ما زال النص القرآني رافدا مهما ومؤثرا من روافد الشعر العربي، وهنا يرصد الباحث هذه الخاصية تنظيرا علميا، ويطبقها عند شاعر عراقي مبدع، فهل نجح الشاعر في التوظيف والمغايرة الدلالية؟ هذا ما سنقرأه في البحث.

التناص القرآني في شعر عبد الزهرة يوسف

قراءة ٌفي التوظيف والمغايرة الدلالية

حسام حـمد جـلاب

 

يعد الشعر  تشكيلاً تعبيرياً خاصاً على مستوى البناء والوصف والرصف , وهو بالمقابل تشكيل ٌ يخضع لمحددات أسلوبية نوعية توصف بالخاصة  , تشتغل عملية الخلق الشعري فيه عبر رفد الصورة المكوّنة بموجهات سياقية تارة ونصية تارة أخرى بتقنية فنية  بحسب المقاصد والغايات , فالصورة الشعرية تشتغل على رسمها وإظاهرها  محددات عديدة ومؤثرات مختلفة  , كون الشاعر قد أدرك أنّ الشعر هو تأثّر وتأثير عبر استدعاء سياقات معرفية  ومزجها و النسيج المخلوق , يعمل الشاعر على سحب واستدعاء وتمثل تلك السياقات وانتقاء  ما هو جميل وعالق في ذاكرته , ليسهم بطريقة مغايرة لإنتاج صور شعرية تثير المتلقي , محققاً الدهشة , فالشعر بوصفه نصاً ثقافياً معرفياً هو نتاج ثقافة متراكمة للشاعر , يستدعيها لحظة الإبداع , ليحقق المتعة والدهشة عند المتلقي .

     ويعد القرآن الكريم مصدراً معرفياً استقى منه الادباء بعامة والشعراء بخاصة على مستوى   اللفظ و الصورة والرصف والتشكيل  , فصار تأثيره في نتاجهم واضحاً جليّاً , يُسْتدعى طلباً للمعنى والدلالة والمضمون الشعري , فهو ليس استدعاءً هامشياً  , وإنَّما يمثل ركناً رئيساً من أركان تكوين الصورة ومصدراً معرفياً وموجهاً سياقياً ونصياً في الوقت نفسه  , والبحث يدرس ظاهرة أسلوبية  في شعر ( عبد الزهرة يوسف ) وهي ( التناص القرآني ) , إذ نزع الشاعر على وفق رؤية شعرية خاصة على استدعاء بعض النصوص القرآنية , ليصهرها في منتجه الشعري لينتج صوراً شعرية ذات مرجعية تراثية  , كانت حاضرة في ذاكرة الشاعر ساعة  رسمه للصور الشعرية فعمد إلى استدعاء اللفظ القرآني استدعاء مباشراً وغير مباشر وكذلك عمد إلى تناص الصورة القرآنية ذات البعد الفني وجعلها منصهرة وممزوجة بصوره تصريحاً  وتلميحاً , غير غافل جمالية القصة القرآنية وبيانها , فكانت ماثلة وحاضرة في ذهنه  فأسهمت في عملية التوصيف الشعري في مواضع ليست بالقليلة , فالغاية من البحث هو الكشف عن ذلك الأثر المعبر عنه ( بالتناص القرآني ) في شعر عبد الزهرة يوسف .

 

 

 المبحث الأول (( في التناص القرآني ))

على الرغم من تعدد الدراسات النظرية حول التناص إلاَّ أنَّه كمصطلح وإجراء كان محل اختلاف الباحثين حوله , إلا أّنَّ الآراء تكاد تكون متفقة على أنه يعني ولادة نص من نصوص أخرى سابقة , إذ يدخل في علاقات كثيرة متداخلة في إنتاج عدد أكبر من النصوص ([1])و يعد ( ميخائيل باختين ) أول من استعمل مصطلح الحوارية للدلالة على تقاطع النصوص والملفوظات في النص الروائي الواحد فضلا عن استعماله بعض المصطلحات التي تقترب دلالياً والتناص كتعددية الأصوات وتعددية اللغات التي تلتقي ومفهوم الحوارية عند النظر الى النصوص , وبذلك يكون هو أول من صاغ نظرية  تداخل النصوص وتقاطعها ([2]) وهذا يعني أن التناص يقوم على أساس حدوث علاقة تفاعلية بين نص سابق ونص حاضر لإنتاج نص لاحق ([3]) ويرى عبد الله الغذامي إن التناص (( يصنع من نصوص متضاعفة التعاقب على الذهن , منسحبة من ثقافات متعددة ومتداخلة في علاقات متشابكة من المحاورة والتعارض والتناقض )) ([4])

        إلّا أنَّ هذه العلاقة القائمة بين النصوص هي خاصية مرتبطة بالمتلقي وملازمة له ويتم ذلك بالاعتماد على ما استقر في وعيه وما حفظته ذاكرته من نصوص سابقة ومخزونة وبذلك يكون التناص عملية تحاور طائفة من النصوص وتضافرها لإنشاء نص جديد على انقاضها , فكل نص يلامس ويشرّب بنصوص أخرى ([5]) ويحدث ذلك كله معتمدا على قوة ذاكرة القاري / المتلقي , فالمبدع لا يشير الى الجزء المنسوخ وهذا يتوجب عليه الوقوف والتأني بدلالة أجزائه وهذا الأمر يتطلب من القاري / المتلقي كذلك التأويل وما فوق التأويل كونه عملية بنائية تتطلب الوعي التام بالتفاعل العميق الذي يقيمه المبدع  بين النصوص وبوعي ودراية تامتين ([6]) وإلى هذا المنحى والفهم لماهية التناص يؤكد رجاء عيد على هذه المسالة إذ يرى أن المتلقي (( يحتاج الى خبرة عميقة بالنصوص الأدبية , وهذا الحضور يحتاج إلى فراسة وتتبع والى بصيرة وتبصّر , فقد تندمج البيات المتناقضة في بنية نص كإحدى مكوناته ولا يدركها سوى القاري المنفتح في قراءاته على نصوص متعددة )) ([7])

        أما الناقد الفرنسي ( جيرا جنيت ) فقد طوّر هذا المصطلح وعمقه ووسعّ آفاقه، وعرّفه ((  بعلاقة حضور متزامن بين نصين أو أکثر أو هو الحضور الفعلي لنص داخل نص آخر»، وأدرجه في تصنيف للعلاقات النصية المفارقة التي أجملها في أصناف خمسة هي: الاستشهاد والسرقة، والنص الموازي، والوصف النصي، والنصية الواسعة، والنصية الجامعة، وهو يری أن التناص کل ما يضع النص في علاقة صريحة أو مخفية مع نصوص أخرى )) ([8])

وبناء على التوصيف النظري والإجرائي للتناص , يفهم أنه علاقة قائمة بين نصوص لا حصر لها , تنتمي هذه النصوص المتعددة الى ثقافات مختلفة , والأديب البارع يستدعيها على وفق مقتضيات المعنى والدلالة , يستدعيها بوعي وادراك على وفق عملية تعبيرية تقوم على صهر المعاني وتداخلها لإنتاج نص جديد وكل ذلك يتم على وفق شرائط متعلقة بالمتلقي / القاري , وعلى درجة وعيه وثقافته وقوة ذاكرته فالمتلقي حينما يقرأ النص يستحضر عدداً من النصوص ومن خلال ذلك الاستحضار التلقائي يمسك بالمعنى ويحيط بالدلالة لأن التناص هو (( نسيج من الاقتباسات المنحدرة من أصول ثقافية متنوعة , فالكاتب لا يمكنه إلا أن يقلد ما تقدم عليه من أفعال والتناص الذي يدخل في كل نص لا يمكن أن يعد أصلاً له , والبحث في أصول الأثر والمؤثرات التي خضع لها النص هو  رضوخ لأسطورة السلالة والانحدار ))([9]) سلالة المعنى والدلالة , فالكتاب ( المؤلف ) لا يمكن أن يكون صانعاً للنص على وفق هذا التصوّر , كون النص يخضع لمجموعة من المعاني المنحدرة من نصوص لا حصر لها .

        أمّا التناص القرآني  فيراد منه ذلك  (( التعالق الواعي بين المبدع والقرآن ... فيعطي ثقلاً أدبيا للعمل الأدبي  )) ([10]) كون النص القرآني يمثل أعلى النصوص فصاحة وبلاغة , من حيث طريقة النظم وأسلوب الرصف وآلية التصوير , وكيفية المعالجة , ناهيك عن الدقة في استعمال اللفظ والتركيب , لذا كان النص القرآني محط عناية الشعراء , نهلوا منه وتأثروا به , فجاء التأثير واضحاً جلياً على مستوى الصورة أو اللفظ والتركيب. فجاء الاستدعاء القرآني ليعكس بطريقة أو بأخرى ذلك الأثر في منجزهم الشعري ([11]) والنص القرآني بقصصه وألفاظه ولغته يعد من أكثر المصادر المعرفية تأثيرا في المضامين الشعرية قديما وحديثاً , ولعل وراء هذه العناية في توظيف النص القرآني ما يمثله من خصوبة وعطاء متجددين للفكر والشعور ([12])

       ومن هنا أدرك الشعراء أن استحضار المعاني والصور القرآنية في نصوصهم الشعرية يكسب الصياغة الأدبية رونقاً وجمالاً ([13]) بيد أن الإستعانة بالنص القرآني في البناء الشعري، لا يعني عند  الشعراء  أکثر من توکيد الدلالة الشعرية للوصول إلی المعنى المرکّز، وهو ما يقابله الاستشهاد في النثر، لكنه في الشعر أکثر ترکيزاً وكثافة، وفيه تصرف، ولو طفيف، بالنص القرآني ليتساوق والنص الشعري ([14]) لينتج  تنويعاً  جديداً  علی الموقف نفسه ، يؤكد أن العلمية ليست مطلقاً عملية اقتباس لنصٍ من التراث، وانما هي عملية تفجير لطاقات کامنة في هذا النص، يستكشفها شاعر بعد آخر، کلّ حسب موقفه الشعوري الراهن . ولعلّ هذا يوضح لنا ان قراءة الشعراء المعاصرين للقرآن الكريم وتفاعلهم معه، في الوقف الذي تؤکد فيه ارتباطهم الصميم بالتراث، توضح لنا کذلك نوعية هذه العلاقة وتميّزها عن النظرة التقليدية إلی النص القرآني وطريقة تفهمه والتفاعل معه . انّها قراءةٌ أقلّ ما يقال فيها انها أکثر عمقاً وتدبّراً وأصالةً . ولعلها القراءة السليمة التي تجعل نصوص القرآن حيّة نابضة في الضمائر علی الدوام، لا مجرّد أصوات و كلمات مقيدة الدلالة  ([15]) كون الصورة الشعرية هي نتاج لمزج عناصر فنية وأدوات تعبيرية متباينة تنصهر كلها ,  لتعبر عن شيء واحد موحد , والصورة القرآنية لا تخرج عن معنى التجميل إذ من الصورة القرآنية تسلل المصطلح الى التراث الأدبي ([16])  

   ونخلص من ذلك كله إن التناص القرآني هو نتيجة لثقافة واعية للمبدع / الشاعر , إزاء نص توافر فيه اعلى مراتب البلاغة والفصاحة والبيان ( لفظاً وصورة ً وأداء ً )  يصهرها بطريقة فنية بنصه المنتج , لينتج صورة شعرية تستطيع أن تكسر أفق التوقع لدى المتلقي وتجعل التأثير في أعلى مراتبه , يستحضر النص القرآني استحضاراً فنياً جلياً واضحاً تارة وخفياً دقيقاً تارة أخرى , وعلى المتلقي إدراك ذلك كله لتكون الصورة الشعرية ماثلة عنده , ليكون التفاعل والانسجام ليحقق التواصلية المفضية الى التأثير , شريطة أن يكون (( استدعاء النص القرآني لا يقوم على التوظيف المباشر والتحرك في حيز دلالته وسياقه الذي ورد فيه , وإنما يقوم على أساس التعالق مع هذا النص قصد تطويعه والافادة من امكاناته المختلفة في مجال القول الشعري , فاتخذ التوظيف طابعاً خاصاً في التفاعل بين النص القديم والنص الجديد , معتمداً على الإزاحة والمغايرة الذي يمارسها النص الجديد عّما كائن في نسقه القديم وسماته الأدائية )) ([17]) ويتوقف حدوث ذلك على قدرة الشاعر على ذلك التمثل والاستدعاء المشروط بالوعي والادراك .

المبحث الثاني  (( التناص القرآني اللفظي )) :

أولا : ( التناص القرآني اللفظي المباشر ) : ويقوم هذا النوع من التناص على استدعاء النص القرآني مباشرة من غير تحوير أو إضافة , لتكوين عنصر المفارقة تارة والدهشة تارة أخرى , مازجاً المعنى القرآني بالمعنى الشعري على وفق نسق فني / جمالي , مصاغاً بطريقة بيانية وهذا يعني أن التناص المباشر هو (( عملية إعادة انتاج النص من حيث يتجلى فيه توالد النص وتناسله من جراء استقطاب عدد كبير من النصوص السابقة والمتزامنة في عملية تمازج نصوص وافكار وجمل ...وهذه العملية التناصية المتجلية في النص تقوم على وعي الكاتب , بحيث يتم فيها امتصاص وتحويل النصوص في عملية التفاعل النصي لإخراج نص جديد ويعتمد على استحضار نصوص بلغتها ونصها الآيات القرآنية والحديث النبوي الشريف والشعر ))([18]) وبذلك قد عمد الشاعر وهو يستدعي لفظاً أو تركيباً قرآنياً على تكوين صراع بين المعاني المعجمية والمعيارية وبين معانيها النحوية وسياقاتها الجديدة بعد استدعائها وادخالها في خطابه الشعري على وفق تشكيل تعبيري جديد ومغاير ([19]) فمن نماذج التناص القرآني المباشر قول الشاعر عبد الزهرة يوسف في مقطوعة له بعنوان ( دعاء ) :

شكرتً الله َ ودعوته

أنْ يزدني عشقاً فزادني

( لئن شكرتم لأزيدنكم ) ([20])  

بنيت الصورة الشعرية في هذه المقطوعة تناص مباشر من قوله تعالى : (( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ )) ([21])

  جعل الشاعر  زيادة العشق الكامن بقلبه مطلباً توجه به الى الرب المعبود , , فأدرك أن ذلك المطلب لن يتحقق من غير  ذلك الاستدعاء الصريح والمباشر , فكان نسقا تعبيريا ً خاصاُ , لجأ إليه الشاعر بوعي وإدراك , بيد أن المفارقة التي يمكن أن تكون ملحظاً أسلوبياُ هنا إن الشاعر قد شكر الرب قبل أن يحقق له ما طلب , إيمانا منه أن الشكر يكون لله سواء تحقق الطلب والدعاء أم لم يتحقق , فالترتيب الطبيعي للأفعال يكون (( دعوت ُ , شكرت  , زادني  )) , ألا أن الشاعر رتبها ترتيباً آخر على وفق مقتضيات الصورة والمعنى الذي ايصاله للمتلقي (( شكرتُهُ , دعوته , زادني )) , وبالرجوع الى الآية القرآنية التي استدعاها الشاعر قد سارت على النسق الترتيبي الأول , فاستدعاه الشاعر , فقدم وأخّر على وفق الضرورة الدلالية والمعنى القصدي  الشعري .  ومن الأمثلة الأخرى على التناص اللفظي القرآني المباشر قوله في إحدى قصائده :

أبحث عن عيون ٍ تضيّف دمعي

ومدار يطوي خلايا الرأس

في ذاكرتي وسمعي

أبحث عن ندمان

تملؤني بفراغ الكأس

وتشربني كالغسلين ([22])

إنَّ تداخل المفردة القرآنية (( غسلين ) التي وردت في القرآن الكريم مرة واحدة في قوله تعالى  : ((وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ )) [23]  في نسيج النص الشعري التي تعني  (( ما يسيل من جلود أهل النار)) ، كالقيح وغيره ليس مجرد تداعٍ ذهنيّ منفصل عن سياق النص، بل توظيف موفق رحب الدلالة. فقد عمد الشاعر إلی استخدام تقنية الفضاء اللفظي  التي تعد تقنية أسلوبية  يتكئ عليها الشاعر ,   ليبرز حالة نفسية خاصة به، ويأتي هنا دور المتلقي  في إيجاد تأويلات وتفسيرات  لمثل هذه التقنية  , إذ أورد المفردة القرآنية (( غسلين )  وترك بعدها فضاء نصّياً ، ليشرك القارئ في التجربة، ويستدرجه , ليكمل بنفسه بقيّة مضمون الآية القرآنية المتناصة . ليشكل صورة شعرية جديدة على وفق  ((تشكيل جمالي تستحضر فيه لغة الإبداع الهيئة الحسية أو الشعورية للأجسام أو المعاني بصياغة جديدة تمليها قدرة الشاعر وتجربته وفق تعادلية فنية بين طرفين هما المجاز والحقيقة دون أن يستبد طرفٌ بآخر))  ([24]) وهذا التشكيل الجمالي الذي حققه الشاعر في النص متاتٍ من ذلك التوظيف للفظة القرآنية التي استدعاها الشاعر , جاعلا ً من تلك اللفظة مركز الدلالة وأساس المعنى وعليه يتوقف فهم مقاصد الشاعر وغاياته , والكشف عن مكنونات نصه .  

ومن النماذج الاخرى للتناص القرآني اللفظي المباشر قوله في إحدى مقطوعاته الشعرية :

ربّ اشرح ْ لي صدرها

لتفقه إني أحبُها ([25])

ففي قوله ( ربّ اشرح ْ لي صدرها  )  تناص قرآني لفظي مباشر من قوله تعالى : ((قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي  )) ([26]) على لسان  نبي الله  موسى ، عليه السلام ، حينما بعثه الى فرعون , وعلى الرغم من كونه تناصا مباشرا ألا إن التوظيف مغاير , إذ اشتغل  الشاعر بتقنية فنية عبر استدعاء الصيغة القرآنية في كيفية الدعاء استدعاء مباشراً , فوجهه الدعاء الى ربّه طالباً منه أن يشرح قلبها لتدرك وتفهم حبه , والمقطوعة هنا تشير الى معاناة الشاعر من الحبيب الرافض , فلجأ إلى الدعاء دليلاً على ضعفه وقلة حيلته , فجاء التناص القرآني هنا متساوقاً وحالة الشاعر ولكن بتشكيل صوري / دلالي مغاير . فالدعاء في الآية جاء على لسان موسى عليه السلام لربه والسبب هو لقاء فرعون ( طاغية ) , وفي النص الشعري جاء على لسان الشاعر ليشرح صدر ( الحبيبة ) له , فجعل الشاعر بطريقة متضادة الحبيبة في قبالة فرعون .

 ومن النماذج الأخرى للتناص المباشر قوله في قصيدته التي بعنوان ((موسيقى الرمل والحصى )) , وفيها يقول :    

رملٌ واحتضار ٌ

ربما يكمنُ في بطنِ الحجارةْ

يرقونَ رؤوسَهم من صداعِ البنّائين

بآياتٍ من التبغ ِ والتمائم ِ

حيث يذوب الزمان

بين الغبار والخوف

من يوم عبوس قمطرير قادم ([27])  

فقوله ( عبوس قمطرير ) هو تناص قرآني مباشر من قوله تعالى : (( إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا )) ([28]) واليوم العبوس القمطرير هو اليوم الشديد , فالشاعر في هذه المقطوعة الشعرية كشف عبر توصيف صوري عن معاناة الطبقة الفقيرة من العمال , فبنى الصورة الشعرية بوساطة تشابك التشبيه بالاستعارة ( في بطن الحجارة ,  آيات من التبغ , حين يذوب الزمان ) , خاتماً تلك الصور بتناص قرآني , فما يفعله هؤلاء العمال , إنما هو من أجل الخوف من ذلك اليوم الشديد الذي استعار له الشاعر توصيفا ً قرآنياً ( عبوس قمطرير ) , لينتج معنى شعريا متكاملاً  , فإنها محاولة لاستحضار صورة ذلك اليوم  بالعودة إلى الجذور القرآنية ، إنها عودة الى جوهر الحقيقة  في الوصف الدقيق , فتم الربط بين المعنى الشعري والدلالة القرآنية بطريقة فنية .

ومن نماذج التناص المباشر قوله في إحدى قصائده :

حملتك قصائدي     

وهناً على وهن

وهربتك من ثقوبها

بثياب البحر

كأم ِ موسى

كي لا يشهد أحدٌ

إنّكِ ستقتليني ([29])

في قوله (( حملتك وهنا على وهن )) تناص قرآني مباشر من قوله تعالى : (( وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ )) ([30]) إذ تكوّنت الصورة عند الشاعر من خلال استدعاء هذه الآية المباركة  ولكن على وفق توصيف صوري مغاير , تشرب المعنى والصورة , فانتج صورة مركبة متعددة المكونات , فقد جعل من قصائده أماً لمحبوبته دلالة على قوة تحمل قصائده قساوة المحبوبة , فقد جعل نفسه ( قصائده ) في قبالة ما تعاينه الأم في الحمل والولادة , ثم أخذ يستكمل تلك الصورة الشعرية بنتاص قرآني آخر , إذ عمد الى استدعاء قصة نبي الله موسى عليه السلام وقصة أمه حينما رمته في البحر خوفا من بطش فرعون وجنوده , بيد أن التوظيف هنا مركب / متعدد الأطراف والأجزاء , فالشاعر هو من هرب محبوبته من ثقوب قصائده خوفاً منها وليس من فرعون , وبذلك كانت المحبوبة في قبالة ( فرعون ) القاتل وهنا تناص صوري قرآني لطيف .

ومن نماذج التناص القرآني المباشر قوله :

تبّت يدُ أمك

خنقت ْ حبّنا 

بحبل ٍ من مسد ([31])  

 لقد بني النص هنا على  تناص قرآني لفظي مباشر من قوله تعالى : (( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ )) ([32]) , فاستدعاء الفعل ( تبت يدُ ) و شبه الجملة ( بحبل من مسد ) هو استدعاء لطيف للآيات الكريمات ولكن كعادة الشاعر بتوظيف مغاير , فقد جعل الشاعر على وفق تشبيه ضمني بليغ أم المحبوبة التي قتلت حبه في قبالة ابي لهب وزوجته التي ورد ذكرهما في القرآن الكريم , فلجأ الشاعر بطريقة فنية واستدعاء لطيف الى تكوين الصورة الشعرية هنا من صور شعرية جزئية متعددة , فما كان للتناص المباشر يشتغل داخل نصه لولا لجوئه الى توظيف فنون بلاغية أخرى كالتشبيه والاستعارة والمجاز , فانصهرت الصورة وتشابكت فكانت الصورة الشعرية  على وفق علاقة تقابل لا تضاد (  أم الحبيبة / ابي لهب  ,  الشاعر / شخص النبي )   ((عندما تكون حالة ذهنية مصحوبة بعاطفة متّقدة، تنزع حالة مماثلة أو شبيهة بها إلى إحداث نفس العاطفة .. ومتى وجدت حالات ذهنية معاً في وقت واحد، فإن العاطفة المرتبطة بالحالة الأصلية، إذا كانت متّقدة ، تنزع للتحول أو الانتقال إلى الحالات الأخرى ))  ([33]) ومن نماذج التناص اللفظي القرآني في شعره قوله :

كأنما رأسي من الشمع

يوقد من زيتونة

في راحيتك

فيشعل ذاتي ([34])     

فقوله ( يوقد من زيتونة ) تناص مباشر من قوله تعالى : (( يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ )) ([35]) مستثمراً التشبيه البليغ في الآية الكريمة وصورته البلاغية فالتصوير القرآني أنما هو تقريب للناس وتصوير لقوة نوره سبحانه وشموله , والشجرة الزيتونة يراد منها الشجرة المباركة ذات العطاء الزاهي , فالشاعر بطريقة فنية استطاع أن يمزج الاستدعاء القرآني باستدعاء فني / صوري , لينتج صورة شعرية فيها من الجدة ما يكفي لإحداث تأثير في ذات ووجدان المتلقي وحسه وذلك  ((  أن الحس في نظرهم هو الذي يقوي فاعلية الصورة المدركة، بل إنه المادة الخام للصورة التي تعتمد على إمكانية التوافق بين المدركات الخارجية وارتباطها بالقيمة النفسية وفي هذا دليل على العلاقة بين المحسوس والمجّرد))   ([36]) وقد حقق الشاعر ذلك التوافق الدلالي بين المدركات الخارجية للفظة ( زيتونة ) وبين الارتباط النفسي القرآني لها , فكانت العلاقة بين المدركين داخل النص علاقة جدلية ذات مقاصد دلالية . ومن نماذج النتاص اللفظي المباشر قوله :

ثقلت موازين قلبي بحبك

فهو في عيشة راضية ([37])    

فقوله (( فهو في عيشة راضية )) , تناص قرآني مباشر من قوله تعالى : ((فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ )) ([38]) فالشاعر في هذه المقطوعة الشعرية ذات الصورة الشعرية القائمة على توظيف الآية القرآنية , قدَّم توصيفا ً لحال قلبه الذي امتلأ بحب المعشوقة  , فثقلت موازينه بالحب ,  فأحس بأنه يعيش عيشة راضية مرضية , فعمد الشاعر على تكوين صورة شعرية قائمة على امتصاص المعنى القرآني واعادة تشكيله على وفق مقاصده ومراميه , فجاءت الصورة الشعرية متسقة ومقصد الشاعر ( وصف الحال ) , فدلت على انتصار الذات بدلاً من انكسارها فكانت الدهشة , فالموازين على وفق المعنى القرآني تثقل بعمل الخير فتكون السعادة والنعيم في الحياة المعيشة , أما الشاعر فقد كانت موازينة التي ثقلت بعشق المحبوبة فكانت حياته راضية , ومن هنا فقد جعل ( حب المعشوقة ) في قبالة ( الخير ) , ومن هنا يمكن أن نفهم أن الصورة الشعرية على أنها صيغة جزئية من مجموع صيغ دلالية ينسجها , فتنتج ذلك الايداع العفوي المتكون من تصورات ذهنية / خيالية بالتعالق مع التفاعلات النفسية فيحدث الانسجام الداخلي والاستجابة الخارجية . ومن النماذج الأخرى على التناص القرآني اللفظي  المباشر قوله : 

لمّا تعلم آدم الأسماء

ظل اسمك

عالقاً بين شفتيه

فذاك جمالك سماوياً ([39])  

فقوله : ( لما تعلم آدم الأسماء ) , تناص قرآني مباشر من قوله تعالى : (( وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ  )) ([40]) , ولكن على وفق رؤية شعرية مغايرة , وظفها بطريقة فنية تناسب الصورة الشعرية التي رسمها , صورة العشق والهيام إزاء الحبيب , وليعكس عليها صفة القداسة التي مثلها ( آدم ) عليه السلام , فصار الجمال سماوياً أزليا ً , فامتزج اللفظ القرآني امتزاجاً فنياً وغرض الشاعر , مسهماً بصورة فاعلة في عملية الخلق والبناء الشعريين . فالشاعر عبر تقنية خاصة عمد إلى تغيير اللفظ القرآني في عملية الخلق الشعري ( علّم آدم ) , الى ( تعلم آدم ) , فعمل الشاعر على تفعيل الحدث السردي الوارد في قصة آدم عليه السلام ( علّم ) المقترن جدلاً بالأسماء , فاراد الشاعر أن يعطي اسم الحبيبة قدسية , فعمد على سحب ذلك الحدث وصهره بنسيج شعري , إن تداخل ( الجملة القرآنية ) غير المباشرة  في نسيج النص الشعري، ليس مجرد تداعٍ ذهنيّ منفصم عن سياق النص، بل توظيف موفق رحب الدلالة. فقد عمد الشاعر إلی استخدام تقنية الفضاء النصي , ليبرز حالة نفسية خاصة به .  

ومن نماذج التناص اللفظي  المباشر قوله في إحدى قصائده :

زمِّليني بشعرِكِ

إن تنفَّسَ الصبح ُ وقبَّلتُ شمسَهُ ([41])  

فقوله : ( زمليني ) , تناص قرآني لفظي مباشر من قوله تعالى : (( يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ )) ([42]) وقوله ( إن تنفس الصبح ) كذلك تناص لفظي غير مباشر من قوله تعالى : ((  وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ  )) ([43]) , ومن خلال تعالق هذه التناصّين استطاع الشاعر أن ينتج صورة شعرية , من صورتين شعريتين , معتمدا في عملية الخلق على فن الالتفات , إذ كان الخطاب في الصورة الأولى ( زمِّليني بشعرك ِ ) للمخاطب الذي كان فعل الامر ( زمليني ) مركز الدهشة , فالشاعر على وفق خيال ممزوج بعاطفة أن يرسم صورة جزئية حسية , محسوس بمحسوس , فالشاعر يطلب من الحبيبة أن تضمه اليه ضم المزمل ولكن بشعرها مصدر الحس والجمال الأنثوي , ثم أخذ يستكمل تلك الصورة الجزئية بصورة جزئية أخرى ولكن على نحو توظيفي مغاير , وهنا تكمن جودة الأداء وفاعلية الصورة . وفي النص تناص غير مباشر مركب فقوله : (( إن تنفس الصبح )) تناص قرآني غير مباشر من قوله تعالى :  (( وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ))  ([44])  وقوله ( زمّليني ) تناص لفظي مباشر من قوله تعالى : ((  يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ  )) ([45]) , فالشاعر عمد عبر هذا التناص اللفظي المركب الى  رسم صورة شعرية مغايرة وفق تشكيل صوري جديد , فالشاعر عبر من خلال الفعل ( زمليني ) على عمق الرابطة التي تربط الشاعر بالحبيبة فكانت الدلالة الشعرية والمقصد المعنوي قد تحقق من خلال تناصه  من القرآني الكريم الذي ورد ذكره فيه مرة واحدة , ومن هنا يمكن القول إن القصيدة الشعرية ,  بنية تواصلية في نسيج محكم من الترابط , كي لا يفقد النص الشعري وحدته العضوية بحيث يصبح النص وحدة مفككة , تنتفي منه النصية , فالنص الشعري نسيج من الجمل والالفاظ  تتعالق فيما بينها  ,

ومن النماذج الأخرى على التناص اللفظي المباشر قوله :

ولأنَّ فمها

أصغرُ من سمِّ الخياط

تشربُ الماء

بعيدان القصب [46] 

فقوله : (  اصغر ُ من سِمِّ الخياط  ) , تناص قرآني لفظي مباشر من قوله تعالى : ((  حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ )) [47] , فالتناص القرآني هنا إنما يقع من باب التشبيه والتمثيل والوصف , فقد استعان بالوصف القرآني في الآية الكريمة على الرغم من اختلاف المناسبة والسياق المقالي لها ليصور للمتلقي ( ثغر ) الحبيب , ومن هنا اجتمع في هذا التناص التوظيف اللفظي والمغايرة الدلالية , فالتناص القرآني هنا ( سم الخياط ) إذ قام  الشاعر على إعادة تشكيله , فنقل الدلالة من المقصد السردي إلى المقصد الصوري , وبهذه الانتقالة حقق الدهشة , فالمغايرة التوظيفية للفظ القرآني عكست قدرة الشاعر على تمثل النص القرآني تمثلاً فنيّاً خدمة للمقاصد والغايات .  ومن النماذج الأخرى  لهذا النوع من التناص قوله في :

عندما غضبتُ , بعثرتُ القطعَ

وفكَّكتُ تمثالي

وشعرتُ أنَّ عظامي

بحاجةٍ إلى ترميمٍ

المشكلة ُ إنَّي لستُ الله َ

لأحيي العظامَ وهي رميمْ [48]

فقوله : ( لأحيي العظام وهي رميم ) , تناص قرآني مباشر من قوله تعالى : ((  وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ )) [49] فالتوظيف القرآني اللفظي هنا جاء متساوقاً والغرض الشعري , إذ عمد الشاعر عبر تقنية خاصة على استدعاء اللفظ القرآني المناسب لحالة العجز التي انتابت الشاعر وتمثلاً لشعوره بالضعف .

ثانيا : ( التناص اللفظي القرآني غير المباشر ))

ويراد منه هو ((  أن يأخذ اللفظ ويغير بتركيبته داخل الجملة , تقديما أو تأخيرا , حذفا أو إضافة , خدمة للمعنى وتعزيزا للدلالة العامة للنص )) ([50]) والتغيير يكون مبنياً على مقاصد يسعى الشاعر من خلالها إلى إثارة الدهشة وكسر أفق التوقع لدى المتلقي في عملية الخلق الشعري الصوري الجديد والمغاير الذي يعرضه الشاعر للمتلقي تلميحاً خفياً يعكس قدرته على إعادة انتاج الصورة على وفق المقاصد الغايات , والشاعر عبد الزهرة يوسف قد لجأ في كثير من الاحيان الى هذا النوع من التناص القرآني , مستثمراً النص القرآني استثماراً فنياً  .

ومن نماذجه قوله :   

الوقت بين قبلة وأخرى

لفتة رقبة

وقبلة أخرى بعد مزغبة ([51])

 في هذا النص الشعري تناص قرآني غير مباشر  ففك الرقبة والمزغبة وردت في  قوله تعالى : (( فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ , وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ , فَكُّ رَقَبَةٍ , أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ  ,  يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ )) ([52]) , فعمد الشاعر على وفق توظيف فني جمالي خاص الى استدعاء الفاظ قرآنية , استدعاء خفياً , ولكن باسنادات مختلفة وتراكيب مغايرة , عملت على إثارة الدهشة لدى المتلقي , فالشاعر جعل من قبلة الحبيبة وسيلة على وفق رؤياه الفنية كفيلة بفك رقبة , فكانت القبلة هي العقبة ( طريق النجاة والخير ) , وبذلك بنى صورة شعرية ذات توصيف دلالي مغاير لدلالة النص المتناص منه , فتشكّلت الصورة على وفق قانون المغايرة الوظيفي للنص الشعري , وهنا تكَّمن الشاعر على  الوصف من خلال التوظيف اللفظي القرآني  , لأن الصورة الشعرية على وفق هذا التوصيف ((  هي جوهر الأدب، وبؤرته الفنية والجمالية. كما أن الأدب فن تصويري يسخر الصورة للتبليغ والتوصيل من جهة، والتأثير على المتلقي سلبا أو إيجابا من جهة أخرى )) ([53])

       فوجه المغايرة في الصورة تكمن في مغايرة العملية التقابلية الدلالية , فالنص القرآني جعل فك الرقبة , واطعام الفقير بيوم المجاعة الذي لشدة جوعة يكون لصيقاً بالتراب  سببا للعقبة , في حين عمد الشاعر على مغايرة الصورة ,  فقبلة الحبيب   بعد حرمان كانت  كفيلة بفك الرقبة , ومن نماذج التناص غير المباشر قوله في إحدى قصائده التي يقول فيها :    

ومن النماذج الأخرى على هذا النوع من التناص القرآني قوله :

 تخمرت في حبري

كأحلام البائعين المتجولين

بأرصفة تستضيفهم

تقتل وسواسهم

تخلق من أمشاجهم

خبزاً ومطرقة وفراشاً وسلاما ([54])     

فقوله ( تخلق من أمشاجهم ) هو تناص لفظي غير مباشر من قوله تعالى : (( إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا )) ([55]) ولكن على وفق رؤية مغايرة كعادة الشاعر في تناصه للقرآن الكريم , كونه قد آمن (( إن كل الظواهر لتوحي بأن الذات المتكلمة تخترع لغتها بوجه من الوجوه , كلما عمدت الى التعبير عن نفسها )) ([56]) ويكمن وجه الاختراع اللغوي هنا في هذا التناص هو لجوء الشاعر الى المغايرة السياقية للدلالة الخاصة بلفظ ( أمشاج ) التي وردت في الآية الكريمة ومن نماذج التناص القرآني غير المباشر قول الشاعر :

ويخفضُ جناح الذّل ويحضنها

فتهش بالتغريد كطفلة تناغي لعبتها

تزقه ويزقها

هل تعرفُ العصافيرُ طعمَ القبل بمناقيرها ([57])

فقوله (( يخفضُ جناحَ الذّلّ )) , تناص قرآني غير مباشر من قوله تعالى : ((  وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا )) ([58]) فقد غيّر الشاعر الفعل القرآني ( واخفض ) إلى ( يخفض )  , فالشاعر أصبح أمام الحبيب ذليلاً , رحمة بها , فشبه نفسه باللعبة التي تلاعبها الطفلة , تزقه ويزقّها , دليلاً على عمق العلاقة الحميمية التي تربطه بالحبيب الغائب  , ثم يختم المقطوعة الشعرية بسؤال انكاري ( هل تعرف العصافير طعم القبل بمناقيرها ) ,  تكوّنت الصورة الشعرية  من ثلاث صور شعرية جزئية ,  الصورة الأولى التي  كان التناص اللفظي المباشر فاعلاً في خلقها ورسمها ( يخفض جناح الذل )  ثم الصورة الثانية وهي صورة حسية قائمة على تصوير استعاري ( فتهش بالتغريد كطفلة تناغي لعبتها ) , ثم تأتي الصورة الثالثة القائمة على استفهام إنكاري (( هل تعرف العصافير طعم القبل بمناقيرها ) , ومن خلال تلاحم هذه الصور الشعرية الجزيئة كانت الصورة الشعرية الكاملة للمقطوعة الشعرية هذه .

ومن نماذج التناص المباشر قول الشاعر :

أنا وأنت

محصوران بين قوسين

زوجك عنين

وامراتي عاقر

وخطيئة التفاح

تلاحقنا جميعا ً ([59]) 

فقوله : (( .... وخطيئة التفاح  )) , تناص القرآني غير مباشر, الأول هو تناص  من قوله تعالى : ((  وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِين )) ([60]) فالشاعر عمد على تقنية خاصة على توظيف النص القرآني على وفق رؤية شعرية تجمع الخاص بالعام والجزئي بالكلي على نمط تعبيري تجاوز التقريرية والمباشرة ,  ليرسم صورة شعرية قادرة على إثارة الدهشة لدى المتلقي , فالشاعر استطاع ان يوظف قصة سيدنا آدم وقصة خروجه من الجنة المتربطة جدلاً بالتفاحة وقصة نبي الله زكريا وامرأته التي ولدت على كبر , فالشاعر على وفق التوظيف الأول ( وامراتي عاقر ) , يقصد أنه لا حظ له في هذه الدنيا , وأخذ يعلل ذلك بقوله ( خطيئة التفاحة تلاحقني ) كناية عن الذنوب , فالشاعر على وفق هذا التوصيف الصوري / المجازي منكسر الذات مهزوم الداخل , فجاء التوظيف القرآني معززاً تلك الصورة . ومن النماذج الأخرى قوله :

ولو أنَّ امراة ً غيرك

لتمسكت بأهدابي ودللتني

ولكني واد غير ذي زرع

فتعبت ِ مني

ومللت مني ([61])

 

فقوله : (( ولكني واد غير ذي زرع )) تناص قرآني مباشر من قوله تعالى : (( رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ  )) ([62]) النص إدانة للمرآة ,  كونها في نظر الشاعر  تبحث عن مكملات الحياة لا جوهرها , ولكن ليس كل النساء , أنها امرأة مخصوصة شكلت في نظره دالاً سلبياً غير فاعل , فالشاعر صدّر قصيدته هذه بأداة الشرط غير الجازمة ( لو ) , حرف امتناع لامتناع الذي يعد دالاً لغوياً على انكسار ذات الشاعر ونظرته السلبية إزاء الحبيب التي لم تتمسك به كونه وادياً غير ذي زرع .        

المبحث الثاني : ((  التناص القصة القرآنية  ))

    تعد القصة القرآنية من  أساسيات الخلق الشعري، فهي تشكيل جمالي ونفسي يتكون مما التقطته حواس الشاعر المبدع من مدركات حسية أو معنوية، بحسب طبيعة تأثره بها، حتى يمكن أن نطلّ منها على الباعث النفسي المتواري خلف ألفاظ القصيدة، وما تركته التجارب والمشاهد التي رافقت حياة الشاعر من آثار عميقة الغور في وجدانه، فتتدفق إحساساته بصياغات جمالية محسوسة ومشحونة بعاطفة تستجيب لها نفس المتلقي على نحو تلقائي لتلمس انفعالات الشاعر وخلجات نفسه المعبرة عن نبوغه الفني وعبقريته الشعرية الفذّة ([63]) ومن هنا فقد وجد الشعراء في القصص القرآنية ضالتهم , فاتخذوها وسيلة لتعميق رؤاهم وتجميل صورهم , فضلا عمّا تحققه في نصوصهم من تماسك نصي , وظيفة  فضلى للتواصل مع وعي المتلقي , إذ يخاطبهم الشعراء بمفردات الوعي المعرفي والديني , بحيث يجاورها فنياً بالإثارة ويتقمصها حيناً آخر أو يقلب دلالتها حيناً ثالثاً , ليصنع الدهشة ويعمق التأثير على حساب مدلولاتها المقدسة  ([64])

       وتقنية تناص القصة  القرآنية من أکثر التقنيات التناصية  التي  كان لها حضور  في شعر  عبد الزهرة يوسف ، إذ شغلت حضوراً واسعاً في نتاجاته الشعرية، بما تمتلكه من إمكانات فاعلة في توسيع فضاءات المعنی في النص الشعري إلی الحد الذي يجعله مفتوحاً علی التأويل، فضلاً عن دوره في ((  تعزيز تجربة الشاعر وتوثيق دلالة محددة أو نفيها أو توکيد موقف وترسيخ معنی، وبالإجمال إنتاج دلالة مؤازرة للنص في حالتي قبوله ورفضه بالتضمين الصريح أو بالتلميح ))  ([65])  

فالشاعر قد يستدعي القصة القرآنية فيجنح بها بعيداً عن مدلولها القرآني المقدس  , فيقوم بطريقة ايحائية إلى الاشارة إليها تلميحا واختصاراُ , فيقوم بطريقة فنية ذكية واعية بعملية الاستدعاء لقصة ما ويربطها بطريقة جمالية والغرض الشعري , ليحدث في المتلقي الدهشة والتأثير على وفق نمط تعبيري خاص يكشف عن قدرة ووعي وادراك لعملية الخلق الشعري المغاير للنمط التقليدي للاستدعاء , والشاعر عبد الزهرة يوسف من الشعراء الذين جعلوا من القصص القرآنية رافداً ومصدراً رئيساً من مصادر التكوين والخلق الشعري , إذ استحضر عدداً من القصص القرآنية , على نحو مغاير للدلالة القرآنية وسياقها المقدس ومن ذلك قوله مستدعيا قصة نبي الله ( يوسف ) عليه السلام إذ يقول :

بيني وبين عطر قميصك

شمة من قميص يوسف ([66])    

     فقوله (( شمة من قميص يوسف )) , هو تناص قصصي قرآني لقصة نبي الله ( يوسف ) , فقميص يوسف ورد ذكره في القران الكريم في مواضع متعددة هي : (( وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ )) ([67]) فالشاعر عبر عن مدى تعلقه بالمحبوبة تعلق نبي الله يعقوب بقميص يوسف , فاستعار القصة تلميحا ً بطريقة فنية , استجمعت الحدث السردي للقصة القرآنية , فعمد على دمجها بالصورة الشعرية المرسومة  . ومن نماذج تناص القصة القرآنية في شعر ( عبد الزهرة يوسف ) قوله في إحدى قصائده التي يقول فيها:  

عندما رأيتك

قلت

حان تقطيع الرجال لأصابعهم ([68])   

في المقطوعة الشعرية هذه تناص من قصة نبي الله يوسف مع زوجة عزيز مصر (( فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ  فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنْ هَٰذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ )) ([69]) ولكن على وفق نسق صوري مغاير , فالصورة الشعرية المرسومة هنا جاءت على وفق تقابلات دلالية شكلت مركز الصورة , فقد اراد أن يبن جمال المحبوبة فاستدعى سورة يوسف ليعطي للمتلقي تلميحا لا تصريحاً بجمال المحبوبة وعلى المتلقي أن يفهم ذلك من خلال القرينة الدلالية المقلوبة والمغايرة للدلالة القرآنية (( حان تقطيع الرجال لأصابعهم )) , فقد عمد الشاعر الى استدعاء الحدث القصصي لقصة نبي الله يوسف ( عليه السلام ) , بدلالة مغايرة , فالقصة القرآنية المتناص منها تقوم على أساس أن النسوة المجتمعات عند ( زليخا ) قمْنَ بتقطيع ايديهن لشدة جمال يوسف , أما الشاعر فالصورة مغايرة عنده , فلشدة جمال حبيبته يدعو الرجال عند رؤيتها بتقطيع اصابعهم انبهاراً بجمالها , فجعل النسوة في قبالة الرجال في نسق تقابلي مغاير .  ومن نماذج التناص القصصي القرآني في شعر عبد الزهرة يوسف قوله في إحدى قصائده :     

إنّك ِ رأيتِ أحد عشر رجلاً

سجدوا لك ِ

وأنا عصيت ُ

ما سجدتُ

وكأنكِ ما رأيتني

ثم قلت هيت لك

والأبوابُ مشرعةٌ

فقددتُ ثوبك الكيمونو

من خُصر

لا من قُبُل ولا من دُبُر ([70])

في النص الشعري هنا تناص قرآني من سورة يوسف ( عليه السلام ) في قوله تعالى :  (( إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ )) ([71]) وكقوله تعالى :  (( وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ ))([72]) وكقوله تعالى : ((  وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ )) ([73]) فلجأ الشاعر في أثناء عملية رسم الصورة و بطريقة فنية الى استدعاء الحدث السردي في الآيات الثلاث هذه  (( السجود , تغليق الابواب , قد القميص من دبر )) , فاستطاع بهذا الاستدعاء الى رسم صورة شعرية مغايرة  , فالشاعر رفض السجود الى محبوبته على الرغم من المغريات التي قدمتها له , فقد قدّ ( الشاعر )  ثوبها ( الكيمونو ) من الخصر , اغراء له ولكنه رفض الانصياع لرغباته , مستفيداً من محددات وهج القداسة وطاقة التصوير وهذا يعني أن القرآنية هي (( أداة ماضية بيد من يتقن فنونها )) ([74]) فالفعل ( قددت ُ – الشاعر- سياق شعري   ) في قبالة ( قدّتْ – زليخيا  - سياق قرآني ) ,  فكان الشاعر قادراً على امتصاص الصورة التي حواها الحدث القصصي بطريقة فنية قادرة على تصوير الحدث بطريقة تدهش المتلقي وتكسر أفق التوقع عنده , من خلال مغايرة القصة القرآنية , من خلال تقمص الشاعر دور ( زليخا ) , والجامع بين السياقين ( الشعري والقرآني ) قصة الإغراء  .

ومن نماذج تناص القصة القرآنية قوله في إحدى قصائده التي يقول فيها :

عندما يصبح التفاح

مبعوثاً شخصياً من السماء

سنرتدي ورق التوت

ونصطف أفواجا

لئلا نطرد من الجنة ثانية ([75])

فالمقطوعة الشعرية هنا تناص قصصي قرآني  وهي قصة خروج سيدنا  ( آدم ) عليه السلام  من الجنة التي ورد ذكرها في القرآن الكريم في مواضع كقوله تعالى : (( وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ  * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ )) ([76])  فاستثمر الشاعر قصة سيدنا ( آدم ) عليه السلام من خلال استثمار ما ورد فيها من أحداث قرآنية سردية تتعلق بالغواية والسعي وراء الهوى , فالشاعر قد جعل من ( التفاح  ) مركز الدلالة رمزاً للغواية ومن ( ورق التوت ) رمزاً استعارياً للخلاص من لعنة الغواية وجعل من ( الجنة ) معادلاً موضوعياً للحبيب , فالتفاحة وورق التوت والجنة عمد الشاعر على ترسيم علاقة جدلية بينهم جميعا على وفق رؤية شعرية , استطاع الشاعر من خلاله كسر أفق التوقع لدى المتلقي .

ومن نماذج التناص القرآني في شعر عبد الزهرة يوسف قوله :  

مثقلة بالبياض ِ كنخلة ٍ

إذا هززتك

تساقط منك رطبٌ كالمصابيح ([77]) 

قول الشاعر ((تساقط منك رطبٌ ))  تناص مباشر من قوله تعالى : ((  وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا )) ([78])  لقد استطاع الشاعر أن يرسم مجموعة من الصور الشعرية , فأخذ يعمد على تركيبها  ,  لينتج  صورة واحدة ، حتى ان بعض هذه الصور كانت صورا متناقضة ,  إلا إن الشاعر جعلها صوراً منسجمة  وبمضمون شعري مغاير جديد . فدلالة الرطب في الآية الكريمة هي دلالة حقيقية , كون الآية تتحدث عن معجزة مريم عليها السلام حين جاءها المخاض , بيد أن الشاعر قد عمد الى استدعاء لفظ ( الرطب ) بمعنى مجازي / مغاير للدلالة الحقيقية التي استعملها القرآن , فالرطب هنا دلّ في النسق الشعري على معنى  هذه الصور المتشابهة كانت أو المتناقضة صوًرها الشاعر عبر مدخل واحد لقصيدة واحدة فكان الإيحاء والشكل والمضمون لصورة في غاية الجمال من هنا يكمن القول أن هذه القصيدة (( قصيدة مركزة مكتنزة , بعيدة عن الترهل , غير مثقلة بالصفات والتعابير الجاهزة أو هي خالية منها تماما ,. يقدم تجربة تعتمد على قوى الشاعر الذاتية ووعيه ومخيلته دون أن يتوكأ على شيء آخر )) ([79])  ومن نماذج التناص القصصي القرآني في شعر عبد الزهرة يوسف قوله :

هزّي إليكِ

إليك ِ بجذع رجلٍ  

لكني

لستُ مسؤولاً

إذا خانك الرطب ُ ([80])   

فالشاعر حاول أن يحوّر في النص القرآني فأدخله في سياق جديد يتماهی ورؤيته التي يريد الإفضاء بها، وقد أعطی للآية دلالة أخری نفهمها من انزياحات السياق الشعري في القصيدة، إذ أخذت القصة بعداً دلالياً جديداً مع الاحتفاظ بالشحنة المعنوية الدينية للنص الغائب في سياقه الجديد (النص الحاضر). ويبدو في الوهلة الأولی انّه مجرّد اقتباس أو تناص هامشي لا يشكل حضوره فاعلية في عملية خلق الصورة , ولكن بما أن الشاعر جعل الآية تتحدث عن نفسه متقمّصاً   فقد اعطاها بعداً آخر بما يتناسب مع السياق  , فالشاعر عمد على استدعاء القصة القرآنية على وفق رؤية شعرية مغايرة فالفعل ( هزّي ) , الذي افتتح به نصه قد شكّل ذلك البعد الدلالي المغاير , فجعله موجهاً للحبيب , بعد أن كان في النص القرآني موجها الى السيدة مريم ,  أدخل ( الرطب ) وفق الاستعمال القرآني في استعمال شعري مغاير من خلال ادخاله بجملة اسنادية ( خانك الرطب ) , فكأن الشاعر يريد أن يقول لحبيبته الغائبة إنكِ إن تركتني اخترت غيري فإنكِ أيتها الحبيبة  لن تحصلي على الشيء الذي عبر عنه بالرطب .

ومن التناص القرآني القصصي قوله :   

وألقيت ُ عصاي

فلم ينشقٌّ بحر ٌ

بمقلتيك

ولم تنبجس ([81])

النص الشعري المتقدم  تناص من قصة نبي الله موسى عليه السلام التي وردت في قوله تعالى :  (( وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ  )) ([82])  وكذلك في قوله تعالى : ((فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا )) ([83]) فالشاعر قد استوحى صورته الشعرية من قصة موسى ( عليه السلام )  مع بني اسرائيل حينما استقى لهم بضربه الحجر فانبجس منه ماء , بيد أن الشاعر قد عمد على وفق صياغة فنية  خاصة على تشكيل صورة شعرية بنيت على اساس استدعاء الحدث القصصي الوارد في هذه القصة المبني على مرتكزات سردية مثلتها الافعال الماضية في النص القرآني ( ألقى عصاه , فانبجست ), فعمل  الشاعر إلى إعادة تشكيل الحدث , ليرسم صورة شعرية مغايرة على وفق توصيف خيالي كاشفاً من خلاله انكسار الذات , فالحدث القصصي ( القى ) , والصورة الشعرية  , ومن نماذج التناص القرآني في شعره قوله في إحدى قصائده :

كيف الوصال ؟

دلّني  على بُراق ٍ

يوصلني إليك ِ ([84])     

استدعى الشاعر في هذه المقطوعة الشعرية ( قصة الاسراء والمعراج ) التي تحدث عنها القرآن الكريم فكانت لفظة ( براق ) اسم الدابة التي عرج بها الرسول الأكرم إلى السماء ليلة الاسراء والمعراج , وعلى الرغم من عدم ذكر هذه اللفظة في القرآن الكريم  إلا إنّ ذكرها قد اقترن بقصة الاسراء والمعراج في كتب التفسير , فكانت الكلمة المفتاح  والدال الرئيس لتلك القصة ((  سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ )) ([85]) فالشاعر يتمنى أن يصل الى محبوبته بأقصى سرعة , معبراً عن تلك الأمنية على وفق استفهام ( كيف الوصال ) , وفعل الامر ( دلّني ) , كون الشاعر قد تمنى أن يصل الى تلك المحبوبة صعبة المنال والوصول عبر ( براق ) , والسبب الذي جعل الشاعر أن يستدعي لفظة  ( براق ) هو حرص  الشاعر على منح ذلك الوصل بعداً مقدساً فضلاً عن ذلك إنه أراد  أن يكشف للمتلقي أن تلك الأمنية لا يمكن تحقيقها كونها  بعيدة المنال  , فهي أمنية شاعر مستحيلة التحقق  , وقد خص الشاعر ( قصة الاسراء والمعراج ) في موضع آخر من شعره , فيها يقول :

لماذا الخوفُ

كنا قاب قلبين

فما تدلّت شفتاك ِ

ولا قلبي دنا ([86])      

فالشاعر في عملية بناء الصورة , استحضر قوله تعالى : ((  ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى, فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى )) ([87]) ليكشف عن رغبة الشاعر الجامحة في لقاء الحبيبة ولكن ذلك اللقاء لم يتحقق يبدو لأسباب خارجة عن إرادة الشاعر , من خلال  امتصاص الحدث القرآني الوارد في الآية القرآنية , فحوّل الشاعر بذكاء ذلك الحدث الى صورة حية متحركة مفعمة بالعاطفة إزاء الحبيبة , فعمد الى التشكيل الصوري المغاير , مستثمراً التقنيات التعبيرية الجديدة بدافع هاجس تلك المغايرة التي صاحبت عملية كشف العاطفة والشعور  , فعمد الى ما يسمى بالتناص الامتصاصي القائم على تشرب الحدث وتصييره الى صورة شعرية ([88]) فالحدث القرآني في تلك القصة القرآنية ومغايرته من قبل الشاعر عمل على تحريك الجانب الذكي عند المتلقي وإثارة الدهشة , وهنا تكن أهمية التناص الكامنة في قدرة الشاعر على أعادة تشكيل النص المتناص على وفق رؤية شعرية مغايرة. 

ومن نماذج تناص القصة القرآنية استدعاء الشاعر قصة ( الخضر ) عليه السلام , فقد كان لها حضور في شعره , عمد بطريقة فنية الى استدعاء ما تضمنته هذه القصة من صورة وعبرة , ومن ذلك  قوله في إحدى قصائده :

إما أن أموت

أو أصير ملكاً

يأخذ كلَّ قبلة

من شفتيك ِ غصباً

عنيدة ً ([89])

في النص السابق تناص قرآني لقصة الخضر عليه السلام مع نبي الله موسى عليه السلام من قوله تعالى : (( أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ))([90])  فقد استطاع  الشاعر بحرفة فنية أن يستدعي هذه القصة القرآنية , قصة الخضر مع موسى ( عليهما السلام ) , فالقصة تقوم على تفعيل حدث أو  أحداث سردية , اشتغلت في النص القرآني اشتغالاً فنياً حسياً فشكل ذلك الحدث ( نخر السفينة من قبل الخضر ) استغراباً عند نبي الله موسى ( عليه السلام ) من ذلك الحدث أو العمل , فجاء التفسير القرآني ليزيل الاستغراب عند موسى عليه السلام ((  وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا )) , أما الشاعر فبطريقة فنية فقد استدعى ذلك  الحدث القرآني خدمة للمعنى وتعزيزاً للدلالة , فالصورة الشعرية هنا هي نتاج تناص الحدث القرآني القصصي , رابطاً الحدث بالصورة على وفق علاقة جدلية فرضتها مقتضيات الصورة .   

المبحث الثالث : (( تناص الصورة القرآنية ))  

تعد الصورة الأداة الفضلى  في التعبير القرآني  , فالقرآن يعبر بالصورة المحسّنة والمتخيلة عن المعنى الذهني والحالة النفسية وعن الحادث المحسوس والمشهد المنظور وعن النموذج الانساني والطبيعة البشرية , ثم يرتقي بالصورة التي يرسمها , فيمنحها الحياة الشاخصة والحركات المتحررة ([91]) والصورة الشعرية جزء مهم من تجربة الشاعر الشعورية , تظهر فيها قدرة الشاعر الفنية والجمالية , ويشترك في رسمها عناصر الصوت والدلالة واللون فضلا عن الحركة , وبذلك تكون الصورة الفنية تشكيلاً جمالياً يتكون من مجموعة عناصر, وهي تقاطع لمجموعة من العلاقات التعبيرية والفنية وتعكس من خلال اتحاد عناصرها الذاتية والموضوعية وتداخلها وتكاملها صور الفرد او الجماعة وتتكشف من خلال تكثيفها التجربة الذاتية للشاعر وتجسيدها لتجارب متعددة ذات عمق إنساني وتاريخي  ([92])

وبناء على هذه الأهمية توجه الشعراء الى الصورة القرآنية لتسهم في عملية خلق الصور الشعرية بوصفها رافداً مهماً من روافد الثقافية العربية , يقوم  الشعراء على استدعائها استدعاء فنياً على وفق سياق الدلالة ومقتضيات المعنى , ومن هنا كان لها حضور واضح في مخيلة الشعراء من خلال الركون إليها في عملية خلق الصورة الشعرية وتكوينها , كونها صورة حية مفعمة بالخيال الخصب , فبعد أن أدرك الشعراء جمال الصورة القرآنية عمدوا على امتصاصها وصهرها واعادة تشكيلها ضمن النسيج الشعري ومنهم الشاعر عبد الزهرة يوسف الذي تمثّل الصورة القرآنية تمثيلاً فنيّا , انطلاقاً من مبدأ الحاجة والضرورة الدلالية , فعمد الشاعر على سحب الصورة القرآنية منطقة أخرى على وفق تقنية تعبيرية تقوم على التوصيف المغاير , ومن الأمثلة على ذلك قوله في إحدى قصائده :

والخمرُ يطحن ُ

أجسامَ السكارى كالدقيق

مقوسون من السكر كالعرجون ([93]) 

لقد استحضر الشاعر ( عبد الزهرة يوسف )  اللفظة القرآنية من غير تغيير ( العرجون ) التي ورد ذكرها في موضع واحد في القرآني الكريم ، ومن هنا نلاحظ دقة  الإستدعاء وجماله , إذ جعل من النص القرآني مرجعاً أساسياً لنصه , وموجها سياقيا ً كان جزءاً فاعلاً في فاعلية الصورة , فالصورة الشعرية قائمة والمعتمدة على التشبيه ( أجسام السكارى مقوسون من السكر كالعرجون ) هو تشبيه صورة بصورة , صورة السكارى وصورة العرجون المقوس ,  وهو استدعاء صوري قرآني , عكست قدرة الشاعر على تمثل الصورة القرآنية : ((  وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ  )) ([94]) فعبَّر عن ضعف أجسامهم بتوصيف الهيئة الجسمانية , فكانت مقوسة دلالة على الوهن والضعف كتقوِّس العرجون , فجاء الاستدعاء القرآني لضرورة الصورة فاستكمل بناءها على وفق تعبير فني / جمالي , ومن هنا يمكن القول إن الشاعر قد عمد الى امتصاص الصورة القرآنية وتشربّها , لينتج صورة شعرية ذات مرجعيات سياقية بدلالة مغايرة , الهدف منها كسر أفق التوقع عند المتلقي من خلال سحب الصورة القرآنية الى منطقة أخرى , عسكت قدرة الشاعر على استثمار المرجعيات النصية السابقة والراكزة في ذاكرته والماثلة في ذهنه , بخيال خصب وبعاطفة جياشة . ومن نماذج تناص الصورة القرآنية  قوله :  

طويتك تحت ضلوعي

طي ّ السجل للكتب ([95])

في قوله ( طي السجل للكتب ) تناص صورة قرآنية من قوله تعالى :  (( يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ))  ([96])  فالاستعارة الواردة في النص القرآني ( طي السجل ) هي تصوير لأهوال يوم القيامة , عمد الشاعر على توظيف ذلك التركيب توظيفاً نصياً مباشراً ولكن على وفق رؤية شعرية مغايرة , فقد جعل المحبوبة التي طواها تحت ضلوعه  تمسكاً بها  في قبالة السماء الواردة في النص القرآني , وبهذا التشكيل الجديد والرؤية الشعرية المغايرة تشكّت الصورة الشعرية عنده  من خلال  سحب ذلك التركيب القرآني سحباً مباشراً مستغلاً صورة الحدث  ( طي السجل للكتب ) , فمثلت في هذه المقطوعة عند المتلقي نقطة التوتر واساس الدهشة , فعمد الشاعر إلى  التلاعب بمخيلة المتلقي ونقله من منطقة الى منطقة أخرى ,  وهنا تكمن فاعلية التناص في عملية الخلق والمغايرة .

       ومن هنا يمكن القول إن الصورة القرآنية مثلت داخل النص الشعري كثافة تصويرية ,وأبعادا إيحائية تجذب عناية المتلقي واهتمامه ؛ لذلك يعد تصويراً يكشف عن حقيقة الموقف الجمالي الذي عاناه الشاعر في أثناء عملية الإبداع , ويرسم أبعاد ذلك الموقف عن طريق المقارنة بين طرفي التشبيه ,مقارنة لا تهدف إلى تفضيل أحد الطرفين على الآخر بل تربط بينهما في حالة أو صيغة أو وضع ([97])   ومن النماذج الأخرى على التناص القرآني للصورة الشعرية في شعر ( عبد الزهرة يوسف ) قوله في إحدى قصائده :

واشتعل رأسه شيباً أسود

عود ثقاب ([98])     

فقوله : (( واشتعل رأسه شيباً )) , تناص  قرآني صوري  من قوله تعالى : (( قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا )) ([99]) إذ عمد الشاعر على توظيف هذه الآية القرآنية معتمدا على مفارقة لطيفة ( شيبا اسود ) , فالشيب يكون ابيض لا اسود , الا أن الشاعر كشف عن تلك المفارقة بقوله ( عود ثقاب ) , الذي يعد معادلاً موضوعياً للشاعر نفسه , فالشاعر شبه نفسه بعود الثقاب , والشيب الأسود هو احتراق راس ذلك العود , فكأن ( عود الثقاب ) المحترق شوقاً , ومن هنا عكس الشاعر قدرته على تطويع اللفظ القرآني واستغلاله في انتاج الصورة المغايرة ذات الأثر القرآني , محققا في ذلك ما يسمى بالتفريق الذي يراد منه خلق تناقض دلالي  أو تباين في المقاصد  بين الألفاظ،  يسهم في تكوين  توتّر لدى المتلقي ، يسهم في إغناء دلالة النص ، وتأكيده وتعميقه في نفس المتلقِّي , أي يهدف إلى  خلق تفاعل نصّي , لأن المعنى يمثِّل مركز الرؤيا أو منبع توليد الكثافة الدلالية ([100])  ومن النماذج الأخرى على التناص القرآني الصوري قوله :

بحبال صوتها تعتصم الموسيقى

فيروز ([101])

لقد بنى الشاعر هنا صورته الشعرية من خلال استدعاء الصورة الفنية التي تضمنها قوله تعالى : (( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ  )) ([102]) , إذ قامت الصورة الفنية فيها على أساس تشبيه الدين بالحبل  للدلالة على أن الدين كالحبل يربط شيئاً بشيء , والدين يربطهم به , فالصورة القرآنية الفنية بنيت على أساس استعارة صفات شيء لشيء آخر , أما الشاعر فقد عمد إلى تناص هذه الصورة بطريقة اعتمدت الأسلوب الصوري المغاير من حيث الدلالة والتوظيف , فالفعل ( تعتصم ) على وفق معطيات النص الشعري نقله الشاعر إلى منطقة أخرى , فصوت ( فيروز ) أصبح ملاذاً للموسيقى وليس العكس , تدليلاً على جمال صوتها وتأثيره على الشاعر , فالتوظيف والتشكيل اشتغل على تقنية المغايرة في الخلق الشعري .

الخاتمة  

النص الشعري فضاء معرفي  ثقافي واسع , يعكس بطريقة مباشرة وغير مباشرة ثقافة الشاعر , يستدعي في لحظة الخلق الشعري مجموعة من السياقات المعرفية المخزونة في ذاكرته , لتسهم جميعا في عملية الوصف  ورسم الصورة الشعرية , فالنص الشعري على وفق هذا التوصيف هو نتاج مركب بمعنى أن الصورة الشعرية فيه هي صورة كلية شاملة لمجموعة من الصور الشعرية الجزئية , وكل صورة جزئية تمثل سياقاً معرفياً خاصاً , تجتمع كلها لإنتاج معاني ودلالات مغايرة تسهم في إثارة الدهشة في المتلقي من خلال تحريك وجدانه , والشاعر عبد الزهر يوسف من الشعراء الذين تمثّلوا النص القرآني ( لفظاً وقصة وصورة ) ولكن على وفق توظيف فني مغاير , غير مقيد بمقاصد النص القرآني , بمعنى أنه يعمد الى سحب النص الشعري من فضائه المقدس الى فضاء فني آخر , يستدعيه طلباً للمعنى والدلالة ولمقتضيات التعبير , ومن هنا يمكن القول إن الشاعر ( عبد الزهرة يوسف ) ممتلك ثقافة قرآنية واسعة عمد على استثمارها في خلق صوره الشعرية , , فتحول التأثر الى التأثير , التأثر بالقرآن الكريم والتأثير في المتلقي  , ومن هنا يمكن القول إن النص القرآني على مستوى التوظيف اللفظي والصوري والقصصي قد شكّل في شعر ( عبد الزهرة يوسف ) ملمحاً أسلوبياً فاعلاً أسهم في إنتاج النص الشعري وأصبح مصدراً مهماً من مصادر تكوين الصورة الشعرية , كون الشاعر قد أدرك أن القرآن الكريم يمثل أعلى درجات الفصاحة والبلاغة والبيان على مستوى الوصف والبناء , وبناء على تلك الأهمية الكامنة في النص القرآني قامت الصورة الشعرية عند  الشاعر على  استثمار ذلك كله وتوظيفه فنياً , ملامساً شعور ووجدان المتلقي .  

  • أكاديمي عراقي/ كلية التربية، جامعة القادسية

 

الهوامش :

  1. ينظر : القول الشعري , رجاء عيد : 236 – 237
  2. ينظر : التفاعل النصي والتناصية , نهلة فيصل الأحمد : 87
  3. ينظر : نظرية النص الأدبي , عبد الملك مرتاض , مجلة الموقف الأدبي , دمشق , ع 201 , كانون الثاني , 1988 : 55
  4. الخطيئة والتكفير , عبد الله الغذامي  : 327
  5. الكتابة أم حوار النصوص , عبد الملك مرتاض , مجلة الموقف العربي , دمشق , ع 330 , تشرين الأول , 1998 : 15
  6. ينظر : التناص في الشعر العربي المعاصر , ظاهر محمد الزواهرة: 36
  7. النص والتناص , رجاء عيد , مجلة علامات , النادي الأدبي في جدة , مجلد 5 , ع18 , ديسمبر , 1990 : 184
  8. الشعر العربي الحديث، بنياته  , الجزء الثالث، الشعر المعاصر , محمد بنيس  :186
  9. درس السيميولوجيا , رولان بارط : 85
  10. التناص القرآني في شعر أديب كمال الدين , مجلة مركز دراسات الكوفة , العدد 47 , 2017 : 209-210
  11. ينظر : التناص القرآني في شعر الجواهري , د. حسام حمد جلاب , مجلة دواة , العدد 5 المجلد الأول , آب , 2015 .
  12. ينظر : التناص مع القرآن الكريم  في الشعر العربي المعاصر , عزة محمد جدوع , مجلة فكر وابداع , الكويت , ع 9 , لسنة 1993 : 136-137
  13. دراسات في أدب مصر الاسلامية , عوض الغباري 181
  14. التناص القرآني في الشعر العماني الحديث ,  جابر ناصر , مجلة جامعة النجاح للأبحاث، المجلد12،العدد 4.
  15. الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية،  , عز الدين اسماعيل : 32
  16. ينظر : الصورة الشعرية عند أدونيس – دراسة موجزة واستنتاجات , أ.د.طالب خلف جاسم السلطاني , مجلة كلية التربية الاساسية , جامعة بابل , العدد : 9 , ايلول , 2012 : 12
  17. التناص القرآني في شعر أحمد مطر , مجلة دراسات البصرة , خالد جمال لفتة , العدد (14) سنة 2010 :42
  18. التناص والتلقي / دراسات في العصر العباسي , محمد الجعافرة : 10
  19. ينظر : تجليات الشعرية قراءة في الشعر المعاصر , فوزي سعد ,.21
  20. نقوش على حبات الرقي , شعر عبد الزهرة يوسف  : 12
  21. ابراهيم : 7
  22. دبيب على منسأة الخريف  , شعر عبد الزهرة يوسف : 42
  23. الحاقة : 36
  24. الصورة الفنية معياراً نقدياً، د. عبد الإله الصائغ:159، وانظر: بناء القصيدة الفني في النقد العربي القديم والمعاصر: مرشد الزبيدي: 53.
  25. قصائد غسلتها الالهة , شعر عبد الزهرة يوسف  : 34
  26. طه : 25
  27. من الفم الى الخاصرة تقطر قصائدي : 31
  28. الانسان : 10
  29. أدور ولا تسقط قبعتي : 32
  30. لقمان : 14
  31. بخيط انوثتك اعلق راسي : 26
  32. المسد  : 1-5
  33. التخيل، جان بول سارتر، ترجمة د. نظمي لوقا: 34-35 .
  34. دبيب على مِنسأة الخريف : 30
  35. النور : 35
  36. الاتجاه النفسي في نقد الشعر العربي (دراسة)، د. عبد القادر فيدوح:320.
  37. بخيط انوثتك اعلق راسي : 100
  38. الحاقة : 5
  39. بخيط انوثتك اعلق راسي : 109
  40. البقرة : 31
  41. من الفم الى الخاصرة تقطر قصائدي : 62
  42. المزمل : 1
  43. التكوير : 17
  44. التكوير :
  45. المزمل : 1
  46. انزف صقيعاً دفئيني : 116
  47. الاعراف : 40
  48. انزف صقيعاً دفئيني : 90
  49. يس : 78
  50.  التناص القرآني في شعر الجواهري: 154
  51. بخيط انوثتك اعلق راسي : 30
  52. البلد : 11-12-13-14-15
  53. بلاغة السرد .. أو الصورة البلاغية  , د. جميل حمداوي , مجلة الالوكة , https://www.alukah.net/literature_
  54. من الفم الى الخاصرة تقطر قصائدي : 11
  55. الانسان : 2
  56. مشكلة البنية , زكريا ابراهيم : 65
  57. انزف صقيعاً دفئيني : 17
  58. الاسراء : 23
  59. انزف صقيعاً دفئيني :  18
  60. البقرة :  35
  61. انزف صقيعاً دفئيني  :
  62. ابراهيم : 37
  63. ينظر : التناص القرآني في شعر الجواهري : 123
  64. ينظر : اثر القصة القرآنية في الشعر العربي الحديث , حسم مطلب المجالي , رسالة ماجستير , كلية الدراسات العليا , الجامعة الاردنية , 2009 :
  65. القول الشعري : 23
  66. بخيط انوثتك اعلق راسي : 50
  67. يوسف : 18
  68. بخيط أنوثتك أعلّق رأسي : 8
  69. يوسف : 31
  70. جسدك اكذوبتي : 23
  71. يوسف : 4
  72. يوسف : 27
  73. يوسف : 23
  74. أثر القصة القرآنية في الشعر العربي الحديث : 22
  75. نقوش على حباب الرقي : 57
  76. البقرة : 35  , ينظر : الاعراف : 26-27 , وينظر : طه : 117 – 123
  77. نقوش على حبات الرقي : 79
  78. مريم : 25
  79. الغابة والفضول , طراد الكبيسي   1979 : 269
  80. بخيط أنوثتك أعلّق رأسي : 107
  81. من الفم الى الخاصرة تقطر قصائدي :51
  82. البقرة : 60
  83. الاعراف : 160
  84. ادور ولا تسقط قبعتي : 100
  85. الاسراء : 1
  86. بخيط انوثتك أعلّق رأسي : 74
  87. النجم : 8-9
  88. ينظر : التناص القرآني في الشعر العراقي المعاصر , علي سليمى , عبد الصاحب طهماسي , اضاءات نقدية , العدد 6 حزيران 2012 : 8
  89. بخيط أنوثتك اعلق رأسي : 30
  90. الكهف : 79
  91. ينظر : التصوير الفني في القرآن : 60
  92. ينظر : وظائف الصورة الفنية ومهامها , عبد الله خلف العساف ( شبكة الانترنت ) .
  93. دبيب على منسأة الخريف : 34
  94. يس : 39
  95. بخيط أنوثتك اعلق راسي  : 90 
  96. الانبياء : 104
  97. (ينظر : التصوير الشعري رؤية نقدية لبلاغتنا العربية ,عدنان حسين قاسم, الدار العربية للنشر والتوزيع ,مدينة نصر ,القاهرة ,ط2, 2000م:53.
  98. بخيط انوثتك اعلّق راسي : 36
  99. مريم : 4
  100. ينظر : معجم المصطلحات البلاغية، وتطورها، د. أحمد مطلوب  : 397
  101. بخيط انوثتك اعلق رأسي : 18
  102. آل عمران : 103

المصادر :  

  • القرآن الكريم .
  • الاتجاه النفسي في نقد الشعر العربي (دراسة)، د. عبد القادر فيدوح , دار صفاء للطباعة والنشر والتوزيع , 2010 .
  • اثر القصة القرآنية في الشعر العربي الحديث , حسم مطلب المجالي , رسالة ماجستير , كلية الدراسات العليا , الجامعة الاردنية , 2009 :
  • أدور ولا تسقط قبعتي , عبد الزهرة يوسف , دار نيبور للطباعة والنشر والتوزيع , العراق , الطبعة الأولى , 2016 .  
  • بخيط أنوثتك أعلق راسي , عبد الزهرة يوسف , دار نيبور للطباعة والنشر والتوزيع , العراق , الطبعة الأولى , 2016 .   
  • بناء القصيدة الفني في النقد العربي القديم والمعاصر: مرشد الزبيدي , دار الشؤون الثقافية , بغداد , 1994 .
  • تجليات الشعرية قراءة في الشعر المعاصر , فوزي سعد , منشأة المعارف المصري , 1998 , الطبعة الأولى .
  • التخيل، جان بول سارتر، تعريب طفي عبد الله , منتدى مكتبة الاسكندرية , مصر , د.ت .  
  • التصوير الشعري رؤية نقدية لبلاغتنا العربية ,عدنان حسين قاسم, الدار العربية للنشر والتوزيع ,مدينة نصر ,القاهرة ,ط2, 2000م
  • التصوير الفني في القرآن ,  سيد قطب , دار المعارف , مصر , د.ت
  • التفاعل النصي والتناصية , نهلة فيصل الأحمد , الهيئة المصرية لقصور الثقافة , القاهرة , الطبعة الأولى ,2010  
  • التناص القرآني في الشعر العراقي المعاصر , علي سليمى , عبد الصاحب طهماسي , اضاءات نقدية , العدد 6 حزيران 2012 : 8
  • التناص في الشعر العربي المعاصر , ظاهر محمد الزواهرة , دار الحامد , عمان , 2000م , الطبعة الأولى 
  • التناص والتلقي / دراسات في العصر العباسي , محمد الجعافرة , دار الكندي , الاردن , 2002
  • الخطيئة والتكفير من البنيوية الى التكفير ,  عبد الله الغذامي , الطبعة السادسة , المركز الثقافي , بيروت . 
  • دبيب على منسأة الخريف  , دار المدينة الفاضلة , بغداد , الطبعة الأولى , 2014
  • دراسات في أدب مصر الاسلامية , عوض الغباري , دار الثقافة العربية , 2003
  • درس السيميولوجيا , رولان بارط  , ترجمة عبد السلام بنعبد العالي , دار توبقال , الطبعة الثالثة , 1993 .
  • الشعر العربي الحديث، بنياته  , الجزء الثالث، الشعر المعاصر , محمد بنيس  , دار توبفال  1990، ط1،
  • الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية، عز الدين اسماعيل , 1981   ط 3، بيروت، دار العودة ودار الثقافة 
  • الصورة الفنية معياراً نقدياً، د. عبد الإله الصائغ ,  مؤسسة الثقافة الجامعية , 2010 .
  • الغابة والفضول , طراد الكبيسي , دار الرشيد للنشر , 1979 .  
  • قصائد غسلتها الالهة  , عبد الزهرة يوسف , دار نيبور للطباعة والنشر والتوزيع , العراق الطبعة الأولى , 2016 .
  • القول الشعري , رجاء عيد , منشاة المعارف , الطبعة الأولى , 2000م   
  • مشكلة البنية , زكريا ابراهيم , مكتبة مصر , 1990 .
  • معجم المصطلحات البلاغية، وتطورها , د. احمد مطلوب , الدار العربية للمطبوعات , بيروت , الطبعة الأولى , 2006 .  
  • من الفم الى الخاصرة تقطر قصائدي , دار المدينة الفاضلة , بغداد , الطبعة الأولى , 2014 . 
  • نظرية النص من بنية المعنى إلى سيميائية الدال , حسين خمري , الدار العربية للعلوم ,  بيروت , 2007 .  
  • نقوش على حبات الرقي  , دار نيبور للطباعة والنشر والتوزيع , العراق الطبعة الأولى , 2016 .

الدوريات :  

  • التناص القرآني في الشعر العماني الحديث  ، جابر ناصر , مجلة جامعة النجاح للأبحاث، المجلد12،العدد 4.
  • التناص القرآني في شعر أحمد مطر , مجلة دراسات البصرة , خالد جمال لفتة , العدد (14) سنة 2010 .
  • التناص القرآني في شعر أديب كمال الدين , مجلة مركز دراسات الكوفة , العدد 47 , 2017 : 209-210
  • التناص القرآني في شعر الجواهري , د. حسام حمد جلاب , مجلة دواة , العتبة الحسينية , المجلد الأول , السنة الثانية , العدد الخامس , آب 2015 .  
  • التناص مع القرآن الكريم  في الشعر العربي المعاصر , عزة محمد جدوع , مجلة فكر وابداع , الكويت , ع 9 , لسنة 1993 
  • الصورة الشعرية عند أدونيس – دراسة موجزة واستنتاجات , أ.د.طالب خلف جاسم السلطاني , مجلة كلية التربية الاساسية , جامعة بابل , العدد : 9 , ايلول , 2012  
  • الكتابة أم حوار النصوص , عبد الملك مرتاض , مجلة الموقف العربي , دمشق , ع 330 , تشرين الأول , 1998  
  • المتوقع واللامتوقع , دراسة في جماليات التلقي , موسى الربابعة , عمان، مجلة ابحاث اليرموك، المجلد15،العدد 2 , 1998   
  • النص والتناص , رجاء عيد , مجلة علامات , النادي الأدبي في جدة , مجلد 5 , ع18 , ديسمبر , 1990  
  • نظرية النص الأدبي , عبد الملك مرتاض , مجلة الموقف الأدبي , دمشق , ع 201 , كانون الثاني , 1988