبل الأصفر وهو يحدّثه في قصيدته المؤرخة في 27 أيار/ مايو 2022: "يقف البلبل المستريب ويسألني: هل رأيت دمًا في الغروب/ وهل جاء وقت الرحيل؟/ هو الخوف/ قلت: استرح/ لدينا غروبان كي نترك هذه المدينة/ وكي نعبر النهر/ وللنهر أسبابه/ سنختار أسبابنا للسفر". لكن محمد علي شمس الدين لم تكن له أسبابه المقنعة لهذا السفر الأخير. دخل المستشفى الأسبوع الماضي لإجراء عملية جراحية بسيطة، لكن بيروت الآن بحكامها تمنحك كل أسباب الموت حيث المستلزمات الضرورية للعلاج ليست متوفرة، وربما ستكون متوفرة فقط لمن يتحكم بها من السياسيين الفاسدين والتجار الفاسدين، أولئك الذين حوّلوا لبنان إلى بلد يقدّم له مبدعوه له كل شيء، ولا يقدّم لهم سوى الموت.

 

عن (ضفة ثالثة)