تتناول الباحثة الجزائرية هنا المسوغات الفلسفية الني دفعت الفيلسوف جويو برؤاه الحدسية بالحياة والأخلاق والعلم والدين، إلى تصييرها علميا بعد وتتناول باستفاضة ما كتبه المترجم الشهير سامي الدروبي في مقدمته عنه والتي أقترح فيها أن فلسفة جويو مزيجا من الوضعية العلمية والميتافيزيقا الروحية، وهي من هذه الناحية مدرسة قائمة برأسها.

قراءة ناقدة في مقدّمة ترجمة

كتاب مسائل فلسفة الفنّ المعاصرة

لـ: Jean-Marie Guillot

طاطة بن قرماز

 

توطئة:
تُرجم كتاب مسائل فلسفة الفنّ المعاصر لمؤلفه Jean-Marie Guillot جان ماري جويو من لدن المترجم سامي الدروبي ، وجاءت مقدمة المترجم في سبع ورقات، وقف المترجم عند شخصية المؤلف من حيث نعت حسّه وأشاد بعبقريته وثقافته ، كما بسط المترجم حياة المؤلف منذ  أن بزغت عبقريته الطفولية المبكرة إلى تاريخ وفاته ، للإبانة عن عبقرية المؤلف التي أهّلته إلى خوض ثورتي الفنّ والجمال ، استهل المترجم مقدّمته ناعتا شخصية المؤلف جان ماري جويو بقوله: "كان مرهف الحسّ فجزع ... جزع على الفنّ أن يحطمه العلم وعلى الأخلاق أن يطوّحها الشكّ ،وعلى الدين أن يبدّد العقل ما فيه من شعر"[1] ، وقد أسهب المترجم في عرض ميولات الفيلسوفGuillot في الصفحة الأولى من الترجمة ، كوقوفه متأملا حدسيا للوجود والحياة  و إيمانه بالعلم وهو في عمر الثامنة عشر، ليضعنا المترجم في قلب المسوغات الفلسفية  الفيلسوف جويو الحدسية بالحياة والأخلاق والعلم والدين، التي دفعته إلى تصييرها علميا بعد نضجه  لذلك قال سامي الدروبي عنه : "فكانت فلسفة جويو مزيجا من الوضعية العلمية والميتافيزيقا الروحية، وهي من هذه الناحية مدرسة قائمة برأسها "[2]  .

عرض لمسائل فلسفة الفنّ المعاصرة في مقدّمة الترجمة :
إنّ من القضايا التي تناولها سامي الدروبي في مقدمة الترجمة هي : موقف جويو من الشعر وكان المؤلف قد نشر كتابا بعنوان أشعار فيلسوف في نهاية 1880 م وقد ضمّن المترجم قول جويو الذي استهل به ديوانه أشعار فيلسوف : " لن يحتفظ الشعر بمكانته تجاه العالم مالم يبحث عن الحقيقة كالعلم نفسه ، وإن في صورة أخرى وطرق خاصة " [3] ،  وربما يقصد بالحقيقة  المبدأ الذي يقوم عليه الشعر وقد مارس مبادئ نظريته الشعرية في كتاب مسائل فلسفة الفنّ المعاصرة الذي نشر عام 1885 م ، تضمن موقفه من الشعر " أن الشعر الحق هو الذي يستخرج العاطفة  من الفكرة  والصورة من العاطفة ، كما تستخرج الحياة من البذرة الخصبة .

ماهية الفنّ:
أفرد جون ماري جويو بابا أسماه: مبدأ الفن والشعر[4] ، وقد وقف للمدرسة التطورية بالمرصاد الداعية إلى توحيد الفنّ واللعب وجاء رأيه مستفسرا : " هل استطاعت هذه النظرية الشائعة أن تدرك طبيعة العواطف الجمالية على وجهها الصحيح ؟ ألم نغفل ما في الفن العظيم من جد ، وما يتولى تحقيقه من وظيفة حيوية باقتصارها على لذة التأمل المحض واللعب وبمحاولتها تجريد الفنّ من الحق والواقع والنفع والخير  وبتشجيعها على نوع من الهواية  تلكم هي المسألة الخطيرة ..."[5]،  يرجع الفيلسوف جويو الفنّ إلى كل ما يتعلق بالحياة والمجتمع  والدين أي الأخلاق وكان قد أبدى موقفه من الشعر في مقدمة من تأليفه ، ويبدو أن سامي الدروبي قد استوعب القضايا الفلسفية التي  عالجها وشغلت جويو    ،  حين قال أي سامي الدروبي : " إن العلم والفلسفة  والأخلاق تؤدي جميعا إلى الشعر، وتؤدي بالتالي إلى مايشبه العاطفة  الدينية  ، وكلما ضعفت العقائد الدينية  وجب على الفن أن يقوى ويسمو إن في الأديان شعرا سيبقى بعد زوال عقائدها "[6] ، ويبدو أن سامي الدروبي قد أدرك شعور جويو  بعلاقة الفنّ بالدين  فقد جعل اهتمام جويو بأن يتساءل  عن أن  ماذا عسى أن يبقى من مختلف  العقائد الدينية  والأخلاقية  قد لا يبقى منها شئ  لكنه سيبقى ما في الفنّ من خير ..

إنّ من التساؤلات التي آثارت جدلا عند جويو هو مسألة إرجاع الفنّ إلى اللعب وهي نظرية تعود لباثيها وهم :  كانت وشيلر وسبنسر، وقد قال سامي الدروبي في مقدمته أنه هاجم  هذه النظرية التي كانت  شائعة أنذاك ، حيث ذاد عنها  رونفيه لكنه ما فتئ أن يصمد دافعه في وجه نظرية جويو ، التي بايعها نتشه  ، ونالت نظرية جويو تأييده المتمثلة في تفنيد الفنّ إلى اللعب  وإرجاع مبدئه إلى الجدّ وليس اللعب  هذا ما ورد في مقدمة المترجم سامي الدروبي ، أما مقدمة المؤلف جان ماري جويو فقد تحدث عن اعتقاد الفنانين "عبر العصور بأن الفنّ يتصف بالجدّ والعمق حتى لقد كانوا يعدونه أصدق من الواقع وأخطر منه"[7] ، قد وضّح جويو كيف نذر الفنانون حياتهم للفنّ بل تعدى الأمر عند المتصوفة حسب رأيه إلى نوع من العبادة  فكان بتهوفن على سبيل المثل  وهو يستمع في داخله إلى سمفونياته يخيل إليه فيما قال أنه يسمع الله يهمس في أذنيه وقد علّق جويو عن هذه المعتقدات التي جعلت الفنّانين يغالون في تصوره  من حيث رأى بأنه و بقوله : بعدنا اليوم عن هذا النوع من هذا التفكير بالنظر إلى ظهور نظريات فنية حظيت بقبول العلماء  والفلاسفة ،  وقد أستدل بإحدى النظريات التي ترجع الجمال إلى مجرد لعب  تقوم به الملكات الإنسانية  مع تحفظه  وذوده على هذه النظرية  بقوله : ولكن هذه النظرية لا تدعي تهديم الفنّ  بل تدعو له أملا بالبقاء ، حتى لتتنبأ له بنصيب في حياة الإنسان آخذ في الازدياد ، لأنه وإن يكن عميقا ، تمرين لوظائفنا العليا  لا يخلو  من نفع - فإلى حدّ يمكن أن نعد هذه النظرية صحيحة ؟ تلكم هي المسألة الهامة الأولى ، وهي تتناول طبيعة الفنّ "[8] ، وقد استخلص جويو نتيجة خطيرة من فكرة إرجاع الفنّ إلى اللعب ورأى بأن يمكن أن تنضاف نظرية أخرى أكثر تطرّفا إلى هذه النظرية التي تعتبر الفنّ للكبار فإذن ما يقوم به العلم ليس له من جدوى على اعتبار بأن العلم مخصوص للكبار ، فاللعب إلزام للصغار منه للكبار وأن بعض الوضعيين يعدون الفنّ لعبا صبيانيا ، ويطمح جويو إلى المعرفة الصحيحة التي ذهب إليها الفلافسة والفنانون المعاصرون بأن الفنّ ليس إلا لعب ألوان وأصوات .

الفنّ بين اللعب والجدّ:
لقد جعل سامي الدروبي إشكالية الفنّ المتأرجحة بين دلالتي اللعب أو الجدّ في صدارة القضايا الفلسفية ومستهلها التي ناوشها جويو  من خلال ما طرحه في المقدمة ، وقد نعت سامي الدروبي جويو بأنه عدو اللعب ، ونحن هنا قد  لا نوافقه الرأي فقد أمدّنا جويو بأمثلة كثيرة عن اللعب : لعب الصبي بأضواء الشمس التي تمرّ عبر ثقب باب ولعب الكلب بكرة  وغيرها من الأمثلة في الحقيقة هو عدو الغاية أو الفائدة المرجوة من اللعب،  فلم يكن اللعب محققا للذة والمتعة بقدر ما هو إنفاق لقوة دغدغت الجملة العصبية  واستفزتها لإنفاق هذا الفيض العصبي في سبيل غريزة البقاء ومن ثمة ربط جوي اللعب بالواقع بغاية الانتصار والبقاء  وخير دليل على ذلك مثاله عن الفأر الذي يخدش الباب فليس الغاية هنا من التلذذ بقطع الخشب في ظل التغذية الحسنة المتوفرة وإنما الغاية من اللعب إنفاق  قوة نشاط متراكمة للإحساس بالقوة .

ولعل الذي جعل سامي الدروبي ينعت جويو  بعدو اللعب هو طبع جويو في تغليب طابع الجديّة على الفنّ " فلابد أن يجد الفنّ نفسه منزجا في الحياة الروحية والمادية للانسانية  "[9] وهو يرى بأنه ما عسى"  أن يبقى من  مختلف العقائد الدينية  والأخلاقية  قد لا يبقى منها شئ ، ولكن إذا سألتنا ماذا يبقى من الفنون ، من الرسم وخاصة الشعر هذا الفن الذي تلتقي فيه سائر الفنون ويستحقون أن يدرس على انفراد كان في امكاننا ،  فيما اعتقد ، أن نقول بملء الفم : سيبقى كل شئ أو سيبقى على الأقل كل ما في الفن من خير ومن عمق ومرة أخرى من جدّ "[10]، وقد بين  جويو موقفه حين قال بأنه يحق له أن يتساءل بعد اتفاق كل المدارس  المعاصرة في  فترته الزمانية على التوحيد بين الفنّ واللعب ، من خلال ما طرحه من سؤال : " هل استطاعت هذه النظرية الشائعة أن تدرك طبيعة العواطف الجمالية على وجهها الصحيح ؟ ألم تغفل ما في الفن العظيم من جدّ وما يتولى تحقيقه من وظيفة حيوية  باقتصارها على لذة التأمل المحض واللعب ، وبمحاولتها تجريد الفن من الحق والواقع والنفع والخير ، وبتشجيعها  إذن على نوع من الهواية  ؟ تلكم هي المسألة الخطيرة الأولى  التي ينصب عليها اليوم انتباه من يعنون بمصائر  الفن عامة ، ومصائر الشعر بوجه خاص ، يلاحظ القارئ بأن جويو كان يركز على الشعر ويعتبره محور استقطاب جميع الفنون  وهو مهوى أفئدة جميع الفنون  وملتقى سائرهم  ولا ننسى بأن جويو كان شاعرا مؤلفا للشعر متعاطيا له عن محض إرادة وعاطفة ولذة وجمال .

وقد وضّح جويو الغاية من تأليف هذا الكتاب وهو سعيه الحثيث إلى إقرار صفة الجدية للفنّ  وخاصة الشعر " في مبدئه وجوهره وثانيا في تطوره  المقبل وثالثا في شكله الذي يجب أن يستمد من الفكر والعاطفة  كل ما يتصفان به من صدق ، فإذا وقفنا إلى إقرار هذه النقاط الثلاث نكون  قد دفعنا عن الفن والشعر عدوان الفلاسفة والعلماء ، بل عدوان الفنانين والشعراء ، فلا شئ أبعد عن الشعور الحقيقي بالجمال من هذه الهواية التي ترجع الشعور الجمالي إلى إحساس مرهف قليلا أو كثيرا ، إلى مجرد شكل عقلي ، إلى وهم عابر إلى مجرد أداة للهو الفكر ..."[11]، فاللذة مقرونة باللعب وإذا زال اللعب زالت المتعة ، ويرى جويو أن كلّ ما نرى في الطبيعة من جمال شعري مرده إلى دماغ الإنسان [12]، ودليله في ذلك أن التلوين في الأدب يتم بالإحساسات الحية لا الميتة " ولعل في إمكان الشاعر الذي ولد أعمى ، أن يرسم  بشعره صورا ملونة إلى أبعد حدّ  رغم أنه لا يعتمد إلا على إحساسات اللمس والسمع والشم ، على الإحساس بالحياة على العواطف والأفكار"[13] ، فالألوان يتصورها في مخيلته فيرسمها  دون الحاجة إلى معاينتها حواسيا أو بحاسة العين، " فالصورة في الشعر نتيجة لتعاون كل الحواس وكل الملكات ، وليس الأمر على هذا النحو في الفنون الأخرى...."[14] وللفن من منظور جويو غاية مزدوجة أو وظيفة مزدوجة  يؤديها وهي : أن يجعل المعنى حسيا عيانيا ، وأن يجعل الإحساس خصبا فيخرج منه فكرا. 

ذكر المترجم سامي الدروبي ميول المؤلف  وأبان عن مشاغله الشعرية والفلسفية  منذ الصغر ، حيث تأثر المترجم  بأفكار المؤلف الفلسفية جان ماري جويو فقال في مقدمة الكتاب  "...والحقيقة أن الجمال يرتد إلى الشعور بالحياة فلا يمكن أن يستبعد كل ماهو ضروري للحياة ، إن أول مظهر من مظاهر الشعور الجمالي ارواء الحاجة واستعادة الحياة توازنها واستئناف الانسجام الداخلي ، فعلى هذا يقوم جمال الإحساسات،" ينم الجمال عن أمور تدرك بالحواس  فتثير الشعور بالمتعة  وتصبح حاجة ملحة من حاجات الحياة.

أشاد المترجم في مقدمته بميولات جويو الشخصية كميوله بحبّ الشعر والفلسفة و بذاكرته القوية العجيبة ، حيث كان شديد الدقة والانتباه والتأمل في جمال الطبيعة ،  فكان يهوى مناظر الجبال والبحر التي يحفل بذكرها شعره ، وكان يحب جميع الفنون ويجيد فهمها إلى حدّ بعيد ، ولا سيما الموسيقى وكانت له مواهب تأليفية في الموسيقى وقد ظهرت براعة نظمه وجمال إيقاعه  الشعريين في ديوانه الشعري : أشعار فيلسوف.، ومن الأفكار الأساسية التي نافح عنها جويو هي الحياة مبدأ الفنّ والأخلاق والدين .

   إنّ جل الأمثلة التي استدل بها جويو في تعريفه الجمال وإبراز مبادئ الشعر والفن مستقاة من واقعه المعيش ، ففي تفسيره لوظيفة التنفس باعتبارها وظيفة جمالية التي هي وظيفة حياتية  فقد يرى أحدهم أن التنفس أمر طبيعي  يخلو من فكرة الجمال إلا أن جويو حوّل التنفس إلى مظهر من مظاهر الجمال  لما قال : "ولكن الواقع أنه قلّ  بين الانفعالات ما هو أعمق وأعذب  من لذة المرء  حين ينتقل  من هواء فاسد إلى هواء  طلق نقي ، كهواء الجبال العالية ، فإن تتنفس تنفسا عميقا ، ونحس الدم يصفو ويروق بملامسة الهواء ونشعر بجهاز الدوران كله يستعيد النشاط والقوة، فتلك متعة تكاد تكون فاتنة ساحرة  ، ويستحيل أن نجردها من قيمتها  الجمالية ..."[15]

أما ما يتعلق بالأخلاق فعلى الإنسان أن يفيض على الآخرين  وينبغي استبدال قاعدة كانت القائلة : يجب علي إذن أقدر ، بالقاعدة : أقدر ، إذن يجب علي ،  فمن الواجب إلى القدرة عند كانت ، وعند جويو من القدرة إلى الواجب ..، أما الفنّ فالحياة مبدأه في تجلياتها الثلاث : العاطفة والعقل والإرادة  وما لذة الجمال عند جويو  إلا الشعور بهذا الانتعاش العام  فالانفعال الفني هو الذي يملك علينا كياننا كله مثل ما كان ينفعل  بتهوفن في تأليف سمفونيته مثلما كان ينفعل بونابرت في خوض معركة فالانفعال ذاته هو الدافع والمحرّض  " لذلك كانت النظرية  التي ترد لذة الجمال إلى لذة اللعب خاطئة ، فالفنّ جدّ إلى أبعد حدود الجدّ .. والحقيقة أن الجمال يرتد إلى الشعور بالحياة ..."[16] ، ويمكن لنا أن نتفهم ما الإضافة الجمالية التي يضيفها ويضفيها الفنان أو الشاعر على الصورة الطبيعية للأشياء فإذا أخذنا بوجود الأشياء أمامنا طيلة الأوقات وما إن يرسمها الشاعر بريشة أسلوبه وتصويره فإنها ترقى إلى الجمال الآخذ إن لم نقل المطلق ، فالجمال من صنع الفنان وليس من صنع الطبيعة أي في كيفية إضافة قيمة جديدة للطبيعة أو عرض الطبيعة التي كانت أمام أعيننا لفترة من الزمن بأسلوب مستجدّ جميل ، يعزو شبنهاور المتعة الجمالية للجمال الفني لا للجمال الطبيعي  فهو يرى بأن الجمال الطبيعي ناقصا مالم تكن معايير الجمال ثابتة في عقل الفنان  قبليا ، " فذهن الفنان  يحوي صور الأشياء الجميلة  قبليا  وما عليه إلا اكتشاف هذا المثال في الطبيعة غير الواضح الناطق ، فينطق في وضوح ما تعلثمت في نطقه فهو يعبر في الرخام الصلب عن الجمال الصورة التي أخفقت الطبيعة في إنتاجه "[17]،   

وإذا أخذنا بالصورة الشعرية التي رسمها عنترة بن شداد على سبيل المثل في توصيفه لحركة الذباب بقوله[18] :

         وخلا الذباب بها فليس ببارح            غردا كفعل الشارب المترنّم

         يحكّ ذراعه بذراعه  قدح                  المكبّ على الزناد الأجذم

يترآى لنا بأن الصورة هنا من إنتاج مخيلة الشاعر عنترة ليوقظ فينا الشعور بالجمال بما أن الجمال حقيقة ضمنية[19] ، ولذلك شبه عنترة بن شداد حركة الذباب بالشارب المترنم الذي فقد توازنه من شدة السكر ، فصورة عنترة يمكن أن نعتبرها صورة مخادعة للواقع لأنها في الأصل ليست حقيقية وعلى هذا الأساس اعتبر جويو الجمال نوعا من الخداع  وأن كل ماهو واقعي حيوي ينافي الجمال[20] ، أي لا يلبي  حاجة حقيقة بل حاجة حسية أو نفسية عابرة ، وكأن الجمال الحقيقي لا يظهر وإنما الشاعر وحده قمين بإظهاره لأنه كامن في روح الشاعر كالفن عموما الذي هو كامن في الروح " فإذا كان  الفن ناتجا عن الروح  فإن ما يكمن في جوهره هو الحقيقة لأن ماهو روحي فهو حقيقي ، فالجمال هو الأسلوب الوحيد للتعبير عن الحقيقة وتقديمها ، وبهذا يمكننا القول بأن الواقع ينعكس في الفنّ  على الرغم من أن هيجل قد استخدم تعبير الفنّ عن الحقيقة للبرهنة على أن الفنّ  لا يعكس الواقع بل الروح المطبقة ، فمضمون الحقيقي والجميل واحد إلا أنهما يختلفان من حيث الشكل ، فالحقيقي هو الفكرة  كم تدرك للفكر والجميل هو الفكرة في صورة تعبير حسي"[21]، يدرك الجمال بقوى روحانية تتفاوت من فنان إلى أخر ويتفاوت تذوقها وتقدير مستواها  الجمالي من متلق إلى أخر تبعا لخصوصية الصورة المعبرة عن حقيقة جمال الشئ المراد توصيفه.

قام جويو بتوسيع نطاق الجمال ليكون موازيا لنطاق الحياة حيث تناول مسألة القبح فقال : إن بعض القبح ضروري للفن ، لأنه في بعض الأحيان شرط من شروط الحياة  فالاتساق لا يظهر إلا بالاضطراب  والانسجام يقع  وراء الشذوذ كما تقع الطبيعة وراء التقليد،  والفن من منظور جويو يكتشف موضوعه وهو الجمال ولا يحلله بينما العلم يحلل و بينما يعمل العقل على تخريب الغريزة ...

أفرد جويو بابا أسماه لذة الجمال ولذة اللعب[22] ،  ففي عمل الأعضاء ونشاطها لذة وفي إنفاق القوة نشاط ولذة  فالحيوانات التي تنعم بالراحة والتغذية الجيدة  تنفق نشاطاها  وذكر أمثلة عن الحيوانات التي تسرف في حرق طاقاته بواسطة اللعب ، مثل الهرّ الذي يشعر رغم حياته الهادئة  برغبة ملحة في إعمال مخالبه بخدش شجرة يستعيض بها عن فريسة لأنه يشعر بالحاجة إلى إنفاق قوته ومن ثمة الشعور باللذة والمتعة بصرف فيض عصبي  احتاج إلى صرفه.

إن فهم المدرسة التطويرية للجمال مرتبط باللذة ومرتبط بالحياة كسائر اللذات ، فإذا زالت الكائنات الحية من الوجود ، زال معها جمال الوجود ، كما تزول الأضواء والألوان بزوال العين ، أما رأي جويو فتمثل في أن مانرى في الطبيعة من جمال  شعري مرده إلى دماغ الانسان "[23] ، كما أن تصورنا لمعنى الجمال يختلف من شخص إلى آخر  وقد نقل جويو مثال بأن أحدهم كان يمر بطريق فما تمالك نفسه بقوله : ما أجمل هذا الطريق ..يقول جويو : " وبهذه الصفة  التي أطلقها  على الطريق  أشار إلى أمرين  في آن واحد ، براعة  البناء  وسهولة انزلاق  العربة  دون ما هتزاز  أو مقاومة "[24]

رأى جويو بأن السبنسر أخلط بين اللذة والاستدلال ، وقد رأى السبنسر بأن الحاجة أو الرغبة التي تنشأ عن الحاجة  تنفيان كل شعور جمالي ، وقد نقل جويو ما كتبه سبنسر في معرض نظريته بقوله : " أن السعي إلى تحقيق غاية من الغايات المفيدة يجعلنا نغفل الصفة الجمالية في هذه الغاية "[25] ،حين ضرب مثالا على رجل يبحث عن سوق لشراء الطعام بتوظيف بصره  والاستعانة بقواه البصرية  الإدراكية  في سبيل غاية من شأنها الإبقاء على حياته ،  ففي رأي سبنسر أنه حين يلجأ الشخص إلى استخدام قواه البصرية  فإن هذا الاستخدام يكون نقيضا لهذه القوى في إدارك الجمال ،لأنه يسعى من أجل البقاء هذا السعي في نظر سبنسر هو خارج عن نطاق عاطفة جمالية ، أما جويو  فهو يشاطر موقف سبنسر في أنه لكي يحس أحدنا بلذة جمالية لا بد أن يحس أولا بلذة ما ، أما حالة الهدوء وعدم المبالاة فلا يمكن أن يمازجها شئ جميل ،  وقد رأى جويو بأن السبنسر قد أخطأ حين  جعل من الشخص يبحث عن الأسواق   ببذل جهود الاستدلال والحسابات والبحث عن الأسعار الملائمة ونحن نعلم بأن التفكير الاستدلالي يتعارض مع العاطفة عامة ومع العاطفة الجمالية خصوصا ، وقد رد جويو على رأي سبنسر بقوله " وأقول في الرد على ذلك : أن كل لذة عنيفة  لا بد أن يقدرها الشعور تقديرا واضحا مميزا  ،وهل هناك لذات أعنف من تلك التي تنتج عن إرواء حاجة حيوية ... ولهذا السبب  أرى من الخطأ أن نعد الرغبة وارواء الحاجة منافين للمتعة الجمالية ... فمتى كانت الرغبة قوية لملمت حولها كل ضروب النشاط وأصبحت مركز الجذب في نفس الإنسان ..."[26] ، يميز جويو إذن  بين ما افترضه  سبنسر من خلال حاجة الشخص المنبنية على العقل وبين افتراضه الذي بناه على تحقيق رغبة تأسست على عاطفة  ليخلص إلى أن ارواء الحاجة  فتملأ الشعور وتُشعره بلذة جمالية .

يستخلص مما سبق تداوله وبسطه أن جون ماري جويو طرق مسائل فلسلفة الفن المعاصرة  من وجهة فلسفية جمالية  أثبت فيها وجهة نظره تجاه الفن والحياة  مستفيدا من أراء كانت وسبنسر فكان ناقدا لأفكارهم الفلسفية مستثمرا ثقافته بالشعر والفلسفة والموسيقى والرياضيات ، وكان سامي دروبي قد أجاد ترجمة هذا العمل الأدبي الذي يعدّ قيمة بالغة الأهمية تضاف إلى رصيد الدراسة الفلسفية للفنّ بأنوعه بأسلوب واضح مبسط مع الحاجة إلى تمعين النظر في جوهر الدلالات موضوع الفنّ والجمال.

جامعة الشلف/ الجزائر

 

[1] جان ماري جويو ، مسائل فلسفة الفن المعاصرة ، ترجمة : سامي الدروبي ، ط: 2، دار اليقظة العربية للتأليف والترجمة والنشر ، 1967، ص: 5.

[2]  نفسه ، ص: 6.

[3]  السابق ، ص: 8.

[4] نفسه ، ص: 25.

[5]  نفسه ، ص: 27.

[6]  نفسه ، ص: 16.

[7]  السابق ، ص: 19.

[8]   نفسه،  ص: 19/20.

[9]  السابق ، ص:20.

[10]  نفسه ، ص: 22.

[11] السابق، ص: 20

[12] ينظر نفسه ، 25.

[13]  نفسه ، ص: 88.

[14]  نفسه ، ص: 90.

[15]  جان ماري جويو ، المرجع نفسه ، ص: 39.

[16]  السابق :ص:11 .

[17] أفراح لطفي عبد الله ، نظرية كروتشه الجمالية ، التنوير للطباعة والنشر ، 2011، ص: 117.

[18] عنترة بن شداد ، ديوان عنترة  ، المكتب الإسلامي، كلية الآداب جامعة القاهرة ، 1967، ص:186

[19] ينظر أفراح لطفي  عبد الله ، نظرية كروتشيه الجمالية ، ص: 106.

[20]  ينظر :  ماري جويو ، السابق ، ص: 34.

[21]   أفراح لطفي عبد الله ، نفسه ، ص: 109.

[22]  ينظر : ماري جويو ، ص: 28.

[23]  السابق : ص: 25.

[24]  نفسه ، ص: 35.

[25]  نفسه ، ص: 37.

[26]  السابق ، ص: 39.

هوامش البحث:

1: جان ماري جويو ، مسائل فلسفة الفن المعاصرة ، ترجمة : سامي الدروبي ، ط: 2، دار اليقظة العربية للتأليف والترجمة .

2: أفراح لطفي عبد الله ، نظرية كروتشه الجمالية ، التنوير للطباعة والنشر ، 2011.

3: عنترة بن شداد ، ديوان عنترة  ، المكتب الإسلامي، كلية الآداب جامعة القاهرة ، 1967.