يرى الناقد المصري أن المقاربة التداولية الإدراكية لهذه الرواية ستكشف عن بدايات تكوين وعي كل من السارد، وشخصيته الرئيسية بكل من المرجع المكاني/ القلعة، وبتكوين موقف المواءمة السياقية ضمن تجربة للتفاعلات الدماغية الإدراكية، فضلا عن دلالات تسلسل أفعال الكلام في الخطاب، وإنتاج المماثلات الاستعارية ضمن الاستعارات الإدراكية المتضمنة فيه.

المواءمة السياقية في رواية «السيد العميد في قلعته»

لشكري المبخوت، مقاربة تداولية إدراكية

محمد سمير عبدالسلام

 

"السيد العميد في قلعته" رواية حديثة للروائي والأكاديمي التونسي المبدع د. شكري المبخوت، صدرت عن دار التنوير بالقاهرة 2022؛ ويتناول السارد فيها السيرة المهنية، والفكرية – الإدراكية للشخصية الرئيسية / السيد العميد انطلاقا من المنظور التجريبي للمرجع المكاني / القلعة، أو الكلية المملوءة بالأصوات المتصارعة الملتبسة بالغموض، والتحول الدينامي في علاقات القوة الداخلية من جهة، وعلاقات القوة الثقافية أو التي تتصل بالتداخل، أو التوافق النسبي، أو التعارض بين سياسات الكلية وقرارات الوزارة من جهة أخرى؛ ومن ثم فالمرجع المكاني / القلعة يقع في قلب المؤشرات السياقية ذات الأهمية في موقف التواصل بين كل من السارد، والمروي عليه وفق نظرية الصلة عند سبيربر، وويلسون؛ فالعميد يعاين صراع الأصوات، والمصالح، والأيديولوجيات، والأصوات النسائية الغامضة المتناقضة التي تمزج بين القرب الشديد، والتأجيل أو تحقق التعاطف، والغياب معا؛ ولم يكن للعميد أن يدرك مثل هذه الصراعات، والتحولات، والأصوات التي تجمع بين الظهور، والاحتجاب إلا من خلال التجريب في المرجع المكاني / القلعة، وتناقضاتها الداخلية بين الصخب، والغياب المتكرر، والمواءمة السياقية بوصفها موقفا أيديولوجيا وسطيا يتخذه العميد ليدير علاقات القوة باتجاه الحكمة النسبية، والاستقرار، ولكن ضمن استمرارية التحولات، والصخب الممزوج بالفراغ في المشهد الواقعي / الخيالي للقلعة.

وأرى أن موقف المواءمة السياقية – بوصفه مؤشرا ذا أهمية في موقف التواصل بين الراوي، والمروي عليه – يدل على انحياز الخطاب السردي للتجريب؛ لأن السياق صار موضوعا للإدراك، وتكوين رؤية واعية في المستوى الأعلى من التفاعلات الإدراكية في الدماغ داخل سياق ثقافي آني أوسع يحتمل تجدد تلك المواءمة بصور أخرى في عالم المروي عليه المعرفي، وفي مواقفه واستجاباته لتحولات القوة المغايرة؛ وقد لجأ العميد لهذه المواءمة السياقية التي تقوم على الجمع بين الإخفاء، والحلول الوسطية التي تتجنب التصعيد في موقفه من فتاة الميل الغامضة، والقضايا النقابية، ومشاكل الانتخابات، والامتحانات، والصراعات الأيديولوجية بين فئات الطلاب، ومواقف بعض الأساتذة، وكذلك في إدارة لعبة تباين مواقف العميد، والوزارة أحيانا، وفي إمكانية تجديد سنوات العمادة مع سؤالي التخلي، الرغبة في معاينة التحولات الممتدة فيما وراء بنية القلعة / الكلية؛ ورغم أن الخطاب يوحي باستمرارية معاينة تناقضات القلعة، وأصواتها؛ فإن هذه الأصوات ستبدو شبحية في موقف التذكر، أو في التصور المكاني للشخصيات، والأحداث فيما وراء نهاية فترة رئاسة العميد للكلية؛ وكأن سؤال التخلي الأخير الذي تجلى في فعل الكلام التوجيهي المتعلق بالتساؤل عن إمكانية العودة إلى القلعة يشير إلى امتداد المواءمة السياقية كموقف يتجلى في ذكريات الأصوات الشبحية للمرجع المكاني، وفي المواقف الحياتية المحتملة في المستقبل؛ ومن ثم يضمر الخطاب فعلا كلاميا تعبيريا آخر ينحاز لتلك المواءمة، وآخر وعديا يتصل بإمكانية تحققها ضمن علاقات مختلفة للقوى الاجتماعية والثقافية المحتملة في مستقبل شخصية السيد العميد؛ وتتصل هذه الأفعال الكلامية بمدى تحققها المعرفي، أو الاستجابات النشطة المولدة عنها لدى المروي عليه؛ ففعل الكلام التوجيهي السؤال عن إمكانية تجديد فترة العمادة يؤدي إلى تحوير معرفي في وعي المروي عليه يتصل بامتداد موقف المواءمة السياقية في كل من السياق اليومي، وفي تطور القلعة العلمي والثقافي في المستقبل، أو في حضورها كفضاء ذهني استعاري متخيل في وعي الشخصية، ووعي المروي عليه بوصفه مستقبلا نشطا للخطاب؛ وقد يتحقق لازم فعل الكلام في تكوين المروي عليه لاستجابة إدراكية نشطة مبررة منطقيا للسؤال من داخل دلالات مسيرة شخصية العميد المهنية، أو يقوم بتعديل موقف فكري مشابه وسطي ضمن حياته اليومية؛ أما فعل الكلام التعبيري فقد يقوم بتعديل أفكار المروي عليه حول استخدام النماذج العقلية في قراءة السياق؛ وقد ينتج فعل الكلام الوعدي انتظارا لدينامية موقف المواءمة ضمن مؤشرات سياقية – إدراكية مغايرة، أو محتملة في الفضاءات الاستعارية المناظرة لفضاء القلعة التجريبي.

وأرى أن المقاربة التداولية الإدراكية لرواية السيد العميد في قلعته ستكشف عن بدايات تكوين وعي كل من السارد، وشخصيته الرئيسية بكل من المرجع المكاني / القلعة، وبتكوين موقف المواءمة السياقية ضمن تجربة فائقة للتفاعلات الدماغية الإدراكية، فضلا عن دلالات تسلسل أفعال الكلام في الخطاب، وإنتاج المماثلات الاستعارية ضمن الاستعارات الإدراكية المتضمنة في الخطاب، ودرجة تجلي الهارموني، أو لحظات الانفصال في بنية المحادثة وفق المبدأ التعاوني لبول غرايس؛ إذ لا يمكننا قراءة أصوات الشخصيات – ضمن خطاب السارد – إلا من خلال لحظات الاختلاف، والصمت، والتوافق، والتحول في سياق علاقات القوة داخل القلعة، وتنازع القوى الثقافية خارجها؛ فضلا عن تجلي الأصوات نفسها كنغمات داخلية – كونية في حالات التذكر، وأحلام اليقظة، وازدواجية الحياة والموت، والوجود الطيفي المصاحب للصخب اليومي القديم المتجدد؛ وهو ما يثري مدلول السياق، ومؤشراته، ودوائره الإدراكية الممكنة التي قد تتسع في موقف تلقي الخطاب، وتستلزم وجود علامات فنية، أو مفاهيمية مستمدة من التراث الثقافي العالمي، وإمكانية تجدده في المرجع المكاني المحلي.

يشير السارد – في بدايات الخطاب – إلى توصيف الكلية بالقلعة، ويومئ إلى دلالة الاحتجاب النسبي، وانفصال لغتها العلمية الخاصة؛ ولكن استخدام السارد للفظ القلعة يدل على إثبات دلالة الغموض، والظلمة النسبية التي تغلف تناقضات الأصوات، وصراعاتها التي ستتحد في المستقبل بالفراغ، أو الغياب؛ كما يشير أيضا إلى تجلى فتاة الميل في سياق القرب المفرط، وتأجيل الهوية في آن؛ وكأنها صوت نسائي شبحي يشبه سيرينات هوميروس في ملحمة الأوديسا؛ ومن ثم يستلزم الموقف هروب أودسيوس / العميد المؤقت من ذلك الاقتراب الزائف الممزوج بالظلمة، والفراغ؛ وأرى أنه لا يمكن إزالة الإبهام عن كل من علامتي القلعة، والفتاة – بصورة مفاهيمية - إلا من خلال التأشير اللاحقي / الكتافورا في وحدة الخطاب؛ فالاحتجاب الذي يذكرنا بغموض القلاع الرومنسية القديمة في البدايات، يتصل بإدراك العميد الأخير لخصوصية المكان التي تمثلت في امتداد صخبه، وتحولاته، وتناقضاته، وصراعاته الأيديولوجية في الذاكرة، وفي حلم اليقظة؛ أما غموض فتاة الميل(1) فيتكشف تدريجيا في التباس الحب بالظهور المفاجئ المقترن بالغياب؛ مثل تجدد حبه لربيعة، ثم موتها؛ ومن ثم فالفراغ يكمن دائما في ذلك القرب الشديد المؤجل.

ويمكننا الإفادة من النتائج الراهنة لعلم الأعصاب الإدراكي في تفسير التدرج في تكوين رؤية عن المكان / الكلية، وفي اتخاذ القرار وفق استجابة واعية ومنتجة لموقف المواءمة السياقية في رواية السيد العميد في قلعته ل د. شكري المبخوت؛ إذ يؤكد فيكتور أ. ف. لامي – في دراسته المعنونة ب هل يكشف علم الأعصاب الطبيعة الحقيقية للوعي؟ - أن الوعي يتشكل بعد مجموعة من التفاعلات القشرية المتكررة في الدماغ؛ وتستدعي هذه التفاعلات العمليات المتعلقة بتكوين الذاكرة، والمؤسسة لتكوين التجربة الواعية؛ ويميز لامي بين أربعة أنواع من المعالجة المتكررة للبيانات البصرية؛ وهي معالجة سطحية غير واعية تتعلق بتنشيط عدد محدود من المناطق المرئية، ومعالجة عميقة غير واعية؛ وينشط فيها المحفز كلا من المنطقة المرئية المنخفضة، والعالية، والمناطق الحركية وقشرة الفص الجبهي، وقد يؤدي إلى استجابة دون استلزام لحدوثها؛ أما المعالجة الثالثة فهي سطحية متكررة واعية؛ وتحدث في ظل وجود منافسة بين بعض الكائنات، وينتظم فيها الإدراك دون ضرورة لحدوث الاستجابة؛ أما المعالجة المتكررة الأخيرة فهي عميقة واعية، وتحدث ضمن تفاعلات واسعة النطاق ضمن الهياكل الأمامية، والجبهية، والحركية، ويتم الاحتفاظ بها ضمن الذاكرة العاملة تحت السيطرة الواعية اليقظة.(2).

هكذا تفيد دراسة المعالجة المتكررة للبيانات البصرة – في خطاب فيكتور لامي عن دور علم الأعصاب الإدراكي في فهم الوعي وإنتاج استجابة متعلقة بالتجربة الواعية – في فهم تدرج تكوين الخبرة الإدراكية حول المرجع المكاني، أو الشخصي، أو اتخاذ قرار لا يمكن تكوينه إلا من خلال التفاعلات الواسعة المعقدة – في مناطق الدماغ المختلفة – ضمن المعالجة الواعية العميقة المتكررة؛ وهو ما نعاينه في خطاب سارد شكري المبخوت حول القلعة في البداية؛ فالخطاب يستلزم مجموعة من أفعال الكلام التمثيلية الضمنية التي تتعلق بالاحتفاظ الأولي ببعض العناصر المرئية في بنية القلعة؛ وهي بساطة التكوين، وبعض المعلومات عن وجود نشاط علمي، ثم تتطور معالجة البيانات البصرية في المعالجة غير الواعية العميقة إلى إمكانية تكوين استجابة إدراكية آلية في نطاق أوسع قد يتضمن قدرا من خصوصية المكان البنائية والعلمية، والثقافية، أو وفق عناصر مرئية أوسع من مؤشرات السياق، دون عمق واع أو تحليلي، ثم تتطور الخبرة الإدراكية العصبية في المعالجة الثالثة السطحية الواعية إلى استدعاء نماذج تفسيرية ومماثلات، وتجميع لعناصر مرئية منتخبة وبدايات تكوين رؤية واعية؛ وقد تجلت هذه المعالجة في تأملات العميد التفسيرية للبيانات البصرية في الكلية وفق مواقفه العلمية المتحررة الوسطية الأسبق من وجوده في المكان، وانحراطه في التجربة السياقية؛ أما المعالجة الأخيرة الفائقة/ العميقة الواعية فتتعلق بالاحتفاظ بالبيانات البصرية في الذاكرة العاملة والتوسع في إنتاج رؤية واعية تنبع من السياق الآني نفسه، مع التوسع التفسيري في إدراك التناقضات، والتعارضات، والتباس الأصوات بالفراغ، والأصوات الشبحية في الذاكرة وحلم اليقظة؛ ومن ثم يزول نسبيا الاحتجاب الخاص بالمرجع المكاني ضمن خصوصية التناظرات التفسيرية في بنيته الخاصة؛ وهذه المعالجة الإدراكية المتكررة الواعية العميقة هي نفسها التي أنتجت الاستجابة، أو اتخاذ قرار الإخفاء وعدم التصعيد المباشر لمشكلة الامتحانات، ومشكلة تجديد قرار العمادة؛ وتتعلق بالمزج بين موقف التوسط العلمي الحواري الحر الأسبق من الإدراك الواعي للعناصر ذات الأهمية في سياق موقف التواصل؛ والمعالجة الواسعة للبيانات البصرية التي قد تفترض المماثلات الاستعارية والمفاهيمية الواسعة التي تذكرنا بذكرياته عن باريس القديمة، والتي قد تستدعي -– في عملية استقبال الخطاب  - العودة إلى لوحة مدرسة أثينا لرافائيل مثلا؛ والتي تجسد تكوينات التعاطف الإنساني العقلاني الدائري الذي ينفتح فيه المكان على فضاء أرحب لا ينفصل عن الأخيلة، والفرضيات التي تقع بصريا ضمن الكتب، والكلمات؛ ومن ثم تقتضي المواءمة السياقية العقلانية دمج مؤشرات السياق الفعلي بتلك الصورة المتعلقة بالتفكير العقلاني الممزوج بالتعاطف القديم المتجدد نفسه في بنية اللوحة، ودلالاتها.

ويمكننا أن نستنتج استعارة إدراكية ضمنية – في الخطاب السردي – تتصل بالمماثلة المفاهيمية بين القلعة، ورقعة الشطرنج؛ فالسارد يوحي بتلك المماثلة في سياق صراع الأصوات، والأفكار، وعلاقات القوة الثقافية داخل القلعة؛ ومن ثم تتشكل الاستعارة الإدراكية، وما تتضمنه من فضاء المزج – وفق التصورات المنهجية الإدراكية في تصور فوكونير، ولاكوف، ومارك تيرنر – بين فضاء القلعة/ فضاء الإدخال الأول، وفضاء رقعة الشطرنج بوصفه فضاء للصراع التمثيلي الدينامي / فضاء الإدخال الثاني؛ وسيصير المجال العام هو المجال المكاني / الثقافي؛ أما الصلات المفاهيمية بين فضاء الإدخال الأول، وفضاء الإدخال الثاني فتتجلى في دينامية الصراعات، والتحولات التمثيلية بدرجات متفاوتة بين الفضاءين، وتعددية القوى الفاعلة الممزوجة بغياب محتمل، وتداخل الخروج من المكان اللعبة مع الدخول الافتراضي الآخر / تجدد أصوات المعركة الشبحية في الحلم والذاكرة؛ أما فضاء المزج الإدراكي فيتشكل ضمن مساحة تجريبية تجمع العقلانية الحرة، وصخب المعارك القديمة المتجددة، وتراكم طبقاتها في المشهد الجمالي/ الثقافي.

وأرى أن الحجة الاستدلالية الرئيسية المتضمنة – في خطاب سارد شكري المبخوت – تتعلق بالصحة النسبية لفرضية الذات بالمكان بوصفه مجالا ديناميا من التحولات، وتدافع علاقات القوة الثقافية اللامركزية؛ ومن ثم تصير النتيجة هي احتمالية حدوث استجابة عقلانية ضمن تعقيد المشهد التعددي نفسه؛ ومن ثم يصير موقف المواءمة السياقية هو أحد الفواعل الرئيسية في عملية إعادة بناء علاقات القوة وتجددها بين الواقع اليومي، والحلم، والذاكرة.

ونلاحظ أن المحادثات – في الرواية – قد اتسمت بكثرة الأسئلة، والاستطرادات الكمية التي تدل على الجدل المنطقي، ومحاولات الإقناع، وإنتاج استجابة المواءمة الواعية؛ ومن ثم للاسطراد ما يبرره كميا في ذلك السياق؛ أما لحظات التساؤل والصمت فتعكس التعددية والاختلاف في بنى الأصوات، والاتجاهات الفكرية، والتي لا يمكن أن تتصل ببعضها ضمن علاقة هارموني جزئية إلا من خلال موقف المواءمة العقلانية للسياق التجريبي.

هامشا الدراسة:

(1) راجع، د. شكري المبخوت، السيد العميد في قلعته، دار التنوير بالقاهرة، 2022، وموقع أبجد، صفحات 5، 174، 175، 200، 622، 628.

(2) Read, Victor Lamme, Can neuroscience reveal the true nature of consciousness? On Academia at: https://www.academia.edu/70928007/Can_neuroscience_reveal_the_true_nature_of_consciousness

                                      msameerster@gmail.com