دراسة مطولة عن الشاعر الألماني أريش فريد، مع ترجمة لبعض قصائده، ومن الواضح أن الباحث الدكتور عيسى علاونه قد التزم بمنهج الأدب الملتزم، وهو منهج شاع في الستينيات من القرن العشرين، ويغفل هذا المنهج أي نقد فني يقدم على النصوص، ويكتفي بمضمون النصوص فقط.

إريش فريد Erich Fried

شاعر التزم قضايا العدالة الإنسانية

عيسى علاونه

 

المقدمــــــــــــــــــــــــة

قبل ثلاثين عاماً ونيِّف، توفي شاعر كبير من شعراء اللغة الألمانية المعاصرة عُرف بالتزامه قضايا التحرر والعدالة الإنسانية. عام 2021 هو عام المئوية الأولى لهذا الشاعر النمساوي المولد والنشأة، والذي توفي في أعقاب مرض سرطاني في الأمعاء عن عمر يناهز السابعة والستين عاماً. إنه بلا شك ينتمي إلى كبار شعراء اللغة الألمانية لما بعد الحرب العالمية الثانية ومن أكثرهم نجاحاً وشهرة وانتشاراً لمؤلفاته.

يظهر معظم ما كتبه إريش فريد من شعر ونثر التزامه بالقضايا الإنسانية وأبرزها قضية التحرر والعدالة وخاصة في العالم الثالث، ومنها مواقفه مع المقاومة ضد الغزو الأمريكي لفيتنام في السبعينات من القرن الماضي، وكذلك وقوفه الحازم إلى جانب المضطهدين والمظلومين والمهجَّرين وضحايا الحروب وفي مقدمتهم الشعب الفلسطينى، كما كانت مقاومة العنصرية والصهيونية والحروب العدوانية والغطرسة الإسرائيلية والرأسمالية المتوحشة في صلب التزامه. وقد اشتهرت كتاباته ومؤلفاته ونشاطاته في هذا المجال منذ فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية مروراً بالستينات وحتى عام1988 .

المولد والنشأة الأولى      

وُلِد إريش فريد لأبوين يهوديين من الطبقة الوسطى عام ألف وتسعمائة وواحد وعشرين (1921) في بيت متواضع كانت تملكه جدته لأمه في فيينا عاصمة النمسا. دخل المدرسة الابتدائية عام 1927 في زمن كانت تدعى فيه عاصمة النمسا آنذاك "فيينا الحمراء"، إذ كانت العاصمة الأوروبية الوحيدة التي تولى إدارتها الاشتراكيون الديموقراطيون، وكانت تعتبر من أهم المراكز الثقافية في أوروبا حتى عام 1938 عندما وصل النازيون إلى الحكم حيث أُلحقت النمسا بالوطن الأم - الرايخ الثالث- ألمانيا التي تولى الحكم فيها النازيون وأبعدوا القوى الديموقراطية ولاحقوهم بالبطش والقتل وإسقاط الجنسية عنهم.

ترك يوم من أيام ذلك العام -عام 1927- في نفس الفتى إريش الذي كان عمره يناهز الست سنوات أنداك، أثراً هائلاً وهو يراقب سحب الدخان وعربات نقل الجرحى والمحروقين والموتى تمر مسرعة أمامه عندما شبت النيران واحترق قصر العدل في فيينا وما يحيط به على يد المتطرفين اليمينيين، وقد سُمِّي ذلك اليوم الخامس من تموز لعام 1927 بـــ "يوم الجمعة الدموي". بقيت أحداث ذلك اليوم محفورة في ذاكرة الطفل إريش، إذ كانت تلك الحادثة الأولى التي هزت مشاعره وكانت أول حافز له ليكون المؤشر فيما بعد على التزامه بقضايا الانسان المسحوق والمستلبة حقوقه في المجتمع الأوروبي ومن ثم في العالم أجمع. وليتطور اهتمامه ويتسع التزامه على مستوى الإنسانية جمعاء أينما وُجِد الظلم والقهر والتدمير والطغيان واستلاب قيم وحريات الإنسان واستعباده.

وهناك عامل آخر كان دافعاً له إلى الالتزام المذكور، رغم كونه ينحدر من أبوين يهوديين، إذ كانت تطفو على سطح الحياة الاجتماعية في أوروبا وعلى الأخص في ألمانيا والنمسا موجة ضد اليهود وهي ما دُعِي باللاسامية، مما أدى الى تعميق الشعور بالاضطهاد في نفس الفتى الناشئ. كانت ميول الفتى إلى الأدب قد بدأت تظهر في فترة المدرسة الابتدائية، إذ كان يقوم بتمثيل أدوار بسيطة أمام الأطفال والتلاميذ الصغار على مسارح فيينا وفي الأرياف. أما في فترة المدرسة الثانوية فكان توجهه للأدب ينمو ويتزايد، رغم أنه كان في تلك الفترة منشغلاً بالفيزيائيات وقد قام بإجراء تجارب على لمبة كهربائية وسجلت باسمه اختراعات من هذا القبيل.

وإذا ما عُدنا إلى متابعة حقبة التاريخ آنذاك، وفي أيام الغليان في أواسط أوروبا عامة وفي ألمانيا والنمسا خاصةً، وما كان يقوم به اليمين المتطرف من اضطرابات قبل سيطرة النازيين على الحكم في أوائل الثلاثينات من القرن الماضي، سنجد أن عجلة التاريخ كانت تسير حثيثاً إلى عهد هتلر والنازية والحرب وغوغاء السياسة والقضاء على كل أثر للديمقراطية، حيث أدت حوادث مفتعلة واضطرابات يومية يقوم بها النازيون وأعوانهم من اليمين المتطرف أخيراً إلى الحرب العالمية. كان اليمين المتطرف العنصري يقترب بسرعة من الوصول إلى الحكم في ألمانيا في ظل الفوضى السياسية والبطالة الكارثية عن العمل وضعف الحاكمين وتشرذم قوى الوسط واليسار وتفرقها.

هاجر معظم الكتاب والشعراء والفنانون والمفكرون الذين لم يرغبوا الإذعان لسلطة النازيين وتسلطهم وتوجيههم للفن والأدب والفكر في اتجاه عنصري. كثيرون منهم طُردوا ولوحقوا وأُحرقت كتبهم ومُنِعت مؤلفاتهم وحُرِّم عليهم النشر وصودرت أعمالهم. نذكر من هؤلاء: الشاعر والمسرحي بيرتولد بريشت 1898) -1956)، والروائي المعروف توماس مان (1875-1955)، وكارل تسوكماير (1866 -1977)، وبيتر فايس (1916-(1982، وانا سيحرز(1900 -1983) وغيرهم.

هجرته من موطنه                

عندما تم انضمام النمسا أو ما دُعِيَ بالإلحاق القسري إلى الوطن الأم ألمانيا أي (الرايش أو الرايخ باللهجة النمساوية) في عام 1938، كان إريش فريد الشاب النمساوي البالغ من العمر سبعة عشر عاماً على وشك مغادرة موطنه ومدينته فيينا، حيث كانت عائلته قد عانت وطأة الحكم النازي الديكتاتوري العنصري وقاست كثيراً من التعذيب والسجن والبطش والملاحقة والقهر، وسحب الجنسية والتنكيل حتى الموت.

سُجِن والده لمدة شهر ثم أُفرج عنه بعد تعرضه للضرب والتشويه وتمزيق أمعائه وشدة التعذيب بالرفس تحت أقدام أفراد الجستابو، وقد مات في نفس اليوم الذي أُخرج فيه من السجن. عن التأريخ لذلك اليوم يقول إريش فريد: "تَحوَّلْتُ في ذلك اليوم من تلميذ مدرسة نمساوي إلى يهودي مُلاحق ومُضطهد، وبعد أن قُتِل والدي على يد الجستابو (شرطة الأمن العسكري النازية)، قررت في نفسي شيئاً ما... أني فيما إذا نجوت من بطش وظلم النازيين حياً، أن أصبح أديباً!" هاجر إريش فريد مع بعض أقاربه من فيينا إلى لندن عام 1938، وهناك سعى لتشكيل جماعة مؤلفة من اليهود اللاجئين إلى بريطانيا وعمل مع تنظيم الشباب الشيوعى، لكنه انسحب بعد ذلك منه نظراً للتناقض بين أعضاء التنظيم وقيادة الحزب الشيوعى الستالينية وتصرفاتها كما اتضح له في ذلك الوقت.

بزوغ نجمه في سماء الأدب              

بدأت الحرب العالمية الثانية بينما فريد يقيم في لندن. هناك بدأ يكتب وينشر أشعاره ونثره ضد الحرب والنازية وضد سحق الإنسان وبشاعة الحروب والعنصرية والاستغلال.

صدرت له مجموعتان من الشعر: الأولى بعنوان "ألمانيا" والثانية بعنوان "النمسا" عامي 1944 و1945، وكان يساهم في تحرير مجلات أدبية عديدة منها على سبيل المثال "مجلة النخبة الجديدة"، وفي عام1950  أصبح محرِّراً لمجلة تدعى "نظرة إلى العالم"، وبدأ يعمل في القسم الألماني في الإذاعة البريطانية (BBC)، وعُيِّن معلِّقاً سياسياً دائماً. كان أثناء عمله في الإذاعة البريطانية كمعلق سياسي يتخذ مواقفاً لم يكن ليرضى عنها المسؤولون، ولكنهم كانوا يتظاهرون بالسكوت عمّا سمي بالتجاوزات.

في عام 1953 وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية وخسارة ألمانيا الفادحة واندحار النازيين وسيطرة الحلفاء عليها وعودة النمسا إلى استقلاليتها، وطأت قدماه لأول مرة منذ مغادرته النمسا عام 1938 الأراضي النمساوية والألمانية في رحلة إلى برلين المقسمة أنذاك إلى أربعة أقسام بين الحلفاء (أمريكا وبريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفييتي). ومنذ منتصف الخمسينيات من القرن الماضي بدأت الأوساط الأدبية والثقافية في أوروبا وفي ألمانيا خاصة، تسمع وتقرأ وتتعرف على هذا الشاعر الذي بزغ نجمه في سماء الأدب، وبالأخص بعد ترجمته أعمال توماس دايلن للقسم الألماني في الإذاعة البريطانية، وتبعتها ترجماته لمسرحيات شكسبير إلى الألمانية والتي لفتت الأنظار لهذه النوعية والمقدرة الفائقة في الترجمة، ثم راح يتوالى إخراجها في كبريات المسارح في ألمانيا والنمسا وسويسرا. صدرت له مجموعة شعر تحمل عنوان "قصائد 1958" وأخرى عام 1959 بعنوان "أشعار مبكرة"، وانطلق حضوره في المجلات الأدبية والملاحق الثقافية في الصحافة وفي معاهد الدراسات الاجتماعية بشكلٍ متزايد ومكثف.

التحق إريش فريد بمجموعة تُعرف بــــ47)  Gruppe)  الشهيرة في تاريخ الأدب الألماني لما بعد الحرب العالمية الثانية، وهي جمع من أدباء وكتاب وشعراء اللغة الألمانية، ومن أهم شروط وجود المجموعة الحداثة والحرية فكراً وتعبيراً وكتابة.

كان الخراب والدمار في كافة نواحي الحياة هو الهم الشاغل للمثقفين والمفكرين والأدباء والفنانين في البلد الذي خرج منهكاً مكسوراً ومثقلاً بهموم ووطأة تاريخ معاصر من صنع النازية والتطرف اليميني في الفكر والعمل.

بدأت المجموعة (47) نشاطها في لقاءات للقراءات والنقد الأدبي والحوار في قضايا الأدب، ومن أعضائها البارزين الشاعر والروائي غونتر غراس، والمفكر والأكاديمي فالتر يانس، والناقد الأدبي البولوني الأصل والألماني اللغة والأدب مارسيل إريش رانيكي، والروائي الكبير هاينريش بل، والشاعر هانس ماجنوس انزنسبير، وغيرهم ممن كانوا في طليعة الحياة الثقافية.

مواقفه السياسية من حرب فيتنام وغيرها               

وفي الستينات من القرن الماضي وقعت حرب الفيتنام وتصاعدت من جانب الولايات المتحدة الأميركية أعمال التدمير والقتل لهذا البلد، مما جعل الجزء الأكبر من الأدباء والمثقفين وطلاب المدارس والجامعات والمعاهد يتخذون موقفاً مضادًا للحرب والسياسة والعدوان الامريكى. أما إريش فريد، فقد كان في طليعة الشعراء والأدباء والفنانين والمعارضة السياسية الذين التزموا الدفاع عن الفيتنام، وصدرت له مجموعه قصائد تحمل عنوان "وفيتنام ...و". وقد انتشرت هذه المجموعة انتشارًا منقطع النظير وبيعت منها مئات الآلاف من النسخ في الأشهر الأولى لصدورها.

وكان الشاعر قد حدد موقفه في الأدب بكل وضوح إلى جانب المظلومين والمضطهدين وضد العنصرية والنازية والصهيونية، فدُعِي شعره -استخفافاً - بالشعر المُسَيَّس وخاصة من قبل نُقّاد ومثقفين يخالفونه في مواقفه مع اليسار الألماني في الداخل. رغم ذلك كان الإقبال على أعماله يزداد باستمرار منذ بداية ستينيات القرن الماضي، فقد تزايدت وتكثّفت لقاءاته بالطلاب في الجامعات والمعاهد والمؤتمرات وفي أوساط المعارضة البرلمانية وخارج البرلمان ماكان يطلق عليه Ausser parlamentarische Opposition)) المعارضة الخارج البرلمانية، وكان يحاضر ويقرأ نثراً وشعراً ويؤلف الكتب بنشاط دائب.كان جزء وفير من شعره يقل فيه الغموض ويكثر الوضوح، وإن كان التلميح الذكي وكثافة اللغة وحتى التلاعب بالألفاظ من خواص شعره المميزة.

كان يشترك في تظاهرات الاحتجاج المباشر ومؤتمرات دعم الفيتنام وكانت له نشاطات بارزة في كشف حقائق غير معروفة عن الصهيونية ودعم الشعب الفلسطيني. ساهم الشاعر أيضاً في دعم ثورة الطلاب الشهيرة لجيل صار يدعى بجيل الــ (68)، وهو جيل من المثقفين والطلاب في الجامعات والمعاهد وفي الأوساط السياسية ممن أجمعوا على الوقوف مع العدالة الاجتماعية والتحرر من سيطرة اليمين والرأسمالية المتوحشة وبقايا النازيين وضد الفساد والتبعية لأمريكا.

وله مواقف إيجابية ضد قوانين الطوارئ التي أعلنتها الحكومة الألمانية في الستينات من القرن الماضي، وموقف الشاعر الذي كان فيما سبق في صفوف الشيوعين ضد الستالينية والاتحاد السوفياتي في قمع ما سمي وآنذاك بـ (ربيع براغ) إثر حركة الإصلاح لنظام الحكم في تشيكوسلوفاكيا.

كانت قصائد إريش فريد في تلك الفتره تعبر عن مواقفه السياسية والأخلاقية في سنوات الغليان وانتفاضات الطلاب والمثقفين والمعارضة الخارج برلمانية. صدرت له في هذه المرحلة ثلاث مجموعات شعر: سيقان الكذبات عام 1969، بين الأعداء الجانبين عام 1970، السم المضاد عام 1974.

أمثلة من شعره                          

وفي مقطوعة عن القتلى والمجرمين من مجموعة "ضد النسيان" يقول:

حقاً إنه لمن الصواب والعدل

أن ندعوهم بالمجرمين

أولئك الذين خُذلوا بالأمس

والذين دعوناهم أصدقاء

والذين ماتوا منهم

والذين لم يعد بوسعهم أن يقتلوا

حتى ولا لأن يُمَهّدوا لجريمة

لا خطر في ذلك

لأنهم خسروا الحكم والقوة

أما الذين لم يُخذلوا

ومن هم أبناء اليوم والغد

والذين يُدعَون بالأصدقاء

والذين لازالوا على قيد الحياة

والذين يُنفذون جرائم القتل

هل من الظلم أن ندعوهم بالقتلة؟!

ذاك أمرٌ خطير!!

لأنهم هم أنفسهم جماعة السلطة.

 

عن التعذيب والتهجير والموت والمحرقة في وطنه الأول -النمسا- كجزء من ألمانيا في العهد النازي الذي طاله وطال أهله وأقاربه، كما جرى لأبيه وموته على يد الجستابو (شرطة الأمن النازية). نقرأ من قصيدة بعنوان "التحول":

رويداً رويداً

وبعد ثلاثة أو أربعة أسابيع

ثم بين عشية وضحاها

تتحول صديقاتي إلى عمّاتي

أو بنات عمومتي

فزعاً مذعوراً أنظر إليهن

يمضغن بأسنان اصطناعية

وأراهن ...

بأصابعهن الموبؤة بالنقرس

يمسحن البُصاق عن وجوههن

يأتين بالحقائب والمتاع

إلى مدينة تيريزيا

أراهن تلونت جلودهن بالزرقة

عندما أقبلهن صباحاً

وقد كُوِّمَت أجسامهن فوق بعضهن البعض

وقد غُسلن بأنابيب الحديقة

مما علق عليهن من الغائط والقيء

وهن على وشك الترحيل

من غرف الغاز إلى مواقد الحرق.

أما عن فيتنام، فهذا مثال من مجموعة "وفيتنام و…" التي لاقت نقداً لاذعاً وغير موضوعي غالباً، رغم أنها انتشرت انتشاراً واسعاً بين القراء، والقصيدة تحمل عنوان "حديث عن الأشجار":

منذ أن قلَّم البستاني الأغصان

كبرت تفاحاتي

ولكن أوراق شجرة الكمثرى غدت عليلة

وها هي تلتف، تتشابك على بعضها

الأشجار عارية في فيتنام.

كل أطفالي بعافية

إلا إبني الصغير فهو يُشغل بالي

لم يتعود بعد حياة المدرسة الجديدة

موتى هم الأطفال في فيتنام.

لقد أُصلحَ سقف بيتي من جديد

بقي أن تُحرق حواشي الشبابيك ودهنها

ها قد ارتفعت قيمة التأمين ضد الحريق

لأن أسعار البيوت ارتفعت

خرائب هي البيوت في فيتنام

ما هذا النصر الفضولي الحمل

سيّان عن أي شيء يكون الكلام

تراه يدُسُّ الفيتنام في الحديث

وجب أن يُتاح للإنسان

شيئان من هدوء في هذا العالم

كثيرون هم الذين أدركوا

هدوءاً أبدياً في فيتنام

وأنتم تمنيتم لهم هذا…

 

في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، كان إريش فريد من أوائل المثقفين في ألمانيا والنمسا وأوروبا الذين شاركوا في المظاهرات والاحتجاج والكتابة في الدفاع عن الشعب الفيتنامي ضد الغزو الأمريكي، وهذه قصيدة "لُعَب الأطفال التي تصيب الهدف":

بدلاً من القنابل

كانت الطائرات تقذف لُعَب الأطفال

في يوم عيد الطفل

قال خبراء السوق:

هذا يترك بلا شك أثراً عظيماً

وفعلاً لقد ترك هذا

أثراً عظيماً على العالم كله.

كان الأفضل لو أن الطائرة الحربية

رمت بحمولتها من اللُعَب

قبل أربعة عشر يوماً

ثم تعود اليوم تقذف القنابل

لو كان الأمر كذلك لنجا طفلاي

وبفضل شهامتكم وخيركم

لكان لديهم شيئاً يلعبان به

لمدة أربعة عشر يوماً.

في مجموعات الشاعر العديدة نجد تعاملاً مع القيم والأخلاق والحب والموت في الكثير من القصائد. هنا أجدني أختلف مع القائلين أن شعر إريش فريد كان في اتجاه واحد وما يدور حول السياسة، وبالتالي يفترض الوضوح والبساطة وبروز المعاني بلا أدنى جهد في التحليل والتفكير. تعامل الشاعر في غالبية قصائده من "الشعر المُسيّس" بالوضوح تبعاً لالتزامه قضايا التحرر ضد الاستلاب والاغتصاب، لكن مما لا شك فيه أن سعة اطلاعه ومعارفه وتجاربه كانت تسعفه في كتابات عن مواضيع أخرى من الفلسفية إلى التحليل النفسي إلى التاريخية والموت والحياة والبحث عن حقيقة الإنسان وإنسانيته. هذه قصيدة "ما يقرب من سيرة حياة":

لم أكن حجراً ولا سحابة

ولا جرساً ولا قيثارة

ولم أكن دقيقاً مثل ملاك أو شيطان

كنت ومنذ البدء إنساناً

ولا أرغب ولم أشأ سابقاً أن أكون غير ذلك

ها أنذا كبرت

ولاقيت عنتاً وإجحافاً

وأحياناً أوقعت ظلماً بالآخرين

وأحياناً صنعت حسناً

يذهلني الظلم

وتسرّني كل باقة أمل

لي عملي ولي همومي

يغمرني الفرح بزوجتي وأطفالي وأحفادي

يثقلني الخوف عليهم.

وبي شوق إلى الطمأنينة.

وعن الموت والحياة كتب تحت عنوان "قبل أن أموت":

لا أرغب أن أتكلم مرة أخرى

عن دفء الحياة

إلى أن يعرف البعض

أنّها ليست دافئة.

قبل أن أموت

أوَدّ أن أتكلّم مرة أخرى عن الحُبّ

إلى أن يقول البعض:

كان الحُبّ وفيراً.

مرةً أخرى

أريدُ أن أتكلم عن السعادة والأمل

إلى أن يتسائل البعض:

ما هي السعادة ؟!!!

ومتى يا تُرى ستَعود؟!

إريش فريد والقضية الفلسطينية             

عند متابعة مواقف الشاعر الملتزم بقضايا التحرر والدفاع عن المظلومين والمُضطهدين نصل ساحة واسعة ينتصب فيها شاعر عالمي كبير، وهنا أعني التزامه بالدفاع عن الشعب الفلسطيني أمام جشع الصهيونية العالمية وأعوانها والمُتاجرين بالمحرقة والاضطهاد النازي العُنصري.

وهنا لا بُدَّ من ذكر انتقادٍ وُجِّهَ إليه من أُدباء وكُتاب في ألمانيا وأوروبا بأنه يكتب "الشعر المُسَيّس" التقريري الواضح - ومنها ما يتعلق بالفلسطينيين وإسرائيل، وأن شعره لن يُكتب له البقاء لأزمان طويلة. وهناك رأي آخر يقول أن شعره سيُكتب له الدخول في التاريخ من باب واسع وسيكون له أثر تاريخي يُعبّر عن مرحلة من هموم الإنسانية، وسيبقى الشعر الناطق بقضايا التحرر والعدالة ما بقي النزاع بين قوى الخير وقوى الشر.

إريش فريد يُدافع عن موقفه الحازم والواضح تجاه الصهيونية منذ نشوئها ومنذ شبابه المبكر، إذ كان يعتبرها أصل الداء والبلاء على الفلسطينيين وعلى اليهود أنفسهم. وعمل على كشف مشروع الصهيونية في طرد المواطنين الأصليين من أهل البلاد، وكان ينظر إلى الصهيونية العنصرية نظرته إلى النازية في ألمانيا التي قادت العالم إلى هاوية الحروب والموت والدمار.

في دفاعه عن الحق الفلسطيني - و أهل البلاد الأصليين - كما يُسمّيهم، اتخذ موقفه نوعاً ولوناً وعمقاً مختلفاً، كونه اليهودي الدين والعِرق والتقدمي اليساري المبدأ والفكر. أما عن نظرته إلى الصهيونية وإسرائيل، فنجد ذلك متمثلاً في كتاباته النثرية الكثيرة ومداخلاته ومحاضراته إلى جانب أشعارِه التي نُشِرت في كتاب تحت عنوان "اِسمَعي يا إسرائيل" صدَرَ في عام 1974، وكذلك في الشعر والنثر الذي يتوزع في مجموعات شعريّة وكتب أُخرى وحتى قبل وفاته بوقت قصير.

كان إريش فريد يُعاني من هجوم الإعلام الصهيوني والمثقفين في أوروبا، أولئك الذين يُسّبحون بحمد الصهيونية وإسرائيل إلى درجة أن دُعي عندهم "باليهودي الذي وسَّخ عُشَّهُ"، وما أكثر المضايقات والمهاترات التي تعرَّض لها إريش فريد في كل مناسبة لموقفه الثابت والواضح مع الحق الفلسطيني. كان موقفه هذا مثالاً لأولئك المُثقفين والكُّتاب والمفكرين الذين كانوا يتعاطفون قليلاً مع الشعب الفلسطيني وحقوقه واغتصاب أراضيه ومعاناته من جهة، ويحملون ثقل عقدة المحرقة واللاسامية من جهة أُخرى.

يأتي إريش فريد في شعره ونثره على ذكر حقائق تاريخية عن مخططات الصهيونية وإسرائيل، وعن هذا التشابه بين إسرائيل والصهيونية والنازية والذين كانوا يُلاحقونهم ويضطهدونَهم ليهودّيتهم، ونفس الحال ما يوقعه الإسرائيليون المغتصبون من تنكيل وقتل وسلب وكل أشكال الشرور اللاإنسانية بالفلسطينيين. هم تحوّلوا من الضحية إلى القاتل والعنصري والمغتصب الذي يلاحق ضحية أوجَدها نظرياً وعملياً، والضحية اليوم هو الفلسطيني صاحب الحق والأرض وهو المُلاحق والمُهَجَّر، هكذا يرى إريش فريد.

عند ذكر أشعار تدور حول الحق الفلسطيني والاغتصاب والسلب والتهجير، أرى أن نأتي على ذكر قصائد أو مقاطع من قصائد طويلة تُعبّر عن موقف وفكر الشاعر. هذه بعض النصوص عن مخططات الصهيونية لاغتصاب فلسطين والبداية في امتلاك الأراضي، كما جاء في مذكرات مبتدع الصهيونية الأول - هيرتزل.

من أقوال تيودور هيرتزل عن مستقبل اليهود ، مذكرات 12 حزيران 1895:

أما السكان الفقراء

نريد إبعادهم

دون جلبة أو ضجة

إلى خارج الحدود

نتدبر لهم عملاً في البلاد التي يعبرون إليها

يتعيشون منه

أما في بلادنا

سنُحَرّم عليهم كل نوع من العمل

أمّا المّلاكون منهم

فلِيَلتَحِقوا بنا

وعملية تجريدِهم من أملاكِهم

يجبُ أن تتمّ

تماماً مثل عملية إبعاد الفقراء

بعطفٍ ورفق.

رسالة إلى يوسف الخالدي  11-3-1899:

هل تظن حقاً

أن العربي الذي يملك أرضاً في فلسطين

أو بيتاً بقيمة ثلاثة أو أربعة آلاف فرانك

سيندم إذا ما ارتفعت القيمة

إلى خمسة أو عشرة أضعافها؟!

وهذا ما سوف يحصل حتماً

بقدوم اليهود

كل من ينظر إلى المسألة

من هذه الناحية

- وهذه هي وجهة النظر السّليمة -

سوف يغدو بلا شك

صديق الصهيونيّة.

وتحت عنوان "حاملة الصليب" يذكرنا بحال امرأة فلسطينية تُنتَزع من أرضها وتحمل شجرتها التي اقتلعها الإسرائيليون بعد أن هُجّرت من أرضها وقريتها:

فلسطينية في مقتبل العمر

لا تُعرف من وجهها

الذي يتغطى بخمار

ولكنها تُعرف من بعيد

بشجرة مُقتلعة الجذور

تحملها على كتفيها

تسير الهوينى في الشارع

في الموشاف

مروراً بالرؤوس المنحوتة البيضاء

من جولدا ماير

إلى فلاديمير جابوتنسكي.

إنها تحمل شجَرَتها

التي اقتلعها الإسرائيليون

عندما أُنتزعت هي أيضاً

من قريتها التي هُدّمت

تسير إلى مكان ما

حيث بقية من أمل

أن تغرسَ شجرتها

قبل أن تموت

العيون الحجرية لجولدا ماير

وجابوتنسكي

عيون تُحملق، وترى غُبار الطريق

ولا ترى هذه المرأة...

وقف إريش فريد وقفة شرف وعدالة نادرة المثال في أوروبا إلى جانب القضية الفلسطينية وضد الإجحاف والعدوان واحتلال الارض والتشريد. وهذه مقاطع من قصيدة طويلة كُتبت بعد حرب حزيران 1967، والعنوان هو نفسه عنوان المجموعة الشعرية في كتاب نُشر عام 1974  "اسمعي يا إسرائيل":

اسمعي يا إسرائيل

عندما كنّا مُلاحَقين

كنتُ واحداً منكم

ولكن كيف يُمكنني الآن

أن أبقى كذلك،

وقد غدوتم أنتم أنفسكم تُلاحِقون؟!

كان شوقُكم

أن تُصبحوا كباقي الشعوب

التي عملت فيكم تقتيلاً

والآن ها أنتم أولاء

غدوتم مثلهم

لقد نجوتم من بطش الذين قسَوا عليكم

والآن ها أنتم أولاء

يعيش فيكم جشعُكم

أجبرتُم المغلوبين:

"أنْ اخلعوا أحذيتكم"

وكأنهم أكباش الخطيئة

سُقتوهم إلى الصحراء

لكنّ آثار الأقدام العارية

باقية أقوى من آثار

قنابلكم ودباباتكمْ.

ومرة أُخرى يعيد الشاعر على مسامع اليهود والصهيونية قليلاً من تاريخ النازيين إذ تحوّلوا وصاروا شبيهاً تماماً بهم بما صنعوا بالفلسطينيين.

من يهودي إلى الصهاينة

ماذا تُريدون؟!

أن تتفَوّقوا على أولئك

الذين داسوكُم بالنعال منذ أجيال

غَمروكم بالدم والغائط؟

أتريدون أن تعملوا تعذيباً

بآخرين الآن؟

بكل التفاصيل وقذارتها

وبكل تلذذ الجلادين الوحشي

كما عاناها أباؤكُم

أتريدون حقاً

أن تصيروا أنتم "الجستابو الجديد"

وأن تَصنعوا من الفلسْطينيين

يهوداً جدداً آخرين؟!

لذا وأنا الذي منذ خمسين عاماً

كطفل يهودي

لاقيت التعذيب

على أيدي جلاديكمْ

أُريد أن أُصبح يهودياً جديداً

مع الفلسطينيين

أُريد أن أُعينَهُم كي يعودوا أُناساً أحراراً

إلى وطنهم فلسطين

الذي هجّرتموهم منه

وفيه تُعذبونهم الآن

أنتم يا تلامذة الصُّلبان المعقوفة

فيا أيها الحمقى!

الآن تتحول نجمة داوود في راياتكم

إلى هذه العلامة اللعينة.

للشاعر إريش فريد قُدرة فائقة على الربط بين ماضي اليهود في المعتقلات والاضطِهاد والملاحقة ليس في ألمانيا فقط بل وفي أوروبا، مع وضعهم اليوم بعد أن أصبحوا يمتلكون القوة والسلطة وراحوا يتعاملون مع أهل البلاد من الفلسطينيين بالتهجير والقتل ونفس الأساليب اللاإنسانية والقمعية وانتِزاع الملكية واغتصاب العقارات من أهلها من أجل بناء مستوطنات لليهود، فنقرأ في مقطوعة يُعنونها بـــ "وأمْواتكُم…"

أمْواتكم …

آباؤكم وأجدادكم الموتى

أمْواتكم الذين غدوا بطاقة للكسب في أيديكم

أمْواتكم الذين تتعيّشون من موتهم

تطلبونَ المال تعويضاً وتسويةً

لم يعودوا أمْواتكم

الآن ها أنتم ذوي قوةٍ وبأس

وها أنتم المجرمون القتلة

تُلقون القنابل على الضحايا.

تَهزمون العُزَّل في بيوتِهم وملاجِئهم

تُمطرون السموم من طائِراتكم على حُقولهم

وتلقون القنابل على أطفالهم ونسائهم.

أتظنون أن موتاكم

سَيعرِفونكم

موتاكم الضحايا نزحوا إلينا

والمُلاحقين إلى المُلاحَقين.

أَمَّا هذا الذي يريد الشاعر أن يُذكّر به فهو الإتجار بضحايا العهد النازي "واللاسامية" العُنصرية في ألمانيا على وجه الخصوص وأيضاً في بلاد احتلّتها ألمانيا في الحرب الثانية مثل بولندا والبلقان وبلجيكا وهولندا. من كل هذه المراكز والأطراف كانت المُتاجرة بأرواح الضحايا تنهال على ألمانيا لما بعد الحرب وبالأخص بعد أن وصلت ألمانيا الاتحادية إلى مستوى فائق اقتصادياً سُمي "بالمعجزة الإقتصاديّة" في نهاية الخمسينات والستينات. هذا بالإضافة إلى الهجرة الموسعة إلى فلسطين إبان الحرب وبعدها ومطالبة اليهود من هناك بالتعويضات من ألمانيا بدعوى أن نفراً من الأهل والمُطالبين بالتعويضات ماتوا في المحرقة أو لاقوا التعذيب في معسكرات التعذيب والموت. كثير من الانتهَازيين والمُتاجرين بالأموات لم يكن لهم أدنى علاقة بكل ذلك وكانوا قد هاجروا إلى بلاد أُخرى واستقروا هناك قبل وأثناء الحرب، ثم راحوا يُطالبون بالتعويضات الكثيرة، وكثير من المُطالبين بالتعويضات لم تكن لديهم لا الوثائق ولا الأحقيّة، بل اعتمدوا على الآثار العامة للحرب والجوّ الملائم وتقسيم ألمانيا بين دول الحلفاء ودعم الحلفاء لمطالب اليهود، وقد قرأنا وسمعنا عن بعض المُثقفين في أوروبا وبينهم يهوداً أفردوا كتابات عن الطمع والجشع والاتّجار بالضحايا وهذا ما سُميَّ - بصناعة الهولوكوست –. وكما قال إريش فريد:

أمواتُكم هم الذين غدوا بطاقة الكسب في إيديكم

والذين من موتهم تتعيّشون … الخ.

الشاعر إريش فريد يأتي على ذكر هذا في نصوص وشعر كما في مقطوعة من قصيدة "محبو السامية الألمان":

يبدو لي أن "حب السامية"

لدى أناس كثيرين في ألمانيا

قريب الصلة

بكراهيتِهم القديمة لليهود

إذا ما كان الألمان يشعرون بالذنب

وأنهم مدينون كثيراً لليهود

فهذا أمرٌ مقبول

ولكنّهم في الحقيقة ليسوا مدينين

بدعم لا نهائي

وسلوك يؤدي في النهاية

إلى إبادة أعداد لا تحصى من اليهود.

قال فرانز يوسف شتراوس:

بعد افتضاح سر تصدير الأسلحة

لطيْلة سنوات عديدة إلى إسرائيل

"وللأسف أننا لا نستطيع أن نمدهم

بعد الآن بأسلحة

ولكننا نستطيع مساعدتهم بالمال".

أما إسرائيل فلم تكن لتأخذ هذا محمل الجد، فتصدير الأسلحة إلى إسرائيل بقي ولا زال مستمراً حتى اليوم. لكن دولة إسرائيل كانت تصل في الابتزاز إلى درجات عالية سواء في المال أو الأسلحة أو شتى أنواع الاستغلال.

ومن شعر إريش فريد عن تعامل إسرائيل والصهيونية مع أهل البلاد الأصليين من الفلسطينيين في استلاب واغتصاب الأرض والبيوت والأملاك قصيدة بعنوان "الغائبون الحاضرون":

الغائبون، رغم أنهم الآن هنا

وهم متواجدون في مكان ما

الغائبون الحاضرون

ليسوا أشباحاً وخيالات

أولئك الذين تريدون

أن تحوّلوهم إلى أشباح.

احتللتم أرضهم وبيوتهم

خداعاً من وراء ظهورهم

أو أمام أعينهم

وأمام أطفالهم

لأنكم تحسبونهم غائبين

حتى ولو كانوا حاضرين

أبعدتُموهم إلى أرض بين الحياة والموتْ

بقوانينكم ودساتيركم

التي تلائم كل ما تريدون وتهدفون

قوانين ما عرفها العالم

ولا توجد في مكان ما

تفرضوا الظلم على الحق

وتسكنوا البيوت والدور والحدائق

التي يمتلكها الغائبون الحاضرون.

هم غائبون كغياب الحق عنكم

هم غائبون كغياب الضمير فيكم

وحاضرون كحضور ضحاياكم

وغائبون كالقَتلى المُهجّرين

وحاضرون كذاكرة القتل والموت.

في تعقيب من الشاعر لهذه القصيدة كتب: "ورد في كتاب العرب في إسرائيل من تأليف صبري جريس والذي نُشر في دار تريكونت- ألمانيا صفحة 115 – 141 عن أساليب السلب ومصادرة الملكية وأراضي الملّاكين العرب الغائبين في فلسطين، حيث يكفي لأن يقوموا بزيارة أقربائهم في قرية أُخرى حتى يُعلن الحاكم الإسرائيلي "أنهم غائبون" فتُصادر ممتلكاتهم وتُسلب منهم". 

عن الموت والحياة والحرية والعدالة       

كتب الشاعر إريش فريد في مواضيع أُخرى عن الموت والحياة، والخير والشر، والحريّة والعدالة. ها هو يكتب عن الموت قبل أن يوافيه الأجل وقد هَدَّه المرض السرطاني:

الموت…

ليس له من بديل

هذا الحليف العظيم

لم يتجاوزه حتى ولا أي حاكم أو طاغية

وفي النهاية

يسلبهم جبروتهم وقوّتهم

ويُودي بهم إلى الفناء   

وكأنّهم ما وُجِدوا

سوى أنهم كانوا هباء

لا إنه ليس حليفاً

بل هو عميلٌ مزدوج

ألم يقف أولاً مع الطغاة

عندما سلبنا مُناوئيهم

وكلَّ دُعاة التحرر العظام

من هنا نحن لا ندين له بالشكر أبداً.

 

وعن الحرية كتب قصيدة بعنوان "حديث الحرية البرجوازية":

أولئك الذين أحبوا الحريّة

ولدوني في ليالٍ لا نوم فيها

من عرقهمْ

في سجونهم في الزنزانات الرديئة

أولئك الذين أحبوا الحريّة

أطعموني من دمهم

علّموني الوقوف

والسير على عظامهم

أولئك الذين أحبوا الحريّة

دَعَوني إلى المدينة الصامتة

حملوني إلى القصر

وأجلَسوني على العرش

والآن لي الحريّة.

أما السُخرية الموجعة والممزوجة بواقعية أخلاقيّة، فَنقرأها في مقطوعة من قصيدة بعنوان "الكرولبين" :

الكرولبين

قتل الكرولبين

ضرورة مُلحّة

وإلا مالذي سيحِّل بنا

إلى جوار "الكرولبين" الأحياء؟

هم لم يُقتَلوا بعدْ

هم بلا حضارة

وليْسوا مُتحابين فيما بينهم

ولا في الجِوار مثلنا

ربما تكون الحياة نفسها

عبئاً عليهم

ولا نسيء لهم أبداً

عندما نقتلهم

لا يجوز أن نستخف بهم

هم سبّاقون في نواحٍ كثيرة

وهم خطرٌ عظيمٌ علينا

لأنهم يحقدون علينا بشّدة

ونحنُ نُشَكّل إثارة لهم

أكثر مما تُثيرهم الحيوانات.

وفـــــــــــــــــــــــــــاته
أخيراً أريد أن أشير بأسطر قليلة إلى وفاة الشاعر إريش فريد الذي كان رغم مرضه بالسرطان وانتشار المرض واستفحاله في جسمه مواظباً ومحافظاً على مواعيده ونشاطاته التي لم تتوقف حتى في الأوقات الحرجة جداً.

قبل وفاته بأسابيع معدودة أرسل لكاتب هذه السطور كلمات تفيض بالحزن والأسى وكأنه استسلم للموت القادم، حيث كانت تربط كاتب هذه الكلمات بالشاعر معرفة وثيقة منذ عام 1968 وترجم من أشعاره ونشر مقالات عنه في الملاحق الأدبية لصحف مختلفة وفي مجلات أدبية في المهاجر وفي الوطن العربي.

وكان منذ فترة في موعد مع الموت كما كتب في قصيدة بعنوان "قبيل أن أموت":

لا رغبة في الكلام مرة أخرى:

عن دفء الحياة

من أجل أن يدرك البعض،

أنها ليست دافئة

بل ممكن أن تكون دافئة.

قبيل أن أموت

لي رغبة في الكلام

لأقول مرة أخرى

شيئاً عن الحب

الحب كان

والحب وجب أن يكون.

ومرة أخرى أرغب في الكلام

عن السعادة أو عن الأمل في السعادة

إلى أن يتساءل البعض:

ما هي السعادة

ومتى ستعود ثانية.

سافر إلى جنوب ألمانيا منتصف شهر نوفمبر عام 1988، قادماً من لندن حيث ألغى مواعيده هناك من أجل قراءات ولقاءات وحوار في الثقافة والشعر والسياسة.

وصل إلى مركز إرسال تلفزيوني في مدينة بادن-بادن ليعمل برنامج بمناسبة مرور خمسين عاماً على ما يسمى في تاريخ ألمانيا في العهد النازي "بليلة الكريستال"  في العاشر من نوفمبر عام 1938.

ساءت حالته الصحية جداً خلال البرنامج فاستدعى مخرج البرنامج الطبيب الذي نقله فوراً إلى المستشفى. كانت ليلة باردة الطقس، وكما تصف زوجته التي قدمت من لندن، كانت عواصف الثلج تقصف وكتل الثلج على زجاج سيارة التاكسي التي نقلتها إلى الفندق والتي حولت مشاعرها وأحزانها إلى ميلودي دراما. وبعد وصولها الفندق بدأ الضغط يهبط والضيق يزداد حد الخوف والغثيان، وفي صباح اليوم التالي وصلت الى المستشفى وجلست في مقهى الانتظار، "وجاء الطبيب وقف أمامي ليعلمني قائلا: السيدة فريد، لقد توفي زوجك".

وتم نقل جثمانه إلى لندن ودفن في مقبرة "غرين كينال".

عن الالتزام والشاعر إريش فريد          

كانت التنويعات في التعبير عن قضايا الإنسانية في حقب التاريخ المُتباينة تتطور منذ القدم، ويلحق هذا التطور الهدف الأساسي للالتزام وهو حقيقة الإنسانية -وحقيقة إنسانية الشاعر كمثال هنا- كما يرى الشاعر العربي السوري ممدوح عدوان. أما إريش فريد فقد كانت البدايات عندما رأى بأم عينه موت أبيه تحت ضربات أحذية النازيين عام 1938، وهناك -وكما قال هو- عقد العزم أن يكون شاعراً يتسلّح بالكلمة ضد الظلم والطغيان والعنصريّة والاحتلال وسلب الإنسان كرامته وكل ما يسيء ويفتك بــ "حقيقة إنسانيته". بقي الشاعر مُخلصاً في سعيه الدائب للكشف عن الحقيقة والوصول إلى نهاية المطاف وأن يحافظ على نقائِهِ وأن تبقى تجربته الفنيّة -الشعر مثالاً في هذه الحالة- مرتبطة بالحياة وكاشفة للحقيقة.

ويقول الشاعر ممدوح عدوان عن الشعر والشاعر، بأن الفنان لا يستطيع السكوت ولا الحياد وبالتالي لا يستطيع إلا أن يُعطي. وعندما يكتب الشعر يعمل على خلق زمنه بذاته. أما البحث عن حقيقة الإنسان فهو ذو شقين: البحث عن الذات الصافية، والبحث عن الآخرين. وعندما يحوي الشعر في دواخله ألماً إنسانياً من جهة والدفاع عن إنسانية الإنسان في هذا العالم، فالإنسانية تبقى وتُسمع إلى آلاف السنين.

أما شاعرنا إريش فريد فقد كان منذ بدايات كتابة الشعر وإلى آخر أيام حياته في شعرِه ونثرِه يكشف عن حقيقة إنسانيته، في كشفه عن الوجوه المستعارة وعالم الزيف والاسْتعباد والخوف والموت. سار في هذا الطريق بكل ثقة وصلابة في وقفة فريدة من نوعها في الغرب مع الفلسْطينيين المُهجّرين والمسلوبَة حقوقهم مناوئاً للصهيونية وإسرائيل منذ بدايات اغتصاب الأرض والحروب الاستيطانية كما أوردنا أمثلة من فيض غزير مما كتب من الشعر.