تختلف الرؤى بين البشر عن مخلوقات الله الأخرى، المشاركة لنا فى الكون، من ينتقيها ومن يقتلها، من يدللها، فقد خلق الله لكل إنسان رؤى وفق ثقافته وما يحمل من شعور وأحاسيس.

حين يغنى النمل

صفاء عبد المنعم

 

لم يعد الجاز نافعاً!

جربت أمي كل الحيل القاتلة للنمل، ولا فائدة.ما زالت تسمع أصواتهم الضعيفة تأتي إليها فى نومها، وحركاتهم الدؤوبة النشطة، وتكتلاتهم المرعبة.

كل يوم فى الصباح.

وأنا أتناول أدوات المكتبة كى أذهب إلى العمل، تقول لي أمي بصوت ملئ بالحزن والغضب :

النمل ما زال يحتل البيت يا هدى.

أضحك، وأنا أداري خجلي الزائد من حديثها يومياً عن أسراب النمل وتكتلاتها، وأصوات غنائها المزعج كما تتوهم أمي، وترفع صوتها بيقين قوي.

- النمل سيحتل الأرض ومن عليها.

وانا أضع قبلة رقيقة فوق رأسها. تطلب منى أن أذهب إلى بائع المبيدات الحشرية بوسط البلد القريب من جامع كخيا.ابتسم وأكظم غيظي.

- يا أمى هذه المبيدات قوية وقاتلة، وقادرة على قتل جميع حيوانات الغابة، وليس هذا النمل الصغيف، وربما تضر بدجاجتك وكتاكيتك الصغار.

تتجه بنظرها نحو باب الشقة وهى غاضبة مني. أقبل رأسها مرة أخرى.

- حاضر يا ست الكل، من عيني.

ثم أتجه نحو الباب حاملة حقيبتي الثقيلة.

تمد يدها تربت على كتفى بوهن.

- وحياة النبي يا هدى أوعي تنسي، أنا مش بنام يا بنتي من صوتهم المزعج.

أنظر نحوها فى جحوظ ملحوظ.

- صوت مين يا ماما؟

- صوت النمل يا بنتي، طول الليل غناء وصراخ مزعج.

لأول مرة فى حياتي أعرف أن للنمل صوت، ومزعج، ويغني أيضاً، هذا الكائن الضعيف، المسالم، الدقيق، الرقيق، الدؤوب، النظيف، المنظم.

- هل للنمل صوت يا أمي؟

- صوت غناء.

اسمعهم كل ليلة يغنون فرحين بأنتصارتهم علي.

أربّت على يدها، بيدي الأخرى.

- ولا يهمك يا قمر.

حاضر بعد الأنتهاء من العمل، سوف أشتري لك أقوي مبيد حشري.

ثم أحمل حقيبتي، وأخرج، أنتبه فجأة إلى صوت غناء رقيق.

أنظر أسفل قدمي، أرى كتل كثيفة من النمل تتحرك بهمة ونشاط بجوار الحائط، وهم يغنون.

لقد سمعت صوت غنائهم الضعيف، فرحت وأندهشت كثيراً.

فى المساء.

عندما عدت من العمل، كنتُ أحمل داخل حقيبتي الكبيرة، كيس سميك من البلاستيك، بداخله زجاجة مبيد حشري قوي من شركة المبيدات الزراعية التى قالت عنها أمي.

أنا أعرف هذا المبيد جيداً، أنه لا يقتل النمل الضعيف فقط، ولكنه قادر أن يقتل حيوانات الغابة المفترسة.

عندما فتحت باب الشقة ودخلت، نظرت أسفل قدمي فى الشقوق الخفية بعيداً عن نظر أمي الضعيف.

رأيت أسراب من النمل، تسير فى أنتظام رهيب، وهمة ونشاط، تحمل فوق رؤسها الصغيرة فتات الخبز.الغريب فى الأمر، أنني رأيت بعد دقائق طابور كبير من النمل يحمل فوق رأسه نعشاً أحمر كاملاً (إنه نعش أمي) لا، لا، لا يمكن، أخذتُ أمعن النظر أكثر، نعم أنه هو، خفتُ خوفاً رهيباً، أخذتُ أتمعن فى حركة السير المنتظم، والحمل الثقيل الذى فوق رؤوسهم، تأنيتُ قليلاً وأنا أغلق الباب بعد خروجهم فى أفواج منتظمة.

وعندما لمحتني أمي أتية من الصالة، وهى كانت تقف بالقرب من المطبخ وفى يدها بخاخة ممتلئة بالجاز، ورائحة البيت لا تطاق. ضحكتُ، وأنا أعطيها الزجاجة.

- يا ماما، أحنا اللى هنموت مش النمل.

وجريتُ بأقصى سرعة، فتحت البلكونة، وجميع نوافذ البيت، وباب الشقة أيضاً.

كان طابور النمل المجتهد المنظم، والذي يحمل على عاتقه نعشاً كبيراً، أقترب من الباب خارجاً، وهو يحمل النعش الأحمر الثقيل فوق أكتافة الضعيفة. للعجب الشديد، أني سمعت صوت غنائهم، وأنا التى كنتُ لا أصدق أمي فى كلامها.

نعم سمعت صوت الغناء خارجاً من داخل حناجرهم، كى يخفي ضعفهم، ويحفزهم على مواصلة العمل الشاق.

كان من الممكن، أن أقوم بهرس طابور النمل الطويل بما يحمله، أسفل قدمي، ولكننى لم أفعلها.

وعندما سمعتُ صوت الغناء، توقفتُ عن هذا الفعل القبيح والشنيع، وهو هرس الضعفاء بقدمي.قتل حشرة بريئة، تريد أن تعيش الحياة على طريقتها.

وعلى الفور، توجهتُ نحو زجاجة المبيد القوي التي أحضرتها اليوم، وقمت بتفريغها فى حوض المطبخ، وتركت السائل الأبيض القاتل، يسيل داخل البلوعة، وفتحت صنبور الماء فوقه، ثم ملأتُ الزجاجة بعد غسلها بالماء، ووضعتها داخل الكيس الأسود السميك، فى مكانها أسفل حوض المطبخ.

كانت أمي تطل على دجاجاتها داخل العشة المعلقة فى بلكونة الشقة، وهى سعيدة، وتغني لهم أغانيها المفضلة.

الآن سوف تنعم أمي بالنوم، بليلة هادئة دون أزعاج من صوت غناء النمل.

دخلتُ حجرتي، وخلعتُ ملابسي، وحاولتُ أن أنصت جيداً لصوت النمل وهو يغني حاملاً طعامه إلى مكان جديد.