فى معركة الإنسان مع الموت، والتشبث بالحياة. كان صراع البطلة فى رفض ذلك المؤقت الزائل، لتحى من جديد ذلك الأثر الباقى، المقاوم للزمن. ذلك ما عبرت عنه الشاعرة القاصة بأسلوبها الشاعرى، النابض بالشفافية، والهمس فى قصتها، التى فرضتها الجائحة على الإنسانية.

مذاق خافت

منـال رضـوان

 

عقب الانتهاء من تناول قهوتي اليوم، تذكرت فنجان القهوة الخزفي، ذلك الذي حالت مناعته الهشة دون الاحتفاظ بمكانته؛ فلم يقاوم الاحتجاز القسري، ومن ثم الاختفاء عن طاولات الزبائن والاحتجاب داخل أروقة المقاهي الشاطئية الخاوية على رمالها، إلا من تقاطعات لنغمات غامضة يمتزج فيها صوت البحر مع مواء القطط الجائعة دومًا والتي زهدتْ  هذا الشتاء نغماتها الشبقة.

ذلك الانسحاب المفاجىء جعل رواد النادي يعتادون مذاق القهوة المشبع بطعم كرتوني ساخر لأكواب صغيرة لا ثقل لها أو وزن، لا أحد هنا يأمل في عودة الفناجين التي توسدت الشراشف البيضاء فوق الرفوف، بل ربما لم يكن هناك من يود عودته غيري.

 واليوم، ضحكت كثيرًا لهذا المشهد؛ فالنساء اللاتي يتحلقن  صبيحة كل خميس حول الطاولة الملتصقة بالسياج الأخضر للشاطىء،  قد ابتدعن حيلة جديدة لقراءة فنجان القهوة المقلوب، ههه...

كن يسكبن بقايا البن فوق الطمي في لحظات تغافل من النادل الكهل، ثم يعاودن الغمز وإطلاق الضحكات الحبيسة في جلسات نسائية، تتكرر بلا هدف، أو سعادة، أو تأويل لتعاريج  البن المتشربة به جدران أمنياتهم الكرتونية.

 عقب مرور ساعة أو أكثر، ها هن يعاودن في طلب الأكواب الجديدة؛ لاستكمال ما عجزت عنه سابقاتها بعد أن جفت حكاياتها. 

بدت القهوة المراقة على الطمي، تلتحفها حشائش خضراء باهتة ونثراتها المراقة بلا انتظام على السياج الأزرق وكأنها لوحة جديدة من لوحات "فان جوخ"، كثيرًا ما تراود ذاكرتي المتثائبة هذه الخيالات بين حين وآخر؛  فتحمل لي الكثير من الضحكات أو....  لا شيء . لا شيء.

- لم أشأ أن أضيف إلى قائمة الأصوات الغريبة التي تغلف الصمت المتوجس، ضحكات النسوة؛ فقد بدت دخيلة على دفء البحر، كما أنها شديدة الوقاحة إلى جانب مواء القطط الجائعة.

الأن، يبدو أنهن انتهين من تأويل طالعهن، وبدأن في النهوض بحركات ارتجالية؛ للملمة بقايا صخبهن، لكنهن.. عاودن الجلوس لدقائق فور تذكر إحداهن حكاية جديدة في انتظار تأويلها من كبراهن، والتي تولت مهمة قراءة الأكواب الكرتونية قصيرة المدى ككل الأحلام الساذجة.

للمرة الأولى منذ أزمة كورونا تثير تلك الأكواب امتعاضي، انتفضت فجأة، أشحت بالكوب بعيدًا قبل أن أتخذ خطوات حادة في طريقي إلى المخزن الذي يسكن آخر الردهة الخلفية لواجهة النادي الأنيق..

انتبه لي أحد النُدُل وقبل أن يسألني عن سر وجودي الغريب في ذلك المكان، أخبرته بحاجتي.

قام الشاب باستدعاء مدير النادي، فأعدت على مسامعه قولي:

- أريد شراء أحد الفناجين الخزفية التي تحتفظون بها.

ابتسم الرجل في تفهم، ولم يبد أمارات الدهشة كالشاب الصغير، ومنحني الفنجان كهدية تذكارية بعد أن رفض الأموال في تهذيب شديد.

هرعت إلى بيتي،  وضعت الفنجان في خزانة تضم الكثير من الذكريات الخزفية وتأملته في فخر شديد؛ إذ أنني انتصرت في معركتي الأخيرة للاحتفاظ بذكرى عن ذلك المذاق الخافت الذي لن يعود.