يصور القاص العراقي تفاصيل رحلة عائلة فقدت أبنتها قتلا، فيرسم طقوس الحزن والدفن في مقبرة هي من أكبر مقابر العالم، وشخصيات المشاركين في التشييع المصاحبين للجثة في سيارة أجرة، أحاسيسهم، أشكالهم، تقاليد الدفن وعالم المقبرة العاج بالأحياء الباحثين عن رزقهم من أهل المتوفي، عالم كئيب متناقض يعطي القارئ صورة الموت الوجه الآخر للحياة في بيئة الجنوب العراقي، وصورة حزن الوالدين ولوعتهم الأبدية لفقدان الأبناء.

ليلة في مدينة الأموات

فـاضل الفـتـلاوي

 

أخيرا وصلت السيارة المتهالكة إلى محطتها الأخيرة ونوعا ما هدأ الصراخ، توقف السائق عندما طلب منه الشيخ المسن الذي يجلس بجانبه ذلك، كان وقوفه قرب مطعم اشتهر بتقديمه الكباب الفاخر، فتح الباب الخلفي لتنزل امرأة مسنة لازالت مسحة من جمال قديم تبدو آثارها جلية على الجسد الممشوق نزلت بتأن ومن الباب الأخر ترجل رجل يرتدي ملابس ريفية سرعان ما راح يبحلق في نحو الصندوق الطويل المستطيل المغطى بقماش اخضر مطرز بسور من القرآن وأدعية خاصة بالموتى، عبرت الشارع المكسو بما يشبه مادة الأسفلت وصياح عمال المطاعم ازدادت وتيرته وهم يدعون الزبائن واقفين تحت يافطة كبيرة براقة فيها رسوم لطباخين بقبعات طويلة بيضاء وسكاكين وسواطير وأخرين يقدمون وجبات سريعة، زبائنهم منشغلين بقضم سندويشات مترعة بالفلافل والكجب والمقبلات، دخل الأربعة إلى صالة المطعم وما أن استقروا على كراسيهم  حتى راحت عيونهم تتلصص نحو النعش المسجى فوق السيارة، المارة في الشارع يرفعون أيديهم تحية للميت وأخرين راحوا يطأطئون رؤوسهم دون علمهم بجنسه ولكنهم علموا من خلال تجاربهم في مثل هكذا حالات انه ميت عادي ولم يسقط في ساحات القتال فأستنتج الكثير منهم إنها امرأة، على الطاولة كانت عينا المرأة لا تنفك تنظر إلى عيني رفيقها الشيخ وبين الفينة والأخرى، تتساقط دموعها، الصمت سيد الموقف، السائق جلس على طاولة أخرى وراح يأكل بشراهة لأن الأمر لا يعنيه البته فهو سائق سيارة أجره، بعد الانتهاء من الفطور انطلقت السيارة في شوارع ضيقة لتبان بعد دقائق القباب المذهبة وطوابير من الناس تحث الخطى للدخول للمرقد المقدس، توقف السائق على مبعدة امتار من المشهد حيث هرع رجال مختصين بحمل النعوش وقد غطوا رؤوسهم بطاقيات مغلقة بالإسفنج، وبسرعة حملوا النعش وهم يسابقون الريح يسير أمامهم شيخ ارتدى طربوش بلونين احمر واخضر وهو يتلوا ادعيه وجمع من المشيعين من أهل المدينة يرددون وراءه، عند الوصول إلى باب الضريح خلع الجميع أحذيتهم ودخلوا وبعد دورتين أو ثلاثة انزل الصندوق وراحوا يصلون صلاة الميت، عاد الرجال بالنعش مرة أخرى، اصعدوه إلى سطح السيارة وربطوه بالحبال ، تسلموا أجورهم وركضوا نحو جنازة أخرى وصلت للتو

......

يبدو أن طقوس الورع والزهد وسماع الأدعية خفف وطئ الصدمة قليلا واحاديث دارت بين المشيعين المتجهين نحو محطة الميت الأخيرة مقبرة "وادي السلام" حيث راح السائق يحدثهم عن عاقبة الزاهدين الصابرين وكيف ستكون وقفتهم خفيفة يوم الحشر العظيم، السيدة كانت تهز راسها موافقة والشيخ ينفث دخان سجائره التي يشعلها الواحدة تلو الأخرى.

شريط ذكريات سريع راح يدور في رأسها، تذكرت مخاضها بها، فأصابتها هستيريا وسط الصمت، ابنتها لم تسلخ العشرين وها هي جثة هامدة في صندوق خشب فوق سيارة، تذكرت يومها الأول في المدرسة وجدائلها الشقر، هي البنت الوحيدة ولادتها خرافة في سن اليأس، صرخت بقوة أجفلت الجميع:

-  نادية حبيبتي كيف تحمل جسدك تلك الرصاصات!

شاركها العجوز الصراخ والعم والسائق سالت دموعهم بلا شعور. راح السائق يحدثهم عن المدينة التي سيصلونها مدينة الأموات المترامية الأطراف والتي زارها مرارا كسائق أجرة مصطحبا جنائز كثيرة وحدثهم عن يوم عندما شاهد المدينة الواقعة في وادٍ عميق من طابق علوي في فندق يطل عليها، كان بصحبة صديق من مدينة متاخمة للنجف، كان صديقه يلح عليه للمبيت عنده وهو متعجل للعودة لمدينته ولكن امرأ جعله يغير رأيه ويقرر المبيت تساءلت المرأة عن السبب؟

قال: كنت انظر من نافذة الفندق إلى قبور تمتد لمئات الكيلومترات وقد أصابتني الدهشة والعجب وتغيرت سحنتي، هنا ربت صاحبي على كتفي وكأنه ايقظني من حلم:

 - أتعلم يا صديقي إن اغلب سكان القبور كانوا دائما في عجلة من أمرهم لكنهم ارغموا على دخولها ولم تنتهي أعمالهم

- صدقت يا أخي لاحول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم

أومأ الجميع برؤوسهم مؤيدين فهدأت الأمور قليلا داخل السيارة، وراح السائق يحدثهم عن المقبرة التي تقع في واد طويل امتداده يصل إلى حدود منخفض الجزيرة العربية المسمى بحفر الباطن وكيف كان في الزمن الغابر؛ كان الوادي عبارة عن بحر هائل متلاطم الأمواج تصله السفن التجارية من الهند والصين وبلدان كثيرة ولسبب ما جف ذاك البحر العظيم واستحال إلى صحراء مترامية الأطراف لم تعرف المدنية والعمران حتى دفن فيها الإمام علي بن أبي طالب

..........

استدارت السيارة لتلج في شارع ضيق يتسع بالكاد لسيارة واحدة، المدينة ساكنه تماما والحياة فيها مجرد صبيان يتسلقون القبور برشاقة وهم يتبعون الزائرين عارضين بضاعتهم من البخور وماء الورد وسورة ياسين وثمة رجال يعرضون خدماتهم لقراءة الأدعية والترحم على الأموات وهم كمن يدخل وليمة غير مدعو إليها فقبل السؤال يقرأون ويترحمون ويطالبون بأجر، فتحدث مشادات بينهم وبين الزائرين تنتهي اغلبها بالتراضي عندما يقرأ احدهم على القبر(خذوه فغلوه وسلسلة طولها سبعون ذراعا ) فيضطر الجميع الدفع مرغمين خوفا من النار والسلاسل

...........

يبدو إن عامل الحفر لم ينتهِ من عمله عندما وصل النعش إلى مدفن العائلة، هيئته مخيفة بوجه اسود شاحب يضع خرقة عتيقة حول رأسه لا يعرف لونها ومسؤول المقبرة يلح عليه وهو يشكوا من السن الصخري الذي هو عبارة عن حجر كلسي متصلب لا يمكن معالجته إلا بأدوات الحفر الميكانيكية، بعد ساعة أو اكثر انتهى كل شيء وانزل النعش من السيارة وسط العويل والنواح، دخل الدفان القبر ناوله مساعده الجثمان فادخله في اللحد وراح يقرأ بصوت عال أدعيةً وراح يحدث الميت

- (إذا جاءك الملكان الصالحان فقل لهما) وأكمل الحديث المعتاد، وردم اللحد بالأجر قبل إهالة التراب ورشه  بالماء وماء الورد، غادر الجميع الليل بدأ يرخي سدوله على المدينة الموحشة وعدد من النسوة يسمع نواحهن بوضوح ورجال توشحوا بالسواد ودعاء عال للملقنين يسمع وسط الرهبة والسكون الموحش.

قبل عودة السيارة لاحظت السيدة نسقا من القبور الحديثة فهالها منظر ثلاث شقيقات في ريعان الشباب ووالديهم قضوا في حادث سير، فحفز نواحها فراحت تصرخ بهستيريا والسائق يردد من رأى مصائب الآخرين هانت عليه مصيبته، صاحت المرأة: نعم وراحت تردد: يا رب أنت العدل ومنك العدل ولكن يا رباه أليس من العدل أن يدفنونا أبنائنا وليس العكس ؟ أستغفرك اللهم قدرت كل شيء تقديرا، أغرقتْ القبور بماء الورد وأشعلت أخر ما تبقى عندها من أعواد البخور، رويدا رويدا عم السكون التام ، انطلقت السيارة وسط الشوارع الضيقة ولاحت المدينة بعد دقائق، الجميع صامتون وعلى حين غرة صرخت المرأة وراحت تلطم صدرها وهي تشير لزوجها المذهول

- فتاح يا لقلبك القاسي هل نعود ونادية هاهنا لوحدها؟

- بالله عليك يا نورية لم ترَ عيني النوم منذ يومين

تبدلت طباع المرأة وأخذت تتفوه بكلمات غير متناسقة وتراءى لها اليوم الأول لدخول نادية المدرسة وصورها مع زميلاتها وأناشيد الصباح وبلبلها والقط والضفيرة، أطل الصباح كانت  نادبة تجلس معهما على مائدة الإفطار كالمعتاد لكنها استيقظت فراحت تنحب من جديد.