في تناوله لكتاب الباحثين المغربيين أحمد قادم وكمال الزماني يكشف لنا الناقد المغربي عن طبيعة إسهام الباحثين في هذا الحقل المعرفي المتجدد، وكيفية استفادتهما من منابع منهجية متعددة في تحليل الخطاب السياسي للرئيس الأمريكي بوش، والذي لا يقل أثره فتكًا من الأسلحة التي استعملت لاستعمار العراق ونهبه.

«الحِجَاج وشرعنة الخطاب السياسي» .. من أجل بلاغة مناضلة

إدريس الخضراوي

 

شهد البحث البلاغي عمومًا، وتحليل الخطاب السياسي خصوصًا، منذ عقدين تطورات مهمة أسهمت فيها عدة عوامل خارجية وداخلية. تمثلت العوامل الخارجية في التحولات التي تحققت في مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية، بفعل الفورة اللسانية التي وفرت للباحثين والدارسين منذ النصف الأول من القرن العشرين أدوات جديدة أكثر صرامة وصلابة، أما العوامل الداخلية، فتكمن في الدينامية التي شهدتها الدراسات العربية في حقل البلاغة مستفيدة من التفاعل مع المكاسب التي تبلورت في هذه المجالات على المستوى العالمي، وهو ما أثمر العديد من الإسهامات البحثية التي لفتت بإضافتها وجديتها ورصانتها الانتباه إلى ما تنطوي عليه الخطابات من أنساق مضمرة، وخاصّة الخطب السياسية التي تراهن على الشرعنة للمرور من جسر القول إلى الفعل.

في هذا الإطار يندرج كتاب: "الحِجَاج وشرعنة الخطاب السياسي" للباحثين المغربيين أحمد قادم وكمال الزماني، والصادر حديثًا عن دار كنوز المعرفة بالأردن (2022)، وهو عمل يستفيدان فيه من أهم ما بلوره دارسو البلاغة والحِجاج من مشاريع علمية نظرية وتطبيقية كأعمال بيرلمان وتيتيكا وديكرو وأموسي، فضلًا عما جاء به الباحثون في حقل التحليل النقدي للخطاب من طراز فان ديك ونورمان فيزكلاف وفان لوين وروث فوداك، وغيرهم.

قبل الحديث عن الإشكالية الأساسية التي سعى الباحثان إلى الإضاءة على جوانبها المختلفة، والمفاهيم التي استثمراها لتحليل الشرعنة في الخطاب السياسي، لا بدّ من القول إن ما تنطوي عليه هذه الدراسة من كفاءة عالية في تحليل الخطب السياسية للرئيس الأميركي بوش، تقدّم أوفى دليل على أهمية جهودهما العلمية والبحثية التي تندرج ضمن مجالات الحجاج وتحليل الخطاب. فالباحث أحمد قادم يهتمّ بالحجاج وتحليل الخطاب، وله في هذا المجال ثلاثة مؤلفات هي: "شعرية الإقناع في الخطاب النقدي والبلاغي" (2009)، و"التحليل الحجاجي للخطاب" (2016) و"البلاغة بين الحجاج والتخييل" (2020)، فضلًا عن المقالات التي نشرها في المجلات والدوريات، أما الباحث كمال الزماني فيعنى بحقل بلاغة الحجاج، وصدرت له في هذا المجال الأعمال التالية: "حجاجية الصورة في الخطابة السياسية لدى الإمام علي رضي الله عنه"(2012)، و"حجاجية الإيتوس في الخطاب السياسي" (2019)، و"بلاغة الحجاج نماذج تطبيقية" (2020)، بالإضافة إلى مجموعة من المقالات في المجلات المعنية بالبلاغة وتحليل الخطاب. ويظهر من خلال عناوين هذه الأعمال والقضايا التي تتناولها، أن الباحثين لا يكتفيان في الدرس البلاغي بنظريات الحجاج وحسب، بل يستفيدان من منابع علمية متعدّدة كعلم الاجتماع والتاريخ وتاريخ الأفكار وعلم النفس والنقد الأدبي. وعلى هذا الأساس، يبدوان مسلحين بالعدّة النظرية اللازمة لبحث الخطاب السياسي من منظور الحِجاج، واستكشاف الأنساق الأيديولوجية التي يستبطنها، خاصّة خطب الرئيس الأميركي جورج بوش التي برّر بها غزوه العراق في لحظة تاريخية هي نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين والتي شهد فيها العالم أحداثًا كبرى لا تزال تلقي بظلالها القاتمة على التحولات والاضطرابات التي يعرفها العالم في الوقت الراهن.

جاء كتاب "الحِجاج وشرعنة الخطاب السياسي" في 420 صفحة، من القطع الكبير. وقد وزّع الباحثان مشهده على أربعة فصول. اهتمّا في الفصل الأول بدرس الشرعنة من حيث مفهومها وأنواعها ومصادرها وأبنيتها الاجتماعية، واختصّ الفصل الثاني بدرس الشرعنة بالاقتناع، كالشرعنة بالعقلانية والشرعنة بالمستقبل الافتراضي والشرعنة بالسلطة، بينما عنيا في الفصل الثالث ببحث الشرعنة بالإقناع، مركزين على الشرعنة بالإيثار والشرعنة بالتقويم الخلقي، والشرعنة بالعواطف. أما الفصل الرابع والأخير، فقد تناولا فيه الشرعنة بالمغالطة، كمغالطة سرير بروكست، ومغالطة الاحتكام إلى السّلطة، ومغالطة التعميم والتسرع، ومغالطة المنحدر الزلق، ومغالطة القسمة الثنائية الزائفة، وغيرها من أشكال المغالطات التي تعدّ من أبرز ضروب التلاعب التي لجأ إليها بوش عند التوجه إلى المخاطبين بقصد التأثير عليهم، لعلمه بافتقارهم إلى المعرفة التي تمكنهم من مقاومة التلاعب.

وإذا كان الفصل الأول يتميز ببعده النظري الذي يكمن المقصود منه في التعريف بالمفاهيم وبسط المادة وبيان طبيعتها، فإن الفصول الثلاثة الأخرى تتخذ شكلا تطبيقيا، ويحكمها هدف أساس يتمثل في الكشف عن التقنيات الحجاجية لشرعنة الحرب على العراق. وينتهي الكتاب بخاتمة مركزة تتضمن أهم الاستنتاجات المتوصّل إليها، وببليوغرافيا موسّعة تَكشفُ عن اهتمام واضح لدى الباحثين بالدراسات الحديثة في مجالي الحِجاج وتحليل الخطاب، وعن قدرتهما على الاستفادة منها بهدف تأكيد ودعم الاستنتاجات والخلاصات المشيدة. ويُبرزُ هذا التقسيم للفصول، فضلًا عن عنوان الكتاب الذي يربط بين الحجاج والشرعنة، حِرصَ الباحثين على تركيز الدّراسة على الإشكالية التي بُنيَ عليها العمل، والتي تستمدّ مرجعيتها النظرية والتطبيقية من النظريات الحِجاجية.

وإذا كانت نيران الحرب على العراق قد انطفأت، فإن الخطب السياسية التي استند إليها الرئيس الأميركي استمرّت حاضرة تذكر بأن أثرها ليس أقل فتكًا من الأسلحة التي استعملت للسيطرة على العراق. وهذا ما يغري بدرسها استنادًا إلى مفهوم الشّرعنة. ويرى الباحثان أن "الشرعنة تعدّ مسارًا واعيًا يسلكه الأفراد بشكل يومي لتبرير سلوكاتهم والأدوار التي يقومون بها في المجتمع، لأجل ذلك يجد الشخص نفسه مضطرًا إلى الاستناد إلى مجموعة من المصادر التي تساعده على تأسيس هذه الشرعنة وبنائها وتعزيزها لدى الآخرين" (ص 55).

ولعل ما يبرز القيمة التي ينطوي عليها البحث في مفهوم الشرعنة ومصادره، وخاصّة عندما يتعلّق الأمر ببحث الخطب السياسية، هو التحولات المتسارعة التي تُطاولُ عصرنا الحالي والتي تَفرضُ على السياسيين إعادة النظر في استراتيجيات بناء الشرعنة انسجامًا مع هذه التحولات، وذلك بالبحث عن الحجج القادرة على شرعنة أفكارهم السياسية، واختيار التقنيات المناسبة، والحرص على ضمان تماسك فصولها، وانسجامها مع البنية الجماعية للجمهور، في مسعى لتحقيق المقاصد الحجاجية المتوخاة، وإكساب الخطاب القدرة على التأثير.

يتمثل الموضوع الرئيس الذي حرص المؤلّفان على درسه والإجابة عمّا يتفرّع عنه من أسئلة، كسؤال الشرعنة واستراتيجياتها، وأبنيتها الاجتماعية، ومصادرها، وخصائصها في الحقل السياسي، فضلًا عن السؤال المتعلق بالتقنيات الحجاجية التي استند إليها بوش لشرعنة قرار الحرب على العراق، في تحليل الخطبة السياسية المنتجة إبان الغزو الأميركي للعراق، مركزين على الخطب السياسية للرئيس الأميركي جورج بوش التي اتخذها وقودَا لإحراق العراق. "بدعوى استئصال نظام صدّام حسين وإنقاذ الشعب العراقي وحماية الشعب الأميركي" (ص 6).

ويظهر من خلال التحليل المسنود بالمقام الخطابي والحروب الكلامية والوقائع والأحداث، أن خطب الرئيس الأميركي ما تَزالُ تغري بالدراسة الحجاجية، خاصّة وأنها خطب أنتجت في مرحلة تاريخية "اشتعلت فيها حروب متعددة، وتصارعت القوى مجتهدة في القضاء على الخصوم، وظهرت إلى الوجود لغة لم تكن مألوفة، ومصطلحات كانت متوارية، لتحلّ مكان الصدارة في التداول اليومي، كمحور الشر، والإرهاب والخطر الوشيك وغاز الأعصاب وبرج التجارة العالمي والعالم الحر، والحلفاء والعراق والنفط مقابل الغذاء" (ص 5). وتعلّقا بهذا القول، يبدو أن البحث عن شرعنة الحرب كان هو الهدف الرئيس من كلّ المناورات اللغوية والعسكرية. ولئن كان بوش قد استند ليس فقط إلى عقلانية الوسائل لشرعنة الأفكار التي يريد حمل المخاطبين على الاقتناع بها، وإنما استند أيضًا إلى عقلانية الأهداف والغايات باعتبارها سببًا لشرعنة الأفعال (ص 121-122)، فلأنّه كان مقتنعًا أنه بدون "الحصول على المساندة الشعبية والتعاطف الدولي لم يكن له أن ينتصر في حرب يراها الناس ظالمة، ويراها هو منصفة، وكان لزامًا عليه أن ينتصر لرأيه باستمالة الآخرين ترغيبًا أو ترهيبًا، تدليلًا أو تمويها" (ص6).

عمل الباحثان على بناء الخيط الناظم لخطب الرئيس بوش بالاستناد إلى منهج حجاجي ونقدي يمتح أدواته وآليات عمله من حقلي الحجاج والتحليل النقدي للخطاب. هكذا نهضا بتحليل الخطب تحليلًا حجاجيًا يقوم على تصوّر يربط القول بالوقائع، ويحكم طرائق الاستدلال والحقائق، ويكشف عن أنواع المغالطات، وهذا ما قادهما إلى تلمّس ما هو جوهري في هذه الخطب وهو تغليف العقيدة الحربية بألبسة متنوعة، "فهي أحيانًا تلبس لبوس الإنسانية، فتمتاح من قاموس الشفقة والإيثار، وأحيانًا تتلحف القانون فيظهر الرئيس بمظهر المدافع الشرس عن الشرعية الدولية وحقّ الأفراد في الدفاع عن النفس، وأطوارًا ترتدي لباس الخوف، فنجد الخطيب يمتطي صهوة الترهيب وإشاعة الخوف في النفوس، بغية الدفع بها إلى الإذعان لمطالبه" (ص 395)، وذلك بهدف صرف المخاطب عن التفكير في مآسي الحرب بمنح الأهداف النبيلة زخما على المستوى الخطابي. ويعدّ هذا الاستنتاج بخصوص الشرعنة عند الرئيس بوش، من أقوى الاستنتاجات التي توصّل إليها مؤلفا الكتاب.

يتبين من خلال مضامين الكتاب ومحتوياته، والمنهج الذي عالج به المؤلفان الخطابة السياسية عند الرئيس الأميركي جورج بوش، أننا إزاء دراسة قيّمة ترتكز على خلفية فكرية ونقدية واضحة ومنسجمة. وإذا كانت هذه الخلفية قد أسهمت، من الناحية النظرية، في مدّ الباحثين بالعدة الملائمة على صعيد المفاهيم والمصطلحات، فإنها مكنتهما، على مستوى التطبيق، من سبر أغوار الخطاب السياسي، وتعرية ما يستبطنه من ضروب التعمية على مقاصده وأهدافه الأساسية. وعليه يُبرزُ الكتاب، ليس فقط المدى الذي تعدّ فيه الشرعنة أحد الأهداف الرئيسة التي سعت خطب الرئيس الأميركي المدروسة إلى تحقيقها مستندة إلى التلفيق والعواطف من أجل إقناع الجمهور بضرورة التحرّك وإقناعه بشرف المبادرة؛ بل أيضًا القيمة التي يتمتع بها مفهوم الشرعنة في العديد من الحقول المعرفية، وبين كثير من الباحثين والدّارسين من خلفيات مختلفة: نفسية وتاريخية واجتماعية، مما يضفي على هذا المفهوم الحركية والحيوية، والقوة الإنتاجية.

وبذلك، يقدّم الباحثان عملًا ينطوي على الإضافة للجهود العربية المعنية بتحليل الخطاب السياسي، من خلال ممارسة تحليلية تستعمل المبادئ المميزة للتحليل الحجاجي، وبقدر ما تحرص على بناء المفهوم الملائم، بقدر ما تمحض الخطاب السياسي ما يستحقّ من الحوار والإصغاء والسبر، كما يقدّمان أيًضا ممارسة في تحليل الخطاب، يمكن وصفها بالممارسة المناضلة، لأن ما تحرص عليه أشدّ الحرص، من خلال الاستناد إلى منطلقات جديدة تنسجم وطبيعة الخطبة السياسية، هو نفض الغبار عن المضمرات، وتعرية الخطابات الزائفة، والمغالطات التي تستعمل في التدليس والإقناع، والكشف عن الادّعاءات والأدلة التي تدفع الناس إلى الإذعان لما يملى عليهم.

 

عن (ضفة ثالثة)