من منهما المسئول .. القائد أم الراكب الصامت؟ سؤال يثيره المبدع منير عتيبة، بإسلوبه الساخر، والحامل لتلك الأسئلة الدائرة حول حياة الإنسان فى المجتمع العربى، محطما التابوها العربية الثلاث، مقتحما فى سخرية، مبتدعا فى وقار، مبدعا، وممتعا.

خطيئة تشيكوف

منير عتيبة

 

مضطر لأن أبدأ القصة بمصادفة عجيبة، فكل ما فعلته منذ الصباح الباكر حتى ركوبي (التوكتوك) عائدًا إلى البيت؛ كالعادة، ليس سوى وقت ضائع من عمري بلا أدنى حكايات أو تفاصيل مهمة، ولولا هذه الصدفة لكان اليوم كله مثله مثل ثلاثين سنة مرت، وقتًا ضائعًا.

كان قابعًا في أرضية التوكتوك، صغيرًا، لامعًا، غريبًا في هذا المكان، لكنه ينظر إلىَّ كأنه وُجِدَ هنا من أجلي أنا بالذات. رفعت عيني من عليه بصعوبة، نظرت إلى السائق، كانت قفاه العريض المحلوق هو كل ما رأيت، وشممت رائحة سيجارته فكدت أتقيأ، ثم قررت ألا أسأله عندما سمعت صوته النحاسي الحاد يسألني عن وجهتي، يكفي أذني ضجيج أغنية المهرجانات التي ترج التوكتوك.

(لو وجدت مسمارًا في أول القصة، لتوقعت أن يشنق به البطل نفسه في نهايتها).

الله يخرب بيتك يا تشيكوف، هذا ليس مسمارًا، إنه مسدس، غلوك نمساوي 9مم، الطول: 159 مليمتر، الارتفاع 108 مليمتر، العيار 40، سعة المخزن 7 طلقات. لست خبيرًا في المسدسات، ولا في أى نوع من الأسلحة، حتى أني لا أعرف ما المقصود بالعيار، لكن جوجل ساعدني بمجرد وضع صورة المسدس عليه، والحمد لله أنني أيضا لست (بطلًا)، وبالتالي فلست مضطرًا لاستخدام هذا المسدس لقتل نفسي في نهاية القصة، بديلًا عن مسمار تشيكوف.

إحدى عيني تنظر إلى قفا سائق التوكتوك، تراقبه، والأخرى تتابع يدي المرتعشة، وأنا أميل لألتقط المسدس، لكني تراجعت، فردت ظهري، فخبطته حديدة ناتئة من جسم التوكتوك، تنفست بعمق من أنفي، أخرجت الزفير من فمي، لم أشعر بالراحة المعتادة بعد إتيان هذه الحركة ثلاث مرات.

  • يا أستاذ! هل سنظل واقفين للأبد هنا.
  • لا. لا. (قلت بسرعة) انطلق للأمام (ثم ضحكت من نفسي، فقد قلتها وكأنني في فيلم أمريكي).
  • إلى أين هذا الأمام؟
  • ادخل يمين، واستمر حتى أخبرك.

لم أكن أعرف إلى أين سيقودني هذا اليمين، لكن يبدو أن دعاء أمي لي بأن أكون من أهل اليمين هو ما أطلق لساني بهذه الوجهة، كان الصراع داخلي يمزقني حرفيًا، من قال أنني لست بطل هذه القصة؟ ألست أنا من يرويها؟ ألست أنا من يستطيع أن يحكي الآن عن نفسه أي شئ وعلى القارئ المسكين أن يصدق كل ما أقول؟ صحيح أنني لست بطلًا حقيقيا في الحياة، لكنني هنا البطل، بآل التعريف، البطل الوحيد، كل الشخصيات ثانوية، سائق التوكتوك، والتوكتوك نفسه، والشارع الذي لم أصف شيئا منه لأنني لم أحب أن أضيع وقت القارئ العزيز في وصف أشياء مقرفة يعيشها بنفسه يوميا، وإذن..

الله يخرب بيتك يا تشيكوف، إنني بطل القصة، وإذن لابد أن يكون لي نصيب في رصاصة من رصاصات الجلوك، أو في الرصاصات السبعة كلها!

لكن هذا هراء، إنني الآن أخلط بين البطل والراوي، ما أفعله لا يقع فيه طالب في الإعدادي، ولا موظف بالمعاش قرر أن يكتب مذكراته في شكل روائي ليفوز بالبوكر ويحقق أحلام ستين سنة ضائعة.

نظرت إلى المسدس برعب، انتفض جسمي، وانتفضت أذناي على صوت السائق:

  • الطريق مسدود يا أستاذ!
  • ادخل يمين.

أدار نصف رأسه الحليق بالكامل عدا غرة من الشعر المجعد أعلى الجبهة، نظر إلىّ كأنه يسأل (هل أنت متأكد؟)، ونفخ دخان سيجارته في وجهي، وانحرف إلى اليمين.

نفس واحد عميق ملأت به صدري، وانحنيت بسرعة خاطفة، أخذت المسدس في يدي اليمنى، اعتدلت بظهري، فتألم مرة أخرى، أخرجت الزفير من أنفي حيث كان فمي مفتوحًا دهشة للأحاسيس التي اجتاحتني لملمس المسدس، رهبة ورعشة وقوة وجبروت وخوف وعشق للحياة والموت معا، كان ناعما كأفعى (لم ألمس أفعى من قبل)، أو كأنثى خارجة توا من حمام (لم ألمس أو أر هذا أبدًا إلا في الأفلام)، شعرت أنه هو من يحكم قبضته على يدي، ولم أستطع أن أرفع عيني من عليه.

ما الذي أتى بك إلى هنا؟

نظر إلىّ بفوهته المفتوحة على الجحيم، كانت النظرة ساخرة، أو مشفقة، أو مجرد نظرة خاوية تبث الرعب في النفس، لكني لم أشعر بالرعب، كان فضولي أكبر، هل سقط هنا من إرهابي قتل أحد جنود الشرطة وهرب؟ أم من رجل قتل عشيق زوجته؟ أم زوجة تخلصت من زوجها لترث ثروته الكبيرة؟ أم من بلطجي انتقم من آخر أهان كرامته وسط الناس بأن ضربه بالشلوط في مؤخرته؟.. شممت فوهة المسدس، كانت بلا رائحة، لم تنطلق أية رصاصة من المسدس بعد، لابد إذن أنه وقع من أحد هؤلاء وهو ذاهب لتنفيذ جريمته.

أيهم حقا لمن هذا المسدس؟ أعتقد أن السؤال الأهم هو: لماذا أرسله القدر لي أنا بالذات؟

هذا ليس أمرًا عشوائيا، إنه إشارة، أن أقوم بفعل إيجابي ولو لمرة في حياتي، بل بسبعة أفعال إيجابية بعدد ما في خزينة المسدس من رصاصات، حياتي ليس بها شيئ مهم أخشى عليه، فلماذا لا أنتقم من كل الذين جعلوها هكذا.. أبي الذي تركني طفلًا دون العاشرة وتزوج بأخرى، إخوتي الذين عشت من أجلهم، ثم تنكروا لي وتجاهلوا وجودي لأنهم أصبحوا أغنياء أصحاب مراكز كبيرة، مديري الذي يتسلق فوق أعناق موظفيه، ويحصل على كل المزايا بسرقته لأفكار الآخرين (لم يهنأ بسرقتي أبدًا، فأنا بلا أفكار)، زوجة جاري التي حاولت قطف وردة عذريتي وعندما امتنعتُ أشاعت أنني ليس لي في النسوان أو على الأقل شاذ جنسيًا، البنت التي لعبت بي لتغيظ حبيبها، ثم رمتني وتزوجته، الذين ينظرون لي في الشارع بعدائية، وفي طابور الخبز بكراهية... هل ستكفي الرصاصات السبع؟!

اللعنة على تشيكوف!

أبي يعيش معي في البيت نفسه، وأنا وحيد، وليس لي جارة، وعاطل، لكن يجب أن أخلق لي قصة بأشخاص وحودايت تليق ببطل يهديه القدر مسدسًا في أرضية توكتوك.

  • انظر في المرآة يا حمار!

صدم صوته النحاسي أذني، نظرت إليه وأنا أخفي المسدس بين فخذي، كان يسب سائق سيارة نصف نقل، لكنني نظرت في مرآة التوكتوك عملًا بنصيحته، نعم، هذا هو عدوي الحقيقي، الجحيم ليس فقط الآخرون يا عم سارتر، جحيمي الحقيقي هو أنا، عقدة أوديب التي جعلتني أفعل ما لا أستطيع أن أتذكر حتى تفاصيله المخزية، بل عقدة ألكترا هي ما دفعتني إلى ذلك، فرويد كان ضحلًا، هناك عقد أخرى كثيرة لم يعرفها هي التي جعلتني أخرق كل الوصايا العشر، لكنني الآن أتوب في هذا المكان القميء، وعلى أنغام هذه الموسيقي المدمرة، ناظرًا إلى قفا ذلك السائق الغبي، ليس أنسب من ذلك الجو للتوبة لمثلي.

اللعنة مرة أخرى يا تشيكوف!

لو ظللت هكذا سأجتر كل ما قرأت من روايات وقصص، وما شاهدت من أفلام، لكي أخلق لنفسي حياة روائية، لكن...

  • أين المكان بالضبط يا أستاذ؟
  • على طول، استمر.

لماذا لا يكون الأمر بهذه البساطة، أنا شخص عادي، وجد مسدسًا في توكتوك، وأنا مجرد راوِ مشارك، ولست بطلًا، البطل الحقيقي هو القائد الذي يسير بي، هو لا يعرف إلى أين سنذهب، لكنني أيضا لا أعرف، هذا الموقف يليق ببطل تراجيدي حليق الرأس، تخترق رأسه سبع رصاصات متتالية من أسفل إلى الأمام، وربما ست رصاصات فقط، ليحتفظ الراوي لنفسه برصاصة ينتحر بها، أو يغازل بها فكرة الانتحار ليهدأ صوت ضميره، كل ما أحتاجه الآن يدٌ ثابتة تضغط على الزناد بقوة وسرعة...

الراوي العليم: لاحظ السائق فوهة المسدس التي تحملها يد مرتعشة، فأوقف التوكتوك بفرملة سريعة، انقلب التوكتوك، فاصطدم بعربة طماطم، انقلبت، فامتلأت الأرض بدماء الطماطم، بينما سُمِع صوت سبع رصاصات تنطلق، وشوهد الراوي وسائق التوكتوك يتعاركان من منهما يمسك بالمسدس. وفي عمق المشهد يقف بعيدًا تشيكوف، يضرب كفًا بكف، لأنه تحدث عن مسمار فقط، ولم يخطر مسدس بسبع طلقات في باله مطلقًا.