قصصُ هذه المجموعة ذاتُ حساسيّة جديدة حداثيّة، إنّها تتخّلى عن نموذج القصّة التقليديّ ذي البناء المتصاعد للوصول إلى العُقدة فالنهاية وما يرافق ذلك من لحظة تنويرية وما شاكل، لتصبحَ القصص صورة قد تبدو، للوهلة الأولى، بسيطة وسهلة، ولكنّها تحمل أبعدَ المشاعر الإنسانيّة. تبدأ القصة عادة بأزمة ولكنّها تنتهي حتمًا بمأساة.

من أزمة التهجير والقهر إلى مأساة الخيانة والغدر

قراءة في المجموعة القصصيّة:«المصيبة الثانية» للكاتب ناجي ظاهر

عطاالله جـبـر

 

علاقتي بناجي ظاهر قديمة، وتمتدُّ على مدى أكثرَ مِن خمسين عامًا. عرفتُه عاشقًا للقراءة والكتابة، بل ومُعتبِرًا ذلك بمثابة لقمة العيش التي يجوع ويتوق إلى الوصول إليها، وهذا الجوع – بحدِّ ذاته – أرقى أنواع الجوع، لأنّه الجوعُ الفكريُّ المتطلِّعُ إلى شتّى أنواع المعرفة، والباحثُ عن أعمقِ التجارب الإنسانيّة، التي تساعدُ المرء على اكتشاف ذاتِه في كلِّ لحظة وكلِّ تجربة يمرُّ بها لِيُخرِجَ ما في أعماقِه مِن إبداع، ويُكاشفَ به قارئَهُ الباحثَ عن حالة شُعوريّة مشابهة وقريبة مِنَ الذات المبدعة، لتلتقيَ الاثنتان في العمل الأدبيِّ وتعيشان آلامَه وآمالَه. إنَّها عمليّة للكشف والمكاشفة، بحيثُ يتحوّل العملُ الإبداعيُّ المتوهِّجُ في أعماق الكاتب في لحظة إبداعيَّةٍ نادرة إلى تنوير للقارئ يُضيء عالمه، ويجعلُه يعيش اللحظة التي عايَشها الكاتب نفسُه، وكأنَّهما تحوَّلا إلى ذات واحدة في خلق إبداع الكتابة والقراءة.

        ناجي ظاهر -كما يظهرُ ممّا قدّم في هذه المجموعة وفي مُعظم أعمالِه – فقيرٌ، ولعلَّ ذلك عائد إلى طفولته الأولى، فالفقر يعيش داخلَه ويتأصَّل في عقلِه الباطن، ومهما مرَّتِ السنون يستمرُّ تأثيرُه عليه ويظلُّ بارزا في كتاباته. ويرجع سبب فقره إلى أنَّه مِن عائلة مُهجَّرة، فأهلُه أُجبِروا على التشرُّد عن قريتهم سيرين واللجوءِ إلى الناصرة والسُكنى بها، كما حصل للكثيرين مِن أبناء شعبنا عامَ النكبة.

        وأشيرُ هنا، للدِقَّة، أنَّ ناجي ظاهر ذاتَه ليس مُهجَّرا، بل هو مِن عائلةٍ مُهجَّرة ورث عنها هذه الصفة، وبما أنّها مُهجَّرة وفقيرة فقد ورث عنها الفقرَ أيضًا وعاناه في طفولته، وما فتئ يُعبِّر عنه بشكل مُستمِرٍّ في معظم كتاباته.

        ناجي ابنُ الناصرة وُلِد في أحضان أحدِ جبالها، وترعرعَ في شوارعِها ومقاهيها، وذِكرياتُه مبنيّة عليها. ولا أكون مُبالِغا إذا قلتُ إنّه لم يتركْها لأيِّ سبب كان، فهو يُحبُّها ولها في نفسِه مكانةٌ مُتأصِّلة لا تدانيها مكانة!

        ويقف ناجي بمواجهة الآخر الذي كان سببَ المعاناة وبؤرتَها، حينَ اغتصب الأرض وفرَّغها مِن أهلها، وساعدَه وما زال يساعدُه على تحقيق مشروعِه المفرِّطون وما أدراكَ....!

        هذه الثيماتُ الأربع: التهجير، الفقر، المدينة والآخر هي بُؤَرٌ للمضامين الأساسيّةِ في مُعظَمِ ما كتب ناجي، وكذلك في مجموعته القصصيّة الحاليّة " المصيبة الثانية ". فناجي، وعلى الرغم مِن حُبِّه لوطنه ومدينته إلّا أنّه يواجه الفقرَ والضياعَ والتهجيرَ والآخرَ الخبيثَ والقويَّ وابنَ البلد الذي باع نفسَه للآخر.

       لقد عُدتُ إلى كتابات ناجي السابقة وإلى ما كتبتُه عنه، فوجدتُ أنّ هذه المضامينَ ثابتةٌ لديه ومُكرَّرةٌ في معظم كتاباته، فهو يتناولُها مِن زوايا مُتعدِّدة وشخصيّاتٍ مختلفة وظروفٍ متنوعة، ولا ينثني في ما يكتبُ عَن أن يعودَ إليها، لأنّها في الأساس مشاعرُ إنسانيّة، وما زال تأثيرُها مستمرًّا، وجرحُها نازفا.

        قصصُ ناجي في هذه المجموعة ذاتُ حساسيّة جديدة حداثيّة، إنّها تتخّلى عن نموذج القصّة التقليديّ ذي البناء المتصاعد للوصول إلى العُقدة فالنهاية وما يرافق ذلك من لحظة تنويرية وما شاكل، لتصبحَ قصصه صورة قد تبدو، للوهلة الأولى، بسيطة وسهلة، ولكنّها تحمل أبعدَ المشاعر الإنسانيّة. تبدأ القصة لديه عادة بأزمة ولكنّها تنتهي حتمًا بمأساة.

          قصص ناجي لا صنعةَ فيها ولا تنميقَ ولا تحكيكَ في اللغة، تأتي هكذا وكأنّها مُجرَّدُ لحظة عابرة. وهي مبنيّة على التجريب والطبع، ولا يحاول ناجي استعمالَ تِقنيّاتِ لافتةٍ لإرضاء الباحثينَ والنقاد، بل يتركُ نفسَهُ مُنساقَة على هواها، ويسبرُ أغوارَها ليبعثَ دُرَرَها.

          أما قارئُهُ فقد يُمثِّلُ أجيالا مُتعدِّدةً وثقافاتٍ متفاوتة، لأنَّ قصصَه قابلة للقراءة بمُستوياتِ تَقبُّلٍ متفاوتة. ولكنَّ قارئَها يتعاطفُ معها لأنَّها تُمثِّلُ المشاعرَ الإنسانيّة، وتتفاعلُ مع ذاته مهما كانَ انتماؤُه ومستوى تقبُّلِه.

         ولكي أُوضِّحَ الميزتين المشارَ إليهما أتَّخِذُ من قصة " الصياد والأفعى " مِثالا: نحنُ أمامَ طفل يُشاهدُ أفعى تُمسِكُ عصفورًا بين أسنانها، يخافُ مِنَ المشهد ويشكو الأمر لأُمِّه التي بدورها تُخبِرُ الأب، فيوكل أمرَ قتلِ الأفعى لأقوى رجل في البلد ويمتلك بندقيّة، ولكنّ هذا المؤتَمَنَ بدلًا من أن يقتلَها مُقابِلَ أجرتِه وطعامِه، ويا لَلمفاجأة! يُلاعِبُها ويتقاسمُ الطعامَ الذي يُقدَّم له مِن عائلة الطفل الفقيرة، معَها.

         هذه صورة بسيطة ولكنّها تحملُ أبعادًا كثيرة، فقد بدأت بأزمة: رؤية الأفعى وخوف العائلة منها، ولكنّ هذه الأزمة تحوَّلت إلى مأساة بِتَحَوُّلِ المؤتَمَن على قتلها إلى تابع لها ومسحور بجمال رَقصها، وروعة ملاعبتها، على حساب مَنِ ائتمونوه. إذا كانتِ الأزمة هي الأفعى فالمأساة الأعظم والمصيبة الأكبر هي خيانةُ الأمانة والتفريط بالقضيّة، وهُنا نُلاحظ أبعادَ العُنوان الذي اختارَه الكاتب لمجموعتِه القصصيّة، إذ إنّ المصيبةَ الأولى تتضاءل أمام مأساة الخيانة، وتصبح المصيبةُ الثانية إكليلا مِنَ الشوك يُتَوِّجُ هامةَ الوطن بالمأسويّة، وقد برز ذلك أيضا في عُنوان القصة " الصيّاد والأفعى " بحيث قدَّم المؤلف الصيّاد على الأفعى لأنّه يُمثِّل المأساةَ واستمرارَها مع أنّ الأفعى تظهر في القصة قبل الصيّاد بل هي السببُ في وُجوده.

       يُلاحَظ أنّ المجموعة تدور حول قضيّة التهجير التي تَعَرَّض لها شعبُنا، وفي النصِّ القصصيِّ هنالك شِبهُ لازمة مُتكَرِّرة للفعل " هجّر " ومُشتقّاتِه مما حوَّله هو ومشتقّاتُه إلى شبه " كلاشيه " يُسيءُ لفنّ القصّ أكثرَ مِن دَعمِه له، وكان بالإمكان سردُ القصص دونَ ذِكر التهجير وتركُ هذا الأمرِ لِفَهم القارئ وإدراكِه، لأنّ التلميحَ في الأدب أفضلُ مِنَ التصريح، فكيف يكون الأمر إذا كان ذلك مُكَرّرًا في كلِّ القصص وفي كلِّ قِصّة أكثرَ مِن مَرّة؟ أعتقدُ أنّ في ذلك تَجاهُلًا لِقُدرة القارئ في عمليّة التقبُّل، وفهمِ حالة التهجير دونَ ذِكرِها بصريحِ العبارة.

        الشخصيّات الرئيسيّة في قصص المجموعة - كما يُصرِّح المؤلِّف - هي شخصيّات مُهَجَّرة، إمّا تهجيرًا داخليًّا وإمّا تهجيرًا خارجيًّا، ومِثال للحالة الأولى أذكرُ قصّة " نداء الأعماق " وللحالة الثانية قصة " راعية الجبل ".

       الخطرُ الأوّل الذي واجهَه المهجَّر هو اقتلاعُه مِن أرضِه وتحوُّلُه إلى لاجئٍ في وطنه أو خارجه. وعليه، وهو على هذه الحالة، أن يبحثَ عن مُستَقَرٍّ له ولعائلته في أرضٍ بديلة، وإن كانت صغيرة. في قصة " الجار الشرير "، تحاول عائلةٌ مُهجَّرة أن تشتريَ قطعةَ أرض صغيرة تمهيدًا لإقامة " براكية " للسكن بها بدَلًا منَ التنقُّل والسكَن بالأُجرة، وبعدَ إتمام معاملة البيع والشراء مع صاحب الأرض " أبو داوود "، ذهبَتِ العائلة لمشاهدة الأرض وتحديد حدودها، ولكن ظهرَت مشكلة خطيرة تتمثَّل بأنَّ هنالك أشخاصًا يعملون ضمن الأرض المشتراة وداخل حدودها، وبعد حوار حول حقِّ الملكيّة والأخذ والردِّ اتَّضحَ أنَّ أبا داوودَ قد أعطى حقًّا لهذا المستوطن وأسرتِه أن يعملوا في قِسم مِنَ الأرض، ورُبَّما مع مرور الزمن سيَطردون أهلَها منها.

        الأزمة التي تمثّلت بالتهجير والنكبة كان يمكن أن تئول إلى حَلٍّ مُشَرِّف لولا وجودُ هذا المتواطئ والمفرِّط الذي يسمح للأعداء بأن يستمّروا في انتزاع بساطنا الخصب الأخضر، ويُقدِّمُه لهم على طبَق من الذهب، وهنا تكمنُ المأساة التي تجعل نِضالنا مُوَجَّهًا نحو جبهات مُتعدِّدة. وشخصيّة أبي داوود هذا الذي يوحي اسمه بمدلوله، شبيهةٌ بشخصية الصيّاد في قصة " الصياد والأفعى ". وعليه فمصيبتُنا الثانية أعظم لأنّها نابعة مِنّا، وقبلَ أن نُحِّرر أنفسنا من الخيانة (المأساة) فلن نستطيعَ أن نتحرَّر مِن غيرنا (الأزمة)، وعندما نُفكِّر لماذا جارُنا شرّير يجب علينا، وبنفس الحدّة، أن نتأمَّل ونُفكِّر بكلّ مَن تآمر وسمح له بحقِّ الوجود بينَنا بكلّ مثالبه وشروره أساسًا، لنعملَ ببوصلة واضحة.

        يحاولُ المهجَّر أن يلجأَ إلى أساليبَ متعدِّدةٍ لاستذكار وطنِه السليب:

        في قصة " حلم وعلم "، يتحدثُ الطفل ابنُ الثالثة عن أرضه السليبة وعن تهجير أهله منها إلى خروف، بانيًا ذلك على سرد أمِّه له في جلساتِهما، والخروفُ يبدو أنّه يستوعبُ ما يسمع بحسَبِ خلجاتِه وحركاته، وكذلك أهلُه يستمعون لروايته التي يرويها للخروف ويتأثَّرون بها. جماليّةُ القصّة تكمنُ في أنّها تنقل فكرة التهجير بعقليّة طفل، كانَ الأفضلُ له أن يعيشَ طفولتَه بعيدًا عَنِ المأسويّة والسوداويّة. والقصّة أشبهُ ما تكون بصرخةٍ في وجه الكبار والظالمين الذين يحرِمون الطفولة مِن تحقيقِ ذاتِها.

        في قصة " عملية دفن " يحاولُ أخَوان شيخان أن يصِلا إلى قريتِهما المهجَّرةِ بعدَ سنواتِ طِوال مِنَ البُعد عنها (يبدو أنّهما مِن مُهجَّري النكبة الذين شُرِّدوا خارجَ فلسطين، وقد عادا بعدَ حرب 1967 أو بعدَ أوسلو، كما حصل لكثيرين، لمشاهدة قريتِهما ومَسقِطِ رأسَيهما)، وكان جُلّ اهتمامِهما الوصول إلى قريتِهما، ولكنَّ المأساة أنّ أحدَ الأخَوَين قد وصل القريةَ ميِّتًا لشِدّةِ إعيائِه وعُمرِه، وكان على الآخر أن يدفنَه في أرضِه، وأن يندبَ حظَّه الذي أعادَه إلى وطنِه مهزومًا، بدَلًا مِن أن يعودَ مُنتصِرًا. الأزمةُ بِفُقدانِ الوطن تفاقَمَت لِتَتحوَّلَ إلى عودةٍ مفروضةٍ ومهزومة، ولا أمَلَ فيها إلا للحظةٍ مأسويَّة يُعانقُ فيها الجسدُ ثرى الوطن ويمتزجُ به.

              تظهر عمليّة التهجير من خلال توظيف شخصيّة المرأة في القصّة، وتجيئُ على أنماط مُتفاوِتة:

       في قصة " لوعة مُهجَّرة "، نلاحظ صورةَ الأمّ وحنانَها مقابِلَ صورة الزوجة الخائنة، وهذه ثيمة مُكرَّرة في قصص ناجي، الأمُّ تنهى ابنَها عَنِ الزواجِ بفتاة تصغره سِنًّا، ولكنّه لايستجيب لِنُصحِها ويتزوّجها وينجبان طفلا. ولكنّ هذه الزوجة تبتعد عن زوجها مع رجل بمثل عُمرِها، وهذه خيانة زوجيّة، ولا تكتفي بذلك بل تمنعُه من رؤية ابنه، وحينَ يحاول ذلك تستدعي الشرطة وتستصدر أمرًا بمنعه من رؤية ابنه. والأمّ تربطُ بين يومين أوّلِهما حين أرادت أن تشربَ قهوة الصباح التي أعَدَّتها مع زوجها، فهزَّتْه في الصباح ليستفيقَ فبقي جامدًا في مكانه، وها هي تتمنّى أن تشرب القهوة ثانية مع ابنه، ولكنّه بسبب كَمَدِه وأَلَمِه لا يستفيق. وإذا كانَتِ المصيبة الأولى قد تمثّلت بموت الأب فإنّ الثانية تمثّلت بمأساة فُقدان الأمِّ لابنِها. والقصة لم تتحدّث عَنِ التهجير بمعنى الاقتلاع من الأرض، ولكنّها تناولت معاناة المهجّرين في حياتهم اليوميّة مُبرِزةً ذلك في عنوان القصة ومدلولاته.

        الصورة الثالثة للمرأة تبرز في قصة " عودة رجل ميت "، والشخصيّة المركزيّة فيها هي صخر الذي قلبه كالصخر في شجاعته، وقد ظهرت وبرزت من خلال وقوفه مع الحقِّ في كلِّ الملِمّات والمشاكل. اضطُرَّ إلى العمل في مدينة يهوديّة وتعرَّض للشتيمة المصوَّبة لانتمائه: " عرفي ملوخلاخ " (عربيّ قذر)، وكان ردُّه على شاتمه العنصريِّ قاسيًا وعنيفا، ومع مرور الزمن تعرَّف إلى إحدى الفتيات اليهوديّات فأغوته، ليس لجماله وشهامته بل لأمر في نفس يعقوبَ، فقد دسَّت له السُمَّ فعاد إلى قريته محمولا، ويشير النصُّ إلى أنّ هذه الفتاة قد تكون أختَ الملوخلاخ اليهوديّ وفعلت فعلتَها بدافع الانتقام. إذا كانت أزمة المهجَّر أن يجدَ عمَلًا عندَ اليهوديّ بعد فُقدانه للأرض فإنّ المأساةَ أن يتحمَّل معه مرارةَ المعايشة التي تقوده حتمًا إلى المأساة والموت. صورة المرأة في هذه القصّة تمثِّل العدوَّ الصهيونيَّ الذي يريد اغتيال كلِّ مَن يقف أمامَه أو يحاولُ مواجهتَه.

      في قصّة " راعية الجبل " يعود شابٌّ ينتمي لعائلة مُهجَّرة خارج الوطن حيثُ وُلِد، إلى الوطن ليبحثَ عن قريته سيرين (هذا الشابّ عاد إلى الوطن بعد أوسلو)، فيلتقي براعية هُجِّرَت عائلتُها أيضا مِنَ الشجرة، وُلِدت في الناصرة وتسكنُ فيها، تعملُ عند خواجا يهوديٍّ في رعاية المواشي. يحصل بينَهما تَقارُبٌ يمتدُّ إلى تواصُل وحُبّ، ولكنَّ الأمر يوصلهما إلى صِدام، هو يريد أن يتزوجَها ويأخذَها معه خارج الوطن لأنّ الحياةَ هناك -كما يدّعي- أفضلُ، وهي مُتمسِّكة بالبقاء في وطنها حتّى وإن بقِيَت مُجَرَّدَ راعيةِ مواشٍ. برزت أزمةُ كليهما في فقدانِهما للوطن (سيرين، الشجرة) ولكنّ مأساتَهما الأعظمَ ومصيبتَهما الأعمقَ تكمنُ في ذلك الشرخ الأيديولوجيِّ حولَ تَصَوُّر معنى الوطن، وكان سببه الأساسيّ أوسلو.

      يُلاحَظ أنّ مُعظَم قصص المجموعة تنتهي بالموت أوِ الاستسلام أوِ الهبوط، وهو ما ذهبتُ إليه في البداية، واعتبرتُه ميزةً لمعظمِ القصص، وكذلك توضَّحَتِ الميزة الثانية بأنّ القصص عبارةٌ عن صورة بسيطة ولكّنها تُعبِّر عن أبعاد كثيرة.

        سأُلقي الضوءَ على قصّتَين أُخرَيَين وأُناقشُهُما، ولي فيهما رأيٌ أُحِبُّ توضيحَه:   

       في قصّة " نداء الأعماق " يتراهنُ صديقان على نيلِ إعجاب فتاة جميلة، القصّة مكتوبة على شاكلة رسالة مِنَ الشابّ المهجَّر إلى الفتاة، وهو مُقتنِع تمامًا مِن أنّها ستختارُه هو لأنَّه مُهَجَّر، ولأنَّه يعتبرُها مُهجَّرةً مثلَه، ولن تلتفتَ إلى ابن المدينة المضيفة له ولها، على الرغم مِن وسامتِه وجمالِ ثيابِه وتسريحتِه. ولأنّنا لا نعرف كقُرّاء ما يدور بعقل ابن المدينة لأنّ السارد فيها ضميرُ مُتكلِّم يُمثِّل المهجَّر فإنّنا نُسلِّم مع الراوي أنّها ستختارُه هو حتمًا.

      هذه القصّة أزعجتْني، إنّها تثير قضيّة الانقسام داخلَ الشعب الواحد، وكأنّ الفلسطينيّ الذي بقي في مدينته مختلفٌ عن أخيه وابن عمِّه الفلسطينيّ المهجَّر، وكأنّه تحوّل إلى مُجرَّد "مضيف" لمهجَّر، دونَ الأخذِ بالاعتبار أنّ المهجَّر قد يكون قريبَه أو ابنَ عمّه ويشعرُ بالغُربة مثلَه وأكثر، ثمَّ إنّ مُعظمَ "المضيفين" مِن أصلٍ قَرَويٍّ وقد صودرت أراضيهم كغيرهم. هذه نظرةٌ تُكرِّس الفئويّة، وتعتبرُ أنّ الفلسطينيَّ الأفضلَ هو المهجَّرُ مِن أرضِه وقريتِه، وأمّا الفلسطينيُّ الباقي في وطنه المحتلِّ  (مدينته المضيفة) فهو الأقلُّ أهميّةً.

     ومن جهة ثانية لم يُحاوِل الراوي إقناعَ القارئ بمنطِقِه: فما هي الصفاتُ التي يمتلكُها هذا المهجَّر وتؤهِّلُه ليكونَ فتى أحلام هذه الجميلة؟ وهل هي تختارُه لأنّه مُجرَّدُ فلسطينيٍّ مُهجَّر، بينما ترفضُ الشابَّ الفلسطينيَّ الجميل بخَلقِه وأثوابِه لأنَّه مُجرَّدُ ابن مدينة مُضيفةٍ للمُهجَّر؟ ويمكنُنا أن نُضيفَ تساؤلاتٍ كثيرةً أُخرى تجعلُنا نستهجنُ أيديولوجيا الكاتب في هذه القصة!

     وأُشيرُ إلى قصّة أُخرى قد تثير جدَلًا وهي "الشاي الساحر"، وفيها يحصلُ نوعٌ مِنَ التقارُب بينَ الراوي المهجَّر وبين المهاجر اليهوديّ البولونيِّ الذي يُعِدُّ الشايَ في المدينة المقدَّسة ليتذكَّرَ غُربتَه عن بولونيا وشوقَه إليها، وفي نهاية الأمر يشربان معًا الشايَ الذي يُذَكِّر كلَّ واحد مِنهما بأرضِه التي هُجِّر منها أو هجرَها وحنينِه إليها. وقد لفتَت نظري جملةٌ على لسان الراوي بضمير المتكلم:"بات أمر ذلك الرجل يهمُّني كثيرا، فربما كان ذلك جرّاءَ تشابه لَمَسْتُه يربط فيما بينَنا، هو وأنا، فنحن غريبان في هذه المدينة، وربّما كان ذلك جراءَ أنّني أحببْتُ مِن جماع قلبي أن أتعرَّفَ عليه وعلى مشروبِه الساخنِ المسعِد..." (ص23). أيُّ تعاطُفٍ يمكنُ أن يحصلَ بينَ فلسطينيٍّ مُقتَلَع من أرضه ويهوديٍّ يريدون أن يزرعوه فيها بالقوَّة بدلًا مِنه؟ وهل كان ذلك البولونيُّ المهاجر بشايِه الساحر المسعِد الذي يُذكِّره ببولونيا ويُشوِّقه إليها مثلما يُذكِّر هذا الفلسطينيَّ المهجَّر والمقتَلَع بأرضه المغتَصبة ويشوِّقُه إليها كافيَا لإقامة مثل هذا التشابُه بينَهما؟ فشتّانَ بين صاحب الحقِّ ومغتصِبِه. ومِنَ الغريب أن تُبرِزَ قصّة "نداء الأعماق" ذلك التنافُرَ بين الفلسطينيّ "المهجر" وأخيه "ابن المدينة المضيفة"، بينَما نجدُ تعاطُفًا وتشابُهًا بين الفلسطينيّ واليهوديّ البولونيّ كما هو مطروح في قصّة "الشاي الساحر".

     قصص ناجي في هذه المجموعة، رغمَ خصوصيَّتِها ومحليَّتِها، إلّا أنّها مُؤثِّرة بما تحمله مِن شحناتٍ مِنَ المشاعر الإنسانيّة الدفّاقة، ويمكن أن تُقرأَ بشكلٍ إنسانيٍّ وتؤثِّرَ على كلِّ مَن يقرأُها بغضِّ النَظَرِ عَنِ انتمائه.

    ظهرت في بعض القصص ثقافةُ الكاتب، مِن خلال إشارات داخل-نصيّة، وظّفها لدعم الفكرة المطروحة أو لإضفاءِ جماليّة معيّنة للقصة، وقد نجح في بعضها وأخفقَ في أخرى، وسأكتفي بعدد قليل من هذه الإشارات التناصيّة:

     في قصّة "حلم وعلم" جاء ما يلي:" ... يشاهدون صغيرَهم وهو يروي قصّة تهجير أهله من قريتهم سيرين .... "سنعود يوما إلى تلك القرية" يستمعون إليه وهو يخاطب خروفَه، بعدَها يلفتُهم الخروف وهو يهزّ رأسه علامةَ الموافقة..."(ص15). هذا تناصٌّ واضح مع قصّة "الشقاء" الشهيرة للكاتب الروسيّ أنطون تشيخوف، وفيها أراد الحوذيُّ "إيونا" أن يرويَ مأساتَه بفقدان ابنه، لأحد مِن رُكّابِه الكثيرين في مدينة سانت بطرسبورغ، ولَمّا لم يجدْ أُذنًا مُصغيَة لديهم، بثّ أَلَمَه لحصانِه، وحصانُه يفهم ويُحرِّك ذنبه ويُصغي له ويشاركُه. هذا تناصٌّ جميل جاء تلقائيًّا تلميحيًّا دون إشارة إلى الأصل: ولكي أوضِّح التشابه أقتبس نهاية قصّة تشيخوف:"هكذا يا أختي الفَرَس، مات ابني..رحل عنّا..فجأة مات..خسارة..فَلنفرِضْ أنّ عندَكِ مُهرًا، وأنتِ أمٌّ لهذا المهر..ولنفرضْ أنّ هذا المهر رحل فجأةً..أليس مؤسفًا؟

وتمضغُ الفرس وتُنصتُ وتزفرُ على يدي صاحبِها. ويندمج إيونا فيحكي لها كلّ شيء...." (تشيخوف مؤلفات مختارة ج1،ص147).

      وهناك إشارة نصيّة تلميحيّة في بداية نصّ قصّة "لوعة مهجَّرة": "وضعتِ الأمُّ المهجَّرة المكلومة الثكلى يدَها على قبر ابنها الراحل للتوّ، ووضعت يدها الأخرى على قلبها وهي تُرسل نظراتِها في الفضاء المسترخي قبالتَها، كانتِ القبور تملأ الرحب."(ص53). الجملة الأخيرة تلميح وتناصّ لبيت أبي علاء المعري: " صاحِ هذي قبورُنا تملأُ الرُحبَ/فأينَ القبورُ مِن عَهد عادِ". جاءت الإشارة لتضخيم مشاعر الأم الثكلى وإبراز مصيبتها.

        في قصة "قاطف الصبر" تصف الشخصيّة الرئيسيّة المتحدِّية نفسَها بما يلي:" خطرت في بالي خاطرة ماذا كان هذا النجس يفعل بي لو لم أكن قدّ حالي ومن رجال الشمس الذين انتصبوا شامخين في وجه التهجير ودقوا جدار الخزان."(ص65) الإشارة هنا إلى غسّان كنفاني في روايته "رجال في الشمس". يُلاحَظ أنّ هذه الإشارة جاءت عكسَ ما حصل لدى كنفاني، فشخصياتُ غسان كنفاني لم تقرعْ جُدران الخزّان خوفا، وقد تعلّم ناجي من هذه الإشارة وقَلَبها إلى مفهوم ثوريٍّ لا استسلامَ فيه، فتقرع الشخصيّة الجدرانَ وتتحدّى.

       وأقفُ عندَ إشارة في قصة "عودة رجل ميّت"، تقول الأمُّ عن ابنها:" نقصت عائلتنا أمسِ صخرا آخر لا يقِلُّ شجاعةً وفروسيةً عن شقيق الخنساء، الشاعرة الجاهليّة ما غيرها"(ص45-46)، نلاحظُ شرحًا لا ضرورةَ له لأنّه يُسَطِّحُ الإشارة ويستهينُ بقدرات القارئ الذي يمكنُه التعاملُ معها دونَ شرح. كذلك توجد إشارة مُسطَّحة أُخرى في نفس القصة:" اسألوه (صخر) كيف استمعَ ذات يوم إلى صرخة إحدى نساء العائلة في بلدتها البعيدة، وكيف ما لبث أنِ اعتمر كوفيَّتَه وانطلق إلى هناك في تلك البلدة البعيدة، مُغيثًا إياها ومستجيبًا لطلبها نَجدتَه"(ص46). إلى هذه النقطة نلاحظ أنّ الإشارة جميلة ويمكن لقارئ مُتوسِّط الثقافة أن يصلَ إلى مصدرها لِتتمَّ عمليّة التأثير والإثارة. ولكنّ الكاتبَ يُسطِّحُ الإشارة ويُفرِّغُها مِن تأثيرها عندما يقومُ بشرحها:"سائرًا على طريق الخليفة العربي المعتصم صاحب السيف الصادق. يومها أغار على مَن تسبّب بإيلام قريبتِه مُذكِّرًا بحرب المعتصم ذاتِه في منطقة الأناضول."(46). كانَ مُفضَّلًا أن يَحذِفَ الكاتب هذه الشروحات التي تُسيئُ إلى فنيّة القصّة وجماليّاتها.

     هذه الإشارات التراثية تضيف للنصّ العمقَ الفكريَّ والبعدَ الجماليَّ وتثريه، وتدلُّ على ثقافة الكاتب وتمكُّنه.         

     وبعد، فقد عالجتُ هذه المجموعة القصصيّة بأسلوب نقديّ – بحثيّ معًا، وقد كانَ جُلَّ همّي كشفُ النصِّ واستكشافُ أبعادِه الفنيّة والمضمونيّة وإضاءتُه ونقدُه ما وجدتُ إلى ذلك سبيلًا، مُوضِّحًا جماليّاتِه حيثُ كانَ جميلًا وإخفاقاتِه حيثُ أَخفق.