عندما تبلغ المآساة ذروتها، تسخر النساء من الرجال، عند عجزهم، الذى لا يتوقف عند الرؤية الفردية، لتتخطاها إلى الرؤية الكلية، عندما أحنى الرجل رأسه، وكانت النكسة، التى تطل من جديد، وسط سرد القاع، الغارق فى المحلية التى تحمل القارئ إلى تلك الرؤى، حيث تحمل عبق الشعبية المحببة، والحاملة لتلك الهزة المترسخة فى الأعماق.

دنيـــــــــــا

أشرف الصبّاغ

 

كانت ابنة خالتي، التي تكبرني بعام واحد، مغرمة بحكاية "دنيا". ولم يكن هناك من تحكي له إلا أنا الذي يأتي من الزيتون كل يوم جمعة صباحا إلى باب الشعرية ومنه إلى الخرنفش ثم إلى حارة اليهود حيث بيت خالتي الذي تعيش فيه هي وابنتها.

لم أكن رأيت أبدا زوج خالتي الذي هو والد ابنة خالتي. ولكن نساء العائلة يتداولن حكاية سرية، بدون مقدمات أو نهايات، مفادها أنه خرج ذات صباح ربما قبل حرب سبعة وستين بعام أو اثنين، وكانت خالتي حاملا، ليشتري العيش الفينو والحليب وقرطاس الطعمية كالعادة من شارع الموسكي، ولكنه لم يعد حتى تولي حسني مبارك حكم مصر عام ألف وتسعمائة وواحد وثمانين. وكانت ابنته، التي هي ابنة خالتي، قد صارت عروسا في الصف الأول الثانوي.

كانت النساء يحكين هذه الحكاية بشكل سري، سواء في أسرتنا المتفرعة في الزيتون وسراي القبة وعين شمس، أو في بقية فروعها في باب الشعرية والمغربلين وحارة اليهود. ولم يكن حبل الود يقتصر على زياراتي الأسبوعية أيام الجمع، حيث أحمل ما كانت تطلب خالتي عمله من أمي وجدتي. كانت هناك زيارات أخرى تقوم بها أختي الكبرى أحيانا وهي عائدة من جامعة القاهرة، أو خالي الأصغر الذي يحب خالتي الكبرى هذه حبا أكبر واشد بكثير مما يحب حتى جدتي- أمه. كان متعلقا بها ويضع في صدرها كل أسراره، مما كان يسبب غيرة أمي وبقية الأخوات.

لم يكن التعاطف مع خالتي الكبرى بسبب خروج زوجها قبل النكسة وعدم عودته، وإنما لأن خالتي الكبرى كانت تعمل منذ أن كانت تدرس في الجامعة. وظلت تعمل حتى بعد أن تزوجت. وعندما حاول زوجها منعها من الشغل، أقامت يومها الدنيا ولم تقعدها. وتتندر نساء العائلة بهذا اليوم الذي رأوا فيه خالتي الكبرى المتعلمة ابنة الأصول والحسب والنسب تشخر شخرة لا أول لها ولا آخر، وهو يقف أمامها مذهولا. بعد هذه الشخرة، تم ترسيم الحدود، وعرف كل شخص حدوده وحقوقه. وظلت خالتي تعمل حتى حملت في ابنتها وأنجبتها وأرضعتها ورعتها.

لم يكن أي منا يسمي حارة اليهود بـ "حارة اليهود"، وإنما كنا نسميها "حارة خالتي". أما ابنة خالتي وصديقتي الوحيدة في عالم النساء، فكانت تنتظرني من الجمعة إلى الجمعة لتحكي لي عن المدرسة، وعما يجري في الحارة، وعن أحلامها التي يزورها فيها سيدنا موسى بن ميمون صاحب الضريح المقابل لبيت خالتي. وكثيرا ما كانت تعيد علىَّ حكاية "دنيا" عن طريق الخطأ وهي التي كانت تعرف أن هذه الحكاية بالذات تعجبني وتضحكني، لأنني منذ الصغر كنتُ أتمنى أن أكون نشالا متخصصا في تورماي شبرا- باب الشعرية- السيدة زينب. كانت تتعمد أن تخطئ وتعيد حكي هذه الحكاية التي تجعلني لينا ومرنا، وتنفك عقدة لساني عن حكاياتي الممتعة عن عالم الأولاد والصبيان والمغامرات. وكانت هي تسرح بعينيها بعيدا حيث تخترق نظراتها جدران الشقة والبيت والحارة لتحلق بعيدا بعيدا. وفي أحيان كثيرة لم أكن متيقنا أنها تسمعني جيدا بسبب نظراتها السارحة المحلقة، فأعيد العبارات، وكانت هي تزغدني لأكمل من دون مقاطعة أحلامها.

وكانت حكاية ابنة خالتي الأثيرة تتلخص في أنه ذات مرة في باب الشعرية، كان صاحب مقهى في أحد الحواري المواجهة لمستشفى سيد جلال، الذي يقف شامخاعلى أحد جوانب شارع بور سعيد، كان يصاحب فتاة من صبيانه. وكانت هي أكثر البنات والصبيان موهبة في النشل وضرب المطاوي والأمواس. وكان وجهها ينعم ببشلتين، بينما صف أسنانها العلوي ينقص سِنَّتين، والسفلي سِنَّة واحدة. هذا إضافة إلى حلمة أذنها المقطوعة وآثار جرح على رقبتها.

كانت بقية البنات والصبيان الذين يُسَرِّحُهم ينزلون على باب الله ليُلَقَّطوا رزقهم، ويرجعون ليسلموا الغلة، وكل واحد يأخد نصيبه ويتوكل على الله. وفي يوم جاء ولد جديد، دمه خفيف ويده أخف وقلبه ميت. وكان مجيئه عيدا على المعلم وعلى البنات والصبيان، لأن ذلك حدث بعد مغامرات ومؤامرات مضنية لا يعرفها إلا من شاركوا فيها. لكن ابنة خالتي لم تذكر لي من أين لها بكل هذه التفاصيل.

في الحقيقة، كانت عين المعلم على هذا الولد الموهوب من فترة طويلة. وأوعز للأولاد والبنات أن "يُقَطِّعوا" عليه ويعيقوا عمله في التورمايات والتروللي والأوتوبيسات إلى أن حاصروه تماما وأوقفوا حاله.فاضطر في نهاية المطاف إلى الاستسلام. وجاء إلى المعلم لكي يعمل من تحت باطه.وفي الموعد المحدد دخل الولد على المقهى، وسلم على المعلم، وكانت "دنيا" تجلس إلى جانبه واضعة رجل على رجل، وهي تنفث دخان الشيشة من دون أن تخرج المبسم من فمها، ومن دون حتى أن تنظر لا إلى الضيف الجديد ولا إلى أي من الرائحين أو الغادين.جلس صاحبنا وهو يشعر ببعض الحرج. قرر ألا يتحدث لأنه ببساطة لا يعرف الفتاة الجالسة. لكن المعلم سأله:

- إيه مالك؟

- مافيش..

- طب إيه بقى؟ هانشتغل والدنيا هاتبقى حلوة؟

- إن شاء الله، يا معلم..

- طب افتح لي قلبك بس..

- تمام، يا معلم.. تمام..

- إنت مش عايز تتكلم ليه؟

نظر إليه الولد، ثم نقل عينيه إلى الجالسة تنفث دخان الشيشة مثل قاطرة تجر أربعين عربة قطار بضاعة وراءها ومن دون أن ترفع حتى عينيها لتحيي القادم الجديد أو تعير المارة أي اهتمام. فهي في كل الأحوال السيدة الأولى لإحدى أهم حواري باب الشعرية التي يحسب لها كل نشالي المنطقة ألف حساب. فهم المعلم نظرات ضيفه الجديد. فقال له وهو يشعل سيجارة حشيش:

- مافيش حد غريب، يا جدع .. دي خطيبتي، دنيا ..

بحلق الضيف في وجهها، وقال بصوت ملسوع:

- يا نهار ازرق، يا معلم .. أمال الآخرة تبقى إيه؟!

ألقت "دنيا" بـ "لاي" الشيشة على الأرض والتقطت فردة شبشبها من رجلها بحركة بهلوانية لا تقل عن شطارتها في إخراج الموس من تحت لسانها في الأوقات الصعبة. وقبل أن ترفع شبشبها وتنزل به على رأس صاحبنا، كان قد أخذ ذيله في أسنانه وطار من أمامها، وهي تطير وراءه كالصاروخ.

يومها كان ميدان باب الشعرية والواقفون على محطات التورماي والتروللي والأتوبيس، والقاعدون على المقاهي، وأصحاب المحلات والعيال الصغيرة، والرائحون والغادون يشاهدون أغرب مطارده في تاريخ المنطقة منذ معركة ضباط الجيش مع ضباط ومخبري قسم الشرطة الكائن في صدر ميدان العتبة. كان مشهدا عجائبيا لا يمكن أن تراه إلا في الأفلام الإيطالية التي تقوم ببطولتها صوفيا لورين في بداية حياتها أمام مارسيلو ماستروياني وبالذات في أفلام العصابات والمافيا التي كانت تعرضها سينما الزيتون عندنا، أو سينما باب الشعرية القريبة من الميدان في شارع الجيش. كان جسدا ضئيلا لصبي يطير أمام خفة ورشاقة المعلمة "دنيا" التي كانت قد تمكنت بخفة من أن تضع ديل الجلابية في اللباس، وأطلقت ساقيها العاريتين وراءه ورأسها وألف جزمة قديمة أن تأتي به لتعلم وجهه بالموس.

يومها امتدت المطاردة من أمام مستشفى سيد جلال مرورا بميدان باب الشعرية، إلى مدخل الخرنفش من ناحية شارع بور سعيد حتى وصلوا إلى ضريح سيدنا موسى بن ميمون. ولم تخلص الولد من يد "دنيا" إلا خالتي.

كانت ابنت خالتي تحكي لي هذه الحكاية كثيرا عن طريق الخطأ. ونجلس لنضحك حتى تدمع أعيننا، وحتى تدخل علينا خالتي إما بأكواب الخروب الساقع أو بأكواب الحلبة الساخنة بالسمسم. كان ذلك يعتمد على فصول السنة. وعندما كنت أنسى أن أحكي لها حكايتها التي تحبها، كانت تناور وتلف وتدور إلى أن أتذكر أنه عندما كنتُ صغيرا، في الصف الأول الإعدادي، أرسلتني جدتي وأمي كالعادة إلى بيت خالتي في حارة اليهود. كنت أحب الدخول إلى الحارة من ناحية باب الشعرية إلى الخرنفش، وأُخَرِّم عبر الحواري حتى أصل إلى المعبد وأدور حوله دورتين متأملا الزخارف على أبوابه ونوافذه وجدرانه، ثم أعبر الشارع لأجد نفسي في مدخل بيت خالتي.

في تلك المرة وجدتُ العيال يلعبون كرة شراب في حارة عدس، حيث وضعوا طوبتين تفصل بينهما مسافة لا بأس بها كعلامة على أن هذا هو مرمى أحد الفريقين، بينما رسموا المرمى الثاني على جدار معبد سيدنا موسى بن ميمون. وقفتُ أتفرج عليهم قليلا وأنا مشغول بكيفية حساب الأهداف، وبالذات في المرمى المرسوم على جدار المعبد، والذي كانت تقف فيه فتاة لحراسة مرمى فريق الفتيات في مواجهة فريق الصبيان الذي استولى على المرمى الآخر القريب إلى الواقع.

فوجئت بالفتاة التي تقف حارسة مرمى تنادي علىَّ في استغاثة وتشير لي بأن أقترب بسرعة. طلبت مني أن أحرس مرماها إلى أن تذهب إلى الحمام. وقبل أن أجيبها، كانت قد تركت المرمى وطارت من أمامي ناحية باب بيتهم. وراحت الفتيات يتوسلن لي أن أحرس المرمى حتى تأتي. لكن الصبيان احتجوا ورفضوا أن ينضم ولد إلى فريق البنات. وانتهز الأوباش الفرصة وسجلوا هدفين وأنا ما زلت لا أدري مع من ألعب وأقف كعامود النور والصبيان يسجلون الهدف تلو الآخر، إلى أن جاءت الفتاة حارسة المرمى لتشخر لي شخرة ذكرتني بشخرة خالتي لزوجها عندما طلب منها أن تترك شغلها وتقعد في البيت.