دأبت الكاتبة فى كل عمل إبداعى أن تُجرب. فتقتحم بجرأة كل ما ترى فيه الإبداع. ولما كان المبدع –بالضرورة- يترك بعضا من حياته فى كل إبداع. فكرت، لماذا لا أحول حياتى وذكرياتى إلى أدب. فكانت كل تجربة، قصة قصيرة. وإذا جُمعت. شكلت فى النهاية مجموعة قصصية. رأت الكلمة أن تنشر منها كل عدد، بعضا من هذه التجارب.

سيجا

هالة البدري

 

سجيا:

كلما صحت الشمس، وسعنا - أصدقائي وأنا من أبناء المغتربين المصريين الذين يعملون فى مدينة مصراته الليبية - من دائرة حركتنا حول البيت. وقد تسمح أمي لنا بالذهاب إلى بيت الرمالى صديق أبى، لنلعب مع أولاده. هو ليبي متزوج من مصرية.

للبيت طريقان: الأول نقطع فيه الشارع العمومى إلى وسط المدينة، حيث السوق، ثم ننعطف يساراً فى شارع جانبى، لنجد المبنى ضمن بيوت قليلة على حافة العمار. الطريق الثاني مختصر نقطعه خلف بيتنا وسط المزروعات والأراضى الخلاء لنصل خلف المنزل مباشرة. كنا نمر بأحواض القمح فى الصيف، والفول الأخضر فى الشتاء، ونمر بالمقابر أيضاً. النوارة تملأ الحقول، تنظر إلينا بعيونها السوداء، أخالها تبتسم لى أحيانا، لكن بعض العيدان تحمل قروناً ممتلئة.

قالت أمى: لا تقتربوا من زراعة الناس من دون إذن.

الفول طرى له زغب أبيض ناعم وذو ريق حلو، وإذا أخذنا منه حفنة لن تحدث مشكلة، نقول لأنفسنا من دون كلام. يراودنا الفول كل يوم رغم أن أبى يشترى لنا من السوق كميات كبيرة منه، لانتذكره ونحن فى البيت ونضيق به إذا ما أحضرته أمى لنأكله مع الجبن، لكننا وأثناء اللعب نجده أمامنا، فنقطف عدة قرون ونركض.

فى الطريق المختصر إلى بيت الرمالى توجد مقابر، بها كثير من اللحود، قالوا لنا إن عفاريتًا كثيرة تمرح بها. سألت لماذا يبدو أحدها صغيرا عن الآخرين؟ قالوا لأنه لطفل. قلت لماذا لانرى العفاريت ونحن نمر بجوارها؟ قالوا يظهرون فى السكون، و غالباً فى الليل  . تقشعر أجسادنا الصغيرة، ونسرع الخطى كلما اختصرنا طريقنا إلى بيت الرمالي لنلعب، لكني مع الوقت وكلما مررت بجوارها وحيدة، توقفت أمام قبر الطفل أتساءل: لماذا مات صغيراً؟ ولم أجد إجابة عند أحد ، مع تكرار رحلتى لأصدقائى، رحت أبطئ السير شيئاً فشيئاً وأنا أمر بجوار قبره، ثم تحدثت إليه، وسألت نفسى إن كان يسمعنى ؟ تشجعت وآمنت له، فجلست أرتاح من الطريق بجوار الحجر الموضوع فوق رأسه، وكررت الجلوس عنده مرات، ثم قررت أن ألعب معه. لم أعرف كيف!

تذكرت شيئاً. بحثت عن غصن صغير، والتقطت مجموعة من الأحجار المستديرة. رحت أحسن صقلها، ورسمت على الأرض بجوار رأسه مربعات متساوية، ووضعت قطع الأحجار البيضاء له، وقطع الأحجار الحمراء لى، وبدأت بينى وبينه مباراة سيجا، وتبرعت بنقل حجارته، لأنه مات صغيراً، ولايستطيع القيام من رقدته. مع مرور الأيام، تطلعت لزيارة المقابر، واللعب مع الطفل الذي لم أعرف له اسما، أو صورة. صاحبت الموت، ولم أعد أخشاه، أو أخشى غروب الشمس وأنا أمر بجوار القبور. بعد سنوات طويلة وأنا أمر بجوار قبور أخرى، عرفت أن الزمن مسجون أيضًا مع الجسد فى الحفرة.

 

بلح
يقع القصر الملكي في مدينة مصراته الليبية، على بعد قليل من بيتنا، في الجهة المقابلة من الشارع. كنا نمر به في طريقنا إلى المدرسة. يمنعنا سوره الضخم من رؤية ما يحدث في الداخل. لم نقترب منه في البداية. كنا نعرف أماكن الحراس، ونتجنبهم، لكن الفضول كان يسبقنا للمعرفة، حين نجد الباب مفتوحاً على مصراعيه. نتسلق السور حين ندرك غياب الحراس في بعض الأيام لنتلصص على الحديقة الكبيرة. ونادراً ما كنا نلاحظ وجود بشر. عرفنا أن الملك إدريس السنوسى ينزل فى القصر، حينما يمر من هنا، وأن له فى كل مدينة كبرى قصرا مثله.

ذهب أخي أكرم اليوم فى صحبة أبي إلى القصر الملكى. سأله مدير القصر:

هل تحب البلح؟

 قال: نعم.

 قال: اختر نخلة من الحديقة.

فاختار واحدة لها بلح أحمر قان.

قال الرجل: تستطيع دخول الحديقة في أي وقت، والحصول على البلح منها.

شكره أخي، وساعده الجنائني على إنزال سباطة كبيرة، أخذها معه إلى المنزل وحكى لنا الحكاية مزهوًا.

بعد أسبوع عاد أخي منكس الرأس من حديقة القصر. طرده المدير، وأخبره أن لا نخلة له.

كان أكرم يذهب كل يوم، للاطمئنان على البلح، يأخذ حفنة، ثم يعود بعد ساعة، ليتأكد من سلامة نخلته، وأصبحت النخلة شغله الشاغل كل يوم، وكل ساعة، ثم شغل أصدقائه، حتى ضج كل من بالقصر بهم. كانت القصور الملكية تفتح للقضاة، أثناء تنقلاتهم للحكم فى القضايا فى المدن الصغيرة، لكن أخى لم يعد يستطيع دخول القصر، والاطمئنان على البلح.

 

البئر
خلف سور البيت بئر عميقة، اكتشفناها بالصدفة أثناء اللعب فى الخلاء، لم نجد فيها غير قليل من الماء، وبعض العلب المنبعجة، وعروسً من البلاستيك، كانت تتكئ برأسها على يدها الممتدة تحتها، فى حين تفرقت كل ساق بعيداً عن الأخرى، كل في ناحية. أراد أخي أكرم أن ينزل إلى البئر، لكنه خاف من السقوط. كانت الحواف مغطاة بحجارة ليست ملساء، لكنها لاتكفى لحمل أى منا. قررنا إرجاء المغامرة ليوم آخر، بعد أن نجرب أولاً إنزال دلو لكي نجلب العلب والعروس.

تمددنا فى اليوم التالى فوق حافة البئر، محاولين الوصول إلى الماء، بجريدة نخل طويلة، أوصلنا بها خطافاً، لكننا لم نستطع إلتقاط أى شىء، رغم الإثارة التى حصلنا عليها. ثم مللنا اللعب، وتركناها إلى يوم آخر، وكلما مررنا بالبئر تطلعنا إلى قاعها، علنا نجد شيئاً جديداً، لكن البئر بقيت على حالها، إلا من الحجارة التي نلقى بها إليها. كنا نتساءل: متى تمتلئ البئر بالماء؟ وهل يعلو الماء حتى تطفو العلب، والأخشاب التي ألقيناها بها؟ والعروس؟ أقول لنفسي دون أن أرفع صوتى، حتى لايعرف أخى أننى أريدها، فيأتى من دونى ويأخذها، ويلقى بها بعيداً، فلا أعود أراها. بالأمس أشترى لى أبى من طرابلس عروساً جديدة، تكاد تقاربنى طولاً. قال إنها عروس إيطالية، أسميتها ماجدة، ضحك أبى قائلاً:

سأحكى لك يوماً قصة ماجدولين التى أسميت عروسك على اسمها، ثم ردد : ماجدولين !

أخذتها إلى حضنى، ووضعتها ليلا فى سريرى. كان ذيل فستانها محمولاً على سلك يجعله منفوشاً، وعبثاً حاولت أن أغطيها بالبطانية دون أن يفسد الفستان، لم أفلح، حتى جاءت أمى، وحملتها ووضعتها على كرسى فوتيي بجوار سريرى، فلما اعترضت قائلة إن البرد شديد. أحضرت بطانية، وغطتها بها. أغمضت عينى سعيدة، وأغلقت أمى الضوء، بعد قليل فتحتهما للاطمئنان على وجود ماجدة، تسللت إليها وقبلتها بسرعة، ثم عدت إلى فراشى. نمت ثم صحوت، ثم نمت ثم صحوت، وأنا أنظر إليها، فجأة أضاءت الحجرة بنور مسها ركضاً، وقبل أن ينطفئ دوى صوت الرعد. جاء البرق، والسيل وزخ المطر، وراحت دقاته ترن بعنف على النافذة. نزلت من سريرى فى خفة حتى لايصحو أحد، وتأكدت أن عروسى مدفأة.  فتحت الستائر لأرى السماء، وعدت التحف بالغطاء، وأنا أراقب السحب التى تظهر شفافة تحت ضوء البرق، وأنتظر جِمال الشتاء التى تركض وراء جِمال الصيف، وحين هدر الرعد بضربات متتالية، ركضت إلى عروسى، وخطفتها من فوق الفوتيى، وعدت معها إلى سريرى قفزاً، وأنا أسأل نفسي من يحمى عروسى العارية فى البئر، التي ماتزال تنام، وهي تتكئ برأسها على يدها الممتدة تحتها، فى حين تفرقت كل ساق بعيداً عن الأخرى كل فى ناحية؟

 

مصيدة أخرى

كنت الفتاة الوحيدة التي تلعب مع أربعة صبيان كل يوم. فضلتهم على اللعب فى البيت مع بنات الجيران، اللاتي رفضت أمهاتهن نزولهن للعب معنا فى الخلاء. كن يدعوننى للعب معهن فى الغرف، أو إذا سمح لنا بالخروج يكون اللعب فى المدخل الواسع للمبنى، مع تنبيهات مشددة بعدم مغادرتنا باب المنزل، والخروج إلى الحديقة، رغم أنها مسورة بسور حجرى ضخم يحجزها عن الشارع، وعن الأرض الخلاء المترامية الأطراف من حولنا.

أحببت اللعب بالعرائس، وتعلمت كيف أفصل للعروس ملابسها، وكيف أطرزها، وأحيكها، لكننى كنت أنهى الحياكة بسرعة بعد المغرب، وفى الصباح أطير إلى الحديقة، حيث أخى وأصحابه يلعبون الكرة، أو يبحثون عن الأرانب والسحالى، والحيوانات الصغيرة المختبئة تحت ركام أوراق الشجر. يصغرنى أخى بسنة واحدة. مازال فى الخامسة ويدخل المدرسة لأول مرة هذا العام. قرر فريق اللعب مهاجمة أعشاش العصافير فوق الشجر بعد أن وجدوا جميع المصائد التى نصبوها بالأمس فارغة سواء فى الحوش، أوفى الأحراش خلف البيت. جمعوا بعض الكراكيب الموجودة في العراء: كرسي مكسور، وصندوق صفيح، وعلبة كرتون، ثبت فشل كل منها على الفور حين اعتلاها أكرم واحدا واحدا، وضعوا باقي الكراكيب فوق بعضها، لكنها لم تكف للوصول إلى الشجرة طويلة الساق.

صعد أكرم فوق كتف حمادة، وأمسك بأول فرع، ثم مد يده لأحمد ليساعده على بلوغ الشجرة، واكتفينا أنا وحمادة وعدنان بالانتظار. تسابق أكرم وأحمد حتى وصلا لاهثين لفرع خفيف. صرخت، وتوقف أحمد عن الصعود، فى حين أمسك أكرم بالعش الأول، وقذفه فوقع على الأرض، وتكسر البيض، ثم بلغ العش الثانى، فلما رآه فارغاً تركه، وحمل العش الثالث فى كفه، ورح ينزل، وابتسامة عظيمة تظلل وجهه، فلما وصل إلى الفرع الأخير، نظر إلينا محتاراً. كان عليه أن يمسك ساق الشجرة بيديه الاثنتين حتى ينزلق بسلام. سمعنا صوت صوصوات صغيرة، ورأيناه يضع العصافير فى جيب البنطلون، ثم ألقى بالعش وهويحتضن الساق فوقع على رأس حمادة، وانزلق بسرعة كبيرة حتى لمست قدماه الكرسى المكسر. أمسكنا به، وأخيراً وقف فوق الصندوق معلنا انتصاره، وأخرج العصفورين، ووضعهما على الأرض.

تحلقنا حولهما ورأيناهما يحاولان الوقوف، ثم يعودان إلى الرقاد، وهما يرفرفان بأجنحتيهما، ومنقاريهما مفتوحان على وسعهما، يتحسسان الهواء بحثاً عن الطعام. مددت يدي أتحسسهما، وأنا أسأله: لماذا أخذتهما مازالا بدون ريش؟ لماذا لم تتركهما فى العش حتى يكبرا، ثم تصطادهما بعد ذلك؟

   اختطفهما من فوق الأرض قبل أن أحملهما، وأعادهما إلى جيبه قائلاً: أنا اصطدتهما ولا علاقة للبنات بالصيد .  ركض والأولاد من ورائه. قال سعيد ضاحكاً: مالك ولعب الأولاد؟ العبى بالعروس.

قلت: سأخبر أمى.

راح أخى يضرب بمقدمة حذائه كل حجر يصادفه، ويدفعه للأمام. التقطوا أغصان الشجر، وراحوا يبحثون عن السحالى، ثم لعبنا استغماية حتى سمعت صياح دادة فكرية وهي تنادينا. كانت قد توقفت لجمع نبات الرجلة لتضعه فى السلاطة. 

قال عدنان: تأكلون طعام الغنم يا مصاروى ؟

قالت دادة فكرية: نزرعها في مصر، هنا تنمو وحدها فى الصحراء. ذهبت دادة فكرية للمنزل، وهي تنبهنا للعودة سريعاً، ورجعنا نحن للعب. تساقط المطر بقطرات صغيرة. لم نكترث لها، كونا حلقة واسعة، وفتحنا أذرعنا ووجوهنا متجهة نحو السماء نتلقى الرزاز بألسنتنا، ثم هطل المطر بقوة ودوى صوت الرعد، فتبللت أجسادنا، وصاح أحدنا صيحة الاختباء، فركضنا متفرقين. تعثرت في حجر، ووقعت على الأرض كاسحة كل ما أمامى من حصى وأعشاب جافة،  فلما رفعت رأسى كى أقف، وألحق بهم، وجدتنى فى مواجهة عصفورين عاريين من الريش وقد فارقا الحياة .