في إطار حفره في ثنايا التراث الحديث والمسكوت عنه فيه، وخاصة الفكري منه والفلسفي، يكشف الباحث المغربي المرموق هنا عن أحد رواد الفكر الفلسفي في عالمنا العربي. هذا المفكر الجزائري المولد، المغربي المآل يعد بحق أول مفكر في حداثتنا الفكرية، برغم ما عاناه من النفي الجغرافي واللغوي على السواء.

مُحنّد تازروت: مفكّر البدايات المنفي مرتين

فريد الزاهي

 

حين نبدأ بالتأريخ للفلسفة العربية الحديثة، لا نجد لها منبعًا مكتملًا إلا في اسم عبد الرحمن بدوي وتجربته، وإن كانت أسماء أخرى قبله قد نهلت من منابعها واستلهمت بعض معطياتها من غير أن تكرس فكرها وكتاباتها لها كطه حسين وأحمد فارس الشدياق وغيرهما. لقد سطع اسم بدوي في الأربعينيات، بعد أن حاز على الإجازة في الفلسفة عام 1938، وأبدى اهتمامًا كبيرًا بالفلسفة الوجودية كما بلورها في ذلك الحين مارتن هايدغر، نظرًا لمعرفته باللغة الألمانية. بيد أن الفلسفة العربية الحديثة إن كانت وليدة اللقاء بالغرب، استيحاءً وترجمةً وتعريبًا وتمثّلا (كما تبلور ذلك في الكتابات الغزيرة لعبد الرحمن بدوي)، فإنها لم تكن فقط وليدة شرعية للغة العربية وحدها، إذ إن الاستعمار الفرنسي لبلدان المغرب الكبير منذ 1830، قد كان وراء عدة أسماء محلية في علم الاجتماع والفلسفة والترجمة تناساها تاريخ الفكر العربي، لأنها ربما كانت تنتج فكرها باللغة الفرنسية.

والحقيقة أن فكرة العروبة والهوية القومية كان لها دور كبير في هذا النسيان. فقد بدأ محمد عزيز الحبابي يكتب الفلسفة وينظّر للشخصانية الإسلامية في بداية الخمسينيات باللغة الفرنسية. ولو أنه لم يترجمْ بنفسه ويكتبْ بقلمه بلغة الضاد لما كان له موقع (لا يزال للأسف هامشيًا) في الفلسفة العربية الحديثة. كما أن الخطيبي لو لم يُترجم في وقت مبكر إلى اللغة العربية (1980)، لما كان ليحظى باهتمام القارئ العربي. بل إن إدوارد سعيد نفسه لو لم يُترجم إلى العربية منذ الثمانينيات لما كان له هذا الأثر البالغ في تجديد الدراسات العربية المعاصرة. هل هذا يعني أن انعكاس الشرخ اللغوي في الثقافة في العالم العربي قد تولدت عنه بدايات متعددة للفكر العربي الحديث، تبعا للغة التي كتب بها؟

يقول إدوارد سعيد في كتاب البدايات: "البداية نشاط مثمرٌ واعٍ وَمُتعَمد، وبالإضافة إلى ذلك، إنّها نشاط يحتوي في طياتهِ على شعورٍ بالفقدان". والبدايات في العالم العربي قد تكون فقدانًا مزدوجًا، بالنظر إلى الشروخ التي خلقتها اللغات في جسد الثقافة العربية. وما حدث لمحمد عزيز الحبابي من تجاهل في تاريخ الفلسفة العالمية، بالنظر إلى تطويره لمفهوم الشخصانية، حدث قبله لفيلسوف ومفكر جزائري طاله النسيان نفسه هو مُحند تازروت (Mohand Tazérout (1893-1973. فهذا المفكر الجزائري الأصل الفرنسي الجنسية، الألماني الثقافة سوف يترجم لأوزفالد شبنغلر عام 1931 كتابًا هامًا هو "أفول الغرب" الذي سيجعل هذا المفكر ينعت بـ"الجيرمانوفيل" (عاشق ألمانيا) من قِبل الفرنسيين، بل أن يتهم بالنازية إلى أن أعيد له الاعتبار. ولا شك في أن هذه الترجمة تتلاءم مع ما قاله بول فاليري في الوقت نفسه: "إننا نحن حضاراتنا (الغربية)، نعلم أننا صرنا فانين"، بل لقد نهل منها هنري ميللر في 1952 في كتابه "بلوكسوس" العديد من المقاطع التي تؤكد منظوره لاندحار الغرب وانحطاطه. أما ترجمته لكتاب كارل بروكلمان "تاريخ الشعوب الإسلامية"، فكان يندرج في صلب تلك الرؤية التي سيبلورها لاحقًا في كتابات ولو جهوية، ككتاب "الجزائر غدًا"، وكتاب "بيان ضد التمييز العنصري" وغيرهما

في الوقت الذي كان فيه عبد الرحمن بدوي لا زال لم يحصل على الليسانس بعدُ، نشر محند تازروت مقالين هامين يتضمنان بعضًا من أفكاره في علاقة الفرد بالمجتمع والجماعة وفي فلسفة الحياة. وهما مقالان تحليليان صدرا في المجلة الدولية لعلم الاجتماع: الأول في عدد 1930، عن كارل دانكمان ومعهد السوسويولوجيا التطبيقية. والثاني وهو أهم وأكثر فلسفية وعمقًا بعنوان: "أعمال ديلثي: مساهمة في تاريخ السوسيولوجيا في ألمانيا" وفيه يمنحنا تحليلًا شاملًا وعميقًا ومقارَنًا لفلسفة ديلثي في الحياة وانفصالها عن الميتافيزيقا الكانطية، ومتابعة دقيقة لشخصية الفيلسوف وفصول حياته، بحيث يمكن أن يشكل هذا المقال الطويل كتابًا شاملًا عن ذلك المفكر.

لقد مكنت الثقافة الموسوعية لمحند تازروت من أن يترك لنا كتابًا موسوعيًا من أربعة أجزاء منحه عنوانًا تفاعليًا: "في مؤتمر المتحضرين"، جعل كل حضارة تتكلم فيه عن نفسها من الحضارة اليونانية إلى الصينية إلى الفرعونية، حتى وقته الحاضر. وهذا المصنف يمكن أن يعتبر ضربًا من التأريخ الفكري الذي يسعى إلى المساواة بين الحضارات، وضمنيًا طبعًا إلى نقد الأوضاع الحالية للحضارة الإنسانية. وهو يشكل، بصورة ما، صدى لترجمته لشبنغلر، التي كان حافزه على إنجازها النظرة الإيجابية التي أبان عنها شبنغلر للحضارة العربية، ونقده للصليبيين الذين وصفهم بالبلاشفة وببرابرة الغرب لأنهم هاجموا حضارات بلغت أوج تطورها الروحي؛ واعتباره أن الفتوحات الإسلامية تختلف عن الفتوحات الرومانية والوندالية. وبذلك كانت تبدو نظرة هذا المفكر الألماني معاكسة للنظرة الكولونيالية التوسعية للغرب.

سيرة البدايات:
رأى محند تازروت النور بقرية أغريب بمنطقة القبائل عام 1893 في عائلة أمازيغية محافظة. بعثه أبوه، وهو صبي، عند عمه لتعلم اللغة العربية وحفظ القرآن، كما كان الأمر معمولًا به آنذاك في التقاليد التربوية للمجتمع الجزائري. وبدأ مسيره التكويني في مسقط رأسه بمدرسته الابتدائية، ثم انتقل بعدها إلى دار المعلمين بالعاصمة. وبعد تخرجه منها، التحق بمدينة ثنية الأحد للتدريس، لكنه لم يمكث هناك طويلًا، لأنّ مدير المدرسة الفرنسي عامله بطريقة لم ترق له، فكان أن أعلن عليه العصيان وقرر أن يشدّ الرحال إلى القاهرة عام 1912، حيث التحق بجامعة الأزهر التي فتحت له المجال للتعرف على الكثير من المثقفين المصريين آنذاك. بيد أن الرجل النهم إلى الثقافة والعلم سوف يأخذ الطريق إلى إيران سنة بعد ذلك، بها قضى عامًا كاملًا تعلّم فيه اللغة الفارسية، ومنها رحل إلى روسيا وقضى بها سنة ونصف السنة تعلّم فيها اللغة الروسية مما ساعده على دراسة الثورة البلشفية بعدها.

لم يتوقف ترحال محند تازروت عند هذا الحدّ بل زار الصين ومكث بها مدة. وبعدها استقر في ألمانيا وتعلّم لغتها، ليعود إلى أرض الوطن لفترة وجيزة مع بداية الحرب الكونية الأولى، حيث خضع للتجنيد الإجباري كغيره من شباب الجزائر والتحق بالجيش الفرنسي لخوض الحرب عام 1914، وحاز على الجنسية الفرنسية في حزيران/ يونيو من السنة ذاتها، وحصل على مرتبة نقيب. أصيب تازروت بجروح في معركة شارلروا، ما اضطره إلى الدخول إلى المستشفى، ثم وقع أسيرًا وأطلق سراحه، ونقل إلى سويسرا في عام 1916، وهناك حصل على البكالوريا ثم على شهادة الليسانس في اللغة الألمانية. وفي 1927، اتجه إلى ألمانيا والتحق بالجامعة قصد تحضير رسالة الدكتوراه عن أوزفالد شبنغلر، الذي كان قد ترجم عام 1918 الجزء الأول من كتابه: "أفول الغرب". وهكذا بدأت رحلة الرجل في ترجمة مجموعة من الكتب المرجعية المهمة، ونشر الكتب والمقالات الفكرية الهامة، ما أهّله لأن يكون ضمن الكتّاب والمترجمين الذين تركوا بصماتهم القوية والثرية في الثقافة الألمانية.

بعد الحرب سينقطع تازروت عن زيارة الجزائر المستعمرة، إلى حدود 1953. وقد ظل تصور تازروت للعلاقة بالمستعمر غير واضحة، غير أن بداية الخمسينيات ستشكل تحولًا حاسمًا في مواقفه، إذ أبدى حسب جاك فورنييه (الذي أصدر عنه كتابًا جماعيًا عام 1916 بتقديم لجاك لانغ، وزير الثقافة الفرنسي السابق ومدير معهد العالم العربي بباريس) ميولًا إلى العودة إلى الأصول، والتخلي عن فكرة اندماج الشعب الجزائري في المجتمع الفرنسي. وقد تتوج ذلك بإصداره لكتاب باسم مستعار بعنوان: "جزائر الغد" يدعو فيه الشعب الجزائري إلى تقرير مصيره بيده. يضيف فورنييه بهذا الصدد: "ثم إن محند تازروت أضحى يتخذ موقفًا حازمًا وبشكل متزايد لصالح استقلال الجزائر. ويشبه تطوره هذا مسار رجل من قبيل فرحات عباس ومفكرين جزائريين آخرين، آمنوا بالاندماج، ووجدوا أنه غير عملي، صاروا يطالبون تدريجيًا بالهوية الجزائرية ودعم الكفاح المسلح المؤدي إلى الاستقلال".

ثم إن تازروت سوف ينتقل إلى العيش بالمغرب، وهناك اشتغل مستشارًا لمحمد الخامس. وهي فترة لا نعرف عنها الكثير إلا ما كتبه مصارعًا ضد التخلف ومن أجل أخلاق سياسية جديدة. وسوف تأتي وفاته بمدينة طنجة في عام 1973 ويوارى بها التراب.

تجاهل مزدوج:
وكما شككت بعض الأقلام في الطبيعة الفلسفية لعبد الرحمن بدوي، سوف يعاني محند تازروت، وبشكل أعمق، من نسيان مزدوج: الأول لأن الثقافة الفرنسية شنت عليه حملة هوجاء بسبب اختياراته الفكرية والترجمية، التي بدت لفرنسا الوطنية آنذاك معادية لهويتها الوطنية، والثاني لأن هذا الإغفال المقصود سوف ينعكس على بني جلدته، الذين لم يسعوا إلى التعرف عليه وترجمة كتاباته إلى اللغة العربية لأسباب أيديولوجية أيضًا. وما دام الفرنسيون لم يستسيغوا فكر هذا الرجل الذي يكتب بلغتهم بـ"فكر جرماني" فإن فكر تازروت سوف يتعرض للكبت والإغفال، مع أن الرجل كتب مقالًا حصيفًا في المجلة الدولية للسوسيولوجيا عن عناصر التقارب بين الفرنسيين والألمان عام 1936.

ففكر شبنغلر الذي أدخله تازروت ترجمةً إلى اللغة الفرنسية، كما كتابه "نقد التربية الألمانية" (ثلاثة أجزاء) عمَّق ذلك الطابع "الجرماني" في ذهن معاصريه. ومن تبعات ذلك، الجدل الكبير الذي دار في الأربعينيات بينه وبين عالم الاجتماع رايمون آرون بخصوص أفكار شبنغلر، توافقًا مع نقده لفكر هيجل وماركس وشبنغلر، واتساقًا مع الروح الكانطية التي كان يؤمن بها. ونظرًا لهذا الجدل العنيف ولدفاع تازروت عن الفكر الألماني، ألصقت به تهمة النازية التي ستُسقط عنه قبل أن تجَّر عليه الويلات. وكتابه عن التاريخ السياسي لشمال أفريقيا، يظهر بجلاء قدراته كمؤرخ فذ، وكعارف بتشويه الحقائق عن هذه البلدان (التي طالما دعا إلى وحدتها) من قبل المؤرخين الغربيين الذين لا زلنا نتخذهم مرجعًا في هذا المضمار. ولولا الكتاب الذي ألفه عنه جاك فورنييه عام 2016، لظل الرجل حبيس طبقات سميكة من النسيان.

يصعب علينا في هذه القراءة الخاطفة لفكر محند تازروت أن نحدد توجهه الفكري وهويته الفلسفية. فهو تارة فيلسوف للتاريخ، تبعًا للتقليد الألماني، وهو تارة أخرى فيلسوف للسياسة، وعالم اجتماع على طريقة ديلثي، وهو أطوارًا أخرى محلل سياسي كما تبدى ذلك في أواخر حياته. بيد أن الثقافة التاريخية والفلسفية الشمولية للرجل ومعرفته العميقة بالثقافة والفلسفة الألمانيتين، جعلته غريبًا مزدوجًا، عن ثقافته الفرنسية وعن الثقافة الألمانية التي كان يعرّف بها، حتى لا نضيف غربة ثالثة عن ثقافته الأصل (الأمازيغية والعربية) التي لم يكف عن الدفاع عنها.

إنه مفكر البين بين، لغةً وفكرًا ووجودًا ... ويستحق، هو المترجم الفذّ، أن يُنقل للعربية ويُدرَس ويُبحث في حياته الحافلة بالتحولات والنشاط الفكري، حتى يتعرف عليه بشكل أفضل بنو جلدته ... فقد يجدون في ثنايا فكره بعضًا مما وجدوه لدى محمد عزيز الحبابي وعبد الله العروي، اللذين يبدوان لي من مناح كثيرة الأقرب إلى فكره ... بل سيعرفون معرفة حقة بأنه أول مفكر في حداثتنا الفكرية ... وإذا نحن لم نقم بذلك فسنضيف لمنفاه الثنائي منفى ثالثا ... سيكون أكثر مأساوية لنا وله هذه المرة.

 

عن (ضفة ثالثة)