تجربة أمين ريان جديرة باهتمام أكبر مما حظيت به. فبالإضافة إلى كتاباته الإبداعية، وذائقته الجمالية بوصفه فنانا تشكيليًا، كان مثقفًا موسوعيًا، وقارئا بالفرنسية والإنجليزية فضلاً عن العربية التي درسها فنال ليسانس الآداب بعد أن تخرج من كلية الفنون الجميلة. ورغم حرصه على إتقان الفصحى لم يستسلم لأنماطها البلاغية.

أميــن ريـــان: فارس المدينة

سـيد الوكيـل

 

أول زياراتي له في بيته كانت في صحبة الدكتور مجدي توفيق. في هذا الوقت كنا نُعد لجماعة نصوص 90 الأدبية، [i] لهذا كانت الزيارة بمثابة دعوة أمين ريان لكي ينضم إلى جماعتنا الأدبية. كانت علاقة مجدي توفيق به قوية، فهو على ثقة من موافقة (عم أمين) ليكون رمزًا لجماعتنا. أعترف بأني لم أكن مرحبًا بانضمام الكبار لجماعتنا الشابة. لكن فيلسوف الجماعة (الدكتور رمضان بسطاويسي) كان حريصًا على تحريرها من أي نزعة أو أي انحياز لشيء غير الأدب. لهذا التزمت الصمت في ضيافة عم أمين كما اعتدنا أن نناديه. ربما فكر أن يحررني من صمتي فبادر بالكلام:

- أنت منين يا سيد بيه. 

- من شبرا

كلمة (بيه) زادت من حرصي على التزام الصمت وتوجسي كأي شاب كونها كلمة تخرج من معجم قديم. وأنا أتأمله في منامة من الكستور الشعبي تذكرت أبي، لكليهما قامة قصيرة وجسد ممتلئ وملامح طفل. مع الوقت بدأت أعصابي المشدودة ترتخي حتى افترت شفتي عن ابتسامة راحت تتسع وهو يحكي لي عن تاريخ شبرا ما قبل ولادتي في الخمسينيات. تركيبها السكاني المتعدد من الفقراء النازحين من الدلتا وأفنديات الطبقة الوسطى. الأقباط والمسلمين واليهود. جامع الخازندار وكنيسة سانت تريزا ودير الراعي الصالح. سينما التحرير التي تجاور سانت تريزا. مسارح وملاهي روض الفرج التي تحولت بعد ذلك إلى شارع عماد الدين، العمارات التي بناها الأرمن والطليان. قصر سعيد باشا الذي تحول إلى مدرسة التوفيقية، والقصور الصغيرة التي تناثرت حوله.

سكت لحظة كأنه يتأمل شيئًا بعيدًا: تعرف يا سيد بيه.. أسماء الشوارع والميادين في شبرا تاريخ محتاج نذاكره.. في جلسة واحدة شاهدت تاريخ شبرا. واتضح لي هيام أمين ريان بالمدينة.

 ولد أمين ريان في حي روض الفرج عام 1925م وشاهد في طفولته بقايا التاريخ الفني لهذا الحي المطل على النيل، والذي يوحي اسمه بروضة يذهب إليها الناس للتفريج عن أنفسهم قبل أن يتحول رواده إلى شارع عماد الدين. 

 منذ قرر والي مصر (محمد علي) بناء القناطر الخيرية. حرِص على أن تكون شُبرا مُدخلًا حضاريًا لدلتا مصر، وعلى مسافة مقدرة من القاهرة القديمة حتى تتمكن من تشكيل هويتها على نحو مميز. لكن الأمر له بعد استراتيجي لرجل عسكري رأي أن عصر الحصون والقلاع قد انتهى، فليس أفضل من العمران لتحمي دولتك من هجمات غير محسوبة من فلول المماليك وقطاع الطرق. في روايات نجيب التي تناولت عصر الفتوات، كانت شبرا تظهر عبر إشارات خافتة خلاءً موحشًا وموطنًا للخارجين على القانون.

ثم لقاء عمراني أهداه الزمن بين شبرا والقاهرة الجديدة التي بناها الخديو إسماعيل، وأفضى هذا إلى خلق هوية خاصة لشبرا، تشكلت بين الجذور الريفية القديمة، والحداثة المستنيرة التي ميزت القاهرة. فحتى الآن لا يفصل بينهما سوى نفق صغير، تسللت منه فرق المسرح، ومرتادو الملاهي والكازينوهات إلى شارع عماد الدين.

يهتم أمين ريان بالمعابر بين الأحياء السكنية. هذه المعابر تحفظ تاريخ الناس وحكايتها التي نشأت عبر التفاعل أو التصارع أو تبادل المصالح،  والصفقات، والعواطف،  والشهوات.

حتى هذا الوقت لم أكن أعرف أن أمين ريان خريج الفنون الجميلة، أو أنه قد كلف في الخمسينيات بترميم القصور الملكية، وفيما بعد عرفت أنه سليل عائلة عريقة امتهنت فنون العمارة الإسلامية. إذ جاءت روايته (مقامات ريان) تناولاً سرديًا لتاريخ عائلة من (الأرت زانا) تتكون من مجموعة من الأسطوات في مجالات معمارية خاصة ببناء المساجد. الأرت زانا تضم عمال مهرة متخصصين في أعمال الحفر، والبناء، والزخرفة، والنحت، ونجارة الأرابيسك، وتصنيع الاسطمبات، والزجاج الملون والمعشق. هكذا ورث سليل الأسطوات حفنة من الفنون الجميلة ليس عبر الموهبة فحسب، بل عبر الخبرات والمهارات، فضلاً عن التعليم الجامعي.

 الشاهد فيما سبق أن كتابات أمين ريان دائمًا ما تستند إلى خبرة، ومعايشة فهو لا ينطلق أبدًا من معان، أو مقولات وأفكار كبرى، كدأب الكثير من كتاب جيله، ولا تدفعه أيديولوجيات من أي نوع إلى الكتابة. فقط يكتب ما هو حي ومعاش بين الناس، وهو اتجاه أصبح مقصدًا في الثمانينيات، هربًا من قوالب التنميط التي فرضتها الواقعية برافديها النقدي والاشتراكي.

 جاءت روايته الأولى (حافة الليل -1948م ) محتشدة بخبرات وملاحظات عاشها أثناء دراسته بمدرسة الفنون بالزمالك. حتى عندما يتناول الأحداث الكبرى ويتبنى المواقف السياسية، هو يفعل ذلك من خلال تجربة معاشة، فروايته (القاهرة 1951) التي تناولت واقعة (حريق القاهرة) خرجت من رحم التجربة الحيّة، عبر مشاركة في فريق عمل ميداني يضم المؤرخ الفني كمال الملاخ،و الفنان حسن حاكم. ولدقة ما في رواية (القاهرة 1951) من تصوير فني جعلها أقرب إلى فيلم وثائقي، كان من الممكن لهذه الرواية أن تتحول إلى فيلم سينمائي. إذ كان لأمين ريان ذاكرة بصرية مدهشة في وصف التفاصيل، كساها بلغة حية، مفخخة بتعبيرات ساخرة، ومغلفة بصياغات شعبية، لكنها لم تتنازل عن فصاحتها ورصانتها. لكن حتى هذا المنحى الوطني في فضح الفساد السياسي للواقفين خلف حريق القاهرة، لم يُرض ذائقة النقاد المؤدلجين الذين اعتبروا روايته الأولى (حافة الليل) مغلقة على نفسها في تناولها لواقع نخبوي، يختص بجماعة من الفنانين التشكيليين، يسكنون مرسمًا. كانت الواقعية في هذا الوقت منغمسة بشكل واضح في مسار سياسي مباشر يستهدف الجماهير العريضة. والحقيقة أن ريان لم يكن بعيدًا عن الواقعية، غير أنه كان أكثر اهتمامًا بالانطباع، أو الأثر الذي يتركه الواقع على الفنان لا الواقع نفسه، إذ كان تلميذًا للفنان التشكيلي أحمد صبري (أبو التأثيرية)[ii] يظهر هذا في لوحته (حفر قناة السويس) التي كانت مشروع أمين ريان للتخرج. فعلى الرغم من أنها لا تحاكي الواقع، إلا أنها تشعرك بحضوره القوي عندما صوره على نحو ملحمي، مكتظ بالمعاناة والألم. لقد كان أمين ريان الكاتب امتدادًا طبيعيًا لأمين ريان الرسام. وتلك أزمة أعرفها جيدًا، عندما يكون للكاتب ذوات إبداعية متعددة، لا يمكنه أن ينتمي بسهولة إلى المسارات الجاهزة في الواقع، ويعاني في حيرته، بين أن يركب الموجة السائدة، أو يصنع موجته الخاصة، التي تؤكد اختلافه وتميزه، وتهميشه أيضًا.

إن الدافع النفسي لما وراء الكتابة عند أمين ريان، مرتبط بآلية عمل التفاعل، التي تتصارع في الذات المبدعة عندما تمتلك أكثر من موهبة في وقت واحد، إنه تفاعل ينتهي عادة إلى خلق جديد ومتميز، يتجاوز الأنماط والنماذج المطروقة. ربما لهذا عانى أمين ريان من عزلة إجبارية، أبعدته عن قطيع المثقفين، فلم تحظ كتاباته وقتها بالتقدير المناسب، على الرغم من أنه توقف عن الرسم لفترات طويلة وتفرغ للكتابة؛ لكن قرار المحكمة الأيديولوجية قد وقع عليه الكبير (يوسف إدريس) كما أخبرني أمين ريان مازحًا. لهذا كان الحكم نهائيًا. كما تحولت المقولات الكبرى إلى أيديولوجيات، تحولت بعض الأفكار إلى حقائق. كان البعض بدعوى (التخصص) ينصح أمين ريان أن يبقى في حقل الفن التشكيلي: أنت مالك ومال الأدب! 

في ظني أن التخصص فقر مدقع، يحرمنا من آليات التفاعل التي بين الإمكانات الإبداعية المختلفة، وما زلنا حتى الآن، ننظر باستغراب وسخرية لشاعر يكتب رواية، أو للروائي يكتب نقدًا. على أية حال، محاولات أمين لهجر الفن التشكيلي لم تتحقق. ظلت الصورة رفيقة كتاباته الإبداعية، وفي سنوات عزلته الأخيرة، عاد للرسم مرة أخرى، وجعل من جدران شقته المتواضعة معرضًا خاصًا.

عندما زرته برفقة الإذاعية فردوس عبد الرحمن لتسجيل حوار أدبي معه، تجنب الكلام عن الأدب تمامًا، وراح يحادثنا عن تاريخه مع الفن التشكيلي، وعن أستاذه أحمد صبري.               

إن هذا المستوى من التعبير الفني الحيوي، الذي تميزت به كتاباته في وصف الوقائع والشخصيات. ليس مجرد أسلوب مصطنع لزوم الكتابة، بل هي طريقته في فهم العالم وإدراك أبعاده المتشابكة. ومن ثم تظهر وهو يتكلم ويصور لي كيف تشكلت شوارع شبرا وأبنيتها. وكيف اكتسبت سمتًا ثقافيًا يتميز بتعددية، وتنوع على مر السنين. في شبرا تتجاور المعتقدات الدينية المختلفة، والطبقات الاجتماعية، فكان من الطبيعي لمبدع ولد وعاش فيها، ألا ينشغل بتصنيفات فئوية أو حزبية أو طبقية، التهمت عقول المثقفين وقتها، ثم بدأت في التهام نفسها مع مطلع الثمانينيات.

الظروف شكلت شبرا على نحو فريد: المهندسون الأجانب، والمعماريون، والعمال المصريون الذين جاءوا من مختلف المحافظات للعمل في بناء القناطر الخيرية، سكنوا شبرا التي كانت في هذا الوقت خلاءً مقفرًا. لهذا تشكل تركيبها السكاني على تعددية طبقية غير مسبوقة. ليصبح للمكان الواحد مستويات متباينة من التعبير الثقافي. يبدو أن فكرة التباين هذه كانت ملهمة لكثير من أعمال أمين ريان الأدبية، والتشكيلية. ومن خلال هذا التباين تتحول كتابات أمين ريان الأدبية - كما لوحاته أيضًا - إلى دراسات تحليلية للشخصيات، وواقعها الداخلي والخارجي، وأثر الأماكن عليها. غير أن المكان المفضل لديه، كان القاهرة.

 الأماكن عنده تتحدد ملامحها عبر سكانها. وعلى نحو خاص في المعابر التي تتشكل عبر الزمن، ليس بين التكتلات السكانية فحسب، بل بين الطبقات والأفراد أيضًا. هذه المعابر شكلت البُعد الرابع للمكان من خلال حركة الزمن فيه. إن الاهتمام بالمعابر، بوصفها رمزًا زمكانيًا سمة مميزة نلحظها في كثير من أعماله مثل: قصص من النجيلي، مقامات ريان، حافة الليل. المعابر هي المعمار الاجتماعي للمدن، والشاهد على تحولاتها.

في حافة الليل كان (آدم) شابًا موهوبًا وفنانًا تشكيليًا، ولكنه مؤرق بهواجس دينية تجعله عاجزًا عن قبول فكرة رسم الجسد العاري للموديل (أطاطا) وهو في نفس الوقت، يئِدْ رغبة في جسدها الجميل، رغبة لا يمكنه تحقيقها أبدًا. حائر بين غوايتيْ الفن والجسد. روح عاجزة مصلوبة في الزمان والمكان. صحيح أن (أطاطا) أيضًا يغمرها القلق إزاء تعريها بين أيدي الغرباء من طلبة مدرسة الفنون. لكن قلقها لا ينشأ عن هواجس داخلية، بل عن واقع مُعاش تفرضه ثقافة حيها الشعبي (بولاق أبو العلا) ومن ثم يمكنها التحايل عليه والعبور فوقه، بعكس ما كان آدم. كان أمين ريان مدركًا لمهارات الذكاء الوجداني الذي حظيت به حواء، بنسبة أكبر مما حظي بها آدم، حتى لو كان شغفه هو الفن. (أطاطا) تعرف أن العيون تترصدها في رحلتها اليومية إلى الجانب الآخر من النيل (حي الزمالك) حيث تجلس عارية بين أيدي طلاب الفنون الجميلة لكي يرسمونها. كان حضورها الجسدي صاخبًا، ولم تكن راغبة في وأده. يملؤها هذا بالقلق، وعليها أن تغامر - وهي تتلفت خيفة - في كل مرة بالعبور على الكوبري الفاصل بين حيّها الشعبي (بولاق) وآخر أكثر تقديرًا لجمالها (الزمالك) بهذا العبور كانت تتخلص من قلقها، وتمنح جسدها حق الإعلان عن جماله، فتمتلئ بطاقة الحياة، وتعود إلى حيها الشعبي بريئة ومتجددة. هكذا عبور الكوبري بين دفتي النيل يأخذ بعدًا طقسيًا وأسطوريًا. إنه البرزخ/ المطهّر كما ترمز إليه أسطورة البطل الشمسي، ذلك الذي تتجدد حياته مع شروق الشمس كل صباح. وبهذه الرحلة أليومية / الزمكانية تمتلك (أطاطا) ميلادًا متجددًا، ليبقى جسدها الجميل ملهمًا للفنانين. تذكرنا (أطاطا) بشخصية (جالاتيا) على نحو ما صوّرها (برنارد شو) في مسرحية سيدتي الجميلة. امرأة شعبية فقيرة وأمية استطاعت العبور إلى أعلى درجات الرقي الحضاري. 

إن التباين الواضح بين آدم المصلوب، وأطاطا المتجددة، لا يظهر في المكان فحسب، بل في كل الأبعاد الشخصية لهما. وربما لا نبالغ لو قلنا أن ثمة دلالة تنتصر للمرأة هنا بوصفها تجسيدًا حيًا للجمال، ومحفزًا على الإبداع، وكيانًا مانحًا لحياة متجددة مع كل ميلاد جديد. إنها دلالة خافتة لا تفصح عن نفسها عبر خطاب نسوي صارخ أو مؤدلج. إنه أمين ريان، عاشق المدينة، الذي اعتاد التجوال بين أرجائها، يسجل ملاحظاته عن الأمكنة، والمباني.يرنو إلى الشرفات، ووجوه الناس في صمت وكأنما يمارس طقسًا وجدانيًا لتجديد طاقة الإبداع بداخله. فقط يخرج من جيبه قلمًا صغيرًا من الرصاص في حجم إصبع اليد، يشحذه بمبراة معدنية، ويسجل انطباعاته وخواطره في دفتر صغير بحجم الكف، هكذا كان يرى المدينة لوحة تشكيلية كبيرة، فيما بعد عرفت أنها عادة لصقت به منذ الطفولة. كلما اشترى قلمًا جديدًا، قسمه إلى ثلاثة أجزاء، ليصبح كل جزء في حجم إصبع اليد. لقد ظل يحتفظ ببراءة الطفل ودهشته، وهو يسجل ملامح المدينة بداخله. يمارس مفهوم التأثيرية على واقع شديد الاتساع والتنوع، اسمه المدينة.  

ربما هذه العلاقة الغرامية بين أمين ريان والمدينة، منحته إيمانًا عميقًا بقيمة الوعي الجمالي المتعدد بداخله، والحق في الاختلاف، والحلم بيوتوبيا تمكن كل المخلوقات من حياة متوازنة. يقول على لسان آدم المصلوب:"واكتشفت أن الناس يختلف أحدهم عن الآخر، لأن كلاً منهم يريد أن يكون الآخر على مثاله، فإذا ما أصبح على مثاله في النهاية، فإنه يبحث لنفسه عن مثال آخر ليخلق مسافة جديدة تصلح للاختلاف من جديد. لمَ لا يتعلم الناس التوازن رغم وجود الخلاف و التناقض، كما هو الحال في الطبيعة والأوركسترا خاصة. إنك لا مفر واجد كلاً منهم يريد صمتًا مطبقًا من حوله، ليتغنى وحده بأفكار لم تتحدد معالمها بعد في خياله، ومعتقدات لم تستقر تمامًا في قلبه، وانفعالات غير مسئول عنها”[iii]

على الرغم من أن الشاهد السابق يعيدنا مرة أخرى إلى (بجماليون وجالاتيا) إلا أنه يفيض برؤية مميزة لفهم مأزق الوجود الإنساني عند الفنان، رغبته في أن يكون متفردًا، مختلفًا عن الآخرين، واضطراره لأن يكون مثلهم،  إنه في نهاية الأمر بشري، يأكل ويشرب، يشتهي ويكره،  يرغب ويخاف:"فإذا ما أصبح على مثاله في النهاية، فإنه يبحث لنفسه عن مثال آخر ليخلق مسافة جديدة"

ترى.. هل كان أمين ريان يتكلم عن مأزقه، الذي وضعته فيه طبيعة التعدد والاختلاف بين الرسم بالكلمات؟ والرسم بالفرشاة.. ربما. على أية حال، كان مأزق (آدم) بطل حافة الليل أنه عاش مؤرقًا بين عشقين: عشق الوجود الحي/ الفيزيقي، وعشق ميتافيزيقي. أو بمعنى أدق بين المرئي، واللامرئي. كما وثقه رمضان بسطاويسي في كتاب اختص به أمين ريان.[iv] 

على الرغم من اهتمام أمين ريان بتصوير الواقع الداخلي لشخصياته، فإن هذا لم يشغله عن تصوير الواقع الخارجي حولهم، بل جاء الهمّ الذاتي لشخصياته، تعبيرًا عن أزمات واقعية: خارجية وداخلية في آن على نحو ما نجد في صورتي (آدم، وأطاطا). هكذا.. كانت شخصياته، تدرك مأزقها الوجودي. لكنه كعادته، يمرر مثل هذه العلامات الوجودية بين سطور النصوص على نحو خافت.

 في هذا الوقت كانت نزعة أصولية تتشكل على مهل في مصر، ممثلة في شباب الإخوان المسلمين، عبرت عن تنمرها بمشروع الحداثة العربية الوليد. نزعة أحسها أمين ريان على نحو مبكر، ورصدها في روايته (حافة الليل) وكأنه يحذرنا همسًا من عدم الانتباه إلى وقفتنا القلقة على حافة ليل بهيم، فضاع همسه بين صراخ الآخرين بشعارات تنويرية، ودويهم الصاخب حول أوهام الحداثة. وكالعادة، لا ننتبه إلى خطايانا إلا متأخرًا. هذا بالضبط ما كان يقصده (علاء الديب) في مقال تأبيني إثر وفاة أمين ريان، ولكن بعد فوات الأوان:”حافة الليل عمل فني، ووثيقة اجتماعية، وتحذير مبكر من أزمة نواجهها الآن «الرواية مكتوبة 1948 - صدرت 1954 لأول مرة، يرى أمين ريان، الذي غاب عنا أوائل هذا الشهر قبل أن يقرع عامه التسعين: يرى بوضوح أزمة المجتمع المصري المعجون بالفن والحضارة والضمير الأخلاقي منذ فجر التاريخ، مع الفهم الديني الخاطئ الذي يقف حائلاً دون انطلاق الحياة وتحررها، الفهم الديني الذي يحوّل حياة الناس إلى «أشباح جهنمية وتشنجات مرضية”يجعل البشر يعيشون أسرى لمفاهيم غريبة عن «العورة”والذنب والخطيئة”.[v]

 في لقاء تلفزيوني سألتني المذيعة عن دور الكاتب في تغيير الواقع، فضحكت:

  • يا سيدتي.. لقد عشنا عقودًا نتكلم عن التنوير، ثم اكتشفنا فجأة أننا أكثر أصولية من أجدادنا.. إن فهمنا للواقع ينطوي على خطأ، طالما نتجاهل واقعنا الداخلي بوصفنا بشر..

طوال الوقت كنت أفكر أن مرجعية أي فعل جمالي هو الذات المبدعة. إنها مطبخ الإبداع الحقيقي، الذي ينضج داخلنا على مهل، بلا شغف بالكم والانتشار، وبلا هوس التنافس والتسابق. هذا ما حاولت أن أنصت له منذ البداية مبدعًا أو ناقدًا. لهذا قدمت في كتابي (أفضية الذات)[vi] محاولة منصتة لما وراء السرد عند أمين ريان في مجموعته (قصص من النجيلي) وقد أشرت إلى أهمية الالتفات إلى كاتب لم يأخذ حقه من الرعاية النقدية، لا لشيء إلا لأنه قرر أن يخرج على نظام القطيع، ويشق لنفسه نهجًا خاصًا في رؤية الواقع المصري. غير أن المشهد الأدبي كان يعاني هوسًا باتجاه وحيد ممثلاً في الواقعية برافديها الاشتراكي والنقدي، وما واكبهما من قضايا ملزمة للمبدع، تغض الطرف عن فضاءات التشكيل الجمالي لصالح القضايا الكلية. إنها قضايا إنسانية بالتأكيد، لكن الإنسان يمثل فيها بوصفه نموذجًا، أو نمطًا، وليس بوصفه ذاتًا إنسانية، تعاني حراكًا داخليًا، أكثر إيلامًا مما تعانيه من تعديات الحراك الاجتماعي. بهذه الطريقة نحن لا نكتب الواقع المعاش، بل نكتب صورة ذهنية شائعة عنه، أو بمعنى آخر نكتب عن يوتوبيا تراود البشر في أحلام يقظتهم. لهذا لا فرق بين ماركسي يحلم بجنة على الأرض، وأصولي يحلم بجنة في السماء. لقد انهمك المشهد الأدبي منذ بداية الخمسينيات في اتجاه واحد، وبات الخروج عليه دربًا من الخيانة تستوجب العقاب. إذْ كان سؤال الالتزام أو الانتماء يسبق سؤال الإبداع، على نحو ما عبّر عنه (غالي شكري) في كتابه (المنتمي). وتحت شعار الالتزام همشت تجارب وطرائق مميزة من التعبير السردي -كان يمكنها أن تثري المشهد الأدبي وتطوره - على الرغم من أنها لم تحصل على صك الانتماء، كذلك الذي منحه غالي شكري لنجيب محفوظ. وظني أن هكذا تصورات عن طبيعة الإبداع عطلت نموه.

 ومن الجدير بالذكر في هذا السياق أن حافة الليل كتبت (1948م) وهو تقريبا نفس التوقيت الذي بدأت فيه الرواية العربية رحلة نضجها الفني مع (خان الخليلي – 1946م)  كان أمين ريان يعترف بريادة نجيب محفوظ، ويعتقد أنه لم يُقرأ بما يوفّيه حقه، ويكشف مكنونات سردية فارقة. وكان محفوظ يبادله نفس التقدير والاهتمام. ذات لقاء مع أمين ريان في بيته، أطلعني على رسالة  بخط (نجيب بيه) كما كان ينطقها ريان دائمًا. الرسالة بخط واضح، ومزيلة بتوقيع نجيب محفوظ:"أمين ريان.. هو أول من بدأ الكتابة البصرية... إلخ”هذه الجملة هي كل ما أذكره من الرسالة القصيرة. ثبَتُ عيني عليها وأنا أتناول رشفة من الشاي الذي قدمته لي زوجته السيدة (ذكية) تطلعت إليها وأنا ابتسم:

- تسلم يدك يا ماما ذكية.. الشاي رائع

 هكذا كنا نناديها. عندما لمحت الورقة في يدي هتفت:

- تاني يا أمين!! (ثم التفتتْ إلىّ ): معلهش يا سيد.. من ساعة ما مات نجيب محفوظ وعمك أمين، كل شوية يطلع الورقة دي، ويقعد يقراها ويدمّع.. ما خلاص يا أمين بقى، كلنا هنموت.

كنتُ أعرف أن (ماما ذكية) هي القلب الشجاع لأمين ريان، وهي الطاقة المحرّكة فيه. التفتُ إليه وهو جالس في كرسيّه بجواري، كان مغمض العينين، طارحًا رأسه إلى الوراء، يقبض بكفيه على عكّازه الذي بين ساقيه. رأيت بلل الدموع تحت جفنيه. تُرى.. في أي شيء كان يفكر؟ ربما في اليوم الذي سيلحق فيه بحبيبه نجيب بك!! هكذا.. دار بداخلي مونولوج وأنا أتأمله في غفوته: من المؤسف حقًا أن أحدًا لم يلتفت إلى تجربة أمين ريان إلا بعد فوات الأوان. بل ومن المضحك أننا لم نمنحه جائزة الدولة التشجيعية إلا وهو على مشارف الستين من العمر. إنه الآن يمضي في الثمانينيات من عمره بوهن، إلا من بضع ذكريات، وحنين يبدأ من جديد إلى لوحاته وصندوق الألوان وفرش الرسم، بعد أن توقف عن الكتابة تمامًا.

ذات صباح استيقظنا فجأة على خبر وفاته، وربما من قبيل الإحساس بالذنب، رحنا نقر ببعض من حقه في مقالات تأبينية عاجلة، ربما كانت ستسعده أكثر لو كتبناها وهو على قيد الحياة. يقول علاء الديب:"الفنان أمين ريان، كنز مصري غاب قبل أن نعرف – حقًا -  قيمته، ونسمع ونفهم ما كان - حقاً - يريد أن يقول”[vii]أما سيد البحراوي فيقر باختلاف أمين ريان عن عموم كتاب المرحلة:"إن تصوير العالم الخارجي عند أمين ريان لم يقع في أسر المنظور الميكانيكي الذي حكم الواقعية وقتها"[viii] إنها شهادة متأخرة ولكنها مستحقة، فواقعية أمين ريان لم تكن فضاءُ هلاميًا، كحفنة من الأفكار، والمقولات، والشعارات الثورية، والأحلام الباحثة عن يوتوبيا مستحيلة على الأرض. كان أكثر واقعية عندما حدق في فضاء المدينة التي وُلد فيها وعشقها. إنه فضاء محدد، لكنه حي ومتجدد، بحيث يمكنه أنه يبادل ناسه المشاعر والآلام والأفراح. هكذا رأي أمين ريان المكان، فضاءً حيويًا وفاعلاً، وليس مجرد لوحة تشكيلية نحدد أبعادها وتفاصيلها بأنفسنا.  

بالنسبة إلى أمين ريان، فالمدينة كانت كتابًا مفتوحًا، ليس في ذاكرته فحسب، بل في قلبه وعينيه أيضًا. يراها بعين الفنان التشكيلي، كما كان محفوظ يراها بعين الفيلسوف والمؤرخ. يصفها ريان كأنما يعرض عليك فيلمًا سينمائيًا، ويحدثني عن شخصياتها بحماس: ناس المدينة متنوعون في وعيهم بمعنى الحياة. أنهم ليسوا من كبار الأدباء والفنانين المشاهير فحسب، بل منهم راقصات الدرجة الثالثة مطربات الملاهي والحانات، قوادين وبلطجية وفتوات. وتجار مخدرات يديرون الحياة في الباطنية. المدينة فيها الآلاف من شاكلة أطاطا وآدم.

 المدينة في وعيهم دراما صاخبة، ومعقدة، وثرية في تحولاتها بلا حدود، لهذا كانت موضوعًا ملحًا في رحلة النضج السردي، سواء عند كتاب ولدوا وعاشوا فيها مثل: نجيب محفوظ، يحي حقي، إحسان عبد القدوس، وفتحي غانم. أو بالنسبة لكتًاب وفدوا إليها من الأقاليم المختلفة مثل أمين يوسف غراب ومحمد عبد الحليم عبد الله ويوسف إدريس وغيرهم.. إذ كان يتعين على الأديب الإقليمي أن يقطع رحلة العبور إلى المدينة لتنضج تجربته وتكتمل. فالمدينة ثرية بالتفاصيل التي من صنع البشر، أما الريف فهو ثري بالتفاصيل التي من صنع الله. ربما لهذا، فإن فاعلية إنسان الريف في صنع واقعه محدودة بما يدعوه إلى الالتفات لذات فردية وغنائية، تبرع في الشعر والغناء والإنشاد الديني، لكن البعد الدرامي للمدينة يشكل ذوات أكثر جدلية وتركيبًا وتعددًا.

 هذا التصور يفسر لنا لماذا ارتبطت فنون السرد الحديث بالمجتمعات المدنية في العصر الصناعي، وكيف ميزت نفسها عن سرديات المدفأة في المجتمعات الرعوية. إذ كانت سردياتها ملتبسة بتراث شفهي حكائي أكثر منه سردي. كما يفسر لنا سر الاختلاف الكبير في زاوية النظر إلى المدينة بين كاتب ولد فيها وتفاعل معها وخبر دروبها، وآخر وفد إليها من الريف موسومًا بصورة ذهنية عنها، كما نلحظ في أعمال مثل: مدينة الموت الجميل لسعيد الكفراوي. أو شباب امرأة لأمين يوسف غراب. أو محاولة للخروج لعبد الحكيم قاسم. كما يبدو أن هذه الصورة تقفز إلى الوعي بمجرد الإحالة إلى موضوع العلاقة بين القرية والمدينة. فتصبح المدينة عند يوسف إدريس، هي النداهة التي تبتلع البراءة الريفية، أو هي القاع المترع بالفساد.. هكذا تكون المدينة مجرد صورة ذهنية للغواية، للعهر، للشر الجميل. ويبدو أن العكس صحيح أيضًا. فالذين كتبوا عن القرية من سكان المدن، استسلموا لصورة رومانسية ناعمة وبريئة على طريقة (محلاها عيشة الفلاح متهني قلبه ومرتاح) هذا طبعًا باستثناء بعض التجارب المُعاشة مثل نائب أرياف الحكيم، وبوسطجي يحيي حقي. وهذا أيضًا قد يجيبنا على سؤال غير أدبي بالمرة: لماذا لم يكتب نجيب محفوظ عن القرية؟ لننتهي إلى أنّ ملامح التجربة المُعاشة للكاتب تترك أثرها على العمل الأدبي، بما يدعونا إلى النظر بتحفظ إلى مقولة موت المؤلف. النص وحده لا يكشف عن كل كوامن التجربة الأدبية لكاتب ما. نحتاج التفاتًا إلى تجربته الشخصية، فمهما كانت مهاراتنا الاحترافية في الكتابة، ومهما كانت قدرتنا على تفخيخ الواقعي بالمتخيل، فإن الذات المبدعة تدس الكثير من العلامات الخافتة بين السطور. هذا ما يمكن أن نلاحظه، عندما نقرا قصة (الحصير) لنرى أن أمين ينتصر لصورة المدينة، ليس من منظور الإدانه للقرية، بل من منظور تفكيكي لما يعرف في التحليل النفسي بصدمة الحضارة، التي تنتاب الوافدين على المدن، والتي عادة ما تمر بمراحل تنتهي بالتأقلم، حتى إذا عادوا لموطنهم الأصلي يعانون من صدمة معكوسة.

كان الأب الريفي قد رحل إلى القاهرة ليستعيد ابنه الذي تزوج بقاهرية، وكان محملاً بأوهام مخيفة عن المدينة ولاسيّما نساؤها الحسناوات. لم يكن الابن موجوداً بالبيت لحظة وصول الأب، فاستقبلته الزوجة الحسناء ببشاشة وود لم يألفه الأب ولا توقعه أبدًا من نساء المدينة. وفيما هي تعد له القهوة، راح يختلس النظر إليها فرآها على أبهي ما تكون الأنثى، لكن ذلك لم يزده إلا سخطاً وغليانا.ً وكان قد وعد زوجته بأنه سيعود بابنه مهما كان الثمن. وفيما هو يتأمل صورته في مرآة الدولاب ينعس فيرى حُلماً. إذْ يرى امرأتين تسحبان من تحته الفراش، وإذا برجل عار ممددًا على حصير، رجل يشبهه تمامًا، فسأله عن ابنه، فبدا أن الشبيه لا يعرف شيئًا عن الابن، عندئذ حاول الأب أن يتذكر ملامح ابنه في الحلم فلم ينجح، عندما استيقظ، تعجب: كيف دخلته هذه السكينة فنام آمنًا في وجود امرأة خطفت ابنه. بحث بعينيه عنها فلم يجد غير فنجان القهوة البارد، أدرك أنها تركته يستريح من عناء السفر. عندئذ جمع أغراضه ورحل في صمت، ومنذ تلك اللحظة لم يجد من يخرجه عن صمته.

ما سبق، هو ملخص لقصة بعنوان (الحصير)"[ix]“من قصص أمين ريان. بدت لي هذه القصة معارضة سردية لرائعة أمين يوسف غراب (شباب امرأة) فإذا كانت رواية أمين يوسف غراب، تطلق حكمًا أخلاقيًا على المدينة بوصفها امرأة شبقة تتصيد رجال القُرى، فإن قصة أمين ريان تعارضها على نحو تحليلي ونفسي لما يعرف بالصدمة الحضارية، والتي تمر بمراحل تنتهي بصدمة معكوسة.

إن تفكيك الصدمة الحضارية تبدأ بمواجهة للذات، يصاحبها شعور عميق بالاغتراب، لتصل إلى التكيف والتأقلم. فعندما نظر الأب إلى صورته المعكوسة على المرآة، بدأ رحلته في تفكيك صدمته. نام ورأي نفسه عاريًا، مجردًا من كل قيمه وتصوراته الذهنية، إنها المواجهة التي دفعته للمقارنة بين امرأتين في الحلم، القرية والمدينة. وعندما استيقظ ووجد المكان نظيفًا هادئًا وفنجان قهوته باردًا كان قد بدأ الدخول إلى مرحلة التكيف، عندئذ تراجع عن تصوراته التي رسمها في ذهنية القروي عن زوجة الابن/ بنت المدينة. ربما فكر أن ابنه قد خاض نفس الرحلة قبل أن يفكر في الزواج من امرأة قاهرية. عندئذ لزم الصمت، وعاد إلى قريته ليعاني صدمة معكوسة. 

تمنحنا الأمكنة التي نألفها أرتباطًا عاطفيًا بهوية أمومية، ويكون الانفصال عنها بمثابة فطام قسري، بهذا المعنى يعاني الإنسان اغترابًا مخيفًا، في المواجهة الأولى حين الانفصال عن بيئته. لكن رحلة الاغتراب ضرورة لندرك حدود الذات. بمعنى هل هي ذات متسعة لقبول الاختلاف عما ألفه؟ الأمر يبدو أكثر تعقيدًا بالنسبة للأب الريفي، فالصدمة الحضارية، نتيجة لطبيعة الاختلاف الفادح بين القرية والمدينة.

السؤال الآن. كيف استطاع أمين ريان أن يكثف كل هذه المعاني، في بضع صفحات، دونما أحكام مسبقة على شخصية القروي؟ لا بد أنها درجة من الذكاء الوجداني، والوعي المعرفي بمأزق الوجود الإنساني في صوره المختلفة. إنها سمات لذات ساردة تقف وراء السرد..فهل مات المؤلف حقا؟

الأغلب والأعم من النصوص التي تناولت العلاقة بين القرية والمدينة، لم تصل إلى هذا المستوى من التحليل السردي لطبيعة هذه العلاقة المعقدة. لهذا يمكنني القول بثقة، أن السرد عند أمين ريان هو درجة من التأمل للصور والمشاهد الحياتية، والتحليل لعناصرها ودوافعها الإنسانية، وكشف المسكوت عنه والماورائي في الطبيعة الإنسانية. هذه درجة من التفكير الجانبي المشبع للذات الساردة حتى أنها لا تلتفت إلى أنماط التفكير المؤدلج، وعلى الكاتب أن يدفع ثمن ذلك بالإقصاء والتهميش كونه لم يلتزم بدفء القطيع.

 بالتأكيد كانت تجربة أمين ريان جديرة باهتمام أكبر مما حظيت به. فبالإضافة إلى كتاباته الإبداعية، وذائقته الجمالية بوصفه فنانا تشكيليًا، كان مثقفًا موسوعيًا، وقارئا بالفرنسية والإنجليزية فضلاً عن العربية التي درسها فنال ليسانس الآداب بعد أن تخرج من كلية الفنون الجميلة. ورغم حرصه على إتقان الفصحى لم يستسلم لأنماطها البلاغية، بل كان يرصعها بلمحات ساخرة، وصياغات عامية لطيفة. كما كانت كتاباته لا تنفصل عن ذاته، تستند إلى تجارب معاشة وأكثر واقعية من القضايا  الكبرى. ولا يعني أنه تجاهل الواقع الاجتماعي، فقط هو لا ينظر إليه كما لو كان لوحة معلقة على جدار، وإنما باعتباره حيوات تضج بصور شتى من الاختلاف والتباين. سنرى هذا على نحو أكثر ثراء وديناميكية في (قصص من النجيلي)[x]  التي ترصد العلاقة بين حيين يفصلهما مزلقان السكة الحديد: النجيلي، وروض الفرج. وهما من أشهر الأحياء في منطقة شبرا مصر.

 في قصص النجيلي يبدو المزلقان معبرا يذكرنا بكوبري الزمالك الذي دأبت (أطاطا) على عبوره لتتعرى بين أيدي طلبة الفنون الجميلة. العراء رمز متكرر عند أمين ريان، هو رغبة عميقة تلح على (أطاطا) وتؤكد هويتها. وهو فضح للتشوهات الداخلية في قصة (الحصير) كما نجده عنوانًا لمجموعة قصصية كاملة (صديق العراء) فلا غرابة أن طقس العبور اليومي على مزلقان النجيلي، يحمل أحد دلالات التعري. بمعنى الكشف عن الواقع الداخلي للشخصيات، في حركتها بين حيين متناقضين في طبيعتهما. كما أن للعبور معان عديدة وربما لا تنتهي عند أمين ريان، كونه حراكًا لا يتوقف، وتحولات دائمة تميز مجتمعات المدينة. لهذا فلم يكن من قبيل المصادفة أن يختار أمين ريان (المعابر) لتكون عنونًا لإحدى مجموعاته القصصية. سوف نرى كيف أصبح المزلقان معبرًا لتحولات متنوعة. مما سبق ندرك أن مشروع أمين ريان الأدبي، ينهض عبر وجهات نظر مركزية، تعبر عن نفسها في معان رمزية، حيث العبور والتعري إحالات حيوية تميز المدينة، ويحملان معنيين رمزيين. فالعبور يرمز إلى آليات التغير والتحولات المستمرة، فالمدينة لا تعلق في أزمنتها القديمة. والتعرى معنى حضاري لا يذهب بعيدًا عن العبور، وهو قدرة المدينة على كسر التابوهات، واجتياز مسافات حضارية واسعة. 

أنشئ خط السكة الحديد فقسم الحي الواحد إلى حيين، أحدهما في اتجاه السبتية، والآخر في اتجاه روض الفرج. لكن ..ثمة علاقات قديمة كانت قائمة بين الحيين عندما كانا حيًا واحدًا. علاقات تجاور، وتصاهر. وأيضًا علاقات عمل استمرت بعد إنشاء السكة الحديد، استوجبت حالات لا تنتهي من العبور اليومي بين الجانبين؛ لكن الفصل بين الحيين ترك أثرًا مع الزمن الذي غير من طبيعة العلاقات الإنسانية بين جانبي المكان. هكذا يمنح (المزلقان) للحيين هوية جديدة.

 قصص النجيلي تأتي في شكل متتالية سردية، تتناول نماذج لشخصيات وعلاقات متنوعة تنشأ على علاقة مكانية بين حي (النجيلي) الذي يبدو مأويً لكائنات مهمشة. وحي (روض الفرج ) الذي يضج بحياة صاخبة تدعمها طبيعته السكانية التي تعتمد على الملاهي والمسارح والحانات كمصدر اقتصادي وترفيهي. هذه العلاقة تفرض على سكان النجيلي أن يعبروا المزلقان كل يوم سعيًا للرزق في روض الفرج، ثم يعودون ليلاً منهكين. إن رحلة العبور تتكرر يوميا لعدد كبير من سكان النجيلي، وفي كل مرة تجسد حكاية جديدة من حكايات النجيلي.

 العلاقة بين مكانين مختلفين بالأساس، لكن؛ المزلقان يصبح مسرحًا للأحداث والشخصيات، بل ومخزنا للأسرار. ليس بوصفه معبرًا فحسب. بل هو نقطة جذب للغرباء أيضًا كما أخبرني أمين ريان :البنت التي تهرب من قريتها، كان أهلها يأتون للبحث عنها في النجيلي لاستعادتها وأحيانا يبقون معها.

 لقد كانت روض الفرج بمثابة بؤرة حيوية لبنات الريف الهاربات من ممارسات متعنتة في قراهن، يعملن في روض الفرج خادمات أو راقصات وربما عاهرات. لكنهن يعدن إلى بيوتهن للسكن في النجيلي، ظنًا منهن أنه المكان الآمن، كاتم الأسرار.

لكن التغير في طبيعة العلاقة بين النجيلي وروض الفرج ترك أثرًا، ليس في طبيعة التركيب السكاني فحسب، بل في طبيعة السلوك والممارسات لسكانها، إذ تحول بعض رجال النجيلي إلى أشقياء وبلطجية بل وقوادين لمناسبة طبيعة العمل في روض الفرج. لقد فرض الواقع الجديد أن يصبح المزلقان معبرًا يوميًا لعلاقات سرية، وصفقات، وفضائح، ومعارك.. يرقبها (لبيب) أحد شخصيات النجيلي، الذي ارتبط وجوده بالمزلقان نفسه، عندما أقام لنفسه عشًا بسيطًا على حدود المزلقان، ليمثل نمطًا لهوية حائرة، شكلتها تغيرات الزمن. هكذا يبدو (لبيب) علامة على تاريخية العلاقة بين الحيين، ورابط زمكاني لهما. إن حياة (لبيب) وحدها هي تاريخ، صاخب في تحولاته، تلتبس فيه الحقائق بالأكاذيب، الرذيلة بالفضيلة. إنه مدينة في حد ذاته.

 كان (لبيب) من سكان النجيلي، فقيرًا ومهمشًا حد الانزواء. وذات يوم وجد نفسه في إحدى المظاهرات المناهضة للاحتلال الإنجليزي. هذه مجرد صدفة، لكنه عاشها كما لو كان هو صانعها. تفاعل لبيب مع المتظاهرين، يهتف بحماس فاق قادة التظاهرة أنفسهم، لم يكن لبيب حتى هذه اللحظة ينطوي على أي وعي وطني، فقط هو يمارس فعلاً عفويًا اعتاده في مهرجانات الانتخابات البرلمانية التي يتكسب منها، لكن الصدفة يمكنها أن تخلق نظامًا. أخذه الحماس الثوري، حتى أنه فوجيء بنفسه بين الفدائيين في إحدى مدن القناة. ولكي تتم الدراما فصولها، يصاب بالرصاص الإنجليزي في ساقه، وتبتر، فيصبح رمزًا من رموز النضال الوطني. إلا أن الزمن يطوي هذه الصفحة تمامًا. ويضطر (لبيب) أن يعود إلى النجيلي، مبتور الساق، تملؤه أحلام البطولة. لكن النجيلي لم يعد كما كان بعد أن باعد المزلقان بينه وبين روض الفرج.

حاول (لبيب) إقناع سكان النجيلي بهويته الجديدة بوصفه زعيمًا وطنيًا، لكنهم يعرفون جيدًا تاريخ التسول والاحتيال الذي مارسه عليهم.كما أنه أدرك الواقع الجديد الذي أصبح عليه النجيلي، وتشوف سكانه إلى روض الفرج، وحجم العلاقات السرية التي نشأت بين الحيين، عندئذ قرر أن يبني عشًا في نقطة مركزية يمكنها أن تدير هذه العلاقات. كانت مزلقان النجيلي. ومع الوقت أصبح هذا العش معْلمًا للعابرين، وبدا أن كثيرًا منهم، رجالاً ونساءً يقصدونه بوصفه مكانًا آمنًا، تنعم فيه الأسرار والعلاقات السرية بالتحقق. أصبح لبيب بالنسبة لهم، أهم من بطل قومي.

بالنسبة لأمين ريان، فحكاية لبيب هي أيضا قصة مركزية بين قصص النجيلي، وكان يمكنه أن يلتزم بواقعية مؤدلجة، فيجعل من لبيب بطلاً ثوريًا في نظر البسطاء من سكان النجيلي. لكن شغف أمين ريان وتميزة، ليس تنصيب الواقع نموذجًا، بقدر ما هو البحث عن المسكوت عنه وراء ما يبدو واقعًا. إنها نفس طريقة التفكير السردي التي تعامل بها مع شخصيات حافة الليل.     

التحريك السردي لشخصية لبيب مدهش. يتجاوز به مفهوم المقاومة بوصفها نمطًا سياسيًا مباشرًا، لتكون ممارسة شعبية بسيطة، يطلق عليها (جيمس سكوت)[xi] المقاومة بالحيلة. عندما لا يجد الفرد مكانًا مناسبًا في بيئته، يحدث أمر من أثنين: إما أن يصبح عدوًا لها كما فعل (سعيد مهران) بطل اللص والكلاب. أو يتحول إلى (لبيب) فيتفنن في تمييز نفسه بشتى الحيل، وعلينا ملاحظة اسمه ودلالته.

 ذات يوم وجد (لبيب) قصاصة من جريدة تصور رسمًا لرجل يمشي على عكاز، وتحتها كتابة تشير إلى أنه أحد ضحايا المقاومة الوطنية في مدن القناة. احتفظ لبيب بالقصاصة، وراح يقدمها لكل زواره، بوصفها رسالة موثقة: ها هي الجرائد تكتب عني وأنتم لا تصدقونني !!

لقد كان الأمر بمثابة نقطة تحول في علاقة لبيب بمجتمعه، ومع الوقت تحول إلى زعيم الحي، يُسْتفْتي ويُستشار في كل أمور أهل النجيلي.

 إن شخصية لبيب جسدت حالة نادرة ومكتوبة بدقة ووعي فني يجعلها مكتنزة بالدلالة. فتمركزه على مزلقان السكة الحديد علامة يجب أن تُقرأ في سياق زمكاني كدلالة على نوع من العبور الذاتي للبيب. كما أن تحول عشه إلى مزار أو محطة يتوقف عندها العابرون ليلاً  أو نهارًا، أكسبه بعدًا رمزيًا في الحي، ليكون هو نفسه معبرًا لأصحاب الحاجات من أهل النجيلي وروض الفرج أيضًا، ولاسيما أصحاب العلاقات السرية، والممارسات المشينة، لم يجدوا من يكون قادرًا على احتوائهم قدر لبيب. إن هذه الطبيعة المركبة لرجل بلا هوية مكانية، تعيش على هامش الحياة مكنته أن يكون زعيمًا للحيين معًا. كما جعلت عشًا بائسًا على هامش المكان معلمًا في حد ذاته، كضريح ولىٍ.

خلاصة الأمر: إن البعد التأملي والتحليلي لأزمات البشر في واقعهم الإنساني المعاش الذي انتهجه أمين ريان في كتاباته لم يمنعه من النظر إلى القضايا الاجتماعية للواقع. كل  ما في الأمر أنه لا يتعامل مع الواقع وقضاياه كلافتات خطابية نابعة عن (منظور ميكانيكي) كما رأينا في مقدمة سيد البحراوي لأعمال أمين ريان الكاملة.

الواقع عند أمين ريان، محتوى بشري لكل المتناقضات، التي يمكنها أن تتصالح فيما بينها حتى داخل الذات الواحدة على نحو ما كانت (أطاطا). الواقع حراك بشري وحضور حيوي لا يتوقف عن إنتاج معانيه المتعددة. إنها معان تتفاعل فيما بينها لتعيد إنتاج الواقع على نحو جمالي. وتعين القارئ على إنتاج النص عبر فضاء قرائي يخصه، وفق درجات وعيه وخبراته الحياتية ومعارفه. وبهذه الطريقة لا نشعر بسلطة الكاتب الملتزم، فتظل نصوصه فضاءً مفتوحًا وعابرًا للزمن. بما يعني أن كتاباته كانت كنزًا حقا كما يقول (علاء الديب) الذي كان كنزًا هو أيضًا لم نلتفت إليه في حينه.

فمتى نتوقف عن إهدار الكنوز التي بين أيدينا؟

 

 

[i] - أعلنت جماعة نصوص 90 عن نفسها في بداية التسعينيات من القرن الماضي، لكنها بدأت قبل ذلك بعامين، جماعة من الأصدقاء متنوعين في ثقافتهم ومشاربهم المعرفية، يلتقون بمقهى (فينكس) بشارع عماد الدين، تآلفت فيما بينهم  سريعًا، ومع الوقت تحولت إلى بؤرة ثقافية متجانسة يؤمها العديد من الأدباء والمثقفين. وفي بداية التسعينيات أعلنت عن خطة لتقديم أعمالها الإبداعية والنقدية  بالجهد الذاتي. قدمت الجماعة - على مدى ثلاثة أعوام - ثمانية عشر عملاً منشورًا. وبالرغم من أنها ضمّت عددًا كبيرًا من الأدباء، إلا أن الأعضاء المؤسسين لها هم: (د. رمضان بسطاويسي، د. مجدي توفيق، د. مصطفي الضبع). ومن الأدباء: (ربيع السبروت، سعيد عبد الفتاح، سيد نجم، محمد عبد العال، يسري أبو العينين، سيد الوكيل) اتخذت الجماعة من الأستاذ أمين ريان رمزًا وأبًا روحيًا لها. أعادت طبع راويته (حافة الليل) التي صدرت لأول مرة(1949م) مما لفت الانتباه إلى قيمتها الأدبية، وأعاد اكتشافها من جديد. وعلى الرغم من تفكك الجماعة، إلا أن التواصل بين أعضائها ظل قائما حتى الآن. وظلت علاقتها بالأستاذ أمين ريان ممثلة في زيارات أسبوعية بمنزله، حتى وفاته رحمة الله عليه.     

[ii]- التأثرية: أسلوب فني في الرسم يعتمد على نقل الواقع أوالحدث من الطبيعة مباشرة، ولكنه يمر بذات الفنان، ليتفاعل وعيه الذاتي مع مايراه، وينتج انطباعًا جمإلىا خاصًا، لا يستسلم لمحاكاة الواقع. بمعنى أن الواقع عند الفنان التشكيلي لا يصبح مجرد موضوع للرسم، بقدر ما هو درجة من الوعي الذاتي بالموضوع.

[iii] - أمين ريان: رواية حافة الليل - الطبعة الثانية من إصدارات جماعة نصوص 90 الأدبية - مطبعة زهران - القاهرة - 1991

[iv] - رمضان بسطاويسي محمد: المرئي واللامرئي - الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة - القاهرة - 1993م

[v] - علاء الديب: مقال تأبيني في جريدة الفجر بتاريخ الأحد 28 ديسمبر 2014م

[vi] - يمكن الرجوع إلى كتابي (أفضية الذات، قراءة في اتجاهات السرد القصصي) - الهية المصرية العامة لقصور الثقافة - القاهرة - 2006م.

[vii]- علاء الديب:  السابق  

[viii] - سيد البحراوي: مقدمة رواية حافة الليل - دار الشروق - القاهرة - 2008م

[ix]- أمين ريان: قصة الحصير - الأعمال الكاملة - الجزء الأول - الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة - القاهرة - 2014م

[x] - أمين ريان: قصص من النجيلي - المجلس الأعلى للثقافة ورعاية الفنون والآداب - القاهرة - 1977م.

[xi] المقاومة بالحيلة، كتاب لجيمس سكوت، يتناول أساليب البسطاء في مقاومة السلطة، ومهارتهم في إنتاج خطابات سردية ناعمة، تنقد السلطة، ولا تضعهم في مواجهة معها.