قرأ تسفايغ كتاب "المقالات" مرتين؛ الأولى حين كان فتى، والثانية حين تقدم في العمر، وفي كل مرة خلص إلى نتيجة مختلفة عن الأخرى كل الاختلاف، ففي الأولى كان باردًا جدًا، وفي الثانية عاش حالة من التهاب المشاعر، إلى حد أنه قرر أن يسجل تجربته في كتاب، ليشاركها مع الآخرين، نظرًا لما تزخر به من حكمة إنسانية، تصلح لكل زمان ومكان.

مونتين بين النص الأدبي والحكمة الإنسانية

بشيـر البـكر

 

يرى الكاتب النمساوي ستيفان تسفايغ أن النص الأدبي يمكن أن يكون قيمة بحد ذاته، إلا أنه يكتسب قيمة إضافية حينما يكون ذا حمولة إنسانية. وفي وسع الكاتب أن يكتب كتابًا مكتمل الأركان من الناحية الجمالية، ويجد من يقرأه ويثني عليه، ولكنه يصبح أكثر فائدة إذا ما ارتقى إلى مصاف المعرفة الإنسانية، إلى جانب شكسبير، غوته، هوميروس، بلزاك، وتولستوي. ويتحدث في كتابه الذي لا يتجاوز مئة صفحة، عن رأيه بالكاتب والفيلسوف الفرنسي ميشيل دي مونتين، صاحب كتاب "المقالات" الذي عاش في عصر النهضة (1533-1592).

قرأ تسفايغ كتاب "المقالات" مرتين؛ الأولى حين كان فتى، والثانية حين تقدم في العمر، وفي كل مرة خلص إلى نتيجة مختلفة عن الأخرى كل الاختلاف، ففي الأولى كان باردًا جدًا، وفي الثانية عاش حالة من التهاب المشاعر، إلى حد أنه قرر أن يسجل تجربته في كتاب، ليشاركها مع الآخرين، نظرًا لما تزخر به من حكمة إنسانية، تصلح لكل زمان ومكان.

وفي رأي تسفايغ الذي يعد من أبرز كتاب أوروبا في القرن العشرين، فإن مونتين هو المؤسس، والقديس، والشفيع، والصديق الصدوق لكل إنسان حر على وجه الأرض. ولذلك، على ما يبدو، خصص له كتابه الأخير قبل أن ينتحر في عام 1942 في البرازيل بعد أن ترك وطنه، خوفًا من النازية. ويعترف أن الحكيم والفيلسوف الفرنسي المؤسس لفن المقال، لم يشده كثيرًا حين قرأه في شبابه وهو في العشرين من عمره، وبقيت فرحته بالكتاب محصورة بالجانب الأدبي وحده، بمعنى أنها بقيت فرحة شاب عثر على كتاب أدبي نادر وحسب، وكانت تعوزه الشرارة الداخلية التي يوقد منها الشغف العاطفي، وتنقصه الومضة المشرقة التي تربط بين روحين.

يذهب تسفايغ في تقديم بورتريه موسع لمونتين الذي ولد قبل قرنين ونصف القرن من ولادة جان جاك روسو، في أسرة بورجوازية من مدينة بوردو الفرنسية، التي تشتهر بزراعة كروم العنب المخصصة لصناعة النبيذ، وعرفت بهذا الإنتاج، وحمل النبيذ الأشهر عالميًا اسمها ماركة مسجلة منذ أكثر من خمسة قرون حتى اليوم. ورغم مرور زمن طويل وحصول تحولات كبيرة في فرنسا بفضل الثورة الفرنسية، فإن مدينة بوردو لا تزال لها طابعها الخاص الذي يميزها عن باقي المدن الفرنسية، وتعد أكثرها حفاظًا على الأصول، وهذا ما يفسر سر إصرار عائلة الكاتب على تغيير وضعها في التراتب الاجتماعي الطبقي، بالانتقال من فئة البورجوازيين الكبار، إلى الأرستقراطية، في فترة كان جده يمتك مستودعات وسفنًا في ميناء لاروشيل، على المحيط الأطلسي يشحن منها الأسماك المدخنة والنبيذ وبضائع أخرى، ولذلك أبرم أهم صفقة استحواذ في حياته عندما اشترى قلعة مونتين من النبيل الاقطاعي رئيس أساقفة بوردو. وكان شراء بورجوازي عادي لتلك القلعة النبيلة عملًا جديرًا بالحفاوة وفق الأعراف السائدة آنذاك، وتوج والده مسيرة الانتقال للأرستقراطية عندما تخلى عن التجارة ليرتاد عالم الفروسية في الجيش، وفي فترة شبابه رافق الملك فرانسوا الأول في الحرب الإيطالية، وحرر دفتر يوميات، أعرب فيه عن توقه إلى أن ينعم عليه بلقب "السيد النبيل دي مونتين"، وقد كان له ما أراد. ولذلك حول القلعة إلى حصن حصين من الخارج، ومن الداخل إلى بناية تعليمية للمذهب الإنساني ونموذج لكرم الضيافة. وبعد أن رأى الجندي الشاب النهضة الإيطالية في أوج ازدهارها الفني، استخلص الدروس مما رآه في تجربته هناك، ومضى قدما في تثقيف نفسه، فوضع الأساس لمكتبة عامرة بعد أن أصبح عمدة مدينة بوردو، وكُتب للابن أن يختتم رحلة صعود نجم العائلة، وسيكون معلم شكسبير، مستشار الملوك، فخر بلاده، و"القديس الشفيع للمفكرين الأحرار في كافة أرجاء الأرض".
أراد والده أن يربيه تربية جيدة فاستشار دعاة المذهب الإنساني، واستقر رأيه أن يأخذ الطفل من صدر أمه قبل الفطام، ليعيش داخل أسرة قاطعي أخشاب من أملاكه، ولم يرد له أن يكبر بين "أفراد طبقة الصفوة"، وإنما أن يتعلم منذ صغره بأن "يولي عناية لأولئك الذين يمدون إلينا يد العون، لا أولئك الذين يديرون إلينا ظهورهم"، بحسب قول مونتين، ولذلك بقي ممتنًا لوالده لأنه أبعده عن الطبقية والغطرسة. وكان الأب واعيًا لما يريده لولده في أن يرتقي ليلحق بدوائر من يرسمون مصير العصر في دوائر الملوك والحكام، من خلال التفوق الفكري والتعليم والثقافة. وكان المدخل إلى ذلك تعليم ابنه اللغة اللاتينية، الذي بدأ في الرابعة من عمره، والتي تمكن خلال زمن وجيز من تعلمها قبل أن ينطق جملة كاملة بالفرنسية. وقد وصف هذه الطريقة "علمتني تذوق العلم وإدراك واجباتي عبر تعزيز الإرادة الحرة وإذكاء رغبتي بلطف وحرية، من دون قسوة ولا ضغوط مفروضة". ويكبر هذا الإحساس لاحقًا حين يتوفى والده ويصبح هو المدير المباشر للثروة والأملاك، وتبين خلال وقت قصير أنه إداري فاشل؛ "كنت سأصير راضيًا قانعًا لو أني استبدلت الحياة المتقشفة بالحياة المنعمة التي أحياها الآن". وبينما كانت السنوات المقبلة تلقي مسؤولية جسيمة على عاتق كل مهتم بالشأن العام، كان مونتين الحكيم يلوذ بالانسحاب وبالفرار، ولما أتم عامه الثامن والثلاثين قرر التقاعد من منصبه الرسمي في البلاط الملكي، كي يسهر على خدمة نفسه فقط، بعد أن سئم السياسة والحياة العامة والتجارة. وكان مراده هو ذاته الداخلية العمق غير المنتمية إلى دولة، أو عائلة، أو زمن أو ظروف أو ثروة أو أرض، تلك الأنا التي أسماها غوته القلعة المحظور دخولها على أحد سواه، ثم أنشأ المكتبة التي ورثها عن أعز أصدقائه المفكر إتيان دو لابويسيه، صاحب المقالة الطويلة الشهيرة المعروفة بـ"العبودية المختارة". وكانت علاقته بالكتب مثل علاقته بكل شيء، قوامها الحرية ولا تعرف الالتزامات. وفي هذه الفترة بدأ الكتابة وحكى بسرد رائع كيف كان يقرأ وماذا أحب أن يقرأ، ويشهد تسفايغ بأنه "لم نشهد سواء في عصره ولا في أي من العصور قارئًا كسولًا هاويًا مثله، ولا قارئا أشد حصافة منه. إن أحكام مونتين على الكتب جديرة بالتأييد الأعمى".

أحد الدروس التي اكتسبها مونتين من الغرق في الكتب هو أن القراءة تذكي لديه ملكة الحكم، وتحفزه للإجابة عن الأسئلة، وتشجعه على الإفصاح عن رأيه بلا مواربة. كان مفتونًا بفن اللغة، وتثير كتب السير الذاتية شهيته للقراءة لأنها تعير اهتمامًا إلى الدوافع أكثر من اهتمامها بالوقائع، وشيئًا فشيئًا قادته قراءة الكتب إلى الكتابة من دون تخطيط مسبق او التزام، فصار يفرغ الهواجس التي كانت تراوده؛ "شرعت في وضعها على الورق، مؤملًا أن يستحي عقلي من نفسه سريعًا، فالعقل الذي لا يضع نصب عينيه هدفًا محددًا عقل ضال". ومن هنا ولدت "المقالات" التي اعتبرها عبارة عن تدوين لأفكاره بشكل عشوائي وبلا رابط، وكانت هذه حال المرحلة الأولى، ومن ثم تطور الأمر إلى طباعة "المحاولات" في مجلدين فتحولت إلى كتاب وأصبح كاتبًا من دون أن يعرف. ومن ثم تورط أكثر فصار يكتب للجمهور، فأصدر مجلدًا ثالثًا هو عبارة عن تنقيح وإعادة صياغة للمجلدين، وتبين أنه بقي يواصل صقل أفكاره وتعابيره وتغيير علامات الترقيم حتى لفظ أنفاسه. وفي البداية اتخذت الأفكار شكل حواش وملاحظات، ثم بدأ تدريجيًا صلة منطقية بينها، مدفوعًا بحس مسبق ألا يصل إلى خاتمة.

ظل يصر على أنه ليس كاتبًا والكتابة في نظره لست إلا بديلًا للحياة. وكانت متعته الحقيقية هي البحث لا العثور، ولم يكن من طينة الفلاسفة الذين يفتشون عن حجر الفيلسوف، ولا عن معادلة موحدة لكل شيء. لم يكن يبحث عن عقيدة جامدة ولا تعاليم ثابتة؛ "لا تزعم رأيًا بجرأة، ولا تحقر رأيًا باستخفاف". ولما كانت كل واحدة من المقالات قد ولدت من رحم مصادفة عشوائية أو حالة مزاجية، فقد تبدو أنها مجرد نصوص إلى جوار بعضها، إلا أن هذه المقالات يجمعها خيط واحد، لها نقطة بداية واحدة هي ذات الكاتب وموضوعها حياته، وردود أفعاله على الأحداث، وبات كل تفصيل من تفاصيله يحمل أهمية قصوى، فعاد إلى دراسة الفلسفة والتاريخ ليرى كيف تصرف من سبقوه، أي دراسة الإنسان داخل الإنسان، الشخصية، الجوهر، المزيج الذي لا يمكن أن يشترك بأي وجه مع الآخرين، الإنسان الأول الكامل الذي لم يطرأ عليه تغير ولا تبدل.

وفي نهاية مشوار حياته لمس مونتين تأثير مقالاته وفلسفته في الحياة حينما جرى انتخابه لعمدة بوردو من دون أن يترشح، ولم يقبل بذلك لولا صدور أمر ملكي صريح يفرض عليه المهمة التي لم تكن شاغله الوحيد لأن رجال البلاط والساسة والدولة الكبار بدأوا في طلبه، رغم أنهم ظلوا ينظرون إليه نظرة ريبة لأنه حر الفكر ومستقل الإرادة، فهو لم يوال ملكًا أو ينتمي إلى حزب أو جماعة في زمن الحروب والنزاعات بين الكاثوليك والبروتستانت، ولذلك استحق دور الوسيط المثالي بين الأطراف المتناحرة، لا سيما بين الكاثوليكي الملك هنري الثالث وولي عهده البروتستانتي هنري الرابع في النزاع على العرش، ونجح في وضع حد للنزاع بينهما على أساس تحول ولي العهد إلى المذهب الكاثوليكي، الذي اعتلى عرش فرنسا عام 1590، وكتب له مونتين رسالة تهنئة يقول فيها: "في مقدور الفاتح التاريخي العظيم أن يتباهى بأنه منح أعداءه المهزومين سببًا ليحبوه مثل أصدقائه".

 

ضفة ثالثة