"تيمة" الزيارة حيلة اعتمدها النص للقبض على شبكة علاقات متشعبة في مفاصل المجتمع، ومن خلال زيارة "حسين" لصديقه القديم "وفيق السالم" في المستشفى بعد حادث سير، وسماعه تصريحه بشعوره بالعار لانكشاف أنه كان بصحبة "مؤيد اللولو" أثناء الحادث. يكتشف الزائر قصص فساد وخيانات قدمها أصحابها كيوميات معتادة.

السارق عن السارق

فـراس ميهـوب

 

في الطريق إلى المشفى، نازعتني خواطر متعددة، القلق على الصديق، والحيرة من هذا الحادث المروع.

-خرج أبي من غرفة العمليات للتو، مازال تحت تأثير البنج.

أجابني فادي، الابن البكر لصديقي.

علاقتي بأبي فادي قديمة، توارثناها من الآباء، ورغم افتراق طريقينا في الحياة، فأنا سلكتُ طريق الصحافة والأدب وراكمتُ ديونا جديدة فوق الديون التي ورثتها عن أهلي، أمَّا وفيق السالم فقد التحق بسلك الشرطة بعد أن تخرَّج من كلية الحقوق، وعرف طريق السلطة والثراء، إلا أنَّ ما حدث معه بعد تقاعده العام الماضي كان مفاجأة له ولكل من عرفه.

بعد انقطاع الصلة مع وفيق، الصديق القديم، لسنوات، بادر هو للاتصال بي بعد تقاعده وأصرَّ على وصل الود المنقطع، وافقت بشرط أن نتصارح بلا مجاملات، لم أخف عنه عدم رضاي عن ثروته الضخمة التي لم يجمعها من كد يمينه بل من صفقات مشبوهة، وبأحسن الحالات من استغلال للسلطة كما اعترف بنفسه.

في بهو المشفى النظيف، سألتُ موظف الاستقبال عن المصاب في حادث السيارة، لم انطق بعد اسم وفيق السالم حتّى فاجأني بالرد:

-بل هما مصابان، وفيق السالم، ومؤيد اللولو، كانا في سيارة واحدة تحطمت تماما، لكنهما خرجا حيين.

لم افهم سر وجود مؤيد بسيارة وفيق، فحسب علمي لا صلة تجمع بينهما.

 مؤيد، شاب في منتصف الثلاثينات، حصل على ليسانس التجارة والاقتصاد بتفوق ملفت، عُيِّن في المصرف التجاري، ترقى خلال سنوات قصيرة حتى وصل إلى إدارة فرع مهم للمصرف في العاصمة.

معرفتي به مقتصرة على حق الجيرة، لم استسغه يوما، تكبره باد، وعجرفته دفعت أقرب الناس لتجنبه، فشل زواجه بعد أقل من سنة وانتهى بالطلاق.

 التناقض بين الاثنين صارخ، فوفيق دمث ومتواضع، والآخر سمج، ولو كان القانون يعاقب على السماجة لحكم عليه القضاء بعشرين عام حبسا على الأقل.

-عمي حسين، أفاقَ الوالد منذ دقائق، الحمد لله لقد نجا.

عانقني فادي، ودموع التأثر والقلق تطفر من عينيه.

-ومؤيد، كيف حاله؟

-من، ذاك الأحمق الذي كان يقود السيارة، وتسبب بالحادث اللعين؟!

لا تقلق عليه، إنَّه كالقط، بسبعة أرواح، اقتصرت إصابته على كسر بالساق.

كتمتُ استغرابي، وسألتُ عن إمكانية مشاهدة والده، دون أن يجيب، سار أمامي، وتبعته إلى الغرفة رقم اثنان وثمانون.

كان رأس وفيق محاطا برباط من الشاش الأبيض، وآثار المعقمات الطبية برتقالية اللون تغطي جزءا من جبينه، وجهه شاحب كليمونة، وذراعه اليمنى مستقرة في كتلة من الجبس السميك.

-قال الطبيب أنَّه تجاوز الخطر، وأمر بإعطائه مسكنا قويا.

أرجوك يا عمي حسين أن تبقى بقربه، تعرف كم يحبك، سأترككما، وانزل إلى خارج المشفى لتدخين سيجارة.

-اقترب يا حسين، أنا بخير، عمر الشقي بقي.

حاول وفيق الابتسام رغم قسوة ما تعرض له.

جلستُ على يساره، وهنأته بالسلامة، التزمتُ الصمت لتجنب إزعاجه.

-تعرف، معك حق، المال لا يجلبُ السعادة، لقد جمعتُ ثروة طائلة لكني كدتُ أفقد حياتي برفقة غبي.

-من تقصد؟

-مؤيد اللولو.

هربت مني ضحكة بصوت عال، فمنذ وصولي إلى المشفى وأنا اسمع باسم مؤيد، ولا أحد يهتم بمصيره بل يستغربون نجاته وكأنها غير مرغوبة.

-جدي لعب بعقل تيس؟

-من الجدي ومن التيس؟

-بالطبع أنا التيس.

قال وفيق.

لم افهم شيئا من هذه الأحجية، ولكن استغرابي لم يطل فقد تدفق كلام وفيق:

-لعن الله الطمع، عندما كنتُ في الخدمة جمعتُ أموالا لا تحصى، واشتريتُ عقارات لم اجرؤ على تسجيلها باسمي، فنقلت ملكيتها إلى أبنائي، ولكيلا ألفت الأنظار طلبت من أخي كمال أن أسجلها باسمه فوافق على تحمل المسؤولية، واستثمرها حتى نمت الأرباح وتضاعفت.

-ما علاقة ذلك بالجدي، أقصد بمؤيد اللولو؟

-اصبر عليَّ يا حسين، ولا تخطف الكباية من رأس الماعون.

-حاضر، تابع.

-بعد التقاعد، طالبتُ كمال بإعادة أملاكي، رفض، ساومته على الثلثين، أبى، رضيتُ اخيرا بالنصف، قال يكفيك ما عندك، ولن أعيدَ لك شيئا.

لم أستطع كتم غيظي، صفعته على وجهه، غلَّظ لي بالقول، ودعاني لتبليط البحر!

فكرتُ ولم اهتدِ إلى حل، حتى زارني مؤيد اللولو دون موعد مسبق، لا يخفيك كم احتقرُ والده الأحمق، ولكن الشهادة لله سماجة الولد تفوق الأب بأضعاف.

-ما سرُّ الزيارة المفاجئة؟

-قضيتنا واحدة، تخيِّل يا صديقي، أنا وفيق السالم، وذاك التافه!

أثار وفيق فضولي، وخشيتُ-كما يحدث في الأفلام السينمائية الهزيلة-أن يموتَ البطل قبل أن يخبر المشاهدين بالسر الخطير، لكن وفيق لم يكن مستعجلا على الموت، وأكملَ حديثه:

-قد لا تعرف أنَّ مؤيد قد جمع ثروة لا يستهان بها من ألاعيب مصرفية محكمة، ولن ينفع أي تحقيق بكشفها، ولكن نظرة واحدة على أملاكه وحساباته سوف تقود إلى الشك به فهو من عائلة معدمة ولم يرث من والده إلا السماجة.

لا يخفى عليك أنَّ مؤيد قد طلَّق زوجته بعد عام واحد من الزواج، وسربت عائلتها أن السبب هو ضعف رجولته، وثبَّت صمته التهمة عليه.

قدَّرتُ أنّ وفيق يهذي، تذكرَّت حديث ابنه عن تأثير البنج والأدوية، خفّ اهتمامي بالاستماع إلى بقية الحديث، وكدت أرجوه أن يرتاح وينام.

وقفت، وهممت بالاستئذان.

فهم وفيق ما جال بخاطري:

-أنا لا أهذي، اجلس واسمع بقية القصة، لا تكن عجولا.

امتثلتُ لرغبة صديقي أبي فادي، وغالبت حنقي من أفكاره المتداخلة، عادت طاحونة كلامه لتدور:

-لا أعرفُ ما كان يدور بين مؤيد وزوجته في غرفة النوم ولا يهمني الأمر من قريب أو بعيد، ولكن سبب الطلاق شيء آخر، فقد وقع الغبي في نفس خطئي، وسجل لأهل زوجته كل ما يملك من أموال نقدية وعينية، وعندما علا صوته بالمطالبة رموه خارجا ككلب أجرب، وهددوه بكشف سره.

-ولماذا جاء إليك، قصدي ما جمع المتعوس بخائب الرجاء؟

ابتسم وفيق، وأردفَ:

-محامي إمعة، خبير باللف والدوران، أقنعه بأن أشهد له بأنّ الأموال التي سجلها لعائلة زوجته كانت من حرِّ مالي وأننا شريكان فنجبرهما على إعادتها.

-وبماذا تستفيد أنت؟

-يظنُّ المحامي أنَّ ربح قضية مؤيد سيدفع أخي للتراجع عن صلفه، ولا أخفيك أنّي أعجبت بالفكرة.

-لماذا أنت غاضب من مؤيد؟

-لستُ غاضبا منه بل من نفسي، تخيَّل هذا الزمن الذي دفعني للركوب في سيارته والذهاب إلى مكتب المحامي النَّصاب، وفوق ذلك تعرضتُ لحادثة كادت تفقدني حياتي، ماذا سيقول الناس حين يعرفون بأنّ وفيق السالم كان برفقته!

أشفقتُ على وفيق، رجوته أن يحاول النوم، بدا على وجهه بعض الارتياح بعد أن أفرغ جعبته، غادرتُ الغرفة ولا أعرفُ إن كان وفيق سيعاود الكرة بعد تعافيه أم أنه سيتنازل عن أملاكه لأخيه، فالسارق عن السارق كال.

 

كاتب من سوريا