استطاع جودار أن يحدث ثورة حقيقية على مستوى السينما صورة وفكرا. وقد كان حسب تعبير لوي دي جانتي "أكثر المجددين تطرفًا في السينما المعاصرة. هنا نكتشف كيف احتفى الواقع الفرنسي يمينا ويسارا بعبقريته، وكيف يشعر الجميع بالفخر لانتمائه لتيار الثقافة الفرنسية المغيّرة.

غودار ودفاعه عن المستضعفين أفرادًا وجماعات

بوعلام رمضاني

 

ليس سهلًا أن ينافس خبر رحيل فنان ما مهما أوتي من خصوصية إبداعية وحضور فكري وشخصي تاريخي، خبر رحيل أهم وأشهر ملكة في العالم تربعت على العرش مدة سبعين عاما. المخرج الكبير الفرنكو سويسري جان لوك غودار الذي رحل يوم الثالث عشر من الشهر الجاري في بيته الكائن في قرية رول القريبة من جنيف وغير بعيد عن بيت شارلي شابلن، عن عمر يناهز الواحدة والتسعين، نافس الملكة البريطانية ميتًا أيضًا، واستطاع أن يحتل المرتبة الثانية في سلم التغطيات التي أفردتها وسائل الإعلام لحظة نقل القداس الديني للملكة البريطانية الراحلة.

ذكما جرت العادة، حينما يرحل أحد كبار القوم في أي مجال كان بفرنسا الفنون والثقافة، تقدم رئيس الجمهورية المعزين والمكرمين واصفًا المخرج غودار "بالكنز الوطني وصاحب النظرة العبقرية" وقائلًا: "كان في البداية يمثل ظهورًا سينمائيًا عاديًا، ولم يلبث أن تحول إلى أحد أسياد الفن السابع. السينمائي الأكثر فرادة خارجة عن التصنيف الجاهز، والمتمرد على ما سبقه من مقاربات سينمائية، أبدع فنًا جديدًا وحداثيًا متحررًا من القوالب القديمة". صاحب الأفلام التي أرخت للموجة السينمائية الجديدة، احتل مكانة استثنائية عند عامة وخاصة الناس، ولم يكن فنانًا خالصًا فحسب، وتجاوز ذلك إلى المستوى الأيديولوجي والاجتماعي بارتباطه تاريخيًا بسياق سياسي فرنسي عرف ثورة في الذهنيات والسلوكات وفي التوجهات الفكرية تحت وطأة انتفاضة 1968.

ككل الرجال الكبار، لم يكن الراحل محل إجماع المتخصصين والنقاد والساسة والصحافيين والمواطنين العاديين، سواء تعلق الأمر بشخصيته المشاكسة والاستفزازية أو بتوجهه الماركسي والماوي تحديدًا في فترة ما والمحسوب على الهامش، أو بتوجهه السينمائي القائم على البحث الدائم والأشكال الفنية غير المسبوقة، لكنه حقق الإجماع باعتباره أحد أهم مبدعي السينما فرنسيًا وعالميًا. يجدر الذكر أن غودار الذي كان يعاني من مرض عضال، قد طلب من عائلته التعجيل بتحريره من العلاج، وبالتالي مساعدته على الانتحار المرخص في سويسرا وبلجيكا، والذي سيناقشه الفرنسيون قريبًا حسب تصريح الرئيس الفرنسي نفسه.

سيل من التكريمات:
إلى جانب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، كانت إليزابيت بورن، رئيسة الوزراء، المسؤولة الرسمية الثانية في الدولة من مكرمي غودار، وجاء على لسانها: "صاحب الألف وجه، استطاع أن يغير مجرى السرد في السينما، ورحل طفل السينما المرعب تاركًا لنا إرثًا سينمائيًا في شكل تحف غير مسبوقة، وسيفتقده الفن السابع". وكعادته كان جاك لانغ، رئيس معهد العالم العربي وصديق الفنانين، ومؤسس عيد الموسيقى، وأشهر وزراء الثقافة بعد أندريه مالرو في عهد الرئيس الراحل فرنسوا ميتران، من السباقين لتكريم الراحل جان لوك غودار. وقال لانغ لإذاعة "فرانس أنفو": "هناك قبل وبعد غودار. غودار صاحب منجز سينمائي غير مسبوق، وغني وقوي، وكان صاحب نظرة جديدة وثورية وقطيعة سينمائية، وسيد الفن السابع وفيلسوف الصورة. كان غودار فيلسوفًا وشاعرًا مزج بين الثورة والجمال والرجاء والحب والملل. أنصح الجيل الجديد بمشاهدة كل أفلامه".

A group of men sitting at a table

Description automatically generated with medium confidence

من اليمين، غودار مع مارغريت دوراس ومن اليسار مع سارتر

رشيدة داتي، الوزيرة السابقة المغربية والجزائرية الأصل، وعمدة الدائرة الباريسية السابعة، اليمينية مثل رئيسة الوزراء، قالت عن الراحل القريب من يسار اليسار: "لقد رافق أجيالًا من الفرنسيين، وساهم في التغيير الاجتماعي، وأثّر في السينمائيين عبر العالم بأسره، وبرحيله يغيب أحد عمالقة الثقافة الفرنكوفونية". آن إيدالغو، عمدة باريس الاشتراكية، ضمت صوتها إلى صوت المكرمين من اليمين قائلة: "ستبقى أفلامه خالدة، وخاصة فيلم "إلى آخر نفس"، ومساهماته كأحد صناع التراث السينمائي لا تقدر بثمن. نفتقده في أول يوم لرحيله".

زعيم الحزب الشيوعي الفرنسي فابيان روسيل قال عن الراحل بدوره: "غودار مارس الفن السينمائي بشكل غير مسبوق لم يقم به أحد قبله"، أما فاليري بيكريس، المرشحة اليمينية الأخرى التي فشلت مؤخرًا في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، فقالت: "غودار سينمائي استفزازي وغامض ورومانسي، واستطاع أن يدفع بالفن السينمائي إلى أقصى درجة. كان سيد الموجة الجديدة، ويتطلع إلى المساهمة في صنع عالم جديد". النجمة بريجيت باردو، ممثلة الإغراء التي ظهرت رفقة الراحل ميشال بيكولي في فيلم "الاحتقار"، كانت هي الأخرى من السابقات لتكريم غودار بقولها: "كان من أكبر صناع النجوم".

ألان ديلون، النجم الشهير والوسيم والمسن مثل باردو، قال من جهته عن صانع الموجة الجديدة إلى جانب فرنسوا تريفو وكلود شابرول في كلمة أرسلها لوكالة الأنباء الفرنسية: "صفحة من تاريخ السينما تطوى برحيل غودار. شكرًا غودار للذكريات التي تركتها لنا، ويجب أن تدرك أنني سأبقى فخورًا بعملي تحت توجيهك". الناقد والمخرج السينمائي فيليب لابرو انضم إلى كوكبة المكرمين الذين لا يسع ذكرهم كلهم في هذا المقال، وقال عن الراحل لصحيفة "لوفيغارو": "كان يحب التحدث مع الصحافيين، ولم أكن صديقه، لأنه من الصعب نسج علاقة صداقة معه. كان منظمًا مثل السويسريين". كما كان منتظرًاز

أدلت وزيرة الثقافة ريما عبد المالك بدلوها، وقالت عن الراحل غودار: "لقد أحرق كل قوانين السينما، ساعيًا إلى زرع موجة فنية عارمة في العالم، وقائمة على الشجاعة والحرية. ترك لنا كتاب صور يحمل بصمة غير قابلة للمحو". والممثلة ماشا ميريل راحت تكرم المخرج الذي وجهها بطريقة غير عادية بقولها: "ماتت الملكة إليزابيث، ومات الملك غودار"، وقارنته ببيكاسو من منظور إبداعي تمامًا كما قارنه جيل جاكوب، المدير العام السابق لمهرجان كان السينمائي الدولي، برامبو، صاحب الثورة الشعرية، وإلى الشيء نفسه ذهب المخرج رومان غوبيل بقوله: "كان سينمائيًا ثائرًا فنيًا وفكريًا".

 

A picture containing person, person, standing, indoor

Description automatically generated

غودار وبريجيت باردو وميشال بيكولي خلال تصوير فيلم "الاحتقار" Le Mépris عام 1963

 

رائد الموجة الجديدة:
جان لوك غودار الذي يصنع الحدث الثقافي والفني لحظة كتابة هذه السطور، مطاردًا وهو ميت من دوائر معروفة بسبب تأييده نضال الشعب الفلسطيني كما سنرى لاحقًا، من مواليد 3 كانون الأول/ ديسمبر 1930 بالدائرة الباريسية السابعة، وابن بول غودار وأوديل مونو. المخرج الراحل كاتب سيناريو وحوارات ومنتج ومركب وممثل ومنظر وكاتب وطالب سابق في جامعة السوربون، قبل أن يخوض تجربة سينمائية استثنائية أرخت لولادة تيار الموجة الجديدة. كان سينمائيًا كاملًا يسيطر على كافة ضروب الإبداع السينمائي، ومنها التركيب الذي تناوله الفيلسوف الشهير جيل دولوز بالشكل الذي يكشف عن الشيء غير المرئي وغير المحدد على حد تعبيره. بدأ حياته السينمائية عام 1954 مثل إريك رومر وفرنسوا تريفو وكلود شابرول وجاك ريفيت، وانطلق ناقدًا سينمائيًا. في الفترة نفسها شرع في إخراج أفلام وثائقية ودخل معترك الأفلام الطويلة بفيلم "حتى آخر نفس" عام 1959 معلنًا عن موهبته اللافتة وعن نشأة الموجة الجديدة.

غودار الملتزم والمدافع عن نضالات الشعوب، أخرج عام 1960 فيلم "الجندي الصغير" الذي تناول الثورة الجزائرية أو حرب الجزائر، كما يصفها عدد كبير من مؤرخي وقادة فرنسا، وأردفه بأفلام أخرى. تعددت لاحقًا أفلامه الوجودية التوجه والملتزمة اجتماعيًا وأيديولوجيًا، وككل مخرج كبير يفشل وينجح، ويذكره النقاد أكثر استنادًا لأفلامه المتميزة، وراح غودار يخرج أفلامًا تاريخية أكدت نبوغه الفني وليس التزامه الإنساني والسياسي فحسب. وصنع الحدث السينمائي بفيلم "الاحتقار" عام 1963، و"امرأة متزوجة" عام 1964، و"بيار المجنون" عام 1965، وهو الفيلم الذي اعتبره النقاد تحفة فنية، وعاد إلى موضوع الدعارة في فيلم "الصينية" عام 1967 بعد أن عالجه في فيلم قصير "يعيش حياته" عام 1962. الأفلام المذكورة، هي الأفلام التي جسدّت أكثر من غيرها مزاج وتوجه وحساسيات غودار الفنية مقارنة بأخرى، لكن هذا لا يعني أن عشرات الأفلام الأخرى لا تعكس خصوصيات إبداعية وفكرية واجتماعية. كان الإلتزام جوهرها الأيديولوجي غير المنفصل عن مقاربات سينمائية غير مسبوقة تقوم على قوة تعبير الصورة أساسًا. نال غودار عدة جوائز.

راديكالية 1968:
عندما اندلعت الانتفاضة الطلابية في باريس عام 1968، كان غودار أحد الذين ساهموا في اندلاعها بحسه الثوري المسبق الذي انعكس في عدد كبير من أفلامه، وظهوره بجانب الفيلسوف جان بول سارتر لم يكن أمرًا اعتباطيًا. كان السياق يومها فرصة للمخرج لكي يؤكد راديكاليته الفكرية أو هامشيته، كما قال له أحد الصحافيين في سؤال أراد إحراجه من خلاله، وذلك من خلال أفلام لم تسلط عليها الأضواء إعلاميًا. عاد غودار إلى السينما عام 1980 بفيلم "الحياة" بشكل أحيا فترة الخمسينيات والستينيات التي تبقى مرتبطة باسمه كما مر معنا، وأمضى منتصف السبعينيات مخرجًا موزعًا بين التلفزيون والفيديو رفقة زوجته آن ماري مييفيل. انطلاقًا من مطلع التسعينيات، تفرّغ الراحل لأفلام تجريبية عالج من خلالها تاريخ السينما، وأخرج لاحقًا أفلام "نشيد الحب" (2001)، و"موسيقانا" (2004)، و"فيلم الاشتراكية" (2010)، وأشرف على معرض ضخم في مركز بومبيدو الثقافي، ولم يتم إنجازه للصعوبة الفنية التي طرحها، وعوض بمعرض "أسفار في الطوباوية".

فنيًا، انفرد غودار بمقولات وظف من خلالها الصورة والموسيقى والأدب والفلسفة والتاريخ، وكل المقولات المستعملة هي ملك للإنسانية على حد تعبيره: "وأنا لست سوى الذي يربط بين دوستويفسكي في مطعم وبين صغار وكبار الممثلين". فنيًا أيضًا، أحدث غودار قطيعة مع البعد السردي التقليدي في السينما الكلاسيكية ومع فكرة الشخصيات، وعمل على فصل الصوت عن الصورة لكي يتحولا إلى عنصرين منفصلين. مزج بين الخيال والتوثيق والنضال والرسم وعلم الاجتماع والموسيقى وفن الفيديو، ولم يكن ينطلق من سيناريو جاهز ولا حوارات معدة سلفًا، واعتمد على لصق وموزاييك عناصر بصرية ونقاط مسجلة، وكان على المتفرج البحث عن المعنى الذي اكتسته صوره، والمعنى يظهر بعد المشاهدة وليس قبلها على حد قوله. اتهم غودار بالغموض الكامل، وعليه تنطبق عليه مقولة بول كلوديل: "الإبداع يكمن في الغموض الذي يفسره المتلقي على طريقته".

ذأخيرًا وليس آخرًا، كان المخرج غودار صاحب مزاج صعب ومتقلب، وعانى معه الكثير من الممثلين والممثلات، وعلى رأسهم الراحل الكبير جان بول بلمندو. وآلان ديلون وماشا ميريل وميشال بيكولي وبريجيت باردو كانوا من أبرز الشخصيات الذين ارتبطت مسيرتهم بالمخرج الراحل وشهدوا على عبقريته.

A picture containing person, person, wall, indoor

Description automatically generated

بلغت ذروة اتهامه بمعاداة السامية عام 1974 حينما ربط بين هتلر وغولدا مائير

 

فلسطين في القلب والعقل:
لا يمكن التحدث عن مسيرة ومواقف الراحل جان لوك غودار من دون التوقف عند دفاعه عن المستضعفين، أفرادًا كانوا أو جماعات، ووقوفه بجانب ثوار الجزائر وفلسطين ليس إلا قطرة في نهر التزامه الإنساني الشامل والكامل والمتعدد الألوان والتجليات. وبدأت مشكلته مع الرافضين لتأييد نضال الشعب الفلسطيني بكل السبل انطلاقًا من عام 1970 من خلال فيلمي "هنا وهناك" و"موسيقانا"، الأمر الذي تسبب في اتهامه بمعاداة السامية. وبلغت ذروة الاتهام عام 1974 حينما ربط بين هتلر وغولدا مائير من منظور نازي واحد، وإثر مقارنته اليهود بالنازيين بتصريحه: "إن اليهود يفعلون بالعرب ما فعله النازيون في اليهود". بالنسبة لأنطوان دو باييك، كاتب سيرة غودار، فإن المسألة اليهودية موضوع ثابت في مسار ومسيرة غودار، ويتناولها من منظور المعادي للصهيونية، ورغم هذا التوضيح، هاجم اللوبي اليهودي الأميركي غودار عام 2010 معبرًا عن رفضه منحه أوسكار شرفي. وكان غودار من مؤيدي مقاطعة السينما الإسرائيلية.

 

عن (ضفة ثالثة)