كثيرة هي الدراسات التي تناولت موضوع المكان في الرواية، ولعلّ هذه الدراسة تتناول المكان، بوصفه ظاهرة إنسانية، وربما يذكرنا موضوع الرواية أو ثيمتها برواية بروايات عربية أخرى تناولت المكان بشكل مماثل، ومع ذلك يظل المكان وتمثلاته على صلة وثيقة بمضمون الرواية.

تمثلات المكان في رواية «قلبٌ بلا قناع»

لرجاء بيطار

عبد الله الميـالي

 

رواية (قلبٌ بلا قناع) للروائية اللبنانية رجاء بيطار، صدرت في عام 2022 عن دار الولاء للنشر في بيروت. وتقع في 404 صفحة، وتتألف من تسعة فصول معنونة.

ملخص الرواية

تحكي الرواية صمود أسرة الشيخ (أبو حسين) إحدى أسر قرية (عين النسر) في إقليم التفاح في الجنوب اللبناني بوجه الاعتداءات الإسرائيلية خلال العام 1993، واختفاء المقاوم (أحمد) أحد أحفاد الشيخ في عام 1992، بعد تنفيذه مهمة قتالية ضد العدو تعرض خلالها لإصابة خطيرة، فلم يكن ضمن الشهداء، ولا ضمن قائمة الأسرى، مما ولّد شعورًا كبيرًا عند الأسرة بإمكانية العثور عليه يومًا ما. وبعد أحداث درامية متعددة وصراعات متشابكة، يُعثر عليه وهو فاقد الذاكرة في مستشفى شيكاغو في أمريكا، فقد دبر (سالم) وهو رجل أعمال لبناني مقيم في أمريكا ومتزوج من (مادلين) وهي سيدة أعمال أمريكية، خطة لاستبدال أحمد المصاب بجثة ابنه (كريم) الذي قتل في إحدى الغارات الإسرائيلية في (وادي الموت) في الجنوب اللبناني عندما كان يمارس هوايته بالرسم. تنكشف الخطة لاحقًا ويتم اعتقال سالم من قبل الشرطة الأمريكية، وتختتم الرواية بهذه العبارة التي وردت على لسان الممرضة (هناء) بنت عم كريم، وهي تهمس لفاطمة شقيقة أحمد: "إنه ليس كريمًا يا فاطمة، حتى وإن ألبسه عمي قناعه، إنه لم يستطع أن يجعله ذاك الإنسان، إنه لم، ولا يعقل أن يكون كريما، فهو نقيض له تماما، وإن حمل ملامحه على وجهه، إنه وجه زائف مقنّع، يخفي وراءه قلبًا بل اقناع، ... والقلب هو الإنسان لا الوجه يا فاطمة." ص403. كأن هذه العبارة هي رسالة الرواية، هوية الإنسان الحقيقيةـ تُعرف من قلبه لا من وجهه الذي ليس أكثر من قناع.

تحليل الرواية

رواية (قلبٌ بلا قناع) خليط من رواية اجتماعية من جهة، ومن رواية درامية من جهة ثانية، ومن أدب المقاومة من جهة ثالثة. إذ كانت العناية بتصوير الشخصيات وانفعالاتها وهواجسها أكثر من العناية بتصوير المجتمع، لذلك قلّت العناية بوصف المكان، على غير ما وجدناه في العديد من الروايات العربية وفي مقدمتها روايات نجيب محفوظ (الثلاثية مثلاً) ولكن على الرغم من ذلك فاستدعاء المكان في رواية (قلبٌ بلا قناع) كان له وجوده الذي لا يُنكر، ودلالته وتمثلاته التي سنأتي عليها، ولاحظنا ثراءً واضحًا للمكان الذي تتموضع فيه شخصيات الرواية.

جاء السرد في الرواية بوساطة الراوي العليم، مع توظيف الحوارات المشتركة بين شخصيات الرواية. واتسمت الرواية بلغة أدبية نثرية عالية، تجذب القارئ بصفائها وصدقها ورونقها. كما أن تنامي الأحداث فيها وتسلسلها كان موفقا، مع توظيف ثيمة تكاد تكون مبتكرة قلما نجدها في روايات أخرى. وأقصد بالثيمة هنا موضوعة استبدال جسد (أحمد عارف) المقاوم للاحتلال الإسرائيلي الذي أصيب إصابة بالغة أفقدته الذاكرة، بجسد شخص آخر (كريم سالم) نصفه أمريكي من جهة الأم (مادلين) ونصفه الآخر لبناني من جهة الأب (سالم) المقيم في أمريكا، وما رافق ذلك من مشاهد وأحداث تناولتها الرواية. وعنيت الكاتبة ببيان صمود شخصيات الرواية، خصوصًا في الجنوب اللبناني وما يرتبط به من مدن وقرى، في وجه الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، وسخرت من العدو وعنجهيته وغطرسته في أكثر من مورد، كما جاء في هذه العبارة: "المقاومة شحذت سلاحها كالعادة وقاومت تواجه، بكل ما أوتيت من قوة الإيمان والتصميم على محاربة العملاق، مهما بلغت ضخامة حجمه، فقد كان المقاوم يقف في عليائه، يستنصر ربه على أعدائه، ولذا فإن العملاق لم يكن عنده عملاقا، بل كان قزمًا يتعملق، وهو بلا ريب سيأخذ حجمه الطبيعي ولو بعد حين" ص135.

كما كشفت الرواية صورة الآخر، أي نظرة الغربي للعربي، وهي صورة طالما تناولتها روايات عربية كثيرة، إذ رسم الغربي في ذهنه صورة العربي بوصفه إرهابيا ومخرّبا وهمجيا ومتخلفا، فقد جاء على لسان الأمريكية مادلين: "حسنا، سأعرف كيف أقتصُّ منكم جميعًا أيها العرب الجبناء! ... إنكم حقًّا قوم متخلّفون ... مهما بلغتم من درجات العلم، فأنتم غير مؤهلين لتحمّل المسؤوليات الكبرى ... أنتم غجر إرهابيون ... لا أكثر من هذا ولا أقل.." ص358.  كما جاء على لسانها أيضًا وهي تصف الممرضة هناء: "إنها تعمل في مستشفى متعاطفة مع الإرهابيين الذين يقومون بعمليّاتهم التخريبية في جنوب لبنان، وتستقبل مرضاهم وجرحاهم" ص278.

توظيف المكان في الرواية

الحديث عن المكان في الرواية، يشكل أحد تمظهرات البحث في بنية النص الروائي ككل، لكون أحداث الرواية وشخصياتها ترتبط وتتموضع ضمن ذلك الحيز المكاني/الفضائي. ولا يمكن فهم النص الروائي من دون استثمار وتوظيف المكان المرتبط بذلك النص، ومعرفة دلالاته وتمثلاته وربما رمزيته أحيانا. ويأتي المكان في الرواية "ليستقطب اهتمام الكاتب، وذلك لأنّ تعيين المكان في الرواية هو البؤرة الضرورية التي تدعم الحكي وتنهض به في كل عمل تخيلي. ويقيم الفضاء الروائي صلات وثيقة مع باقي المكونات الحكائية في النص، وفي مقدمتها علاقته بالحدث الروائي والشخصيات التخيلية." [1]

ومما لا شك فيه أنّ كشف صورة المكان الروائي وبيان دلالته بما في ذلك التقاطبات والثنائيات، سوف يسمح للقارئ باستيعاب وفهم مجمل النص. وما يلفت الانتباه في توظيف المكان في رواية (قلبٌ بلا قناع) هو وجود الثنائيات الضدية (الجنوب/بيروت، القرية/المدينة، الجبل/الوادي، الحقل/القبو، بيروت/شيكاغو) ولكل مكان رمزيته وهويته ودلالته المعروفة. وبناءً على ما تقدم يأتي استدعاء المكان في الرواية كتحصيل حاصل لابد منه: "المكان الفاعل الذي يوحي بدلالة خاصة على تبلور كيانات ثقافية واجتماعية، ليس صامتًا أو جامدا، لكنه يحمل دلالات رمزية ودينية وأسطورية؛ مكان للعيش ينطوي على وظائف تشكل لُحمة متماسكة في استمرارية الوجود الإنساني ... ويخرج المكان من إطاره الجغرافي نحو فاعلية بشرية جديدة، ويعاد قراءة المكان ضمن رؤية تأويلية، وقراءة استشرافية؛ لإعادة الأمور إلى طبيعتها، المكان الذي ارتوى منه الروائي وشكّل بعدًا سيكولوجيّا، يعيد إنتاجه من جديد في قالب حكائي من زمن الماضي."[2]

سأحاول أن أركّز على أهم الأماكن التي وردت في الرواية، وبيان دلالاتها الواقعية وتمثلاتها التي انسكبت بدورها على أجواء الرواية.

النافذة

تمثل النافذة حدًّا فاصلًا بين فضاءين، فضاء الغرفة المغلق والفضاء الخارجي على امتداد البصر، كما تمثل وسيلة اتصال مع الآخرين سواء داخل البيت أو خارجه، ووسيلة إضاءة وتهوية تمنحها الطبيعة مجانا، ويمكن من خلالها أن يمتع الناظر نظره بجماليات الحديقة مثلًا كما جاء في هذا المقطع من الرواية: "كانت الزاوية مجاورة لنافذة تطل على الحديقة، وتتعانق قرب زجاجها أغصان شجرة توت فتيّة، قد تدلت ثمارها الناضجة الملوّحة بسمرة سخيّة" ص23. ، ويمكن للنافذة في حالات استثنائية أن تكون وسيلة للأذى، كما جاء في هذا المقطع من الرواية: "لعنة اللّه عليهم، الجبناء، ماذا يريدون منّا؟ لقد كنا في منزلنا الآمن، كان نائمًا في سريره ... سقطت القذيفة عند نافذة غرفته ودخلت شظاياها العجيبة المسنّنة مع دفع الانفجار إلى الداخل" ص186.

الغرفة

يمثل البيت المكان الأليف الذي يأوي إليه الفرد، ويشعر فيه بالهدوء والأمان والطمأنينة والراحة وحرية التصرف، والغرفة هي المكان الأكثر خصوصية للفرد في البيت، وذكرياته تتشكّل فيها أكثر من أي مكان آخر، وهنا جاءت هذه العبارة لتكشف للقارئ رغبة فاطمة في استذكار تلك الذكريات لشقيقها أحمد الغائب، فالمكان هنا يتفاعل إنسانيًّا ووجدانيًّا مع الفرد: "كان المكان يحمل إليها مع عبق الذكريات الفواح في كل زاويةٍ من الغرفة الأثيرة، عبير أحمد، .. وصورة الكابوس المريع التي لم تكن لتفارق خيالها، انفجار وحريق، دماء تلطّخ كل شيء، صرخات ألم، ووجه متناثر القسمات، وجه أحمد!" ص43.

فيما كان وصف الغرفة التي يرقد فيها كريم سالم في مستشفى شيكاغو على نحو مختلف، لأنها غرفة في مستشفى من جهة، ولأن من يرقد فيها هو بين الحياة والموت فعلا:"كانت الغرفة باهتة النور صامتة كالقبر ... من حقكَ أن لا تستيقظ يا صاحبي، فالمكان يوحي بكل شيء إلا باليقظة والحياة" ص333.

الحديقة

الحديقة بما تتضمنه من أشجار وأزهار وثمار وطغيان اللون الأخضر، تمثل البهجة والمتعة والصفاء والهدوء وسمو النفس، والجو المريح الجاذب للجلوس في أرجائها. ولكن الرواية هنا استدعت الحديقة لغرض آخر استثنائي، ففي ظل معارك واعتداءات متكررة لا تنتهي، تتحول الحديقة لمكان دفن الموتى، حين يصعب الدفن في المقبرة: "كيف السبيل للوصول إلى جبّانة الضيعة؟! واقترح هادي حلّا: لا مجال للوصول، فلندفنه هنا، في حديقة الدار.. أجل، ادفنوه هنا، عندئذ يبقى قربنا، فيرعانا كما تعوّد دائما .. حُمل نعش الشيخ على أكتاف فتيَته، شيّعته، عيون أحبّته وقلوب أهل الضيعة كلّها، ووري الثرى في تراب حديقته، بين جذور الأشجار التي طالما رواها بعرق كفه، فكان أن شدّه الشوق إليها، وشدّها الشوق إليه، فاحتضنته ميتًا وتغلغلت في أعماقه، كما تغلغل يومًا في أعماقها، فعاش معها وفيها وبها، فكانت بينهما علاقة أقرب من القربى، ربما بلغت حدّ التوحّد." ص178 – 179.

القبو

يمثّل القبو/الملجأ، مكانًا لحفظ مونة البيت القروي، أو للأغراض الزائدة التي انتهت الحاجة إليها ولكن أصحابها لا يرغبون في رميها، كما قد يمثّل وسيلة قسرية طارئة لابد منها يلجأ إليها الفرد باختياره، للحفاظ على سلامته وأمنه أثناء الحروب والمعارك التي تطال القرى والأرياف. وهو مكان عادة يتسم بالظلام والعتمة والرطوبة:

"رغم أن القصف المعادي لم يتوقّف حتى ساعةٍ متأخّرة من الليل، مما اضطرّهم جميعا، هو وفاطمة وسارة، إلى البقاء في غرفة القبو التحتيّة، ملجأالأسرة المعتاد عند اشتداد القصف" ص39.

وكلما لاحت بوادر الغارات والقصف على القرية، فإن الاحتماء بالقبو/ الملجأ ضرورة لابد منها للتمسك بطوق النجاة: "زفرت فاطمة من الأعماق ... لم يتسنّ لها مغادرة القبو إلا قبل قليل، فالغارات لم تهدأ ولم تخفّ وتيرتها إلا منذ دقائق ... ولكن الحصن كان متينًا لا ينهار وإن ارتجّت أنحاؤه" ص135.

الحقل

يأتي الحقل في النص الأدبي عادة ليمثل الخصب والنمو والعطاء حيث السنابل والأشجار والعشب والثمار، ويمثل ثنائية الفلاح/الأرض وتشبثهما بجذورهما، وهو يمثل أيضًا وجهًا من أوجه الحرية حيث الفضاء الشاسع والأفق المفتوح، كما يمكن أن يمثل مسرحًا للمقاومة إن اقتضت الضرورة:  

"كان جدّها يخرج كل يوم إلى حقله ليتنسّم فيه عطر أحمد، ويبحث بين سنابله وأشجار زيتونه عن معول أحمد وبندقيته" ص19.

الشارع

يدخل الشارع ضمن مكونات القرية أو الحي أو المحلة أو المدينة، بوصفه الشريان الحيوي الذي يربط المسارات المتداخلة مع بعضها. والشارع يمثل مسارًا مهمًّا للأفراد وتنقلاتهم ذهابًا وإيابًا وأماكن عملهم أو تسليتهم، فهو مزدحم غالبًا وفوضويّ أيضا، مما يبعث رسالة الحياة والاستمراريّة. ولكن في الحالات الطارئة كما هو الحال في الحروب والمعارك والاشتباكات الداخلية، فإنّ حال الشارع يبعث على الأسى: "الموت كان ينهمر على كل مكان حوله، وبالأخصّ على الشارع الرئيس للبلدة، الذي استهدفه الطيران بغاراته .. نظر محمد حوله محتارًا وهو يرى الشارع الممتدّ أمامه فارغًا مقفرا، إلا من الحفر المزروعة في شتى أنحائه، والتي زادها عددًا وعمقًا قصف الطيران المعادي بين الفينة والأخرى" ص154.

المسجد

يمثل المسجد/الجامع، مكانًا لتجمع الأفراد في أوقات معينة لأداء الصلاة وللعبادة، ويمكن له أن يمثل منبرا إرشاديا وتعليميا وفكريا وثقافيا وربما سياسيا أحيانا، وهو مكان للألفة والمودة والتعارف، ويُعبّر عن الصلاة فيه بالحج الأصغر. ولكون المسجد مكان عبادة محترم كغيره من أماكن العبادة الأخرى وله رمزية الطهارة والقداسة والروابط الروحية، فالمفروض احترامه وعدم المساس به أو التعرض له بأي اعتداء سواء داخلي أم خارجي، ولكن ما كشفته الرواية بهذا النص خلاف ذلك، حيث طالته الاعتداءات الإسرائيلية مخالفة الأعراف الدولية والشرائع السماوية: "إن قلبي يحدّثني بأن جدي هناك ... في المسجد ... انبسطت أمامهما طريق المسجد، صاعدةً تتألّق في أعلاها قبةٌ خضراء ومئذنةٌ شامخة، قد بدت في بعض أنحائهما آثار قصف قديم، وآثار أخرى حديثة ... لقد تعرّض المسجد للقصف على ما يبدو، تلك الغارة المدوّية التي أرغمتني على المكوث في المنزل حتى الساعة. لا ريب في أنها هي التي استهدفت المسجد. ويح هؤلاء الجبناء الذين لا يعرفون دينًا ولا ربّا، ... أيقصفون بيت الصلاة؟!" ص165.

المستشفى

المستشفى هو المكان المعدّ لعلاج ورقود وشفاء المرضى، وهو يمثل حالة إنسانية عامة في كل أنحاء العالم، وهو يتّسم غالبًا بالهدوء والأمان والنظافة، ولكن في الظروف الاستثنائية، كظروف الحروب والمعارك، يزدحم المستشفى بأعداد إضافية من المصابين والضحايا، لا يكون معها قادرًا على أداء دوره إلا بشق الأنفس: "تكسّرت أطياف الغسق على هامات الأشجار الباسقة المحيطة بموقع المستشفى .. دخل المكان، لم يكن محتاجًا أن يدفع الباب ليدخل، فالباب كان مفتوحًا على مصراعيه، تعبره في كل دقيقة أيدٍ تحمل الجرحى، بعد ما لم يعد عدد النقّالات ليفي بالغرض، وبدأ عمله حيث وصل، لم يكن محتاجاً لدخول غرف المرضى أو قسم الطوارئ ليجد مبتغاه، فقد كانوا هناك، منطرحين على مقاعد غرفة الانتظار، هم وذووهم،.. وحتى على الأرض، بعدما ضاقت المقاعد بالعدد المتزايد من المنكوبين، وتمرّغت الأرضية البيضاء بدمائهم." ص184.

المطار

المطار هو فضاء مفتوح، ويمثل محطة انتظار واستقبال وتوديع أفراد من جنسيات مختلفة للسفر والانتقال بين الأماكن البعيدة، وعادة بين الدول. وعندما تكون العلاقات الدبلوماسية مقطوعة بين الدول فلا تكون رحلات جوية بينهما. في هذا المقطع استدعت الرواية ثنائية (الجو/البر) وفيه تهكم وسخرية من الأب (سالم) لولده (كريم) الذي يرفض السفر إلى أمريكا عن طريق مطار تل أبيب: "أني لا أريد الرحيل من مطار تل أبيب، بل من مطار بيروت، أريد اجتياز الأراضي اللبنانية لا الإسرائيليّة ... هكذا إذًا.. أنت رجل وطني، لبنانيٌّ عن جدارة! .. لا تريد السفر إلا من مطار بيروت؟ حسنًا .. اسمح لي يا بني بأن أهنّئك على وطنيّتك هذه.." ص213.

وفي مورد آخر، يمثل المطار شعور بالغربة والاتجاه نحو المجهول، حينما يكون السفر غير مدروس وغير هادف كما هو حال الممرضة هناء عند سفرها إلى أمريكا للقاء ابن عمها كريم: "كان النزول على أرض المطار يعني بداية المرحلة الأولى من الدرب المجهول، نزلت هناء على درج الطائرة وهي تشعر بأنها قد بدأت تغوص" ص291.

الجبل

يمثّل الجبل (في واحد من تمثّلاته) وبما له من حجم وكتلة وارتفاع شاهق، قوة دفاعية وأمنية نحتتها يد الطبيعة، يمكن له حماية من يلوذ به حسب توظيف مناسب يتناسب مع نوع الاعتداء، ويمكن للجبل أن يرمز للسمو والرفعة أيضا. لم تكشف لنا الرواية غير هذا المقطع المرتبط بالجبل، حيث تتجه أنظار الجد (أبو حسين) إلى الجبل في إشارة إيحائية إلى المقاومين والمجاهدين الذي يلوذون به، ومنه ينطلقون في أعمال المقاومة: "صرّ على أسنانه وهو يستقيم واقفاً معتمداً على عصاه، مولياً وجهه شطر الجبل المقابل.. راح يحدّ النظر نحو الجبل، حيث أكوام البلّان وشجيرات الوزّال والطيّون المتناثرة هنا وهناك على المنحدرات الصخرية الصعبة" ص16.

الوادي

مثلما مثّل الجبل مكانًا للحماية والدفاع أو الهجوم، يأتي الوادي وهو منخفض طبيعي ليمثل وسيلة دفاعية للاختباء أو الهروب. وهنا يكون الجبل والوادي من التقاطبات الضدية الارتفاع مقابل الانخفاض، وإذا كانت رمزية الجبل هي السمو والرفعة، فإنّ رمزية الوادي هي الدناءة وما شابه ذلك من توصيفات سلبية أخرى قد تقترب أو تبتعد من هذا المعنى. ويأتي هذا المقطع من الرواية ليكشف للقارئ أن الوادي كان يُخبّأ جثة كريم الذي قتل في هجوم إسرائيلي: "هذا الرجل الذي في الداخل، والذي ادّعيت يومًا بأنه ولدك، من يكون؟! ... لست أدري، حتى هو لم يكن يدري، ربما وادي الموت يدري أكثر، فهناك وجدته، وهناك تركت ولدي! .. من يصدّق أنه خرج في تلك الصبيحة المشؤومة إلى وادي الموت ليرسم لوحة استهوته، لقد حاولت إقناعه بخطورة المكان، ولكنه لم يصغِ إليّ، فماذا كانت النتيجة؟ لقد لقي حتفه في قصف صباحيّ إسرائيليّ على الوادي بهدف تمشيطه، بعدما جرى ذاك الهجوم على الموقع المطلّ" ص396.

القرية/الضيعة

تمثل القرية غالبًا الأصالة والبساطة والبراءة والألفة، كما تمثل الانغلاق والتمسك بالعادات والتقاليد والالتزام الديني، وهي تفتقر إلى وسائل العمران والمدنية التي تكون من استحقاقات المدينة، وفي لبنان والجنوب منه تحديدًا صارت القرية رمزاً للبقاء والصمود بوجه الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة خلال عدّة عقود، وكان الانتماء لها محل فخر واعتزاز لأبنائها. وهكذا نجد عائلة الشيخ (أبو حسين) تتشبث بفضائها وحيزها الجغرافي (ضيعة عين النسر) لأنّها ترتبط بهذا المكان بجذورها وتاريخها، فتواشجت العلاقة بينهما وتفاعلت إلى درجة الانصهار (من الضيعة وإليها) كما جاء على لسان فاطمة حفيدة الشيخ: "ما اسمكِ؟ .. هناء سالم، من ضيعة (دير الصنوبر) في الشريط المحتل، وأنتِ؟!.. فاطمة عارف، من ضيعة (عين النسر) .. جيرانكم، في المنطقة المحرّرة. طأطأت هناء رأسها وهي تجيب مستشعرة ذلّ الاحتلال، حتى في ذلك المكان: لستُ مقيمة في الضيعة، بل في بيروت، .. وأنتِ؟ من الضيعة وإليها.." ص310.

وفي مورد آخر نقرأ ما يشير لذلك أيضا: "كان يوم دفن الشيخ أبي حسين يومًا مشهودًا من أيام (عين النسر)، رغم أن شهوده كانوا قلّة، فالقصف العشوائي المستمرّ حبس الصامدين من أهل الضيعة، الذين لازموا بيوتهم وأرضهم، عن التوجّه إلى منزل شيخهم لتشييع جثمانه" ص172.

الجنوب

جاء في قصيدة (السيمفونية الجنوبية الخامسة) لنزار قباني: (سمّيتُكَ الجنوب/يا لابساً عباءةَ الحُسين/ وشمسَ كربلاء/ يا شجر الورد الذي يحترفُ الفداء/ يا ثورةَ الأرضِ التقت بثورةِ السماء/ يا جسداً يطلعُ من ترابه قمحٌ وأنبياء/ سمّيتُك الجنوب يا قمر الحُزن الذي يطلعُ ليلاً من عيون فاطمة/ يا سفنَ الصيدِ التي تحترفُ المقاومة ... سيذكرُ التاريخُ يوماً قريةً صغيرةً/ بين قرى الجنوبِ/ تدعى معركة/ قد دافعت بصدرها/عن شرف الأرض/ وعن كرامة العروبة/ وحولها قبائلٌ جبانةٌ/ وأمة مفككة!). [3]

الجنوب اللبناني يمثل عند اللبنانيين وعند العرب رمزاً للصمود والمقاومة والثبات والوقوف بوجه الاعتداءات والهجمات الإسرائيلية الهمجية التي أحرقت الحرث والنسل. وبناءً على ذلك الموقف، ولكون الرواية تنتمي إلى أدب المقاومة بدرجة معينة، جاء استدعاء الجنوب في الرواية ليشكل العمود الفقري لبقية الأماكن الأخرى.

"كانت السنديانة العتيقة التي صمدت أمام كل أعاصير التاريخ وأنوائه، لاتزال صامدة أمام ذلك الإعصار المطلّ عليها من هناك، من أقصى الجنوب، يحاول أن ينتزع أذرعتها وقلبها وشرايينها من عمق الأرض، ولكن هيهات، .. لقد كانت أقوى من أي إعصار" ص71.

وفي إشارة إلى ما تعرض له جنوب لبنان في تموز من عام 1993 من قصف إسرائيلي غاشم وهمجي: "كانت ليلة لا كالليالي، .. جنوبية عامرة بالتضحيات، تتردد بين جنباتها شظايا الحقد العدوّة بأنيابها الغارزة في الدماء .. حتى القمر، لم يستطع إلا أن يكون هلالًا في تلك الليلة" ص134.

حتى شمس تموز في الجنوب لها حضورها في الرواية: "كان النور باهرًا في الخارج، فشمس تموز في الجنوب تسطع بقوة من الفجر حتى الغروب" ص145.

وتواصل الكاتبة في استدعاء الجنوب وشمسه: "لم تكن شمس الجنوب الدافئة كافية لتجفّ فكل تلك الدموع والدماء التي تدفقت بها ينابيع تموز، ولكنها كانت كافية لتهيّء الأرض لموسم العطاء المقبل، ولتستلّ من التراب أشواكه وطفيليّاته، وتتركه يستدرّ ريّه من تلك الينابيع الخفّاقة بالحياة" ص267.

بيروت

بيروت فضلًا عن كونها عاصمة لبنان، هي مدينة، وهذا يحيلنا إلى استحضار عناصر التحضر والاستقرار والتمدن والعمران والرفاهية والعلم والثقافة والحرية والانفتاح والحركة والحيوية. وتقف المدينة بالضد من القرية حيث يبرز بينهما ما يُسمى بالتقاطبات الضدية، فلكل منهما ثقافته وانتماءه وتشكلاته المختلفة. أشارت الرواية إلى بيروت في أكثر من مورد، ولكن سنكتفي بهذا النص الذي يستدعي بيروت بوصفها مركزا طبيا متطورا للعلاج، وهذا ما تفتقد إليه القرية التي ينتمي إليها صالح:

"توكّل على اللّه يا دكتور، وتهيّأ لنمضي نحو بيروت، سأطلب تجهيز سيارة إسعاف في الحال، إن علينا أن نستثمر كل دقيقة تمرّ،.. ولكن صالحًا أمسك بذراعه وهو يقاطعه برجاء :محمّد، وماذا ستصنع لي بيروت؟ دعني، عساي أمضي بسلام وأرتاح" ص220.

وإذا كانت قرى الجنوب قد ابتليت بالاعتداءات الإسرائيلية أكثر من غيرها، فإن بيروت تبرز لتكون عندئذ هي الملاذ والمأوى للنازحين: "كانت معظم البيوت خاوية، قد نزح أهلها إلى بيروت أو غيرها من المناطق اللبنانية التي لم يطلها القصف الوحشي.." ص142.

وهكذا وجدنا في الرواية تنويعات مكانية مختلفة، وثنائيات متعددة، عملت الكاتبة على كشفها وبيانها من خلال قدرتها المتميزة في أسلوب الطرح والسرد، مما منح الرواية بعدًا جماليًّا وفنيًّا تستحقها. ونجحت الكاتبة في رسم صورة المكان واستنطاقه وكشف دلالاته وتمثلاته لتضيف للرواية البعد الدرامي من جهة، ولتأكيد الهوية الثقافية والاجتماعية والسياسية لشخصيات الرواية من جهة أخرى، حيث تحولت بعض الأماكن والفضاءات (الجنوب مثلا) إلى رموز ارتبطت روحيًّا وعقائديًّا واجتماعيًّا ونفسيًّا بشخصيات الرواية.هذه الارتباط العاطفي بين أماكن الرواية وشخصياتها، تحلينا إلى مقولة الناقد الفرنسي غاستون باشلار: "المكان الذي نحبه يرفض أن يبقى منغلقًا بشكل دائم، أنه يتوزّع ويبدو وكأنه يتوجه إلى مختلف الأماكن دون صعوبة، ويتحرك نحو أزمنة أخرى وعلى مختلف مستويات الحلم والذاكرة" [4].

الهوامش

1ــ حسن بحراوي، بنية الشكل الروائي، ص29 ، المركز الثقافي العربي، بيروت – 1990.

2ــ أحمد شحيمط، المكان الضائع في سرديات الرواية الأفريقية، ص23 ، نشر مؤسسة هنداوي، 2021.

3ــ نزار قباني، ديوان (قصائد مغضوب عليها) ، ص54 – 69. ، منشورات نزار قباني، بيروت – 1986.

4ــ غاستون باشلار، جماليات المكان، ص72 ، ترجمة غالب هلسا، المؤسسة الجامعة للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت – 1984.