يقدم الباحث المصري في هذه الدراسة التحليلية لرواية الكاتب المغربي المرموق طبيعة الجدل بين الرؤية التاريخية والتخييل السردي من أجل إكمال الفجوات التاريخية من ناحية والحوار مع الحاضر من ناحية أخرى. ويقوم الباحث بقراءة نقدية وتحليل تفصيلي يفكك فيه أدوات التشكيل السردي ويتعرف على دلالاتها المضمرة.

التشكيل السردي والرؤية التاريخية

في رواية «العلامة» لبنسالم حميش

سامي سليمان أحمد

(1)

رواية "العلامة"، التي نشرها الكاتب المغربي بنسالم حميش في عام 1997، واحدة من الروايات التاريخية المعاصرة، وهي تنتمي إلى نمط السيرة الغيرية التي ترتكز على تقديم مجموعة من التحولات الأساسية التي مرت بها الشخصية التاريخية المصوَّرة وعرض عدد من الأفكار التي قدمتها هذه الشخصية (1)، وإذا كانت تلك التحولات والأفكار مستمدة من المصادر التاريخية التي تناولت الشخصية المستعادة، فإن الصياغة الفنية لها تقوم على نمط من الجدل بين العناصر المستمدة من تلك المصادر والتخييل(2) الذي يبتغي إكمال عناصر بنية الشخصية وتشكيل الأحداث وفق منظور الكاتب؛ بما يجعله يجدل العناصر التخييلية في وحدة مع العناصر الحقيقية بهدف تقديم رواية تجمع بين استعادة بعض جوانب الماضي وإكمالها ونقدها من ناحية، ومخاطبة الحاضر المرتبط بلحظة الكتابة والتلقي مخاطبة فكرية وجمالية، على نحو رمزي، من ناحية أخرى. وقد أفضي تركيز هذه السيرة الروائية الغيرية على مجموعة من لحظات التحول في مسار حياة الشخصية الرئيسية إلى الوقوف عند لحظات بأعيانها من مسار حياتها؛ وذلك ما تجلى في انقسام الرواية إلى ثلاثة فصول، تسبقها الفاتحة ويعقبها التذييل. وإذا كانت الفاتحة تهدف إلى تقديم تصوير لابن خلدون وهو يشرع في بداية القيام بإملاء فصول من مقدمته وبدء اتصاله بأسرة حمو الحيحي، فإن التذييل يستهدف إكمال حكاية ابن خلدون المؤرخ والإنسان بما يؤدي إلى إغلاق المسارات المتعددة التي انفتحت في الفصلين الثاني والثالث خاصة. ولعل انتهاء التذييل بذلك يشير إلى تأثير العنصر السيري في بناء هذه الرواية. ومابين الفاتحة والتذييل تتوالى فصول ثلاثة تقدم جوانب أساسية في شخصية ابن خلدون التاريخية والمتخيلة عبر مراوحة بين عرض مجموعة من أفكار ابن خلدون في فلسفة التاريخ عرضا يزاوج بين تقديم الأفكار والكشف عن مفارقات علاقاتها بوقائع حياة ابن خلدون أو تعريضها لرؤية مناقضة يتبناها الراوي الضمني، وتصوير علاقات ابن خلدون المؤرخ والمثقف بالسلطات الحاكمة في البلاطات التي تنقل بينها في الأندلس والمغرب وتونس ومصر، مع تركيز كبير على تصوير موقفه من سلطة المماليك باعتبار أن الرواية تقدمه في السنوات الأخيرة من حياته، وهي السنوات التي ثبت، من المصادر التاريخية العربية القروسطية، أنه قضاها بالقاهرة التي توفي بها. وكان يوازي ذلك تصوير علاقة ابن خلدون بأم البنين زوجته وبطفلته البتول التي أنجبتها له.

 وتشكل العناصر التي قدمتها هذه الفصول مجموعة من الجزئيات المتلاحمة من حيث تفاعلها في تكوين صورة ابن خلدون العالم والسياسي والإنسان، من ناحية، كما كانت، من ناحية أخرى، وسيلة لتجسيد أبعاد الرؤية التاريخية ذات العناصر والمستويات المتعددة التي تقدمها هذه الرواية. لقد تم بناء تلك العناصر في إطار ما نصفُه بأنه التشكيل السردي الذي نقصد به استخدام مجموعة من التقنيات السردية الجمالية في صياغة جدلية تتأسس على أنماط من العلاقات التي تُنتج الشكل بوصفه حصيلة للتفاعل بين هذه التقنيات وطرائق التعامل مع المصادر التي اعتمدها الكاتب أساسا لعمله من ناحية، وطرائق التلقي من ناحية ثانية، ثم بينهما وبين الرؤية التاريخية التي تجسد موقف المؤلف من مجموعة من القضايا التي يطرحها في نصه، من ناحية ثالثة(3).

ولعل من اللافت أن هذه الرواية واحدة من الأعمال الإبداعية العربية المعاصرة القليلة التي أفادت في بنائها من استلهام شخصية ابن خلدون في تشكيلها الجمالي ؛ إذ نلاحظ أنه رغم تعدد الشخصيات التراثية التي تم توظيفها في الكتابات الأدبية العربية المعاصرة، على تنوعها من شعر وقص ومسرح (4)، لم يتم توظيف شخصية ابن خلدون، فيما نعلم، سوى في هذه الرواية وفي مسرحية "منمنمات تاريخية" التي نشرها سعد الله ونوس (1941- 1997) في عام 1994، وذلك باستثناء الإشارات التي تحملها بعض الأعمال المعاصرة إلى ابن خلدون على نحو ما نجد في بعض قصائد محمد القيسي (1944- 2003)(5). وذلك ما يشير إلى أن التعامل مع شخصية ابن خلدون في هذين النصين تم في عقد التسعينيات من القرن العشرين استجابة لبعض التحولات التي عانتها الثقافة العربية والمجتمع العربي في الفترة التي تلت هزيمة يونيو 1967 وانتهت بحرب الخليج الأولى في عام 1990، تلك التحولات التي وضعت على طاولة البحث والمراجعة التساؤلاتِ المقلقة حول ماهية التاريخ وحقيقة المتغيرات التاريخية الكبرى وهوية التراث العربي بوصفه نتاجا تاريخيا ؛ وإذا كانت الاستجابات الفنية لتلك التساؤلات قد تجسدت، على نحو مبكر، في أعمال أدبية من قبيل "باب الفتوح" (1974)لمحمود دياب (1932-1983) التي كان الكشف عن حقيقة التاريخ سؤالا ملحا شُغلت بتقديمه ومحاولة بلورة إجابة "مقنعة" له(6)، وفي أعمال أخرى اتخذت من التاريخ قناعا لمواجهة قضايا الحاضر الملحة من فقدان الحرية وسيادة القهر في ظل دولة "البصاصين" على نحو ما تجلى في رواية "الزيني بركات" (1974)لجمال الغيطاني – فإن هوية تلك التحولات جعلت من التعامل مع شخصية ابن خلدون مدخلا ملائما للتساؤل عن حقيقة التاريخ بوصفه ظاهرة شمولية تنطوي على عدد من الأفكار والقيم التي تشكل أفق وجود الجماعة العربية وتحدد لها هوية ماضيها ومآل حركتها الحاضرة وتؤشر لها ببعض المؤشرات الدالة على بعض ملامح مستقبلها. وهذا ما يشير إلى أن اللحظة التي أخذت فيها شخصية ابن خلدون تصبح موضوعا للاستلهام كانت، و لاتزال، لحظة مثقلة بهمِّ التساؤل عن معضلة التاريخ بوصفها معضلة كاشفة عن إشكالية موقف الجماعة العربية من ماضيها وحاضرها بما يكتنفهما من إيجابيات وسلبيات،وتطلعها إلى آفاق مستقبل واعد ببناء حضاري وإنساني جديد.

(2/1)

 تتشكل المادة التي استخدمها الكاتب في بناء التشكيل السردي لهذه الرواية من ثلاثة أنماط من العناصر ؛ أولها العناصر التي استمدها المؤلف من المصادر العربية القروسطية التي عُنيت بابن خلدون، وفي مقدمتها سيرة ابن خلدون التي قدمها تحت عنوان "التعريف بابن خلدون ورحلته شرقا وغربا"، و يمكن وصفها بأنها (سيرة ذاتية سياسية)(7) ؛ إذ عُني فيها ابن خلدون بتقديم مواقف متعددة من حياته السياسية وتقلبه بين البلاطات المختلفة في مشرق العالم العربي ومغربه وفي الأندلس والوظائف التي تقلدها والمهام السياسية المتعددة التي أداها في البلاطات التي عمل بها، ومن ثم شحب حديثه عن الجوانب الشخصية والوجدانية التي تكشف عن خصوصية شخصيته بوصفه إنسانا ذا وجود يحمل بصماته الشخصية التي لا يُشركه فيها سواه. وكان ابن خلدون، في تغييبه لتلك الجوانب، يجاري الأعراف الثقافية العربية القروسطية المتصلة بكتابة السيرة الذاتية(8).وقد استبقى الكاتب مجموعة كبيرة من العناصر التي قدمها ابن خلدون في "التعريف" وأفاد من مجموعة من كتب التراجم القروسطية التي عُني أصحابها بتقديم ترجمة لابن خلدون(9). وأما أفكار ابن خلدون فقد استمدها المؤلف من مؤلفات ابن خلدون، ولاسيما "المقدمة" وبعض رسائله وكتابه "العبر وديوان المبتدأ والخبر".

 وثانيها مجموعة من العناصر المضافة التي مزجها الكاتب بالعناصر المستبقاة، والتي تحولت إلى عناصر تكمل النسيج الأساسي الذي يشكل الإطار السردي الرئيسي للمتن السردي لهذه الرواية. وكان الكاتب يُخضع العناصر المستبقاة لعديد من التعديلات التي انصبت على استبعاد بعض تفصيلاتها والاستعاضة عنها بتفصيلات جديدة أوثق اتصالا بالمسارات السردية وبالرؤية المطروحة، وتعديلات سياقات ورود العناصر المستبقاة وفقا لرؤيته الفنية؛ بما يعني أن بعضها كان يتم تقديمه أو تأخيره عن مواضعه في "التعريف" ثم يتم جدله بالعناصر الجديدة في وحدة تحقق للكاتب هوية روايته.وذلك ما يتجلى في الطرائق التي تعامل بها الكاتب مع المادة التي أفادها من المصادر القروسطية التي تناولت حياة ابن خلدون ؛ مما يتبدى – على سبيل التمثيل – في تصويره، في الفصل الثالث من روايته، لقاء ابن خلدون مع تيمور ؛ فقد استلهم العناصر الأساسية فيه من "التعريف"، ولكنه غير مواضع بعض العناصر كما سعى إلى تعميق أحاسيس ابن خلدون وهو يعيش لحظة مؤثرة في مسار حياته لأنها لحظة تحققت فيها نبوءة متأصلة لديه وتحققت فيها رغبة جارفة كانت تسيطر على نفسه لفترة طويلة(10).

 وأما ثالثها فهو مجموعة من العناصر المتخيلة التي ابتكرها الكاتب ابتكارا تاما، وهي تتصل بحكاية اتصال ابن خلدون بحمو الحيحي الذي تولى مهمة الكتابة لابن خلدون في الفصل الأول، ثم حكاية زواج ابن خلدون من أم البنين زوجة حمو بعد وفاته وتحولات العلاقة بينها وبينه نتيجة سفرها إلى المغرب، وحكاية العلاقة بين ابن خلدون وخادمه شعبان الذي صحبه في الفصلين الأول والثالث وفي فاتحة الرواية وتذييلها. ولقد كانت حكاية زواج ابن خلدون بأم البنين وسيلة مهمة لإكمال جانب العلاقات الأسرية لابن خلدون، ذلك الجانب الذي غاب عن التعريف والمصادر التاريخية القروسطية التي عرضت لحياة ابن خلدون، وذلك ما كان سبيلا لتكوين الأبعاد الشخصية والوجدانية لشخصية ابن خلدون بما يجعلها شخصية مؤثرة ومرسومة من منظور معاصر يستهدف تأكيد حيوية هذه الشخصية.

(2)

 يتأسس التشكيل السردي لهذه الرواية على مجموعة من التقنيات السردية التي استمد الكاتب بعضها من المؤلفات التراثية وتعامل معها بطرائق تجعل منها تقنيات فاعلة في بنية الشكل، وهي تقنيات "الحاشية" و"التهميش" و"الاستدراك" و"الإملاء" و"التذييل"، وجدلها بتفعيله لنمطين أساسيين من أنماط بناء الراوي ؛ فقد رواح بين استخدام الراوي الضمني العليم واستخدام الراوي المشارك الذي يحدثنا عن أحداث ووقائع ساهم في صنعها. وكانت شخصية ابن خلدون الشخصية الروائية المحور الأساسي في ذلك التشكيل.

برزت التقنيات التراثية في الفاتحة والتذييل والفصل الأول بصفة خاصة، وإذا كانت هذه التقنيات مستخدمة في التراث العربي القروسطي الكتابي في مختلف أنواع الكتابات الفلسفية والفكرية واللغوية والأدبية فإنها، لهذا، يمكن وصفها تقنيات ثقافية مرتبطة، في نشأتها وتبلورها، بتحول الثقافة العربية القروسطية من مرحلة الشفاهية إلى مرحلة التعويل على التدوين بوصفه الوسيلة الأساسية لحفظ المنتج الثقافي المكتوب، كما أنها مرتبطة أيضا بمرحلة تحول الثقافة العربية القروسطية إلى التنويع في آليات التأليف التي تمثل أنماطا من التعليقات على متون رئيسية وفاعلة وصلَتها من مرحلة الازدهار التي عرفتها بين القرنين الثالث والسادس الهجريين. أما في رواية "العلامة" فقد حوَّل الكاتب هذه التقنيات إلى تقنيات سردية تتفاعل مع مختلف العناصر السردية الأخرى وتؤدي أدوارها في بنية الشكل الروائي. و يهدف استخدام هذه التقنيات السردية التراثية بهذه الكيفية إلى إضفاء طبائع الأجواء التاريخية التي تقوم الرواية باستدعائها وتمثيلها للقارئ المعاصر، كما يهدف أيضا إلى تطوير هذه التقنيات وتحويلها من أن تكون مجرد تقنيات تُستخدم، أو كانت تُستخدم، في مختلف مجالات الـتأليف في الثقافة العربية القروسطية إلى تقنيات سردية فاعلة في بنية التشكيل الروائي. وذلك ما يكشف عن كون مسعى الكاتب يمثل محاولة من محاولات الجدل مع التراث الذي تتعامل معه الرواية من منظور لحظة الكتابة المعاصرة، بكل ما تنطوي عليه من مطامح، فتسعي إلى تطويره والجدل معه جدلا إيجابيا.

(1/2)

تبدو تقنية "الحاشية" تقنية تراثية كرر الكاتب استخدامها في الرواية في موضعين من الفصل الأول(11)، وتعامل الكاتب معها بطريقة مختلفة عن الطريقة الشائعة في التراث الثقافي العربي القروسطي ؛ ففي الموضع الأول جعل الكاتب الحاشيةَ تسبق النص و لا تأتي بعده، وذلك على العكس من الاستخدام التراثي الذي يجعل الحاشية بمثابة نص فرعي يقدم إضافة أو تعليقا على النص الأساسي، ولذلك كانت الحاشية تعقب النص الأول. وفي الحاشية الأولى قدم الكاتب عددا من المعلومات أو الجوانب الأساسية المتصلة بشخصية "حمو الحيحي"، ولاسيما ما يتعلق بتقييده الإملاءات؛ إذ وصفه الراوي العليم بأنه (يمتهن الكتابة عن اقتناع وحب، وليس للارتزاق والسخرة )(12)، ولهذا فهو من منظور ذلك الراوي (ليس من الكُتَّاب الذين يسلكون في تقييد الإملاءات منهج السمع والطاعة، أو يباركون في عمر مُشغِّليهم كلما فتحوا أفواههم وركبوا الجمل والفقرات شفاهة، أو يقيدون كلام هؤلاء ولو أطلقوا له العنان جزافا، ورصَّعوه بغرائب اللفظ والمعنى)(13). ولقد كان ذلك الوصف وسيلة تفسر للقارئ ما يلحظه في جلسات الإملاء من مناقشة حمو لابن خلدون في بعض أفكاره أو تعليقه عليها أو رصده بعض جوانب التغير فيها، مما كان سبيلا للقضاء على الإملال الذي يمكن أن يتولد من تقديم ابن خلدون أفكاره على وتيرة واحدة ثابتة.

وفي ثانية الحاشيتين قدم الراوي الضمني وصفا لما كان يحدث في لقاءات الإملاء بين ابن خلدون وحمو، وكأن ذلك الوصف كان وسيلة لتلافي تكرار تقديمه عقب كل لقاء من لقاءات الإملاء بينهما. وإذا كانت تقنية الحاشية المستخدمة في هذين الموضعين نمطا من الحاشية القبلية من حيث علاقتها بما تبعها من وقائع الإملاء في ليالي الفصل الأول، فإن ربطها بفاتحة الرواية يشير إلى أنها نص متوسط بين الفاتحة والفصل الأول يهدف إلى تقديم بعض جوانب حمو الحيحي المتصلة بعمله كاتبا لدى ابن خلدون. وأما تقنية "الحاشية" المستخدمة إما عقب اكتمال ليلة من ليالي الإملاء أو في نهاية الفصل الأول،فيمكن وصفها بأنها حاشية بعدية، وقد وظفها الكاتب عدة وظائف ؛ ففيما أعقب تقديمه ليلة الإملاء الأولى في متم صفر جعل الكاتب من الحاشية وسيلة للكشف عن انطباعات حمو عن ابن خلدون وقد اقترب منه مستمليا للمرة الأولى (14)، على حين أنه جعل من الحاشيتين الواردتين في نهاية الفصل الأول وسيلتين غير مباشرتين للإشارة إلى بعض الجوانب المستقبلة ؛ ففي أولاهما يتعرف القارئ أو المتلقي على جوانب أزمة أم البنين التي تحلم بالإنجاب، على حين تتضمن الحاشية الثانية رؤيا يراها ابن خلدون يصفها الراوي الضمني بأنها "رؤيا منامية غريبة" ؛ إذ رأى ابن خلدون (نفسه فيها وهو يودع أم البنين – وقد صارت زوجته – فيرحل إلى مدينة شرقية قريبة حيث يقابل حفيد جنكيز خان تيمور الأعرج)(15).ويتكشف للقارئ من متابعته للأحداث في الفصلين الثاني والثالث أن ما قدمته هذه الرؤيا قد حدث ؛ بما يعني أنها كانت نوعا من النبوءة ببعض جوانب المصير المستقبل للشخصية، وذلك على النحو الذي تؤديه النبوءة في السير الشعبية العربية ؛ إذ تكون النبوءة فيها إشارة إلى مصير البطل (16) مما يجعلها تقوم، على مستوى البنية السردية، بوظيفة استباقية تتضمن بعض ملامح المستقبل الذي سيعيشه البطل(17).

وتتجلى تقنية "الحاشية" في مواضع أخرى تحت مسمى "التهميش" و"الاستدراك"، وكلا التقنيتين نتاج لفاعلية أدوار الكاتب أو الناسخ حمو الحيحي الذي لا يكتفي بتدوين ما يمليه ابن خلدون، بل يتدخل بالتذكير والإشارة إلى وقائع وأحداث يرى أن ابن خلدون لم يوفها حقها من التناول والتحليل، فيقطع سياق الإملاء مما يولِّد تقنيتي التهميش والاستدراك. فحين يلاحظ حمو الحيحي (تجاهل البكري المطبق لقطب المرابطين يوسف بن تاشفين) يتوجه إلى ابن خلدون بالقول إنها(حالةٌ حدَّثتني عنها يوما عرَضا، وإني أضعها في هامش للتمثيل بعد إذنك )(18) فيقبل ابن خلدون وضع ذلك الهامش "المفترض" مضيفا إليه ملحوظة يجب، من منظوره، ذكرُها مدعما إياها ببعض نصوصه. وإذا كانت تقنية التهميش نمطا من وضع الحواشي فإنها كانت تؤدي دورين ؛ فقد كانت تمنح الناسخ فرصة أو إمكانية طلب إضاءة بعض الجوانب التي يراها بحاجة إلى التوضيح والبيان، كما كانت تمنح المملي، أو ابن خلدون، الفرصة للكشف عن مواقفه من بعض الأحداث والشخصيات على نحو دال على هوية رؤاه لها.

وتتصل بتقنية الحاشية تقنية "الاستدراك" التي تجعل من ابن خلدون الشخصية الروائية، التي تتوحد في بعض المواقف بابن خلدون الشخص التاريخي،يتوقف ليقيم سلوكه ومواقفه إزاء الآخرين كاشفا عما فيها من إيجابيات وسلبيات ؛ على نحو ما يتوجه بالطلب إلى حمو (حرِّك يدك إذن بهذا الاستدراك: حقا، رغبتُ دوما في أن أتعمق في معرفة الواقعات والمادة التي للأشياء، وأن أرصد سنن التبدل والانقلاب، لكن، في المقابل كم مرة كبوت وتسطحت!)(19)، ويأخذ في عرض بعض أفكاره السلبية كما يستعرض عددا من المواقف السلوكية التي تكشف عن "زلاته ومعاطبه"(20). وبذلك كانت تقنية الاستدراك تجعل من النص الروائي المكتوب نوعا من النص المفتوح على نصوص ومواقف سلوكية خارجه تتصل اتصالا وثيقا بأفكار ومسالك الشخصية التاريخية المستدعاة.

(2/2)

كان "الإملاء" تقنية من التقنيات السردية الأساسية في بنية شكل هذه الرواية، ولعل تأصل هذه التقنية في كل فروع الثقافة العربية القروسطية هو الذي يفسر ما خلفته هذه الثقافة من تقاليد خاصة بعملية الإملاء والسمات التي ينبغي أن يتحلي بها القائم بالكتابة أو الناسخ(21). وفي ضوء هذه التقنية تم تقسيم لقاءات ابن خلدون وحمو الحيحي إلى مجموعة من الليالي التي يقوم فيها ابن خلدون بإملاء الحيحي مجموعة من أفكاره التي سيدونها في مقدمته، ولذلك كانت هذه "الليالي" وسيلة لعرض عديد من عناصر الرؤية التاريخية التي يتبناها ابن خلدون فكان عرضه لمجموعة من أفكاره التي تدور حول طبيعة التاريخ وأهميته، وموقف المؤرخ من التاريخ، وموقفه أيضا من السلطة(22). وقد تحولت بعض الإملاءات إلى صيغة المنولوجات التي يقوم فيها ابن خلدون الشخصيةُ الروائيةُ التي اصطنعها الكاتب بنقد مجموعة من أفكار ابن خلدون المؤرخ الحقيقي(23)، وفي الحالين كليهما كان من الطبيعي والمتواتر أن تتم إحالات متعددة إلى نصوص بأعيانها من مقدمة ابن خلدون وتعريفه(24).

وقد أدت هذه التقنية إلى تقسيم مشاهد الفصل الأول من الرواية إلى مجموعة من الليالي بما يمكن أن يقرنها بليالي "ألف ليلة" من حيث تقسيم المروي أو المادة المروية على مسار زمني متصل هو الليالي التي يتم فيها فعل الحكي، ولكن التقسيم في الرواية كان يستهدف منح إمكانية لتفصيل الأفكار المطروحة في الليالي،أو الانتقال من فكرة إلى أخرى، والمزاوجة بين هذا وذاك بتقديم مقاطع سردية من سيرة ابن خلدون الشخصية الروائية، وتقديم مجموعة من التعليقات على أحداث آنية أو ماضية، أو إشارات إلى مستقبل آت.ولذا تبدو تقنية التقسيم إلى ليالٍ في هذه الرواية تقنية متماسة مع نظيرتها في "الإمتاع والمؤانسة" للتوحيدي التي كانت تجعل من الليلة فضاء محدودا من حيث امتداده الزمني، ممتدا من حيث بنائه على السؤال والجواب مما يفتح آفاقه أمام تعدد خصب يضم السرد والقص إلى الشعر والأخبار والحكايات التاريخية والقضايا والمشكلات الفلسفية والكلامية المعقدة وغيرها من المواد الفكرية، وقد استخدم المؤلف ذات الصيغة التي كرر أبو حيان استخدامها داخل لياليه، وهي صيغة "المجلس" التي هي صيغة رحبة تتسع لعناصر فكرية وسردية لا حصر لها(25). ولما كانت تقنية الإملاء وسيلة لعرض مجموعة من أفكار ابن خلدون، فقد كان التعويل على صيغة السؤال والجواب تقنية بارزة ناتجة عن طبيعة الشخصيتين المتحاورتين "ابن خلدون وحمو الحيحي"، وكانت فاعلية هذه الصيغة شبيهة بفاعلية مثليتها في "الإمتاع والمؤانسة" على نحو يصل بين "العلامة" و"الإمتاع والمؤانسة" في تفعيلهما تقنية تهدف إلى عرض الأفكار عرضا ذا طابع جدلي إلى حد ما.

تتأسس تقنية "الإملاء" على حضور طرفين يقوم أولها بالحديث والكلام ويقوم ثانيهما بتدوين المنطوق، ويملك المملي إمكانية إيقاف مسار الكلام عند أية نقطة، كما يملك إمكانية دفع الكاتب الناسخ إلى العزوف عن تدوين جزء من كلامه، وإمكانية التعديل في النص الذي يقوم بإملائه. إن العلاقة بين هذين الطرفين إنما هي واحدة من نماذج العلاقة بين النمطين الشفهي والكتابي ؛ فعلى حين يمثل المملي طرف الاتصال الشفهي فإنه يمتلك إمكانات التدخل وقطع مسارات الإملاء وتوجيه الناسخ، ومن ثم القارئ، إلى جوانب بعينها سواء على مستوى الأفكار أو على مستوى الصياغات اللغوية. وعند النظر إلى تقنية "الإملاء" في هذه الرواية تتبدى مجموعة من الظواهر الأسلوبية في لغة ابن خلدون المملي، ومنها الإحالات التي يصطنعها المملي إلى وقائع أو أحداث أو نصوص سابقة سواء له أو لغيره، على نحو ما يقوم ابن خلدون عند فكرة حل أزمة الأمة بالعودة "إلى السلف وخلافة الراشدين" ؛ فقبل أن يعرض فكرته البديلة يقول لحمو (وهنا لا مناص من وقفة أكشف بها عن تهافت المزايدين وارد عن أقوال المخلِّطين. وقفة كنتُ أبديتها في المقدمة، لكن لا من قارئ ولا معتبر)(26)، كما تتكرر هذه الإحالات في مواضع أخرى(27).

ومنها الإشارة إلى أن للمقول بقية سترد في موضع أو موقف تال (28)، وتكرار استخدام الجمل الاعتراضية من قبيل ( لكن – والعبرة بالعواقب والخواتيم – ما يقره التاريخ في باب الإصلاح هو أن أمده في بدء الدولة قصير، ونفسه متقطع، فلا يلبث أن تذروه رياح الاستبداد والأهواء)(29). و(والعيب – في ملتي واعتقادي – ليس في تولي المعتوقين زمام أمور العباد، بل في تعلقهم بعصبية ليست أقل تشنجا وطغيا من أي عصبية أخرى)(30). وتتبدى هذه الخاصة في مواضع متعددة من الفصل الأول(31) مما يكشف عن كونها سمة أسلوبية متواترة في مواقف الإملاء في هذه الرواية. ومنها ظاهرة استخدام بعض العبارات والتراكيب التي يستهدف بها المملي أو منها لفت انتباه الكاتب، ومن ثم، القارئ إلى أهمية الأفكار التي يقدمها مما يجعلها تستأهل عناية خاصة منه أو منهما. وتتجلى هذه الظاهرة مرارا من قبيل ما يرد على لسان ابن خلدون وهو يستكشف أسباب خوفه من الموت، إذ يصرح (واليوم أتبين بصفاء أكبر سر خوفي ذاك من الموت، فأحدده في عامل هو الأعم والأطغى، فسجِّله بالقلم الدقيق حتى يعتبر به غيري من حملة العلم وطالبيه)(32). وفي موضع آخر يقول ابن خلدون، وهو بصدد الحديث عن الطاعون الذي حلَّ بتونس حين كان هو في السادسة عشرة من عمره،(ذلك الوباء سماه أهل العصر بأسماء متشابهة الهول والحدِّة: الفناء الكبير، والمرض الهائل، والطاعون الوافد أو الجارف أو الأعظم، فسجِّل عنه يا حمو ما لم يتيسر لي قوله في نصوصي السابقة )(33). وتتجلى الظاهرة في مواضع أخرى(34). وفي بعض المواضع كانت الظاهرة السابقة تقترن بظاهرة استخدام الجمل الاعتراضية على نحو ما يتجلى في هذا النموذج ( لكن تطيري في كل الحالات – أبرز هذا جوزيت خيرا – يهبني (سبحان الله !) حيويةً لا خمولا وإقبالا لا دبورا، فأهمُّ - رغم المثبطات- بعبء السؤال وأضطلع. ذكِّرني بصيغة السؤال يا حمو حتى أتحققه) (35).

 ويتصل بهذه الظواهر ما كان يقوم به المملي من نهي الكاتب، أحيانا، عن تقييد بعض العبارات والآراء التي أبداها لأنه لا يريد للمتلقين "الفعليين" أن يطلعوا عليها(36). كما كان المملي يحدد،أحيانا، ما يجب تدوينه وما يجب التغاضي عنه ليكون مجرد حديث حر بينه وبين المقيد أو الناسخ (37). وبقدر ما تكشف الظواهر السالفة عن تنوع تجليات تأثير تقنيات الإملاء فإنها تبين عن فاعليتها في تحقيق نمط من علاقات التفاعل بين طرفيها؛ بما يسهم في تمييز التشكيل السردي لهذه الرواية.

(3/2)

لمصطلح التذييل دلالتان مختلفتان في الثقافة العربية القروسطية تنصرف أولاهما إلى استخدامه في إطار الدرس البلاغي، في مستوى المعاني حسب الفهم التقليدي، ليشير إلى (نوع من إطناب الزيادة، وهو أن يؤتى بجملة عقيب جملة، والثانية تشتمل على معنى الأولى لتأكيد مفهومه ليظهر المعنى لمن لم يفهمه ويتقرر عند من فهمه)(38). على حين تتبدي ثانيتهما ماثلة في معنى إتمام الكتاب أو المكتوب أو النص بجزء أو أجزاء أخرى تشكل نوعا من إكماله طبقا للغرض الأساسي الذي يتوخاه المؤلف الأول، ومن هنا كانت هناك مجموعة من الكتب التي تعد ذيولا أو تذييلات لكتب أخرى سابقة عليها مما يشكل ظاهرة بارزة في الثقافة العربية القروسطية بداية من القرن السابع الهجري(39). ويبدو أن "التذييل" في رواية "العلامة" تقنية مستخدمة حسب الدلالة الثانية التي تشير إلى معنى الإكمال والإتمام، وإن كان المؤلف، هنا، يحوِّل وظيفتها عبر تخصيصها بمهمتين تضافان إلى دلالتهما الأساسية، وهما: جعلها تقنية سردية تُستخدم في نهاية الرواية لتقدم إكمالا لعديد من خيوط الأحداث التي لم تكتمل خاصة ما يتعلق منها بمصير ابن خلدون وأسرته، وفي ذلك تحقيق لماهية هذه الرواية بوصفها رواية سيرة غيرية. واتخاذها وسيلة لتقديم مجموعة من المنولوجات المتوالية على لسان ابن خلدون مصورةً للمشاعر والخلجات التي خالطت نفسه في اللحظات التي كان يقارب فيها الاحتضار، مما جعلها تصاغ في لغة شعرية تمتح شعريتَها من معيني اللغة الصوفية ومعاناة لحظات الاحتضار بما تتضمنه من مشاعر متداخلة تتوثب كلها من مطمورات الوعي الذي يقترب من لحظة النهاية وقد تكشفت له الأشياء عن حقيقتها الأصيلة "الشفافة"، فسعى إلى التواصل معها تحقيقا لنوع من الراحة الأبدية مدركا أنها هي لحظة اليقين، وإن كان قد بدأها بتصوير مشاعره والموت يتسلل إلى أعضائه ( هو انتظار التورط فالغوص العويص الصاعق في لجج الهذيان والغم! هو انتظار انصرام حبل الوريد وكل عروق الضخ والنبض ! احتضار هو أيقنتُ أن منتهاه لا لبس فيه ولا ريب. أيقنني صوت جواني ناطق بين أعضائي وجوارحي بلسان التصدع والفتك...نغلٌ في رجليَّ كأنه لنمل، بل لديدان دموية تزحف في العروق والعظم. تزحف ببطء شديد، لكن تحت ألوية العزم والحزم. أما الرأس ففي الحمى آنستُه ومثواه)(40). ويمكن وصف ذلك النمط من التذييل بأنه تذييل ختامي يحقق هوية السيرة الروائية الغيرية بوصفها تصويرا لمجموعة من التحولات الجذرية في مسار حياة الشخصية الرئيسية تنتهي – تلك التحولات – عند نقطة نهاية حياتها.

وثمة استخدام آخر لتقنية التذييل في التشكيل السردي لهذه الرواية يجمع بين دلالتي الإكمال والإضافة من ناحية والإحالة إلى نص آخر لذات الكاتب من ناحية أخرى، وتتحقق تلك الإحالة بالتخييل في مسار العالم الروائي، وتتصل الإضافة بالإحالة ؛ إذ تقوم الشخصية المتخيلة على أساس تاريخي بالإحالة إلى أفكار الشخصية التاريخية الحقيقية في مواضعها من مؤلفاتها الحقيقية. ففي الرواية يقوم ابن خلدون الشخصية الروائية بالإحالة إلى بعض أفكار ابن خلدون الشخص التاريخي في مؤلفاته بما يكشف عن كون ذلك المؤلف المتخيل يقوم بتعديل بعض أفكاره أو الإضافة إليها. ففي إملائه لحمو الحيحي يتوقف ابن خلدون الشخصية الروائية، وهو يعرض بعض أفكاره حول اتساع رؤيته التاريخية، ليقول (قد ذكرت كل ذلك في مقدمتي، وفصلت القول، ولا أبغي اليوم إلا التذييل عليه بشذرات مرارتي حيال سير الزمان لغير صالحنا، كأنما هو يعمل ضدنا، ويعد لنا مزيدا من الهزات والكبوات )(41) ثم يأخذ في عرض مجموعة من وقائع الحكام في بلاد المغرب في زمن ابن خلدون التاريخي، ويكشف عن ظواهر الضعف والتشتت وغلبة الاستبداد. ومن الملاحظ أن هذه التقنية تقوم في هذا الموضع بوظيفة أخرى عدا وظيفة الإكمال أو الإضافة أو التعديل، وهي وظيفة الإحالة إلى نص آخر خارج النص الحالي؛ أي أن التذييل كان يهدف، في هذا الموضع، إلى ربط نصين أحدهما داخلي والآخر خارجي. ولهذه التقنية دورها في تمكين الكاتب من نقد أفكار الشخصية التراثية المستدعاة ؛ أي شخصية ابن خلدون، وتعديلها والإضافة إليها. ويمكن وصف هذا النوع من التذييل بأنه تذييل داخلي يعود إلى أن الكاتب جعل إمكانات بناء الشخصية التاريخية المتخيلة منفتحة أمام مسارات متعددة، كما جعل من إمكانات تشكيل أفكارها منفتحة أمام خيارات مختلفة أو متنوعة.

(4/2)

قام التشكيل السردي لهذه الرواية على استخدام نمطين أساسيين من الرواة، وهما نمط الراوي الضمني العليم العارف بمختلف عناصر الوقائع والأحداث والشخصيات التي يقص عنها في المواقف المختلفة، دون أن يكون مشاركا في صياغتها. إنه راوٍ يقف على مبعدة من الوقائع ليحتفظ لنفسه بحق السرد من أية نقطة شاء والوقوف عند أية نقطة يشاء، و ما يبتغيه هو تقديم الوقائع المروية عبر مراوحة بين نوع من السرد الموضوعي وتقديم وجهة نظره بإيجاز شديد، عبر إيماءات مركزة. وأما النمط الثاني فهو نمط الراوي المشارك الذي يتكئ على ضمير المتكلم المفرد "أنا" إما في سرد مجموعة من الوقائع التي شارك في صياغتها، وإما في تقديم شهادات على المواقف والأحداث والشخصيات التي عايشها، أو في تقديم أفكاره وتصوير تجاربه الوجدانية التي أتاحت لذاته تحقيق نوع من اكتمالها الداخلي مؤذنة بتصوير معاناة ذات ذلك الراوي في تحولاتها، التي لا تستطيع إلا أن تكتمها عن الآخرين في العالم الروائي المتخيل بنفس القدر الذي لا يمكنها إلا أن تبوح بها للقارئ المتخيل سعيا إلى التقرب منه عبر تقديم نوع من المكاشفة التي تجعلها تسعي إلى اجتذاب ذلك القارئ إليها.

وقد تأسس التشكيل السردي على نمط من المعاقبة بين ظهور هذين النمطين، فكان أن اختص الراوي الضمني العليم بسرد الفاتحة والفصل الأول بما يتضمنه من حواشٍ والفصل الثالث الذي تقدم فيه الرواية وقائع اجتياح التتار لبلاد الشام ولقاء ابن خلدون بتيمور، على حين تجلى الراوي المشارك المستخدم لضمير المفرد المتكلم في الفصل الثاني الذي قدم تجربة ابن خلدون في الحب والزواج بزوجة صديقه الراحل حمو الحيحي، وفي التذييل الذي أكملت فيه الرواية تتبع مصير ابن خلدون وتصوير لحظات احتضاره.

(2/4/2)

تنوعت المهام التي قام بها ذلك الراوي الضمني العليم كما تعددت الصيغ التي استخدمها في سرده في المواقف المختلفة التي ظهر صوته فيها، وذلك تبعا لتحولات الأحداث والوقائع التي كان يسردها. ففي الفاتحة قام الراوي بتقديم شخصية ابن خلدون من منظوره المعني بعرض بعض ملامحها التي تهيئ القارئ للاقتراب منها، وقد ركز الراوي سرده على نقطة تولي ابن خلدون قضاء المالكية بمصر في عهد السلطان الظاهر برقوق، وعمل على إبراز المفارقة التي تشكلت في وعي ابن خلدون بين صورة القاهرة، سابقا، بوصفها "حضرة الدنيا" و"بستان العالم" و"إيوان الإسلام" وحقيقتها الحاضرة كمدينة يستشري فيها الفساد في العادات والتقاليد (والغلبة كلها لذوي المال والسلطان، والحيف نازلا على كواهل المعوزين وأهل الفاقة)(42). وذلك ما كان سبيلا ليقوم الراوي بتحديد أزمة ابن خلدون بين واقع ذلك الحال وطموحه إلى تحقيق العدل. وإذا كان الراوي قد قطع سرده بتعليق يكشف عن مفارقة حقيقة أو موقف العدل في ذلك المجتمع(43)فإنه أشار إلى مصاب ابن خلدون في أسرته مستشهدا بما ورد في "التعريف"، فكان ذلك سبيلا لتبرير ما أكده الراوي عن كون ابن خلون يحي الآن في لحظات اعتزال للسياسة وعالمها. كان الراوي حريصا على تعليل مسالك ابن خلدون، وحين تحول إلى تصوير ما يدور في وعيه الآني منح نفسه حرية الانتقال من الحاضر إلى الماضي وماضي الماضي على نحو أفرز مجموعة من المفردات المتكررة من قبيل " تذكر" و"ذكرى" و"تراءى" و"تراءت" و"استحضار" في سياقات استعادة ابن خلدون مشاهد من حياته بالمغرب وذلك قبل حضوره إلى القاهرة(44).

وحين دارت عجلة الإملاء وبرزت صيغة الليالي تحولت أدوار الراوي إلى تقديم الأطر الزمنية والمكانية للشخصيات، وقدم مجموعة من الأوصاف السردية، ومال إلى تقديم بعض الفقرات السردية القائمة على إيجاز مجموعة من الأفعال أو الأحداث في فقرات قصيرة، كان يقدمها غالبا في بدايات ليالي الإملاء(45). كما كان ذلك الراوي يستهدف أحيانا تغيير مسار الحديث الدائر بينه وبين ابن خلدون، فلما تطورت الأحداث، في الفصل الثالث، كان على ذلك الراوي تحويل مهامه إلى التركيز على تعليل التغيرات في مسلك ابن خلدون إزاء ما يحدث حوله(46). وسرد الوقائع التاريخية بما تتضمنه من تفصيلات تعكس متغيرات الأطر السياسية والاجتماعية التي تنعكس على ابن خلدون بما يجعله في حاجة إلى تعديل بعض أحكامه أو تغييرها(47).

 كان تلاحق الأحداث المتواصلة في الزمن التاريخي الذي يصوره السرد سببا في بروز ظاهرتين في سرد ذلك الراوي ؛ وأولاهما مراوحته بين وظيفتي التفسير التي تهدف إلى تعليل تغييرات ابن خلدون وتحولاته واستباقه بالإشارة إلى تقديم بعض المسالك التي سيسلكها(48). وثانيتهما تأكيد سرعة توالي الأحداث وتلاحقها عبر بدء معظم الفقرات بعبارات وتراكيب تتضمن علامات زمنية بما يجعل من الفقرة تصويرا لتحول دال في مجرى الصراع أو في مسلك شخصية ابن خلدون، وذلك على النحو الذي يتجلى في الصياغات التالية: (صباح الغد، أقبل على العلامة في منزله الدوادار يشبك الشعباني فاستقبله بالحفاوة)، و(ساعات طوالا قضاها عبد الرحمن مفكرا في انجذابه نحو تيمور رغم المصاعب والمخاطر)، و(في يوم الزحف، وقد كان – بعد تأجيلات – ثالث ربيع الآخر، قبَّل عبد الرحمن زوجته وابنته، وعانق شعبان)، و( في الأيام الأولى من الإقامة الدمشقية، انصرف اهتمام عبد الرحمن إلى طلبته بالمدرسة العادلية التي أُنزل بها)، و( ذات مرة، عند متم الأسبوع الأول من الإقامة، والعلامة في صحن الجامع الأموي يجلس متأملا "....." إذا ببعض الجالسين بجواره يسألونه إن كان موطدا العزم على الهروب من المدينة)، و (في بدء الأسبوع الموالي قصد عبد الرحمن سوق الوراقين بصحبة غلام عينه يشبك في خدمته)، و( في صباح يوم الثلاثاء من الأسبوع الثاني، ذهب عبد الرحمن يرافقه غلامه إلى مزار بين باب الجابية والباب الصغير، فترحم على الموتى)(49).وإذا كانت هذه العبارات العلامات قد غابت عن بعض صفحات هذا الفصل(50)فإن ذلك الغياب كان مُبرَّرا بغلبة الحوارات عليها، وحين تم الانتقال إلى تصوير الأحداث كان أن عادت التعبيرات الزمنية إلى البروز والاستقرار في مطالع الفقرات كاشفة عن تلاحق الأحداث على النحو الذي تجليه الصياغات التالية: (بعد قضاء لحظات في قيلولة هادئة قصد الرجلان المسجد الأموي فصليا فيه العصر، ثم ذهبا في زيارة لبعض المآثر والمشاهد)، و(في اليوم التالي اتفق الرجلان على ارتياد المنازه والحدائق والأنهار)، و( على عتبة الأسبوع الثالث من الإقامة الدمشقية، استيقظ عبد الرحمن مبكرا والتعطش إلى الأخبار يستبد بذهنه استبدادا)، و( قبيل وصول الشمس إلى كبد السماء، قصد العلامة خيمة البريد بساحة قبة يلبغا، باحثا عن رسالة إليه، فلم يجد شيئا)، و(قضى العلامة ما تبقى من أيام جمادى الأولى متلقيا علامات لا تبشر بأي خير)، و(بعيد منتصف النهار، كان عبد الرحمن قد استقر في خيمة صغيرة وأدى ما عليه من صلوات)، و(في مساء اليوم نفسه، عاد برهان الدين من لقائه إلى جميع القضاة في العادلية، ومعه كتاب الأمان ودعوة شفوية من الغزي إليهم بالحضور بين يديه)(51).

إن الحدث فعل إنساني لا تتجلى آثاره إلا في أحياز زمنية وهذا ما يمكنه تفسير تراكم بعض التعبيرات الزمنية في فقرة واحدة قصيرة أو انتهاء الفصل ببعض العبارات أو التعبيرات الزمنية الدالة على اكتمال الحدث، وذلك على النحو الذي يتجلى في الأمثلة التالية: ( كان الوقت ظهرا. الحرُّ وعسر الهضم، وزحمة الجنود الأفظاظ الخشنين في الحي المغولي، وإحجام تيمور في خطبته عن تأكيد رقاع أمانه، كل ذلك جعل القضاة شبه دائخين وقليلي الرغبة في الوصل والكلام. لذا هرول كل منهم إلى مسكنه، قصد الراحة وترقب الموعد التيموري في هذا التاسع عشر من جمادى الآخرة للسنة الثالثة من القرن التاسع). وانتهي الفصل بهاتين الفقرتين اللتين تتكاثف في أولاهما التعبيرات/العلامات الزمنية على النحو التالي:( في الساعات الأولى من اليوم نفسه، كان السفر مع قافلة مع بعض من صحت فيهم شفاعة عبد الرحمن وأغلبهم من مماليك رتب القلم. وبعد مسيرة يوم متصل اعترض الأعرابُ القافلة، فجردوا أفرادها من كل متاعهم، وتركوهم عرايا إلا من سراويلهم. وهكذا دخلوا إلى الصبيبة بعد يومين من السير الحثيث، فعوضوا الملبوس، وقصدوا صفد حيث استراحوا أياما معدودة، حتى إذا أقبل مركب من مراكب ابن عثمان سلطان بلاد الروم، أقلهم إلى غزة ثم جازوا برا إلى مصر.

 صباح الفاتح من شعبان، انفصل عبد الرحمن عن رفاقه، وحث الجِمال على كد السير إلى المحمودية،حي سكناه...)(52).

(3/4/2)

 مثَّل حضور صوت الراوي المشارك والمتكلم داخل بعض مواضع الفصل الأول نوعا من التقاطع المزدوج؛ لأن الراوي الضمني العليم كان صاحب الصوت الأساسي في هذا الفصل، كما أن جلسات الإملاء التي دارت بين ابن خلدون وحمو الحيحي كانت تعتمد على الحوار الذي كان يتراوح بين مناقشة القضايا والأفكار التي يقدمها ابن خلدون الشخصية الروائية والانتقال إلى تناول بعض جوانب الحاضر كالعلاقة بين حمو وزوجته أم البنين. وبذلك كان حضور صوت الراوي المشارك، في بعض مواضع ذلك الفصل، قائما في ظل الفقرات الحوارية المطولة وقرين جنوحه إلى قطع مسار عرض الأفكار والمناقشات الفكرية إلى تقديم بعض وقائع حياته الماضية، أو وصف تأثيرات تلك الوقائع على وجدانه وتشكيله النفسي كما في حديثه عن غرق أسرته، أو وصف بعض الأحداث المهمة التي عاينها من قبل كانتشار وباء الطاعون على سبيل المثال (53)، وكانت تلك الوقفات سلسلة من الاسترجاعات المتقاطعة مع عرض الأفكار وتصوير لحظات الإملاء. أخذت تجليات حضور الراوي المشارك، الذي يعتمد على "أنا" المتكلم والممثل لشخصية ابن خلدون كما سبكها الكاتب، تتكاثف قرب نهاية الفصل الأول عبر تقديمه لرؤيا منامية تشير إلى زواجه بأم البنين من جهة، ولقائه بتيمور من جهة أخرى. وكانت تلك الرؤيا استباقا لحدثين محوريين وقعا لابن خلدون في الرواية. وإذا كان ذلك الراوي قد قدم نبوءة شيخه "الآبلي" له بلقائه تيمور فمن الملاحظ أن ابن خلدون التاريخي قد أسند هذه النبوءة في "التعريف" إلى المنجمين وجعل "الآبلي" شيخه يؤكد ضرورة وقوعها(54).

 وإذا كان صوت ذلك الراوي قد هيمن على صفحات الفصل الثاني جميعها، فيما عدا الفقرات الحوارية التي تناوب فيها الحديث مع عدد من الشخصيات المشاركة معه في الأحداث، فإن حضوره فيها قد أفرز عدة نغمات متوازية ومتفاعلة في الآن نفسه ؛ متوازية لأن حضورها كان قرين توزع مشاهد الفصل بين عدة محاور، وهي: لقاء ابن خلدون بالسلطان بعد عودته من الحج، وزواجه بأم البنين وتعرفه على وجوه القاهرة بمصاحبتها، ومشكلة سعد أخي أم البنين وسعي ابن خلدون لحلِّها بإدخاله المستشفى ثم بضمه إلى زاوية من زوايا الصوفية، وتصاعد الصراع بين السلطان برقوق ومنافسيه ونهايته التي تضمنت فقد ابن خلدون صديقه طلُنبُغا الجوباني. وكانت متفاعلة لأنها كشفت – بكونها نتاجا لتجارب وخبرات حياتية متنوعة – عن وجوه متعددة لابن خلدون، وجوه انبنت على معايشة الحياة بدرجات من العمق ملحوظة ؛ مما جعل نتاجاتها السردية على لسان الراوي تشكيلات موجزة لخلاصات تجاربه وعلامات على التحولات النفسية والفكرية التي خضعت لها شخصيته. ولذا راوحت تلك التشكيلات بين مسارات متعددة، وهي: بيان تشكلات العالم الجواني للراوي بتأثير المعايشات الجديدة لتجارب طازجة، وصياغات لرؤى ووجهات نظر تكونت لدى الراوي عبر تأمل طويل لتاريخ مشبع بتحولات هائلة كان عليه أن يستبطنها ويستشف ما تكنه من عِبر وخلاصات فكرية وتصورية، وسرد لمجموعة من الحوادث التاريخية التي عاصرها ؛ فكان مجرد مشاهد لبعضها عبر السماع أو المعاينة، على حين أنه اكتوى بنيران بعضها الآخر. وكان حضور تلك المسارات نتاجا لاختزال الراوي رحلة الحج،بأشهرها الستة، في سطور قليلة سعيا إلى الولوج إلى حضرة الأحداث المولِّدة لتلك المسارات - علامة على كون هذه المسارات وجوها جديدة لذلك الراوي المشارك والشخصية الرئيسية في الرواية في الآن نفسه.

في المسار الأول كانت تجربة الحب والزواج عند ذلك الراوي سبيلا ليعود في علاقته بالعالم والأشياء إلى مرحلة ولَّت، وإلى أن يُبعثَ من جديد وأن يسجل منعطفا في سيرته وإدراكه – كما صرح هو نفسه في فقرتين من الفقرات- نتاجا لمعايشته تلك التجربة. وذلك ما أفضي إلى بروز ثلاث تقنيات أسلوبية أو بنائية مازت صياغات الراوي لتجليات ذلك المسار. فثمة تقنية التعليق التي عملت على تقديم نتائج تحولات الراوي وانعكاساتها على علاقاته بالعالم والأشياء ؛ فبدا الراوي صاحب خبرة جديدة وطازجة بالعالم وأشيائه وأمكنته، وثمة تقنية الدعاء والابتهال التي تعكس إحساس الراوي بفيض من "الخيرات" التي تستجلب السعادة والرضا الغامر، فتثير لديه خوفا غامضا من فراق قريب لذلك العالم، وثمة تقنية وصف المكان عبر الجمع بين الوصف الجغرافي الموجز الذي يقدم الملامح العامة من ناحية، والوصف الجواني الذي يكشف عن تفاعل ذات الراوي مع ذلك المكان واكتشافه حقيقته وحقيقة نفسه في آن واحد. وقد تجلت تلك التقنيات في مواضع مختلفة من ذلك الفصل (55) على نحو ما يمكن أن ينجلي بعضها في النموذج التالي الذي يوجه فيه الراوي صوته /حديثه/منولوجه إلى القارئ الضمني فيقول ( أمام ما يحدث لي، نفسي اعترتها حالة أسميتها تدقيقا سكر الافتنان. مفتون أنا بزوجتي الحلال وبما يحيط بها، مفتون بغليان الدم في شراييني وانتعاش خلاياي، مفتون بآيات الجمال أينما تجلت: في ابتسام الأطفال، وتغريد الطير وهبوب الأنسام على الروح الظمأى وكل الأجسام. فرحي عارم ما بعده فرح! فرحي لولا مالكيتي وعياذي بالله من ذكر أنا، لأرخيت عنانه وبسطت جناحه احتفاء بالناس والأشياء! فرحي لولا قصوري عن أبهى الشعر، لنظمته على صدر حبيبتي قلائد نور وأشواق ! عش رجبا تر عجبا. عجبٌ تحول الوجود عندي من عسره وثقالته المعهودة إلى دوائر الخفة واليسر! عجبٌ انسياب الوقت كالماء الزلال بين يدي! عجبٌ زوال داء المفاصل من بدني، كأنه ما ألمَّ بي قط. عجبٌ عود الرغبات إلى جسمي خفاقةً بعد استيلاء التصدع والزهد عليَّ!)(56).

وفي المسار الثاني كان على الراوي أن يسرد مجموعة من الأحداث التاريخية التي عايشها في الفترة الواقعة بين عودته من الحج، والتي أشار إليها إيجازا في بداية ذلك الفصل، ولقائه بتيمور في الفصل الثالث. وكان الراوي يزاوج بين سرد تلك الأحداث والإشارة إلى التقلبات التي حلت به من توليته وظيفة من وظائف التدريس أو عزله منها، كاشفا بذلك عن اكتوائه بلظى التقلبات السياسية رغم اعتزاله العمل السياسي وتفرغه للتدريس والكتابة. تراوح سرد الراوي حينئذ بين تدوين ما وصل إلى سمعه وجمع المرويات المختلفة وغربلتها للوصول إلى أدناها لحقيقة ما يحدث، وتفسير تغييرات مساراتها بوقوفه عند الدوافع التي تحرك شخصياتها الكبرى المؤثرة في مجرياتها اعتمادا على استنباطه مبررات كل منها عبر استنطاقها مرويات واستدعائه خبراته الشخصية. فأعلى الراوي حينئذ صوتَ المؤرخ(57) وإن كان حضور العلامات الزمنية في بدايات تلك الفقرات قليلا، إلى حد ما، مقارنة بحضورها في سرد الراوي العليم للوقائع التاريخية(58). كما قامت صياغة الراوي لبعض فقرات تلك الوقائع على استمداد عديد من العناصر التي قدمها ابن خلدون في "التعريف" في سرده لوقائع الصراع على الحكم بين السلطان برقوق من جهة ونائبيه على حلب وملطية يلبغا الناصري ومنطاش من جهة أخرى(59).

وأما المسار الثالث فقد قدم فيه الراوي المشارك صياغات لرؤى ووجهات نظر تكونت لديه عبر تأمله المتعمق لتاريخ مشبع بتحولات هائلة كان عليه أن يستبطنها ويستشف ما تُكنُّه من عِبر وخلاصات فكرية وتصورية. وقد قُدمت تلك الصياغات دائما ممتزجة بالسرد وبتأمل الراوي للوقائع التي عاينها، وتشكلت في صيغ تقنية التعليقات التي برزت دوما في اللحظات التي كان الراوي يدرك فيها أن عالمه يمنحه فرصة استنباط مغزى ما يحدث أو إعادة النظر في بعض تصوراته السابقة؛ فحين يدعى، بعد عودته من الحج، إلى لقاء السلطان داخل القصر، ويكثر الحضور وتتبارى "الهامات في الانحناء" يهمس الراوي بالقول:( ناجيت نفسي: سبحان من يسلطن المعتوق ويؤتي الملك لمن يشاء، ولو كان عبدا أو ذا زبيبة)(60) كاشفا بإيجاز عن المفارقة التي يمثلها وضع ذلك السلطان. وحين يطول انتظاره المثول بين يدي السلطان يهمس كاشفا عن دلالة ذلك الانتظار بأن (فنون السلطنة كثيرة، وفن الإهانة والإذلال ليس أقلها مضاءً وبروزا. لا بد لمن يحظى بشرف ملاقاة ربِّ السرير أن يتذوق الإحساس بصغر حجمه وهشاشة قوامه، لا بد أن يُسلَّط عليه ما يُشعره بالضآلة وقلة الشأن ؛ وكل هذا لا يكون إلا بتطويل الانتظار عليه حتى تتهاوى كتفاه، ويتقوس ظهره، فيحس إبداء الرضوخ والانحناء)(61) ففي تلك النصوص وغيرها(62) كان الراوي يقوم باستخلاص مجموعة من الآراء أو التصورات من واقع التجارب التي يمر بها كاشفا، بذلك، عن تفاعله مفكرا مع ما يحدث حوله.

(5/2)

كانت شخصية ابن خلدون الشخصية المحورية في التشكيل السردي في هذه الرواية، وقد أسس الكاتب تشكيله لها على أساس من الجمع بين عناصر مستمدة من سيرة ابن خلدون من التعريف ومما كُتب عنها في المصادر العربية القروسطية، وتقديم مجموعة من الأفكار والتصورات التي عرضها ابن خلدون في كتاباته، وابتكار جانبين جديدين يتصل أولهما بحكاية زواج ابن خلدون بأم البنين التي أعطت لشخصية ابن خلدون مجموعة من الأبعاد الأسرية المؤثرة في حركتها وفي موقفها من ذاتها ومن العالم. على حين يرتبط ثانيهما بالعلاقة بين ابن خلدون بوصفه مثقفا وأشكال السلطة السياسية التي تجسدها البلاطات الحاكمة التي احتك بها ابن خلدون في تونس والمغرب والأندلس ومصر، وكان تركيز الرواية على علاقة ابن خلدون بمؤسسة الحكم في مصر المملوكية نتاجا لتكثيف الرواية وقائعها على السنوات الأخيرة من حياة ابن خلدون، تلك السنوات التي ثبت من المصادر التاريخية أن ابن خلدون قضاها في مصر.

وكان لشخصية ابن خلدون حضور ذو مستويات متنوعة في بنية التشكيل الروائي، وفي المستوى الأول كانت الشخصية مجرد صوت ناطق بأفكار ابن خلدون الشخصية التاريخية، وقد تجلى ذلك في الفصل الأول الذي أتاح الكاتب فيه للشخصية عرض مجموعة من الأفكار حول ماهية التاريخ والعبرة منه ومهام المؤرخ والاستبداد، وأما في الفصلين الثاني والثالث فقد جعل الكاتب من معايشة ابن خلدون معتركات الحياة السياسية والبلاطية في عصره وسيلةً للكشف عن بعض وجوه التحولات والتغيرات التي اعترت أفكاره وتصوراته(63).

 وفي المستوى الثاني كانت ابن خلدون شخصية تحيا عصرها في مستوياته المختلفة، وتدرك جوانب العصر الطابعة له ببعض السمات المميزة له ؛ ففي سعيه إلى حل أزمة سعد أخي زوجته أم البنين كان أن لجأ إلى سلك سبيل الرشوة والبرطلة من أجل إخراجه من البيمارستان، مستجيبا – في ذلك – لما عُرف عن ذلك العصر من شيوع الرشوة والبرطلة. وفي المستوى الثالث برزت شخصية ابن خلدون زوجا وأبا تتيح له حياته الزوجية التعرف على جوانب من القاهرة، وتجعله العلاقة العاطفية يعاني لحظات من التوقد العاطفي ويستعيد كثيرا من حيويته ورغبته في التواصل مع العالم المحيط به. وفي المستوى الرابع، الذي يعد المستوى المحوري لحضور شخصية ابن خلدون في بنية التشكيل السردي في هذه الرواية، مثَّل حضور ابن خلدون في علاقته بالسلطة السياسية خاصة تصويرا للعلاقة بين المثقف والسلطة، وهي العلاقة التي أبرزت تجلياتها عديدا من جوانب التناقض بين طرفيها. فرغم أن ابن خلدون بدا – منذ بداية الرواية – عازفا عن ممارسة السياسة وراغبا في العكوف على الدرس والتحصيل والكتابة اكتفاء بامتهان العلم فإن تقلده وظيفة قاضي قضاة المالكية عدة مرات ووظيفة تدريس علوم الحديث وكونه المفكر الذي حمل من الوعي بالتاريخ وخبرات السياسة الكثيرَ - قد جعله طرفا في علاقة مباشرة مع السلطة حتى وإن كان زاهدا فيها.ومن ثم كان عليه أن يواجه التناقض بين حرصه على تحرى العدل المطلق في أحكامه كقاضي واضطراره إلى أن يواجه مرارة العزل من المنصب بدعوى أنه لا يراعي مقتضيات الواقع بما فيه من انتشار الرشوة وحرص القضاة على أن تكون أحكامهم في صالح أولى المصلحة من الحاكمين والأغنياء، كان، كما يصفه الراوي الضمني، يتسم بالشدة (والإفراط في الحكم والعقاب) كان (لا يتعامى ولا يطول باله)، كما كان عليه ( أن يلبس جبة من صنع أصحاب السيف والقلم الجدد، ويقبل رُشَى محمييهم من ملاك المواشي والحرث والعقار ؛ كان عليه، لكي يكون عند حسن ظن أهل السلطة والجاه والمال، أن يكيف أحكام الله مع شهواتهم ومنافعهم الصرفة. فيحلل ما حرم الله، غاضا الطرف عن بيوع الجزاف وعن الغرر والربا، متساهلا مع أهل التربص والحكرة وسماسرة الاختلال والظلام)(64). ومن ثم كان عليه أن يُعزل من وظائفه عدة مرات وأن يعاني مرارة السجن أكثر من مرة، ولكنه كان يؤدي – في الوقت نفسه – دور المثقف المصلح الذي تستشيره السلطة السياسية فيما تواجهه من أزمات لاسيما حين تتعلق بخطر أو تهديد خارجي، فكان يقدم لها النصح من قبيل التأكيد على تقوية "الجبهة الداخلية" (بالعدل الذي هو قوام الملك، لأن الرشى والبراطيل تفسد الأخلاق والقواعد، لأن الظلم مؤذن بخراب العمران، لأن الرعايا إن أنصفهم راعيهم وكرَّمهم استلحمهم وتطايبت قلوبهم على محبته وقتال أعدائه)(65).

 وحين يدرك ذلك المثقف أن لا جدوى من قيام السلطة بالإصلاح يعبر عن يأسه قائلا:( لم أر شبه الماضي بالحاضر كالماء بالماء مثلما رأيت في ولاياتي مهنة القضاء. المشاهد والثوابت والزلات تعيد نفسها، مع تطور أكيد في إتقان فنون النصب والتلبيس والاحتيال. كم كان بودي، والحال هاته، أن أكسر الطوق وأخرج من الحلقات والدوائر كلها إلى برية يعيش أهلها على الفطرة بين الحيوانات النافعة والأرض المعطاء! لو كنت في سن الفتوة والخفة، لم ترددت لحظة في ركوب السفن والجمال، والذهاب بعيدا في اختراق الآفاق وطي المناظر والرحاب. لكن من شاخ ووهن العظم منه، وساخ نصفه في القبر، ما له من حيلة إلا في مضغ حشيشة الترقب والصبر، أو التمرد والنقض، ممتطيا صهوات الرؤيا والوهم )(66).

(3)

تنبني الرؤية التاريخية التي تقدمها هذه الرواية على ثلاثة مقومات أساسية، كتابة سيرة غيرية لابن خلدون عبر استعادة – تقوم على الانتقاء - لسيرة ابن خلدون وما كُتب عنه، ووفق نوع من الجدل بين الحقيقي والمتخيل بما يفضي إلى تعميق فهم القارئ المعاصر لذلك الحقيقي من منظور يجعل من جدل الحقيقي والمتخيل سبيلا إلى استعادة جوهرية لرقعة من الماضي وفق أفق جديد. وثانيها تقديم رؤية نقدية لمسالك ابن خلدون الشخص التاريخي من منطلق الوعي بالسياقات التاريخية لتشكل سلوكه وأفكاره، بما يُمكِّن من الكشف عن تناقضات بعض أفكاره مع بعضها البعض أو اكتشاف مساحات التباعد بين رؤية ابن خلدون الشخص التاريخي ومسلكه الفكري والسياسي. وثالثها نقد بعض جوانب الواقع المعاصر للحظة الكتابة والتلقي بما يهدف إلى نقض عناصر السلب ومناحي السقوط والانهيار فيه وفق منظور يجمع بين استبقاء عدد من العناصر الصالحة من أفكار ابن خلدون الشخص التاريخي ورفدها بمجموعة من الأفكار المحدثة التي تجعلها أقدر على الوفاء بمتطلبات اللحظة الراهنة، وذلك من منظور المؤلف.

كانت تلك المقومات تتجلى في الرواية عبر مجموعة من الآليات الأساسية، وهي: إنطاق ابن خلدون الشخصية الروائية بأفكار ابن خلدون الشخص التاريخي، وتحريك دلالات بعض أفكار ابن خلدون الشخص التاريخي إلى لحظة الكتابة والتلقي بوصفها واحدة من لحظات الواقع العربي المعاصر، والتخييل الذي يتمثل في إعادة تشكيل مواقف ابن خلدون الشخصية المستدعاة من عديد من جوانب عصرها ولحظات تخلقها ومعايشتها واقعها، ونقد ابن خلدون الشخصية الروائية لعديد من أفكار ابن خلدون الشخص التاريخي ومراجعتها وتعديلها أو الإضافة إليها. وتتجلى مقومات الرؤية التاريخية، في جدلها مع آليات تشكيلها، في كثير من مواضع الرواية، مما يتجلى فيما تقوم به الرواية، أحيانا، من استعادة – اعتمادا على الجدل والإحالة الضمنية إلى مقدمة ابن خلدون – لرفض ابن خلدون الشخص التاريخي للحكايات الممتنعة والأخبار المستحيلة كحكاية الاسكندر وصندوق البحر أو حكاية مدينة النحاس من منظور عقلاني يرفض تأسيس التاريخ عليها دون أن ينكر أن للحكايات (الغريبة اللطيفة، ذات الإيحاءات القديمة – الجديدة) لها أدوارها (في دوائر التخييل والإيهام)(67).

وتستند الرؤية التاريخية في بعض تجلياتها إلى نقد بعض أفكار ومسالك ابن خلدون الشخص التاريخي، ويرد ذلك النقد إما على لسان الراوي الضمني أو على لسان ابن خلدون الشخصية التاريخية ؛ ومما يرد على لسان ابن خلدون الشخصية الروائية نقده تركه العاطفة تُتلف عقله وتُعمي بصيرته أمام الواقع مدللا على ذلك بإطنابه (في الدفاع عن خلفاء عباسيين ضد تهم تعاطي الخمر والتهتك والفسق) ؛ فالشخصية الروائية، في هذا الموقف وفي غيره من المواقف، كانت تنتقد مسلك ابن خلدون الشخص والمفكر التاريخي(68). وإذا كان مفهوم العصبية يؤدى دورا جذريا في تصور ابن خلدون لحركة التاريخ(69) فإن ابن خلدون الشخصية الروائية يرى أن من "مواضع سهوه وكبوه" (أني تعبدت بعصبية النسب، رافعا مفهومها إلى سدة المفاهيم الطاغية، فأرتني أشياء وحجبت عني أخرى. وما حجبته كان من صعيد ما يجوز للمؤرخ تحقيره أو إهماله، منه على سبيل المثال حقيقة التمردات غير الموفقة، وحقيقة الثوار ودعاة المعروف الذين نعتُّهم بأفدح الأوصاف القادحة المسفهة. فكنت في هذا الموضع المخصوص أقف مع المتغلب الأقوى، فأحصر التاريخ في الأخبار عما يكتبه منطق الغلبة والقوة،وأُبقي خارجه جماهير المغلوبين ومن لا تعضدهم عصبيةٌ)(70). ويتبدى ذلك النقد أيضا فيما يرد على لسان ابن خلدون الشخصية الروائية من نقد لموقف ابن خلدون الشخص التاريخي من التصوف(71).

إن التماهي بين ابن خلدون الشخص التاريخي وابن خلدون الشخصية الروائية كان يفضي بثانيهما إلى محاولة تعليل أخطاء أو مثالب أولهما المتصلة بسلوكه السياسي، بنسبتها إما إلى طبيعة العصر وإما إلى طبيعته الذاتية التي يقول عنها بلسانه (إنه الكامن في نزوعي الحاد إلى الانسلال كالشعرة من العجين، والمشي على رأس قدمي، وذلك كلما تلبدت حولي سحب الضغينة والحقد، وتربصت بي دوائر القبض والفتك. الفرارُ الصريح في الحالات الخطيرة كان دوما مطلبي، وحين لا يستقيم، فالتذرع بالسفر إلى العلم أو إلى الحج كان من حيلي، ولا جناح على الراغب في النجاة وإعتاق الروح من أيادي الطيش والبطش)(72). إن تجاوز ابن خلدون الشخصية الروائية لابن خلدون الشخص التاريخي كان يمكِّنه من الاتكاء على البعد النقدي في الأفكار والمسالك التي يتوقف عندها، وذلك ما تجلى في ثلاثة وجوه، وهي تمكين الشخصية الروائية من نقد بعض جوانب عصر الشخصية المستدعاة، وتمكين ابن خلدون الشخصية الروائية من نقد عدد من أفكار ابن خلدون الشخص التاريخي، وتوجيه مجموعة من الأفكار إلى لحظة الكتابة والتلقي من ناحية أخرى،. ويتجلى الوجه الأول في وقفات شخصية ابن خلدون الروائية أمام سلبيات "اصطناع العبيد الأرقاء جيشا متراصا" بما يمكِّنه من انتقاد سلوك المماليك (73)، أو حرصه على التفريق بين نمطين من الاستبداد، وهما:(صنف يوافق انفراد الأمير بالمُلك وتوفقه في المزج الذكي بين الغلبة القاهرة والغلبة المعنوية ؛ وصنف تذهب فيه الهيبة عن رب المُلك بفعل ضعف شخصي وتسلط الوزراء عليه، فيباشر العنف مجردا صريحا. الاستبدادُ الأول ناجح في تأثيره وسريانه، وهو الذي يوجد في طوره المخصوص ؛ والاستبداد الثاني فاشل وبائس يوجد دون ذلك الطور في كل ما يليه من أطوار حياة الدولة)(74).

ويتبدى الوجه الثاني في موقف ابن خلدون الشخصية الروائية من مفهوم العصبية ووظائفها عند ابن خلدون الشخص التاريخي ؛ فإذا كان مفهوم العصبية يحتل حيزا بالغ الأهمية في تفسير ابن خلدون الشخص التاريخي لتشكل القبيلة وتأسيس الحكم فيها ونشوء ظاهرة المُلك أو السلطة وتحولاتها من فرع إلى آخر داخل القبيلة، فإن ابن خلدون الشخصية الروائية ينقد مفهوم العصبية من منظور يؤكد أن العبرة من التاريخ لا يمكن أن تتحقق ما ظلت العصبية هي المحرك والدافع، ويحلل "العواقب المدمرة" التي نشأت عن "بلوى العصبية" كاشفا عن آثارها المدمرة في سلوك السلطة قارنا ذلك برصده لمجموعة من المثالب التي يسوقها على نحو تعليمي مباشر(75)، ليصل إلى ضرورة تبديل ذلك المفهوم من حيث دوره في حركة التاريخ ؛ إذ (لابد للتاريخ من بذرة أحسن وأرقى حتى يبدل جلده ومجراه، وإلا فلا اشتغال للعبرة فيه ولا تقدم يُرجى من تعاقبه وسيره. دار ابن لقمان تبقى على حالها، وقد تسوء إن ظلت العصبية بين الأقوام تصول وتجول، وتستبد بالكلمة الفصل والموجة العليا )(76).

ويتجلى ذلك التجاوز أيضا فيما يطرحه ابن خلدون الشخصية الروائية من نقد لفكرة أن النهضة يمكن أن تتحقق بمجرد العودة إلى الماضي وإحيائه ؛حيث يأخذ في مناقشتها مناقشة جدلية (77). ولعل ذلك النقد دال على عمق اتصال هذه الرؤية بلحظة الكتابة والتلقي ؛ ففي عقد التسعينيات، من القرن العشرين،كانت عديد من التوجهات السلفية الأصولية لها حضورها القوي في الفكر العربي المعاصر، كما كانت لها تأثيراتها السلبية في الممارسة الاجتماعية والسياسية في عديد من المجتمعات العربية، ولاسيما مجتمعات شمال إفريقيا.

قسم اللغة العربية – كلية الآداب – جامعة القاهرة

الهوامش

 (1) من المفيد، في إطار تصنيف هذه الرواية، ملاحظة ما يقوله عبد الرحيم العلام من أن نص (العلامة رواية عن المؤرخ عبد الرحمن بن خلدون، أو بالأحرى هو "سيرة" روائية عن مسار حياة ابن خلدون وفكره، من خلال إبراز مراحل معينة من حياته (مرحلتا القاهرة ودمشق خصوصا). وهي السيرة التي لم تقتصر فقط على رصد فترات الإشراق في حياة العلامة، بل إنها حاولت أيضا، أن تتصيد الفترات الزمنية والمراحل الحياتية المتوترة في حياة الرجل)، عبد الرحيم العلام: سيرة الكتابة، دار الثقافة، الدار البيضاء، 2002، ص – ص 73-74.

(2) يرى عبد الفتاح الحجمري أن "أفق الحكاية" في رواية "العلامة" لا ينبني ( على التأريخ بقدر ما يبتدع تخييلا تاريخيا يعيد اكتشاف أحداث الماضي وتقديمها بحسب تنظيم خاص بسرد الماضي يجعل التاريخ والحكاية متطابقان(؟) ضمن خطاب واحد. وبهذا يبرز سرد الماضي ميلا واضحا نحو الإيهام بالحدث الحقيقي والمزيف في صياغة الحكاية) عبد الفتاح الحجمري: ابن خلدون ساردا، ضمن كتاب الشكل والدلالة: قراءات في الرواية المغربية، منشورات نادي الكتاب لكلية الآداب بتطوان، 2001، ص 30.

(3) نعتمد في مفاهيم التشكيل والرؤية على تعديل بعض المفاهيم التي صغناها في كتابنا مدخل إلى دراسة النص الأدبي المعاصر، انظر الطبعة الثانية، مكتبة الآداب، القاهرة، 2006، ص 11.

(4) هناك العديد من الدراسات التي تناولت استلهام الشخصيات التراثية في الأنواع الأدبية العربية المعاصرة، ومنها:

-         علي عشري زايد استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر، دار الفكر العربي، القاهرة، 1997.

-         مراد عبد الرحمن مبروك: العناصر التراثية في الرواية العربية في مصر ؛ دراسة نقدية (1914 -1986)، دار المعارف، القاهرة، 1991، ولاسيما الباب الأول ص – ص 33- 128، الذي يتناول فيه الشخصية التراثية.

-         أحمد شمس الدين الحجاجي: الأسطورة في المسرح المصري المعاصر، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة،2001.

(5) انظر: محمد القيسي: مخطوط في العشق، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2000، قصيدته "مقام فاس"، ص – ص 19 -25.

(6) حول تجليات حقيقة التاريخ في مسرحية باب الفتوح، انظر تحليلنا لها في كتابنا مدخل إلى دراسة النص الأدبي المعاصر، ص – ص 73- 90.

(7) محمود عبد الغني: فن الذات: دراسة في سيرة ابن خلدون، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2008، ص 158، وانظر ص – ص 158 – 162 حيث يحلل تجليات ذلك الانتماء في التعريف.

(8) حول أعراف كتابة السيرة الذاتية في الأدب العربي الوسيط يمكن مراجعة ما كتبه عبد الله إبراهيم في كتابه السردية العربية: بحث في البنية السردية للموروث الحكائي العربي، الطبعة الثانية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2000، ص – ص 150 -154. وانظر ما كتبه عبد الفتاح كيليطو حول سيرة ابن خلدون في كتابه الحكاية والتأويل: دراسات في السرد العربي، الطبعة الأولى، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 1988، ص – ص 69-80.

(9) للوقوف على نصوص أصحاب كتب التراجم العرب القروسطيين لترجمة ابن خلدون انظر: عبد الرحمن بدوي: مؤلفات ابن خلدون، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2006، ص – ص 253-310.وقد أورد كاتب العلامة في صدور فصول الرواية نصوصا من هذه المصادر، انظر: بنسالم حميش:العلامة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2003،ص 28، 105، 128.

(10) انظر الرواية، ص – ص 247-254، حيث تم تصوير لقاء ابن خلدون بتيمور، وقارن ذلك بما أورده ابن خلدون في التعريف بابن خلدون ورحلته غربا وشرقا، وتحقيق وتعليق محمد بن تاويت الطنجي، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة،2003، ص – ص 366 – 376.

(11) انظر: بنسالم حميش: العلامة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2003،ص – ص 28-30،98-104حيث ترد الحواشي التي أشرنا إليها في متن الدراسة.

(12)الرواية، ص 29.

(13)الرواية، ص 28.

(14)انظر الرواية، ص 36، ويستغرق نص الحاشية معظم مساحة الصفحة.

(15)الرواية، ص 99.

(16) حول دور النبوءة في بنية الحدث في السيرة الشعبية، انظر: أحمد شمس الدين الحجاجي: مولد البطل في السيرة الشعبية، دار الهلال، القاهرة، 1991، 48.

(17) عبد الله إبراهيم: السردية العربية، ص - ص 164-165.

(18) الرواية، ص 50.

(19) الرواية، ص 41.

(20) انظر الرواية، ص – ص 41- 45.

(21) كان القائم بكتابة ما يُملى عليه يوصف في التراث الثقافي العربي القروسطي بأنه الناسخ، ونجد لدى تاج الدين السبكي (727-771هـ/1327-1370مـ)، في كتابه "معيد النعم ومبيد النقم"، تحديدا للسلوك المثالي للناسخ من قبيل نهيه عن كتابة شيء (من الكتب المضلة وكتب البدع والأهواء وكتب أهل المجون)، ونهيه عن أن يحذف شيئا من الكتاب رغبة في سرعة إنجازه، وتوصيته بضرورة الحرص على أن يجعل الكلام مرتبطا بعضه ببعض.وإذا كان السبكي قد حرص في كتابه على توجيه النصح إلى أرباب الصناعات والحرف المختلفة، وأصحاب المناصب الكبرى كالسلطان والأمير والقاضي وغيرهم، فمن الملاحظ أن منطلقه في التعامل مع هؤلاء جميعا هو تقديم مجموعة من النصائح والتوجيهات الأخلاقية والسلوكية العامة بطريقة مباشرة تحقق المنظور الأخلاقي "الصارم" الذي ينطلق منه السبكي في كتابه، هذا المنظور الذي يرى أن كل نعمة منحها الله للإنسان يجب أن يستخدمها الإنسان في العمل الخاص بها أو في الغاية المرجوة منها (فلكل نعمة شكر يخصها، والضابط أن تُستعمل نعم الله تعالى في طاعته ويُتوقى من الاستعانة بها على معصيته).انظر: السبكي: معيد النعم ومبيد النقم، تحقيق محمد علي النجار وأبوزيد شلبي ومحمد بو العيون، الطبعة الثانية، مكتبة الخانجي القاهرة، 1993، ص – ص 131 – 132، ص 12. ورغم أن القلقشندي قد تناول مراتب الكتَّاب في دواوين الإنشاء وصنفها في سبع فإن بعض المتطلبات الخاصة بكتَّاب المرتبتين الثالثة والرابعة يمكن أن تكون لها أهميتها في تفهم واجبات الكاتب/الناسخ وصفاته، ومنها: الأمانة على الأسرار، وسرعة اليد في الكتابة، وحسن الخط، والأمن من الخطأ واللحن في اللفظ والخط، وحفظ الأسرار. انظر القلقشندي: صبح الأعشى في صناعة الإنشا،الجزء الأول، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2004، ص – ص 133-134.

(22)انظر على سبيل المثال ص- ص 49-55، 58-59من الرواية.

(23)انظر على سبيل المثال، الرواية، ص – ص 37-48 وهي ليلة متم ربيع الأول.

(24) انظر، على سبيل التمثيل، الصفحات التالية من الرواية:48، 58، 73، 77،79.

(25) انظر: أبو حيان التوحيدي: الإمتاع والمؤانسة، تحقيق أحمد أمين وأحمد الزين، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2002.

(26) الرواية، ص 63.

(27) انظر ص 67 حيث يقول ابن خلدون في سياق حديثه عن المآل والمصير (سجِّل ياحمو واقع الحال، قيِّد ملامحه المنذرة، سجِّله مذكِّرا أن معرفته فرض عين على كل مصلح ومدبر.التفاصيل في كتبي واجهتُ زحمتها وسقتُ أفيدها ؛أما الآن فلا وقوف إلا عند مصبَّاتها وأركان دلالاتها.ومن هذه المصبات، كم هو مرهق ومتصدع واقع الحال يا حمو!كم من علامات تشهد له بضعف الهمة وتردي المنحني!).

(28) في نهاية بعض فقرات إملائه كان ابن خلدون يستخدم بعض العبارات من قبيل (وللكلام صلة)،

و (للحديث بقية) انظر الرواية، ص 65،77.

(29)الرواية، ص 62.

(30) الرواية، ص 62.

(31) انظر الرواية، ص 68 حيث ترد الجمل الاعتراضية في موضعين فيها.

 (32) الرواية، ص 87.

 (33)الرواية، ص 91.

(34) انظر ما يدور بين ابن خلدون وحمو على النحو التالي وذلك في إطار حديث ابن خلون عن الكوارث التي شاهدها بالمغرب "وقي الله سيدي كلَّ مكروه، لكن يبقى في ذمتك أمران: أمر الثبت الثاقب، وأمر النظر في الخروج من عنق الزجاجة. فيرد ابن خلدون قائلا:"ذكِّرني بالأول، واترك الثاني إلى حين عودتي من الحج"الرواية، ص 76.)

(35)الرواية، ص 68.

(36) انظر، الرواية، ص 80 حيث يقول ابن خلدون لحمو (ما بحتُ لك به منذ برهة ليس أقل وقعا على النفس مما حدث لي مع بعض طلبة فاس ذات يوم. فاسمعه حتى تستعيض به عن التقييد). وفي ص 83 يجد القارئ الموقف التالي (انتبه عبد الرحمن إلى الحيحي، فألفاه يُجري خلسةً قلمَه على ورقه، فنهره مبتسما: نهيتك يا حمو عن الكتابة فلم ترعو. أتريد التقاط كلامه حتي طي استطراداته ونوافله! "......" انفض يدك من ذلك كله، وقرِّب إليَّ طاجنك حتى أتذوقه).

(37) يقول الراوي الضمني (في مطلع هذه الليلة دار بين الرجلين كلام، بعضه كان عبد الرحمن يطلب من كاتبه تسجيله،وبعضه كان ينصحه بتركه في مهب ريح اللحظة الفانية".)الرواية، ص37.

(38)التهانوي، محمد علي الفاروقي: كشاف اصطلاحات الفنون، الجزء الثاني تحقيق لطفي عبد البديع، دار الكاتب العربي، القاهرة، 1969، ص – ص 322-323.

(39) انتشرت ظاهرة تأليف ذيول للكتب، ولاسيما الكتب الموسوعية، في التراث العربي القروسطي مع القرن السابع الهجري، وقبله كانت ظاهرة محدودة، ويبدو لنا أنها انتشرت في عديد من مجالات الثقافة العربية وخاصة علوم التاريخ وعلوم الحديث المعنية بطبقات المحدثين ورجال الحديث. وقد أنتجت تلك الظاهرة عددا كبيرا من المؤلفات منها:

- ذيل الروضتين لأبي شامة (ت665هـ).

- الذيل على طبقات الحنابلة لأبي الفرج عبد الرحمن بن شهاب البغدادي (ت795هـ).

- ذيل مرآة الزمان لأبي الفتح موسى بن محمد اليونيني (ت726هـ).

- ذيل ميزان الاعتدال للحافظ العراقي(ت806هـ).

- ذيل تذكرة الحفاظ لأبي عبد الرحمن محمد الحسيني (ت910هـ).

- ذيل اللآلئ المصنوعة للسيوطي(ت911هـ).

 وبمراجعة بعض هذه الكتب نلحظ أن صناعة الذيل كانت تتراوح بين معنيي الإضافة والاختصار. فالإضافة تعني الزيادة إلى المصنف الأول بإكمال المادة الناقصة منه وبالتوسع في تقديم التراجم والتعليقات المتعلقة بالشخصيات المترجم لها واستيفاء الحديث في حق المترجَم لهم حتى (تكون مراتبهم في العلم ماثلةً أمام عين المطالِع)، والتفنن في ذكر أسانيد الأحاديث المروية، وضبط الأسماء والأنساب التي تثير الريبة. ومن هذا النمط كتابا ذيل تذكرة الحفاظ للذهبي، لأبي المحاسن الحسيني (ت765هـ)، لحظ الألحاظ بذيل طبقات الحفاظ، لتقي الدين محمد بن فهد المالكي(ت871هـ). وأما معنى الاختصار فيتجلى في تلخيص المصنف الأصلي والذيل عليه بذيول هي بمثابة مختصرات من كتب أخرى. والمثال الدال على هذا المنحى ذيل طبقات الحفاظ للسيوطي ؛ ففيه اختصر طبقات الذهبي وذيَّل عليها بمختصرات استمدها من "الدرر الكامنة" و"إنباء الغمر". انظر:

 - أبو المحاسن الحسيني الدمشقي: ذيل تذكرة الحفاظ للذهبي، مكتبة القدسي، دمشق، 1928.

- تقي الدين محمد بن فهد المالكي: لحظ الألحاظ بذيل طبقات الحفاظ، مكتبة القدسي، دمشق، 1928.

- جلال الدين عبد الرحمن السيوطي: ذيل طبقات الحفاظ للذهبي، مكتبة القدسي، دمشق، 1928.

 وأشير إلى إفادتي في هذا الهامش من المعلومات القيمة التي قدمها لي الدكتور أحمد عطا إبراهيم حول ظاهرة التذييل في التراث العربي القروسطي.

(40) الرواية، ص 280، وانظر أيضا ص – ص 281-283حيث تتكرر فيها الظواهر المشار إليها في متن الدراسة.

(41) الرواية، ص 59.

(42)الرواية، ص 10.

(43) يقول الراوي: (كأنما العدل عندهم صنفان: صنف حقيقي أو خالص لا يخدمهم في شيء ؛ وصنف مجازي مصطلحي هو المتعارف عليه والجاري به العمل في البلاد، وهو المعوَّل عليه في قضاء حاجاتهم ومآربهم) الرواية، ص 11.

(44) انظر الرواية، ص 17.

(45) انظر، على سبيل التمثيل، ص 56.

(46) انظر،الرواية ص 187.

(47) انظر، على سبيل التمثيل، ما يرد على لسان الراوي في ص – ص 189 – 190.

(48) يقول الراوي في نص طويل:(ساعات طوالا قضاها عبد الرحمن مفكرا في انجذابه نحو تيمور، رغم المصاعب والمخاطر. في سريرته صار يقر بأن سفره إلى دمشق في ركاب الناصر فرج إن حصل لن يكون دافعه تحيزا ما للمماليك، بل الفضول وحب المعاينة لا أكثر. مشروعية المُلك بعد الخلفاء الراشدين في تصوره وهمٌ وادعاء. فهي على رؤوس السيوف تُصنع، فلا تخدع إلا المغرَّرين بمحترفي الخطب والأنساب. قال هذا منذ زمن بعيد، ومازال يمعن في قوله وهو يرى الخلافة العباسية اليومَ يكبلها المماليك في أقفاص الزينة والعجز. وكانت تأتي عليه أحيان يرى فيها أن طالب المُلك لا يهم أن يكون أبيض الجلدة أو أصفرها، ولا مدوَّر العينين أو خزراءها، مادام الجميع يدَّعون الإسلام والدفاع عن بيضته وحماه.ذاهبٌ إذن إلى مشارف الوعي من دون سلاح ولا قضية ؛ ذاهبٌ لقياس حرارة التاريخ في إحدى منعطفاته العسيرة؛ ذاهبٌ وهمُّه الأكبر تشخيص الواقعة ووصف مجراها إلى خارطة الهزات وتبدُّل رؤوس الملك وعروشه)، الرواية، ص 213.

(49) نشير إلى أن العبارات المقتبسة في هذه الفقرة، من المتن،مأخوذة من الصفحات 210 – 216.

(50) انظر، على سبيل التمثيل، ص – ص 193- 202، 210-212،217 – 223.

(51) الأمثلة المثبتة في هذه الفقرة، من المتن،مأخوذة من الصفحات 224 – 246.

(52) الرواية، ص 268.

(53) انظر سرد الجوانب المشار إليها في المتن في الصفحات التالية من الرواية، 75- 84في عديد من فقراتهما، 84- 86، 90-91.

(54) انظر التعريف، ص 371، وقارن بالعلامة، ص – ص 99-100.

(55) انظر النصوص الواردة على لسان ابن خلدون في الصفحات التالية: 127 وفيها نصان، 134، 132-133.

(56) الرواية، ص – ص 132 – 133.

(57)انظر الرواية، ص – ص 161-163، 163-172 حيث يتم تصوير تلك الوقائع.

(58)من ملاحظة تلك الصفحات نتبين قلة الفقرات التي بدأها الراوي بتعبيرات زمنية، وهي لا تكاد تتعدى التعبيرات التالية:(بدءا من أواخر جمادى الثانية أخذت مصادر الأخبار من جهة السلطان تنضب يوما عن يوم) و(خلال النصف الثاني من واحد وتسعين لهذه المائة الثامنة لم يعد بالإمكان أن أتعامى عن أنباء الفصل الثاني من المأساة الدائرة رحاها حول القلعة والقصر الأبلق) و(من يوم التوقيع على فتوى الزور في خمس وعشرين من ذي القعدة إلى موفى الشهر، بقيت ملازما بيتي وصلاتي) و(ريثما تنجلي الأمور ويحين يوم الحسم، كنت أقضي ساعات أيامي بين بيتي والمسجد وبين الخانقاه والمدرسة) و(في منتصف سنة اثنتين وتسعين كان دخول برقوق عاصمة ملكه منتصرا مظفرا )،انظر الرواية صفحات 163،164،172.

(59) انظر التعريف ص – ص 326 – 335، وقارن بالرواية ص – ص 163-172.

(60) الرواية، ص 114.

(61) الرواية، ص 117.

(62) من الأمثلة الدالة ما يناجي به ابن خلدون نفسه وهو يتأمل بناء قصر السلطان المملوكي من داخله (همستُ في نفسي وأنا أنقر سارية: جبل أقرع ويزيدونه قرعا! هؤلاء العبيد، قبل تسلطنهم وبعده، يبنون بحنينهم إلى موطنهم الأصلي تركستان، وعمارتهم يريدون لها الصمود أمام جائحات الزمان)،الرواية، ص 110. وفي موضع آخر يقول، وقد عاين طبائع الأبنية الداخلية في القصر نفسه (كل الأفضية والمحلات في هذه القلعة رحيبة، لا تعرف للضيق المكاني معنى. فمثل هذه الغرفة قد تسع سكنى أسرتين من الفسطاط أو أكثر، وهي تفوق منزلي ببضعة أمتار وبذخ الفرش والأثاث. تخيلت، وأنا أقتعد أريكة، أمَّ البنين تلج هذه الغرفة، وتملأ فضاءها بآهات الانبهار والإعجاب؛ وتخيلتها تلامس فراش النوم، فتبكي مفصحة أن نعومة أغطيته ومخداته الحريرية ما تمثَّلتها حتى في أقصى أحلام المنام أو اليقظة، وما تمثلت أبدا مثل هذا التأنق في الأثاث والزخرفة. وتخيلتُ نفسي أواسيها قائلا: هي الحضارة المتمددة على ظهرها كعاهرة مستهترة! هو الترف المؤذِن بفساد العمران والأفئدة!)،الرواية، ص – ص 110-111.

(63) انظر ما يقوله الراوي الضمني، ص 191 (كل شيء في الأرض لهذا العهد صار يدعو العلامة إلى نفض غبار العياء من التاريخ، وشحذ الذهن من أجل فهم الحاضر واستشراف الآتي).

(64)الرواية، ص 208.

(65)الرواية، ص 198، وانظر أيضا ص – ص 198 – 201 حيث يقدم ابن خلدون نصائحه للسلطان برقوق لمواجهة خطر تيمور.

(66)الرواية، ص 273، وانظر أيضا ما يقوله ابن خلدون في صيغة منولوج يعبر عن يأسه في الصفحات الأخيرة من الرواية (أبدا لن تنطبع علاقتي بالسلطان بالدفء والحفاوة. الحاجز النفسي بيننا لا أمل في إبطاله، وأنا لم يعد يهمني الدوران في فلك القصر وبين أعتابه.كبري واشتغال ذهني بحالتي الجديدة وعوائق أخرى صارت تُزهدني في ذلك)،الرواية، ص 271.

(67)حول تفاصيل هذا الموقف أو الجانب انظر الرواية، ص – ص 31 -33، وقارن بما قدمه ابن خلدون في المقدمة، الجزء الأول، ص – ص 330- 331، تحقيق وتقديم علي عبد الواحد وافي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2006. وانظر أيضا الرواية، ص – ص 39 – 40 حيث يورد حكاية رواها ابن بطوطة عن كرم ملك الهند محمد شاه ابن تغلق، حيث يصفها ابن خلدون بأنها "حكاية عجيبة"، ثم يعلق عليها بالقول:(حققتُ فيها وفاوضتُ، فرأيتها إلى الاحتمال أقرب وعن الإنكار أبعد) وقارن بروايتها في المقدمة وتعليق ابن خلدون عليها، المقدمة، الجزء الثاني، ص – ص 552 – 553.

(68) انظر الرواية، ص – ص 41-42، وقارنها بما ورد في المقدمة، ص – ص 304 – 308.

(69) عن تصور ابن خلدون للعصبية وأدوارها في تشكيل القبيلة بوصفها وحدة اجتماعية ونشوء السلطة وتحولاتها فيها، انظر: ابن خلدون المقدمة، الجزء الثاني، ص – ص 480 – 490، 495 – 496، 503 – 504. وانظر عرض طه حسين لآراء ابن خلدون في هذا الجانب ونقداته لها في كتابه فلسفة ابن خلدون الاجتماعية: تحليل ونقد، ترجمة محمد عبد الله عنان، الطبعة الثانية، دار الكتب المصرية، 2006، ص – ص 85 – 96.

(71) الرواية، ص 42.

(71) انظر الرواية، ص – ص 42 – 43.

(72) الرواية، ص 55، وانظر الرواية ص – ص 43-46، حيث يعرض ابن خلدون تجربته في العمل بجهاز الدولة في الأندلس والمغرب. وهذه الوقائع مستمدة من "التعريف" ص – ص 80 – 93. وفي الرواية يعلل ابن خلدون الشخصية الروائية أخطاء ابن خلدون الشخص التاريخي بالقول:إني" في المعرفة ذو أخطاء وفي السياسة كمن يكثر الحز ويخطئ المفصل، ولا كمال لمن انتمى إلى زمن أفسد من السوس"، الرواية، ص 47.

(73) انظر الرواية، ص – ص 62 – 63.

(74) الرواية، ص – ص 59 – 60.

(75) انظر الرواية ص – ص 71 – 72 حيث يحلل ابن خلدون الآثار المدمرة للعصبية في سلوك السلطة، وانظر ص 73 حيث يورد على نحو مباشر وموجز مجموعة من السلبيات على النحو التالي "وازع القرابة والدم في الظفر بالملك عيب؛ اصطناع المرتزقة والموالي في إدارة دفة الحكم عيب؛ الاستبداد موفقا كان أو بائسا عيب؛ التعويل في الحكم على الهرمين والفاسدين ممن طبختهم سياسة العسف عيب؛ تفضيل المتزلفين على الأكفاء المضطلعين في الدواوين عيب، البذخ في محيط من العراء والفقر عيب؛ تنزل الحضر منزلة النسوان على ظهورها عيب، إلى غير ذلك مما لا مناص من قطع دابره وهجره من دون رجعة".

(76)الرواية، ص 71.

(77) انظر الرواية، ص – ص 64-65.

المصادر

- بنسالم حميش:العلامة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2003.

مراجع الثقافة العربية القروسطية

- التهانوي، محمد علي الفاروقي: كشاف اصطلاحات الفنون، الجزء الثاني تحقيق لطفي عبد البديع، دار الكاتب العربي، القاهرة، 1969.

-أبو حيان التوحيدي: الإمتاع والمؤانسة، تحقيق أحمد أمين وأحمد الزين، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2002.

- ابن خلدون: التعريف بابن خلدون ورحلته غربا وشرقا، وتحقيق وتعليق محمد بن تاويت الطنجي، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2003.

- الدمشقي، أبو المحاسن الحسيني الدمشقي: ذيل تذكرة الحفاظ للذهبي، مكتبة القدسي، دمشق، 1928.

- السبكي "تاج الدين عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي": معيد النعم ومبيد النقم، تحقيق محمد علي النجار وأبو زيد شلبي ومحمد بو العيون، الطبعة الثانية، مكتبة الخانجي القاهرة، 1993.

- السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن: ذيل طبقات الحفاظ للذهبي، مكتبة القدسي، دمشق، 1928.

- القلقشندي "أبو العباس أحمد": صبح الأعشى في صناعة الإنشا،الجزء الأول، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2004.

- المالكي، تقي الدين محمد بن فهد المالكي: لحظ الألحاظ بذيل طبقات الحفاظ، مكتبة القدسي، دمشق، 1928.

المراجع الحديثة

- أحمد شمس الدين الحجاجي: مولد البطل في السيرة الشعبية، دار الهلال، القاهرة، 1991.

- أحمد شمس الدين الحجاجي: الأسطورة في المسرح المصري المعاصر، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة،2001.

- سامي سليمان أحمد: مدخل إلى دراسة النص الأدبي المعاصر، الطبعة الثانية، مكتبة الآداب، القاهرة، 2006.

- طه حسين: فلسفة ابن خلدون الاجتماعية: تحليل ونقد، ترجمة محمد عبد الله عنان، الطبعة الثانية، دار الكتب المصرية، 2006.

- عبد الرحمن بدوي: مؤلفات ابن خلدون، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2006.

-         عبد الرحيم العلام: سيرة الكتابة، دار الثقافة، الدار البيضاء، 2002.

-         عبد الفتاح الحجمري: ابن خلدون ساردا، ضمن كتاب الشكل والدلالة: قراءات في الرواية المغربية، منشورات نادي الكتاب لكلية الآداب بتطوان، 2001.

-         عبد الفتاح كيليطو: الحكاية والتأويل: دراسات في السرد العربي، الطبعة الأولى، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 1988.

-         عبد الله إبراهيم:السردية العربية: بحث في البنية السردية للموروث الحكائي العربي، الطبعة الثانية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2000.

-         علي عشري زايد استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر، دار الفكر العربي، القاهرة، 1997.

-         محمد القيسي: مخطوط في العشق، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2000.

-         محمود عبد الغني: فن الذات: دراسة في سيرة ابن خلدون، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2008.

-         مراد عبد الرحمن مبروك: العناصر التراثية في الرواية العربية في مصر ؛ دراسة نقدية (1914 -1986)، دار المعارف، القاهرة، 1991.

(1)

رواية "العلامة"، التي نشرها الكاتب المغربي بنسالم حميش في عام 1997، واحدة من الروايات التاريخية المعاصرة، وهي تنتمي إلى نمط السيرة الغيرية التي ترتكز على تقديم مجموعة من التحولات الأساسية التي مرت بها الشخصية التاريخية المصوَّرة وعرض عدد من الأفكار التي قدمتها هذه الشخصية (1)، وإذا كانت تلك التحولات والأفكار مستمدة من المصادر التاريخية التي تناولت الشخصية المستعادة، فإن الصياغة الفنية لها تقوم على نمط من الجدل بين العناصر المستمدة من تلك المصادر والتخييل(2) الذي يبتغي إكمال عناصر بنية الشخصية وتشكيل الأحداث وفق منظور الكاتب؛ بما يجعله يجدل العناصر التخييلية في وحدة مع العناصر الحقيقية بهدف تقديم رواية تجمع بين استعادة بعض جوانب الماضي وإكمالها ونقدها من ناحية، ومخاطبة الحاضر المرتبط بلحظة الكتابة والتلقي مخاطبة فكرية وجمالية، على نحو رمزي، من ناحية أخرى. وقد أفضي تركيز هذه السيرة الروائية الغيرية على مجموعة من لحظات التحول في مسار حياة الشخصية الرئيسية إلى الوقوف عند لحظات بأعيانها من مسار حياتها؛ وذلك ما تجلى في انقسام الرواية إلى ثلاثة فصول، تسبقها الفاتحة ويعقبها التذييل. وإذا كانت الفاتحة تهدف إلى تقديم تصوير لابن خلدون وهو يشرع في بداية القيام بإملاء فصول من مقدمته وبدء اتصاله بأسرة حمو الحيحي، فإن التذييل يستهدف إكمال حكاية ابن خلدون المؤرخ والإنسان بما يؤدي إلى إغلاق المسارات المتعددة التي انفتحت في الفصلين الثاني والثالث خاصة. ولعل انتهاء التذييل بذلك يشير إلى تأثير العنصر السيري في بناء هذه الرواية. ومابين الفاتحة والتذييل تتوالى فصول ثلاثة تقدم جوانب أساسية في شخصية ابن خلدون التاريخية والمتخيلة عبر مراوحة بين عرض مجموعة من أفكار ابن خلدون في فلسفة التاريخ عرضا يزاوج بين تقديم الأفكار والكشف عن مفارقات علاقاتها بوقائع حياة ابن خلدون أو تعريضها لرؤية مناقضة يتبناها الراوي الضمني، وتصوير علاقات ابن خلدون المؤرخ والمثقف بالسلطات الحاكمة في البلاطات التي تنقل بينها في الأندلس والمغرب وتونس ومصر، مع تركيز كبير على تصوير موقفه من سلطة المماليك باعتبار أن الرواية تقدمه في السنوات الأخيرة من حياته، وهي السنوات التي ثبت، من المصادر التاريخية العربية القروسطية، أنه قضاها بالقاهرة التي توفي بها. وكان يوازي ذلك تصوير علاقة ابن خلدون بأم البنين زوجته وبطفلته البتول التي أنجبتها له.

 وتشكل العناصر التي قدمتها هذه الفصول مجموعة من الجزئيات المتلاحمة من حيث تفاعلها في تكوين صورة ابن خلدون العالم والسياسي والإنسان، من ناحية، كما كانت، من ناحية أخرى، وسيلة لتجسيد أبعاد الرؤية التاريخية ذات العناصر والمستويات المتعددة التي تقدمها هذه الرواية. لقد تم بناء تلك العناصر في إطار ما نصفُه بأنه التشكيل السردي الذي نقصد به استخدام مجموعة من التقنيات السردية الجمالية في صياغة جدلية تتأسس على أنماط من العلاقات التي تُنتج الشكل بوصفه حصيلة للتفاعل بين هذه التقنيات وطرائق التعامل مع المصادر التي اعتمدها الكاتب أساسا لعمله من ناحية، وطرائق التلقي من ناحية ثانية، ثم بينهما وبين الرؤية التاريخية التي تجسد موقف المؤلف من مجموعة من القضايا التي يطرحها في نصه، من ناحية ثالثة(3).

ولعل من اللافت أن هذه الرواية واحدة من الأعمال الإبداعية العربية المعاصرة القليلة التي أفادت في بنائها من استلهام شخصية ابن خلدون في تشكيلها الجمالي ؛ إذ نلاحظ أنه رغم تعدد الشخصيات التراثية التي تم توظيفها في الكتابات الأدبية العربية المعاصرة، على تنوعها من شعر وقص ومسرح (4)، لم يتم توظيف شخصية ابن خلدون، فيما نعلم، سوى في هذه الرواية وفي مسرحية "منمنمات تاريخية" التي نشرها سعد الله ونوس (1941- 1997) في عام 1994، وذلك باستثناء الإشارات التي تحملها بعض الأعمال المعاصرة إلى ابن خلدون على نحو ما نجد في بعض قصائد محمد القيسي (1944- 2003)(5). وذلك ما يشير إلى أن التعامل مع شخصية ابن خلدون في هذين النصين تم في عقد التسعينيات من القرن العشرين استجابة لبعض التحولات التي عانتها الثقافة العربية والمجتمع العربي في الفترة التي تلت هزيمة يونيو 1967 وانتهت بحرب الخليج الأولى في عام 1990، تلك التحولات التي وضعت على طاولة البحث والمراجعة التساؤلاتِ المقلقة حول ماهية التاريخ وحقيقة المتغيرات التاريخية الكبرى وهوية التراث العربي بوصفه نتاجا تاريخيا ؛ وإذا كانت الاستجابات الفنية لتلك التساؤلات قد تجسدت، على نحو مبكر، في أعمال أدبية من قبيل "باب الفتوح" (1974)لمحمود دياب (1932-1983) التي كان الكشف عن حقيقة التاريخ سؤالا ملحا شُغلت بتقديمه ومحاولة بلورة إجابة "مقنعة" له(6)، وفي أعمال أخرى اتخذت من التاريخ قناعا لمواجهة قضايا الحاضر الملحة من فقدان الحرية وسيادة القهر في ظل دولة "البصاصين" على نحو ما تجلى في رواية "الزيني بركات" (1974)لجمال الغيطاني – فإن هوية تلك التحولات جعلت من التعامل مع شخصية ابن خلدون مدخلا ملائما للتساؤل عن حقيقة التاريخ بوصفه ظاهرة شمولية تنطوي على عدد من الأفكار والقيم التي تشكل أفق وجود الجماعة العربية وتحدد لها هوية ماضيها ومآل حركتها الحاضرة وتؤشر لها ببعض المؤشرات الدالة على بعض ملامح مستقبلها. وهذا ما يشير إلى أن اللحظة التي أخذت فيها شخصية ابن خلدون تصبح موضوعا للاستلهام كانت، و لاتزال، لحظة مثقلة بهمِّ التساؤل عن معضلة التاريخ بوصفها معضلة كاشفة عن إشكالية موقف الجماعة العربية من ماضيها وحاضرها بما يكتنفهما من إيجابيات وسلبيات،وتطلعها إلى آفاق مستقبل واعد ببناء حضاري وإنساني جديد.

(2/1)

 تتشكل المادة التي استخدمها الكاتب في بناء التشكيل السردي لهذه الرواية من ثلاثة أنماط من العناصر ؛ أولها العناصر التي استمدها المؤلف من المصادر العربية القروسطية التي عُنيت بابن خلدون، وفي مقدمتها سيرة ابن خلدون التي قدمها تحت عنوان "التعريف بابن خلدون ورحلته شرقا وغربا"، و يمكن وصفها بأنها (سيرة ذاتية سياسية)(7) ؛ إذ عُني فيها ابن خلدون بتقديم مواقف متعددة من حياته السياسية وتقلبه بين البلاطات المختلفة في مشرق العالم العربي ومغربه وفي الأندلس والوظائف التي تقلدها والمهام السياسية المتعددة التي أداها في البلاطات التي عمل بها، ومن ثم شحب حديثه عن الجوانب الشخصية والوجدانية التي تكشف عن خصوصية شخصيته بوصفه إنسانا ذا وجود يحمل بصماته الشخصية التي لا يُشركه فيها سواه. وكان ابن خلدون، في تغييبه لتلك الجوانب، يجاري الأعراف الثقافية العربية القروسطية المتصلة بكتابة السيرة الذاتية(8).وقد استبقى الكاتب مجموعة كبيرة من العناصر التي قدمها ابن خلدون في "التعريف" وأفاد من مجموعة من كتب التراجم القروسطية التي عُني أصحابها بتقديم ترجمة لابن خلدون(9). وأما أفكار ابن خلدون فقد استمدها المؤلف من مؤلفات ابن خلدون، ولاسيما "المقدمة" وبعض رسائله وكتابه "العبر وديوان المبتدأ والخبر".

 وثانيها مجموعة من العناصر المضافة التي مزجها الكاتب بالعناصر المستبقاة، والتي تحولت إلى عناصر تكمل النسيج الأساسي الذي يشكل الإطار السردي الرئيسي للمتن السردي لهذه الرواية. وكان الكاتب يُخضع العناصر المستبقاة لعديد من التعديلات التي انصبت على استبعاد بعض تفصيلاتها والاستعاضة عنها بتفصيلات جديدة أوثق اتصالا بالمسارات السردية وبالرؤية المطروحة، وتعديلات سياقات ورود العناصر المستبقاة وفقا لرؤيته الفنية؛ بما يعني أن بعضها كان يتم تقديمه أو تأخيره عن مواضعه في "التعريف" ثم يتم جدله بالعناصر الجديدة في وحدة تحقق للكاتب هوية روايته.وذلك ما يتجلى في الطرائق التي تعامل بها الكاتب مع المادة التي أفادها من المصادر القروسطية التي تناولت حياة ابن خلدون ؛ مما يتبدى – على سبيل التمثيل – في تصويره، في الفصل الثالث من روايته، لقاء ابن خلدون مع تيمور ؛ فقد استلهم العناصر الأساسية فيه من "التعريف"، ولكنه غير مواضع بعض العناصر كما سعى إلى تعميق أحاسيس ابن خلدون وهو يعيش لحظة مؤثرة في مسار حياته لأنها لحظة تحققت فيها نبوءة متأصلة لديه وتحققت فيها رغبة جارفة كانت تسيطر على نفسه لفترة طويلة(10).

 وأما ثالثها فهو مجموعة من العناصر المتخيلة التي ابتكرها الكاتب ابتكارا تاما، وهي تتصل بحكاية اتصال ابن خلدون بحمو الحيحي الذي تولى مهمة الكتابة لابن خلدون في الفصل الأول، ثم حكاية زواج ابن خلدون من أم البنين زوجة حمو بعد وفاته وتحولات العلاقة بينها وبينه نتيجة سفرها إلى المغرب، وحكاية العلاقة بين ابن خلدون وخادمه شعبان الذي صحبه في الفصلين الأول والثالث وفي فاتحة الرواية وتذييلها. ولقد كانت حكاية زواج ابن خلدون بأم البنين وسيلة مهمة لإكمال جانب العلاقات الأسرية لابن خلدون، ذلك الجانب الذي غاب عن التعريف والمصادر التاريخية القروسطية التي عرضت لحياة ابن خلدون، وذلك ما كان سبيلا لتكوين الأبعاد الشخصية والوجدانية لشخصية ابن خلدون بما يجعلها شخصية مؤثرة ومرسومة من منظور معاصر يستهدف تأكيد حيوية هذه الشخصية.

(2)

 يتأسس التشكيل السردي لهذه الرواية على مجموعة من التقنيات السردية التي استمد الكاتب بعضها من المؤلفات التراثية وتعامل معها بطرائق تجعل منها تقنيات فاعلة في بنية الشكل، وهي تقنيات "الحاشية" و"التهميش" و"الاستدراك" و"الإملاء" و"التذييل"، وجدلها بتفعيله لنمطين أساسيين من أنماط بناء الراوي ؛ فقد رواح بين استخدام الراوي الضمني العليم واستخدام الراوي المشارك الذي يحدثنا عن أحداث ووقائع ساهم في صنعها. وكانت شخصية ابن خلدون الشخصية الروائية المحور الأساسي في ذلك التشكيل.

برزت التقنيات التراثية في الفاتحة والتذييل والفصل الأول بصفة خاصة، وإذا كانت هذه التقنيات مستخدمة في التراث العربي القروسطي الكتابي في مختلف أنواع الكتابات الفلسفية والفكرية واللغوية والأدبية فإنها، لهذا، يمكن وصفها تقنيات ثقافية مرتبطة، في نشأتها وتبلورها، بتحول الثقافة العربية القروسطية من مرحلة الشفاهية إلى مرحلة التعويل على التدوين بوصفه الوسيلة الأساسية لحفظ المنتج الثقافي المكتوب، كما أنها مرتبطة أيضا بمرحلة تحول الثقافة العربية القروسطية إلى التنويع في آليات التأليف التي تمثل أنماطا من التعليقات على متون رئيسية وفاعلة وصلَتها من مرحلة الازدهار التي عرفتها بين القرنين الثالث والسادس الهجريين. أما في رواية "العلامة" فقد حوَّل الكاتب هذه التقنيات إلى تقنيات سردية تتفاعل مع مختلف العناصر السردية الأخرى وتؤدي أدوارها في بنية الشكل الروائي. و يهدف استخدام هذه التقنيات السردية التراثية بهذه الكيفية إلى إضفاء طبائع الأجواء التاريخية التي تقوم الرواية باستدعائها وتمثيلها للقارئ المعاصر، كما يهدف أيضا إلى تطوير هذه التقنيات وتحويلها من أن تكون مجرد تقنيات تُستخدم، أو كانت تُستخدم، في مختلف مجالات الـتأليف في الثقافة العربية القروسطية إلى تقنيات سردية فاعلة في بنية التشكيل الروائي. وذلك ما يكشف عن كون مسعى الكاتب يمثل محاولة من محاولات الجدل مع التراث الذي تتعامل معه الرواية من منظور لحظة الكتابة المعاصرة، بكل ما تنطوي عليه من مطامح، فتسعي إلى تطويره والجدل معه جدلا إيجابيا.

(1/2)

تبدو تقنية "الحاشية" تقنية تراثية كرر الكاتب استخدامها في الرواية في موضعين من الفصل الأول(11)، وتعامل الكاتب معها بطريقة مختلفة عن الطريقة الشائعة في التراث الثقافي العربي القروسطي ؛ ففي الموضع الأول جعل الكاتب الحاشيةَ تسبق النص و لا تأتي بعده، وذلك على العكس من الاستخدام التراثي الذي يجعل الحاشية بمثابة نص فرعي يقدم إضافة أو تعليقا على النص الأساسي، ولذلك كانت الحاشية تعقب النص الأول. وفي الحاشية الأولى قدم الكاتب عددا من المعلومات أو الجوانب الأساسية المتصلة بشخصية "حمو الحيحي"، ولاسيما ما يتعلق بتقييده الإملاءات؛ إذ وصفه الراوي العليم بأنه (يمتهن الكتابة عن اقتناع وحب، وليس للارتزاق والسخرة )(12)، ولهذا فهو من منظور ذلك الراوي (ليس من الكُتَّاب الذين يسلكون في تقييد الإملاءات منهج السمع والطاعة، أو يباركون في عمر مُشغِّليهم كلما فتحوا أفواههم وركبوا الجمل والفقرات شفاهة، أو يقيدون كلام هؤلاء ولو أطلقوا له العنان جزافا، ورصَّعوه بغرائب اللفظ والمعنى)(13). ولقد كان ذلك الوصف وسيلة تفسر للقارئ ما يلحظه في جلسات الإملاء من مناقشة حمو لابن خلدون في بعض أفكاره أو تعليقه عليها أو رصده بعض جوانب التغير فيها، مما كان سبيلا للقضاء على الإملال الذي يمكن أن يتولد من تقديم ابن خلدون أفكاره على وتيرة واحدة ثابتة.

وفي ثانية الحاشيتين قدم الراوي الضمني وصفا لما كان يحدث في لقاءات الإملاء بين ابن خلدون وحمو، وكأن ذلك الوصف كان وسيلة لتلافي تكرار تقديمه عقب كل لقاء من لقاءات الإملاء بينهما. وإذا كانت تقنية الحاشية المستخدمة في هذين الموضعين نمطا من الحاشية القبلية من حيث علاقتها بما تبعها من وقائع الإملاء في ليالي الفصل الأول، فإن ربطها بفاتحة الرواية يشير إلى أنها نص متوسط بين الفاتحة والفصل الأول يهدف إلى تقديم بعض جوانب حمو الحيحي المتصلة بعمله كاتبا لدى ابن خلدون. وأما تقنية "الحاشية" المستخدمة إما عقب اكتمال ليلة من ليالي الإملاء أو في نهاية الفصل الأول،فيمكن وصفها بأنها حاشية بعدية، وقد وظفها الكاتب عدة وظائف ؛ ففيما أعقب تقديمه ليلة الإملاء الأولى في متم صفر جعل الكاتب من الحاشية وسيلة للكشف عن انطباعات حمو عن ابن خلدون وقد اقترب منه مستمليا للمرة الأولى (14)، على حين أنه جعل من الحاشيتين الواردتين في نهاية الفصل الأول وسيلتين غير مباشرتين للإشارة إلى بعض الجوانب المستقبلة ؛ ففي أولاهما يتعرف القارئ أو المتلقي على جوانب أزمة أم البنين التي تحلم بالإنجاب، على حين تتضمن الحاشية الثانية رؤيا يراها ابن خلدون يصفها الراوي الضمني بأنها "رؤيا منامية غريبة" ؛ إذ رأى ابن خلدون (نفسه فيها وهو يودع أم البنين – وقد صارت زوجته – فيرحل إلى مدينة شرقية قريبة حيث يقابل حفيد جنكيز خان تيمور الأعرج)(15).ويتكشف للقارئ من متابعته للأحداث في الفصلين الثاني والثالث أن ما قدمته هذه الرؤيا قد حدث ؛ بما يعني أنها كانت نوعا من النبوءة ببعض جوانب المصير المستقبل للشخصية، وذلك على النحو الذي تؤديه النبوءة في السير الشعبية العربية ؛ إذ تكون النبوءة فيها إشارة إلى مصير البطل (16) مما يجعلها تقوم، على مستوى البنية السردية، بوظيفة استباقية تتضمن بعض ملامح المستقبل الذي سيعيشه البطل(17).

وتتجلى تقنية "الحاشية" في مواضع أخرى تحت مسمى "التهميش" و"الاستدراك"، وكلا التقنيتين نتاج لفاعلية أدوار الكاتب أو الناسخ حمو الحيحي الذي لا يكتفي بتدوين ما يمليه ابن خلدون، بل يتدخل بالتذكير والإشارة إلى وقائع وأحداث يرى أن ابن خلدون لم يوفها حقها من التناول والتحليل، فيقطع سياق الإملاء مما يولِّد تقنيتي التهميش والاستدراك. فحين يلاحظ حمو الحيحي (تجاهل البكري المطبق لقطب المرابطين يوسف بن تاشفين) يتوجه إلى ابن خلدون بالقول إنها(حالةٌ حدَّثتني عنها يوما عرَضا، وإني أضعها في هامش للتمثيل بعد إذنك )(18) فيقبل ابن خلدون وضع ذلك الهامش "المفترض" مضيفا إليه ملحوظة يجب، من منظوره، ذكرُها مدعما إياها ببعض نصوصه. وإذا كانت تقنية التهميش نمطا من وضع الحواشي فإنها كانت تؤدي دورين ؛ فقد كانت تمنح الناسخ فرصة أو إمكانية طلب إضاءة بعض الجوانب التي يراها بحاجة إلى التوضيح والبيان، كما كانت تمنح المملي، أو ابن خلدون، الفرصة للكشف عن مواقفه من بعض الأحداث والشخصيات على نحو دال على هوية رؤاه لها.

وتتصل بتقنية الحاشية تقنية "الاستدراك" التي تجعل من ابن خلدون الشخصية الروائية، التي تتوحد في بعض المواقف بابن خلدون الشخص التاريخي،يتوقف ليقيم سلوكه ومواقفه إزاء الآخرين كاشفا عما فيها من إيجابيات وسلبيات ؛ على نحو ما يتوجه بالطلب إلى حمو (حرِّك يدك إذن بهذا الاستدراك: حقا، رغبتُ دوما في أن أتعمق في معرفة الواقعات والمادة التي للأشياء، وأن أرصد سنن التبدل والانقلاب، لكن، في المقابل كم مرة كبوت وتسطحت!)(19)، ويأخذ في عرض بعض أفكاره السلبية كما يستعرض عددا من المواقف السلوكية التي تكشف عن "زلاته ومعاطبه"(20). وبذلك كانت تقنية الاستدراك تجعل من النص الروائي المكتوب نوعا من النص المفتوح على نصوص ومواقف سلوكية خارجه تتصل اتصالا وثيقا بأفكار ومسالك الشخصية التاريخية المستدعاة.

(2/2)

كان "الإملاء" تقنية من التقنيات السردية الأساسية في بنية شكل هذه الرواية، ولعل تأصل هذه التقنية في كل فروع الثقافة العربية القروسطية هو الذي يفسر ما خلفته هذه الثقافة من تقاليد خاصة بعملية الإملاء والسمات التي ينبغي أن يتحلي بها القائم بالكتابة أو الناسخ(21). وفي ضوء هذه التقنية تم تقسيم لقاءات ابن خلدون وحمو الحيحي إلى مجموعة من الليالي التي يقوم فيها ابن خلدون بإملاء الحيحي مجموعة من أفكاره التي سيدونها في مقدمته، ولذلك كانت هذه "الليالي" وسيلة لعرض عديد من عناصر الرؤية التاريخية التي يتبناها ابن خلدون فكان عرضه لمجموعة من أفكاره التي تدور حول طبيعة التاريخ وأهميته، وموقف المؤرخ من التاريخ، وموقفه أيضا من السلطة(22). وقد تحولت بعض الإملاءات إلى صيغة المنولوجات التي يقوم فيها ابن خلدون الشخصيةُ الروائيةُ التي اصطنعها الكاتب بنقد مجموعة من أفكار ابن خلدون المؤرخ الحقيقي(23)، وفي الحالين كليهما كان من الطبيعي والمتواتر أن تتم إحالات متعددة إلى نصوص بأعيانها من مقدمة ابن خلدون وتعريفه(24).

وقد أدت هذه التقنية إلى تقسيم مشاهد الفصل الأول من الرواية إلى مجموعة من الليالي بما يمكن أن يقرنها بليالي "ألف ليلة" من حيث تقسيم المروي أو المادة المروية على مسار زمني متصل هو الليالي التي يتم فيها فعل الحكي، ولكن التقسيم في الرواية كان يستهدف منح إمكانية لتفصيل الأفكار المطروحة في الليالي،أو الانتقال من فكرة إلى أخرى، والمزاوجة بين هذا وذاك بتقديم مقاطع سردية من سيرة ابن خلدون الشخصية الروائية، وتقديم مجموعة من التعليقات على أحداث آنية أو ماضية، أو إشارات إلى مستقبل آت.ولذا تبدو تقنية التقسيم إلى ليالٍ في هذه الرواية تقنية متماسة مع نظيرتها في "الإمتاع والمؤانسة" للتوحيدي التي كانت تجعل من الليلة فضاء محدودا من حيث امتداده الزمني، ممتدا من حيث بنائه على السؤال والجواب مما يفتح آفاقه أمام تعدد خصب يضم السرد والقص إلى الشعر والأخبار والحكايات التاريخية والقضايا والمشكلات الفلسفية والكلامية المعقدة وغيرها من المواد الفكرية، وقد استخدم المؤلف ذات الصيغة التي كرر أبو حيان استخدامها داخل لياليه، وهي صيغة "المجلس" التي هي صيغة رحبة تتسع لعناصر فكرية وسردية لا حصر لها(25). ولما كانت تقنية الإملاء وسيلة لعرض مجموعة من أفكار ابن خلدون، فقد كان التعويل على صيغة السؤال والجواب تقنية بارزة ناتجة عن طبيعة الشخصيتين المتحاورتين "ابن خلدون وحمو الحيحي"، وكانت فاعلية هذه الصيغة شبيهة بفاعلية مثليتها في "الإمتاع والمؤانسة" على نحو يصل بين "العلامة" و"الإمتاع والمؤانسة" في تفعيلهما تقنية تهدف إلى عرض الأفكار عرضا ذا طابع جدلي إلى حد ما.

تتأسس تقنية "الإملاء" على حضور طرفين يقوم أولها بالحديث والكلام ويقوم ثانيهما بتدوين المنطوق، ويملك المملي إمكانية إيقاف مسار الكلام عند أية نقطة، كما يملك إمكانية دفع الكاتب الناسخ إلى العزوف عن تدوين جزء من كلامه، وإمكانية التعديل في النص الذي يقوم بإملائه. إن العلاقة بين هذين الطرفين إنما هي واحدة من نماذج العلاقة بين النمطين الشفهي والكتابي ؛ فعلى حين يمثل المملي طرف الاتصال الشفهي فإنه يمتلك إمكانات التدخل وقطع مسارات الإملاء وتوجيه الناسخ، ومن ثم القارئ، إلى جوانب بعينها سواء على مستوى الأفكار أو على مستوى الصياغات اللغوية. وعند النظر إلى تقنية "الإملاء" في هذه الرواية تتبدى مجموعة من الظواهر الأسلوبية في لغة ابن خلدون المملي، ومنها الإحالات التي يصطنعها المملي إلى وقائع أو أحداث أو نصوص سابقة سواء له أو لغيره، على نحو ما يقوم ابن خلدون عند فكرة حل أزمة الأمة بالعودة "إلى السلف وخلافة الراشدين" ؛ فقبل أن يعرض فكرته البديلة يقول لحمو (وهنا لا مناص من وقفة أكشف بها عن تهافت المزايدين وارد عن أقوال المخلِّطين. وقفة كنتُ أبديتها في المقدمة، لكن لا من قارئ ولا معتبر)(26)، كما تتكرر هذه الإحالات في مواضع أخرى(27).

ومنها الإشارة إلى أن للمقول بقية سترد في موضع أو موقف تال (28)، وتكرار استخدام الجمل الاعتراضية من قبيل ( لكن – والعبرة بالعواقب والخواتيم – ما يقره التاريخ في باب الإصلاح هو أن أمده في بدء الدولة قصير، ونفسه متقطع، فلا يلبث أن تذروه رياح الاستبداد والأهواء)(29). و(والعيب – في ملتي واعتقادي – ليس في تولي المعتوقين زمام أمور العباد، بل في تعلقهم بعصبية ليست أقل تشنجا وطغيا من أي عصبية أخرى)(30). وتتبدى هذه الخاصة في مواضع متعددة من الفصل الأول(31) مما يكشف عن كونها سمة أسلوبية متواترة في مواقف الإملاء في هذه الرواية. ومنها ظاهرة استخدام بعض العبارات والتراكيب التي يستهدف بها المملي أو منها لفت انتباه الكاتب، ومن ثم، القارئ إلى أهمية الأفكار التي يقدمها مما يجعلها تستأهل عناية خاصة منه أو منهما. وتتجلى هذه الظاهرة مرارا من قبيل ما يرد على لسان ابن خلدون وهو يستكشف أسباب خوفه من الموت، إذ يصرح (واليوم أتبين بصفاء أكبر سر خوفي ذاك من الموت، فأحدده في عامل هو الأعم والأطغى، فسجِّله بالقلم الدقيق حتى يعتبر به غيري من حملة العلم وطالبيه)(32). وفي موضع آخر يقول ابن خلدون، وهو بصدد الحديث عن الطاعون الذي حلَّ بتونس حين كان هو في السادسة عشرة من عمره،(ذلك الوباء سماه أهل العصر بأسماء متشابهة الهول والحدِّة: الفناء الكبير، والمرض الهائل، والطاعون الوافد أو الجارف أو الأعظم، فسجِّل عنه يا حمو ما لم يتيسر لي قوله في نصوصي السابقة )(33). وتتجلى الظاهرة في مواضع أخرى(34). وفي بعض المواضع كانت الظاهرة السابقة تقترن بظاهرة استخدام الجمل الاعتراضية على نحو ما يتجلى في هذا النموذج ( لكن تطيري في كل الحالات – أبرز هذا جوزيت خيرا – يهبني (سبحان الله !) حيويةً لا خمولا وإقبالا لا دبورا، فأهمُّ - رغم المثبطات- بعبء السؤال وأضطلع. ذكِّرني بصيغة السؤال يا حمو حتى أتحققه) (35).

 ويتصل بهذه الظواهر ما كان يقوم به المملي من نهي الكاتب، أحيانا، عن تقييد بعض العبارات والآراء التي أبداها لأنه لا يريد للمتلقين "الفعليين" أن يطلعوا عليها(36). كما كان المملي يحدد،أحيانا، ما يجب تدوينه وما يجب التغاضي عنه ليكون مجرد حديث حر بينه وبين المقيد أو الناسخ (37). وبقدر ما تكشف الظواهر السالفة عن تنوع تجليات تأثير تقنيات الإملاء فإنها تبين عن فاعليتها في تحقيق نمط من علاقات التفاعل بين طرفيها؛ بما يسهم في تمييز التشكيل السردي لهذه الرواية.

(3/2)

لمصطلح التذييل دلالتان مختلفتان في الثقافة العربية القروسطية تنصرف أولاهما إلى استخدامه في إطار الدرس البلاغي، في مستوى المعاني حسب الفهم التقليدي، ليشير إلى (نوع من إطناب الزيادة، وهو أن يؤتى بجملة عقيب جملة، والثانية تشتمل على معنى الأولى لتأكيد مفهومه ليظهر المعنى لمن لم يفهمه ويتقرر عند من فهمه)(38). على حين تتبدي ثانيتهما ماثلة في معنى إتمام الكتاب أو المكتوب أو النص بجزء أو أجزاء أخرى تشكل نوعا من إكماله طبقا للغرض الأساسي الذي يتوخاه المؤلف الأول، ومن هنا كانت هناك مجموعة من الكتب التي تعد ذيولا أو تذييلات لكتب أخرى سابقة عليها مما يشكل ظاهرة بارزة في الثقافة العربية القروسطية بداية من القرن السابع الهجري(39). ويبدو أن "التذييل" في رواية "العلامة" تقنية مستخدمة حسب الدلالة الثانية التي تشير إلى معنى الإكمال والإتمام، وإن كان المؤلف، هنا، يحوِّل وظيفتها عبر تخصيصها بمهمتين تضافان إلى دلالتهما الأساسية، وهما: جعلها تقنية سردية تُستخدم في نهاية الرواية لتقدم إكمالا لعديد من خيوط الأحداث التي لم تكتمل خاصة ما يتعلق منها بمصير ابن خلدون وأسرته، وفي ذلك تحقيق لماهية هذه الرواية بوصفها رواية سيرة غيرية. واتخاذها وسيلة لتقديم مجموعة من المنولوجات المتوالية على لسان ابن خلدون مصورةً للمشاعر والخلجات التي خالطت نفسه في اللحظات التي كان يقارب فيها الاحتضار، مما جعلها تصاغ في لغة شعرية تمتح شعريتَها من معيني اللغة الصوفية ومعاناة لحظات الاحتضار بما تتضمنه من مشاعر متداخلة تتوثب كلها من مطمورات الوعي الذي يقترب من لحظة النهاية وقد تكشفت له الأشياء عن حقيقتها الأصيلة "الشفافة"، فسعى إلى التواصل معها تحقيقا لنوع من الراحة الأبدية مدركا أنها هي لحظة اليقين، وإن كان قد بدأها بتصوير مشاعره والموت يتسلل إلى أعضائه ( هو انتظار التورط فالغوص العويص الصاعق في لجج الهذيان والغم! هو انتظار انصرام حبل الوريد وكل عروق الضخ والنبض ! احتضار هو أيقنتُ أن منتهاه لا لبس فيه ولا ريب. أيقنني صوت جواني ناطق بين أعضائي وجوارحي بلسان التصدع والفتك...نغلٌ في رجليَّ كأنه لنمل، بل لديدان دموية تزحف في العروق والعظم. تزحف ببطء شديد، لكن تحت ألوية العزم والحزم. أما الرأس ففي الحمى آنستُه ومثواه)(40). ويمكن وصف ذلك النمط من التذييل بأنه تذييل ختامي يحقق هوية السيرة الروائية الغيرية بوصفها تصويرا لمجموعة من التحولات الجذرية في مسار حياة الشخصية الرئيسية تنتهي – تلك التحولات – عند نقطة نهاية حياتها.

وثمة استخدام آخر لتقنية التذييل في التشكيل السردي لهذه الرواية يجمع بين دلالتي الإكمال والإضافة من ناحية والإحالة إلى نص آخر لذات الكاتب من ناحية أخرى، وتتحقق تلك الإحالة بالتخييل في مسار العالم الروائي، وتتصل الإضافة بالإحالة ؛ إذ تقوم الشخصية المتخيلة على أساس تاريخي بالإحالة إلى أفكار الشخصية التاريخية الحقيقية في مواضعها من مؤلفاتها الحقيقية. ففي الرواية يقوم ابن خلدون الشخصية الروائية بالإحالة إلى بعض أفكار ابن خلدون الشخص التاريخي في مؤلفاته بما يكشف عن كون ذلك المؤلف المتخيل يقوم بتعديل بعض أفكاره أو الإضافة إليها. ففي إملائه لحمو الحيحي يتوقف ابن خلدون الشخصية الروائية، وهو يعرض بعض أفكاره حول اتساع رؤيته التاريخية، ليقول (قد ذكرت كل ذلك في مقدمتي، وفصلت القول، ولا أبغي اليوم إلا التذييل عليه بشذرات مرارتي حيال سير الزمان لغير صالحنا، كأنما هو يعمل ضدنا، ويعد لنا مزيدا من الهزات والكبوات )(41) ثم يأخذ في عرض مجموعة من وقائع الحكام في بلاد المغرب في زمن ابن خلدون التاريخي، ويكشف عن ظواهر الضعف والتشتت وغلبة الاستبداد. ومن الملاحظ أن هذه التقنية تقوم في هذا الموضع بوظيفة أخرى عدا وظيفة الإكمال أو الإضافة أو التعديل، وهي وظيفة الإحالة إلى نص آخر خارج النص الحالي؛ أي أن التذييل كان يهدف، في هذا الموضع، إلى ربط نصين أحدهما داخلي والآخر خارجي. ولهذه التقنية دورها في تمكين الكاتب من نقد أفكار الشخصية التراثية المستدعاة ؛ أي شخصية ابن خلدون، وتعديلها والإضافة إليها. ويمكن وصف هذا النوع من التذييل بأنه تذييل داخلي يعود إلى أن الكاتب جعل إمكانات بناء الشخصية التاريخية المتخيلة منفتحة أمام مسارات متعددة، كما جعل من إمكانات تشكيل أفكارها منفتحة أمام خيارات مختلفة أو متنوعة.

(4/2)

قام التشكيل السردي لهذه الرواية على استخدام نمطين أساسيين من الرواة، وهما نمط الراوي الضمني العليم العارف بمختلف عناصر الوقائع والأحداث والشخصيات التي يقص عنها في المواقف المختلفة، دون أن يكون مشاركا في صياغتها. إنه راوٍ يقف على مبعدة من الوقائع ليحتفظ لنفسه بحق السرد من أية نقطة شاء والوقوف عند أية نقطة يشاء، و ما يبتغيه هو تقديم الوقائع المروية عبر مراوحة بين نوع من السرد الموضوعي وتقديم وجهة نظره بإيجاز شديد، عبر إيماءات مركزة. وأما النمط الثاني فهو نمط الراوي المشارك الذي يتكئ على ضمير المتكلم المفرد "أنا" إما في سرد مجموعة من الوقائع التي شارك في صياغتها، وإما في تقديم شهادات على المواقف والأحداث والشخصيات التي عايشها، أو في تقديم أفكاره وتصوير تجاربه الوجدانية التي أتاحت لذاته تحقيق نوع من اكتمالها الداخلي مؤذنة بتصوير معاناة ذات ذلك الراوي في تحولاتها، التي لا تستطيع إلا أن تكتمها عن الآخرين في العالم الروائي المتخيل بنفس القدر الذي لا يمكنها إلا أن تبوح بها للقارئ المتخيل سعيا إلى التقرب منه عبر تقديم نوع من المكاشفة التي تجعلها تسعي إلى اجتذاب ذلك القارئ إليها.

وقد تأسس التشكيل السردي على نمط من المعاقبة بين ظهور هذين النمطين، فكان أن اختص الراوي الضمني العليم بسرد الفاتحة والفصل الأول بما يتضمنه من حواشٍ والفصل الثالث الذي تقدم فيه الرواية وقائع اجتياح التتار لبلاد الشام ولقاء ابن خلدون بتيمور، على حين تجلى الراوي المشارك المستخدم لضمير المفرد المتكلم في الفصل الثاني الذي قدم تجربة ابن خلدون في الحب والزواج بزوجة صديقه الراحل حمو الحيحي، وفي التذييل الذي أكملت فيه الرواية تتبع مصير ابن خلدون وتصوير لحظات احتضاره.

(2/4/2)

تنوعت المهام التي قام بها ذلك الراوي الضمني العليم كما تعددت الصيغ التي استخدمها في سرده في المواقف المختلفة التي ظهر صوته فيها، وذلك تبعا لتحولات الأحداث والوقائع التي كان يسردها. ففي الفاتحة قام الراوي بتقديم شخصية ابن خلدون من منظوره المعني بعرض بعض ملامحها التي تهيئ القارئ للاقتراب منها، وقد ركز الراوي سرده على نقطة تولي ابن خلدون قضاء المالكية بمصر في عهد السلطان الظاهر برقوق، وعمل على إبراز المفارقة التي تشكلت في وعي ابن خلدون بين صورة القاهرة، سابقا، بوصفها "حضرة الدنيا" و"بستان العالم" و"إيوان الإسلام" وحقيقتها الحاضرة كمدينة يستشري فيها الفساد في العادات والتقاليد (والغلبة كلها لذوي المال والسلطان، والحيف نازلا على كواهل المعوزين وأهل الفاقة)(42). وذلك ما كان سبيلا ليقوم الراوي بتحديد أزمة ابن خلدون بين واقع ذلك الحال وطموحه إلى تحقيق العدل. وإذا كان الراوي قد قطع سرده بتعليق يكشف عن مفارقة حقيقة أو موقف العدل في ذلك المجتمع(43)فإنه أشار إلى مصاب ابن خلدون في أسرته مستشهدا بما ورد في "التعريف"، فكان ذلك سبيلا لتبرير ما أكده الراوي عن كون ابن خلون يحي الآن في لحظات اعتزال للسياسة وعالمها. كان الراوي حريصا على تعليل مسالك ابن خلدون، وحين تحول إلى تصوير ما يدور في وعيه الآني منح نفسه حرية الانتقال من الحاضر إلى الماضي وماضي الماضي على نحو أفرز مجموعة من المفردات المتكررة من قبيل " تذكر" و"ذكرى" و"تراءى" و"تراءت" و"استحضار" في سياقات استعادة ابن خلدون مشاهد من حياته بالمغرب وذلك قبل حضوره إلى القاهرة(44).

وحين دارت عجلة الإملاء وبرزت صيغة الليالي تحولت أدوار الراوي إلى تقديم الأطر الزمنية والمكانية للشخصيات، وقدم مجموعة من الأوصاف السردية، ومال إلى تقديم بعض الفقرات السردية القائمة على إيجاز مجموعة من الأفعال أو الأحداث في فقرات قصيرة، كان يقدمها غالبا في بدايات ليالي الإملاء(45). كما كان ذلك الراوي يستهدف أحيانا تغيير مسار الحديث الدائر بينه وبين ابن خلدون، فلما تطورت الأحداث، في الفصل الثالث، كان على ذلك الراوي تحويل مهامه إلى التركيز على تعليل التغيرات في مسلك ابن خلدون إزاء ما يحدث حوله(46). وسرد الوقائع التاريخية بما تتضمنه من تفصيلات تعكس متغيرات الأطر السياسية والاجتماعية التي تنعكس على ابن خلدون بما يجعله في حاجة إلى تعديل بعض أحكامه أو تغييرها(47).

 كان تلاحق الأحداث المتواصلة في الزمن التاريخي الذي يصوره السرد سببا في بروز ظاهرتين في سرد ذلك الراوي ؛ وأولاهما مراوحته بين وظيفتي التفسير التي تهدف إلى تعليل تغييرات ابن خلدون وتحولاته واستباقه بالإشارة إلى تقديم بعض المسالك التي سيسلكها(48). وثانيتهما تأكيد سرعة توالي الأحداث وتلاحقها عبر بدء معظم الفقرات بعبارات وتراكيب تتضمن علامات زمنية بما يجعل من الفقرة تصويرا لتحول دال في مجرى الصراع أو في مسلك شخصية ابن خلدون، وذلك على النحو الذي يتجلى في الصياغات التالية: (صباح الغد، أقبل على العلامة في منزله الدوادار يشبك الشعباني فاستقبله بالحفاوة)، و(ساعات طوالا قضاها عبد الرحمن مفكرا في انجذابه نحو تيمور رغم المصاعب والمخاطر)، و(في يوم الزحف، وقد كان – بعد تأجيلات – ثالث ربيع الآخر، قبَّل عبد الرحمن زوجته وابنته، وعانق شعبان)، و( في الأيام الأولى من الإقامة الدمشقية، انصرف اهتمام عبد الرحمن إلى طلبته بالمدرسة العادلية التي أُنزل بها)، و( ذات مرة، عند متم الأسبوع الأول من الإقامة، والعلامة في صحن الجامع الأموي يجلس متأملا "....." إذا ببعض الجالسين بجواره يسألونه إن كان موطدا العزم على الهروب من المدينة)، و (في بدء الأسبوع الموالي قصد عبد الرحمن سوق الوراقين بصحبة غلام عينه يشبك في خدمته)، و( في صباح يوم الثلاثاء من الأسبوع الثاني، ذهب عبد الرحمن يرافقه غلامه إلى مزار بين باب الجابية والباب الصغير، فترحم على الموتى)(49).وإذا كانت هذه العبارات العلامات قد غابت عن بعض صفحات هذا الفصل(50)فإن ذلك الغياب كان مُبرَّرا بغلبة الحوارات عليها، وحين تم الانتقال إلى تصوير الأحداث كان أن عادت التعبيرات الزمنية إلى البروز والاستقرار في مطالع الفقرات كاشفة عن تلاحق الأحداث على النحو الذي تجليه الصياغات التالية: (بعد قضاء لحظات في قيلولة هادئة قصد الرجلان المسجد الأموي فصليا فيه العصر، ثم ذهبا في زيارة لبعض المآثر والمشاهد)، و(في اليوم التالي اتفق الرجلان على ارتياد المنازه والحدائق والأنهار)، و( على عتبة الأسبوع الثالث من الإقامة الدمشقية، استيقظ عبد الرحمن مبكرا والتعطش إلى الأخبار يستبد بذهنه استبدادا)، و( قبيل وصول الشمس إلى كبد السماء، قصد العلامة خيمة البريد بساحة قبة يلبغا، باحثا عن رسالة إليه، فلم يجد شيئا)، و(قضى العلامة ما تبقى من أيام جمادى الأولى متلقيا علامات لا تبشر بأي خير)، و(بعيد منتصف النهار، كان عبد الرحمن قد استقر في خيمة صغيرة وأدى ما عليه من صلوات)، و(في مساء اليوم نفسه، عاد برهان الدين من لقائه إلى جميع القضاة في العادلية، ومعه كتاب الأمان ودعوة شفوية من الغزي إليهم بالحضور بين يديه)(51).

إن الحدث فعل إنساني لا تتجلى آثاره إلا في أحياز زمنية وهذا ما يمكنه تفسير تراكم بعض التعبيرات الزمنية في فقرة واحدة قصيرة أو انتهاء الفصل ببعض العبارات أو التعبيرات الزمنية الدالة على اكتمال الحدث، وذلك على النحو الذي يتجلى في الأمثلة التالية: ( كان الوقت ظهرا. الحرُّ وعسر الهضم، وزحمة الجنود الأفظاظ الخشنين في الحي المغولي، وإحجام تيمور في خطبته عن تأكيد رقاع أمانه، كل ذلك جعل القضاة شبه دائخين وقليلي الرغبة في الوصل والكلام. لذا هرول كل منهم إلى مسكنه، قصد الراحة وترقب الموعد التيموري في هذا التاسع عشر من جمادى الآخرة للسنة الثالثة من القرن التاسع). وانتهي الفصل بهاتين الفقرتين اللتين تتكاثف في أولاهما التعبيرات/العلامات الزمنية على النحو التالي:( في الساعات الأولى من اليوم نفسه، كان السفر مع قافلة مع بعض من صحت فيهم شفاعة عبد الرحمن وأغلبهم من مماليك رتب القلم. وبعد مسيرة يوم متصل اعترض الأعرابُ القافلة، فجردوا أفرادها من كل متاعهم، وتركوهم عرايا إلا من سراويلهم. وهكذا دخلوا إلى الصبيبة بعد يومين من السير الحثيث، فعوضوا الملبوس، وقصدوا صفد حيث استراحوا أياما معدودة، حتى إذا أقبل مركب من مراكب ابن عثمان سلطان بلاد الروم، أقلهم إلى غزة ثم جازوا برا إلى مصر.

 صباح الفاتح من شعبان، انفصل عبد الرحمن عن رفاقه، وحث الجِمال على كد السير إلى المحمودية،حي سكناه...)(52).

(3/4/2)

 مثَّل حضور صوت الراوي المشارك والمتكلم داخل بعض مواضع الفصل الأول نوعا من التقاطع المزدوج؛ لأن الراوي الضمني العليم كان صاحب الصوت الأساسي في هذا الفصل، كما أن جلسات الإملاء التي دارت بين ابن خلدون وحمو الحيحي كانت تعتمد على الحوار الذي كان يتراوح بين مناقشة القضايا والأفكار التي يقدمها ابن خلدون الشخصية الروائية والانتقال إلى تناول بعض جوانب الحاضر كالعلاقة بين حمو وزوجته أم البنين. وبذلك كان حضور صوت الراوي المشارك، في بعض مواضع ذلك الفصل، قائما في ظل الفقرات الحوارية المطولة وقرين جنوحه إلى قطع مسار عرض الأفكار والمناقشات الفكرية إلى تقديم بعض وقائع حياته الماضية، أو وصف تأثيرات تلك الوقائع على وجدانه وتشكيله النفسي كما في حديثه عن غرق أسرته، أو وصف بعض الأحداث المهمة التي عاينها من قبل كانتشار وباء الطاعون على سبيل المثال (53)، وكانت تلك الوقفات سلسلة من الاسترجاعات المتقاطعة مع عرض الأفكار وتصوير لحظات الإملاء. أخذت تجليات حضور الراوي المشارك، الذي يعتمد على "أنا" المتكلم والممثل لشخصية ابن خلدون كما سبكها الكاتب، تتكاثف قرب نهاية الفصل الأول عبر تقديمه لرؤيا منامية تشير إلى زواجه بأم البنين من جهة، ولقائه بتيمور من جهة أخرى. وكانت تلك الرؤيا استباقا لحدثين محوريين وقعا لابن خلدون في الرواية. وإذا كان ذلك الراوي قد قدم نبوءة شيخه "الآبلي" له بلقائه تيمور فمن الملاحظ أن ابن خلدون التاريخي قد أسند هذه النبوءة في "التعريف" إلى المنجمين وجعل "الآبلي" شيخه يؤكد ضرورة وقوعها(54).

 وإذا كان صوت ذلك الراوي قد هيمن على صفحات الفصل الثاني جميعها، فيما عدا الفقرات الحوارية التي تناوب فيها الحديث مع عدد من الشخصيات المشاركة معه في الأحداث، فإن حضوره فيها قد أفرز عدة نغمات متوازية ومتفاعلة في الآن نفسه ؛ متوازية لأن حضورها كان قرين توزع مشاهد الفصل بين عدة محاور، وهي: لقاء ابن خلدون بالسلطان بعد عودته من الحج، وزواجه بأم البنين وتعرفه على وجوه القاهرة بمصاحبتها، ومشكلة سعد أخي أم البنين وسعي ابن خلدون لحلِّها بإدخاله المستشفى ثم بضمه إلى زاوية من زوايا الصوفية، وتصاعد الصراع بين السلطان برقوق ومنافسيه ونهايته التي تضمنت فقد ابن خلدون صديقه طلُنبُغا الجوباني. وكانت متفاعلة لأنها كشفت – بكونها نتاجا لتجارب وخبرات حياتية متنوعة – عن وجوه متعددة لابن خلدون، وجوه انبنت على معايشة الحياة بدرجات من العمق ملحوظة ؛ مما جعل نتاجاتها السردية على لسان الراوي تشكيلات موجزة لخلاصات تجاربه وعلامات على التحولات النفسية والفكرية التي خضعت لها شخصيته. ولذا راوحت تلك التشكيلات بين مسارات متعددة، وهي: بيان تشكلات العالم الجواني للراوي بتأثير المعايشات الجديدة لتجارب طازجة، وصياغات لرؤى ووجهات نظر تكونت لدى الراوي عبر تأمل طويل لتاريخ مشبع بتحولات هائلة كان عليه أن يستبطنها ويستشف ما تكنه من عِبر وخلاصات فكرية وتصورية، وسرد لمجموعة من الحوادث التاريخية التي عاصرها ؛ فكان مجرد مشاهد لبعضها عبر السماع أو المعاينة، على حين أنه اكتوى بنيران بعضها الآخر. وكان حضور تلك المسارات نتاجا لاختزال الراوي رحلة الحج،بأشهرها الستة، في سطور قليلة سعيا إلى الولوج إلى حضرة الأحداث المولِّدة لتلك المسارات - علامة على كون هذه المسارات وجوها جديدة لذلك الراوي المشارك والشخصية الرئيسية في الرواية في الآن نفسه.

في المسار الأول كانت تجربة الحب والزواج عند ذلك الراوي سبيلا ليعود في علاقته بالعالم والأشياء إلى مرحلة ولَّت، وإلى أن يُبعثَ من جديد وأن يسجل منعطفا في سيرته وإدراكه – كما صرح هو نفسه في فقرتين من الفقرات- نتاجا لمعايشته تلك التجربة. وذلك ما أفضي إلى بروز ثلاث تقنيات أسلوبية أو بنائية مازت صياغات الراوي لتجليات ذلك المسار. فثمة تقنية التعليق التي عملت على تقديم نتائج تحولات الراوي وانعكاساتها على علاقاته بالعالم والأشياء ؛ فبدا الراوي صاحب خبرة جديدة وطازجة بالعالم وأشيائه وأمكنته، وثمة تقنية الدعاء والابتهال التي تعكس إحساس الراوي بفيض من "الخيرات" التي تستجلب السعادة والرضا الغامر، فتثير لديه خوفا غامضا من فراق قريب لذلك العالم، وثمة تقنية وصف المكان عبر الجمع بين الوصف الجغرافي الموجز الذي يقدم الملامح العامة من ناحية، والوصف الجواني الذي يكشف عن تفاعل ذات الراوي مع ذلك المكان واكتشافه حقيقته وحقيقة نفسه في آن واحد. وقد تجلت تلك التقنيات في مواضع مختلفة من ذلك الفصل (55) على نحو ما يمكن أن ينجلي بعضها في النموذج التالي الذي يوجه فيه الراوي صوته /حديثه/منولوجه إلى القارئ الضمني فيقول ( أمام ما يحدث لي، نفسي اعترتها حالة أسميتها تدقيقا سكر الافتنان. مفتون أنا بزوجتي الحلال وبما يحيط بها، مفتون بغليان الدم في شراييني وانتعاش خلاياي، مفتون بآيات الجمال أينما تجلت: في ابتسام الأطفال، وتغريد الطير وهبوب الأنسام على الروح الظمأى وكل الأجسام. فرحي عارم ما بعده فرح! فرحي لولا مالكيتي وعياذي بالله من ذكر أنا، لأرخيت عنانه وبسطت جناحه احتفاء بالناس والأشياء! فرحي لولا قصوري عن أبهى الشعر، لنظمته على صدر حبيبتي قلائد نور وأشواق ! عش رجبا تر عجبا. عجبٌ تحول الوجود عندي من عسره وثقالته المعهودة إلى دوائر الخفة واليسر! عجبٌ انسياب الوقت كالماء الزلال بين يدي! عجبٌ زوال داء المفاصل من بدني، كأنه ما ألمَّ بي قط. عجبٌ عود الرغبات إلى جسمي خفاقةً بعد استيلاء التصدع والزهد عليَّ!)(56).

وفي المسار الثاني كان على الراوي أن يسرد مجموعة من الأحداث التاريخية التي عايشها في الفترة الواقعة بين عودته من الحج، والتي أشار إليها إيجازا في بداية ذلك الفصل، ولقائه بتيمور في الفصل الثالث. وكان الراوي يزاوج بين سرد تلك الأحداث والإشارة إلى التقلبات التي حلت به من توليته وظيفة من وظائف التدريس أو عزله منها، كاشفا بذلك عن اكتوائه بلظى التقلبات السياسية رغم اعتزاله العمل السياسي وتفرغه للتدريس والكتابة. تراوح سرد الراوي حينئذ بين تدوين ما وصل إلى سمعه وجمع المرويات المختلفة وغربلتها للوصول إلى أدناها لحقيقة ما يحدث، وتفسير تغييرات مساراتها بوقوفه عند الدوافع التي تحرك شخصياتها الكبرى المؤثرة في مجرياتها اعتمادا على استنباطه مبررات كل منها عبر استنطاقها مرويات واستدعائه خبراته الشخصية. فأعلى الراوي حينئذ صوتَ المؤرخ(57) وإن كان حضور العلامات الزمنية في بدايات تلك الفقرات قليلا، إلى حد ما، مقارنة بحضورها في سرد الراوي العليم للوقائع التاريخية(58). كما قامت صياغة الراوي لبعض فقرات تلك الوقائع على استمداد عديد من العناصر التي قدمها ابن خلدون في "التعريف" في سرده لوقائع الصراع على الحكم بين السلطان برقوق من جهة ونائبيه على حلب وملطية يلبغا الناصري ومنطاش من جهة أخرى(59).

وأما المسار الثالث فقد قدم فيه الراوي المشارك صياغات لرؤى ووجهات نظر تكونت لديه عبر تأمله المتعمق لتاريخ مشبع بتحولات هائلة كان عليه أن يستبطنها ويستشف ما تُكنُّه من عِبر وخلاصات فكرية وتصورية. وقد قُدمت تلك الصياغات دائما ممتزجة بالسرد وبتأمل الراوي للوقائع التي عاينها، وتشكلت في صيغ تقنية التعليقات التي برزت دوما في اللحظات التي كان الراوي يدرك فيها أن عالمه يمنحه فرصة استنباط مغزى ما يحدث أو إعادة النظر في بعض تصوراته السابقة؛ فحين يدعى، بعد عودته من الحج، إلى لقاء السلطان داخل القصر، ويكثر الحضور وتتبارى "الهامات في الانحناء" يهمس الراوي بالقول:( ناجيت نفسي: سبحان من يسلطن المعتوق ويؤتي الملك لمن يشاء، ولو كان عبدا أو ذا زبيبة)(60) كاشفا بإيجاز عن المفارقة التي يمثلها وضع ذلك السلطان. وحين يطول انتظاره المثول بين يدي السلطان يهمس كاشفا عن دلالة ذلك الانتظار بأن (فنون السلطنة كثيرة، وفن الإهانة والإذلال ليس أقلها مضاءً وبروزا. لا بد لمن يحظى بشرف ملاقاة ربِّ السرير أن يتذوق الإحساس بصغر حجمه وهشاشة قوامه، لا بد أن يُسلَّط عليه ما يُشعره بالضآلة وقلة الشأن ؛ وكل هذا لا يكون إلا بتطويل الانتظار عليه حتى تتهاوى كتفاه، ويتقوس ظهره، فيحس إبداء الرضوخ والانحناء)(61) ففي تلك النصوص وغيرها(62) كان الراوي يقوم باستخلاص مجموعة من الآراء أو التصورات من واقع التجارب التي يمر بها كاشفا، بذلك، عن تفاعله مفكرا مع ما يحدث حوله.

(5/2)

كانت شخصية ابن خلدون الشخصية المحورية في التشكيل السردي في هذه الرواية، وقد أسس الكاتب تشكيله لها على أساس من الجمع بين عناصر مستمدة من سيرة ابن خلدون من التعريف ومما كُتب عنها في المصادر العربية القروسطية، وتقديم مجموعة من الأفكار والتصورات التي عرضها ابن خلدون في كتاباته، وابتكار جانبين جديدين يتصل أولهما بحكاية زواج ابن خلدون بأم البنين التي أعطت لشخصية ابن خلدون مجموعة من الأبعاد الأسرية المؤثرة في حركتها وفي موقفها من ذاتها ومن العالم. على حين يرتبط ثانيهما بالعلاقة بين ابن خلدون بوصفه مثقفا وأشكال السلطة السياسية التي تجسدها البلاطات الحاكمة التي احتك بها ابن خلدون في تونس والمغرب والأندلس ومصر، وكان تركيز الرواية على علاقة ابن خلدون بمؤسسة الحكم في مصر المملوكية نتاجا لتكثيف الرواية وقائعها على السنوات الأخيرة من حياة ابن خلدون، تلك السنوات التي ثبت من المصادر التاريخية أن ابن خلدون قضاها في مصر.

وكان لشخصية ابن خلدون حضور ذو مستويات متنوعة في بنية التشكيل الروائي، وفي المستوى الأول كانت الشخصية مجرد صوت ناطق بأفكار ابن خلدون الشخصية التاريخية، وقد تجلى ذلك في الفصل الأول الذي أتاح الكاتب فيه للشخصية عرض مجموعة من الأفكار حول ماهية التاريخ والعبرة منه ومهام المؤرخ والاستبداد، وأما في الفصلين الثاني والثالث فقد جعل الكاتب من معايشة ابن خلدون معتركات الحياة السياسية والبلاطية في عصره وسيلةً للكشف عن بعض وجوه التحولات والتغيرات التي اعترت أفكاره وتصوراته(63).

 وفي المستوى الثاني كانت ابن خلدون شخصية تحيا عصرها في مستوياته المختلفة، وتدرك جوانب العصر الطابعة له ببعض السمات المميزة له ؛ ففي سعيه إلى حل أزمة سعد أخي زوجته أم البنين كان أن لجأ إلى سلك سبيل الرشوة والبرطلة من أجل إخراجه من البيمارستان، مستجيبا – في ذلك – لما عُرف عن ذلك العصر من شيوع الرشوة والبرطلة. وفي المستوى الثالث برزت شخصية ابن خلدون زوجا وأبا تتيح له حياته الزوجية التعرف على جوانب من القاهرة، وتجعله العلاقة العاطفية يعاني لحظات من التوقد العاطفي ويستعيد كثيرا من حيويته ورغبته في التواصل مع العالم المحيط به. وفي المستوى الرابع، الذي يعد المستوى المحوري لحضور شخصية ابن خلدون في بنية التشكيل السردي في هذه الرواية، مثَّل حضور ابن خلدون في علاقته بالسلطة السياسية خاصة تصويرا للعلاقة بين المثقف والسلطة، وهي العلاقة التي أبرزت تجلياتها عديدا من جوانب التناقض بين طرفيها. فرغم أن ابن خلدون بدا – منذ بداية الرواية – عازفا عن ممارسة السياسة وراغبا في العكوف على الدرس والتحصيل والكتابة اكتفاء بامتهان العلم فإن تقلده وظيفة قاضي قضاة المالكية عدة مرات ووظيفة تدريس علوم الحديث وكونه المفكر الذي حمل من الوعي بالتاريخ وخبرات السياسة الكثيرَ - قد جعله طرفا في علاقة مباشرة مع السلطة حتى وإن كان زاهدا فيها.ومن ثم كان عليه أن يواجه التناقض بين حرصه على تحرى العدل المطلق في أحكامه كقاضي واضطراره إلى أن يواجه مرارة العزل من المنصب بدعوى أنه لا يراعي مقتضيات الواقع بما فيه من انتشار الرشوة وحرص القضاة على أن تكون أحكامهم في صالح أولى المصلحة من الحاكمين والأغنياء، كان، كما يصفه الراوي الضمني، يتسم بالشدة (والإفراط في الحكم والعقاب) كان (لا يتعامى ولا يطول باله)، كما كان عليه ( أن يلبس جبة من صنع أصحاب السيف والقلم الجدد، ويقبل رُشَى محمييهم من ملاك المواشي والحرث والعقار ؛ كان عليه، لكي يكون عند حسن ظن أهل السلطة والجاه والمال، أن يكيف أحكام الله مع شهواتهم ومنافعهم الصرفة. فيحلل ما حرم الله، غاضا الطرف عن بيوع الجزاف وعن الغرر والربا، متساهلا مع أهل التربص والحكرة وسماسرة الاختلال والظلام)(64). ومن ثم كان عليه أن يُعزل من وظائفه عدة مرات وأن يعاني مرارة السجن أكثر من مرة، ولكنه كان يؤدي – في الوقت نفسه – دور المثقف المصلح الذي تستشيره السلطة السياسية فيما تواجهه من أزمات لاسيما حين تتعلق بخطر أو تهديد خارجي، فكان يقدم لها النصح من قبيل التأكيد على تقوية "الجبهة الداخلية" (بالعدل الذي هو قوام الملك، لأن الرشى والبراطيل تفسد الأخلاق والقواعد، لأن الظلم مؤذن بخراب العمران، لأن الرعايا إن أنصفهم راعيهم وكرَّمهم استلحمهم وتطايبت قلوبهم على محبته وقتال أعدائه)(65).

 وحين يدرك ذلك المثقف أن لا جدوى من قيام السلطة بالإصلاح يعبر عن يأسه قائلا:( لم أر شبه الماضي بالحاضر كالماء بالماء مثلما رأيت في ولاياتي مهنة القضاء. المشاهد والثوابت والزلات تعيد نفسها، مع تطور أكيد في إتقان فنون النصب والتلبيس والاحتيال. كم كان بودي، والحال هاته، أن أكسر الطوق وأخرج من الحلقات والدوائر كلها إلى برية يعيش أهلها على الفطرة بين الحيوانات النافعة والأرض المعطاء! لو كنت في سن الفتوة والخفة، لم ترددت لحظة في ركوب السفن والجمال، والذهاب بعيدا في اختراق الآفاق وطي المناظر والرحاب. لكن من شاخ ووهن العظم منه، وساخ نصفه في القبر، ما له من حيلة إلا في مضغ حشيشة الترقب والصبر، أو التمرد والنقض، ممتطيا صهوات الرؤيا والوهم )(66).

(3)

تنبني الرؤية التاريخية التي تقدمها هذه الرواية على ثلاثة مقومات أساسية، كتابة سيرة غيرية لابن خلدون عبر استعادة – تقوم على الانتقاء - لسيرة ابن خلدون وما كُتب عنه، ووفق نوع من الجدل بين الحقيقي والمتخيل بما يفضي إلى تعميق فهم القارئ المعاصر لذلك الحقيقي من منظور يجعل من جدل الحقيقي والمتخيل سبيلا إلى استعادة جوهرية لرقعة من الماضي وفق أفق جديد. وثانيها تقديم رؤية نقدية لمسالك ابن خلدون الشخص التاريخي من منطلق الوعي بالسياقات التاريخية لتشكل سلوكه وأفكاره، بما يُمكِّن من الكشف عن تناقضات بعض أفكاره مع بعضها البعض أو اكتشاف مساحات التباعد بين رؤية ابن خلدون الشخص التاريخي ومسلكه الفكري والسياسي. وثالثها نقد بعض جوانب الواقع المعاصر للحظة الكتابة والتلقي بما يهدف إلى نقض عناصر السلب ومناحي السقوط والانهيار فيه وفق منظور يجمع بين استبقاء عدد من العناصر الصالحة من أفكار ابن خلدون الشخص التاريخي ورفدها بمجموعة من الأفكار المحدثة التي تجعلها أقدر على الوفاء بمتطلبات اللحظة الراهنة، وذلك من منظور المؤلف.

كانت تلك المقومات تتجلى في الرواية عبر مجموعة من الآليات الأساسية، وهي: إنطاق ابن خلدون الشخصية الروائية بأفكار ابن خلدون الشخص التاريخي، وتحريك دلالات بعض أفكار ابن خلدون الشخص التاريخي إلى لحظة الكتابة والتلقي بوصفها واحدة من لحظات الواقع العربي المعاصر، والتخييل الذي يتمثل في إعادة تشكيل مواقف ابن خلدون الشخصية المستدعاة من عديد من جوانب عصرها ولحظات تخلقها ومعايشتها واقعها، ونقد ابن خلدون الشخصية الروائية لعديد من أفكار ابن خلدون الشخص التاريخي ومراجعتها وتعديلها أو الإضافة إليها. وتتجلى مقومات الرؤية التاريخية، في جدلها مع آليات تشكيلها، في كثير من مواضع الرواية، مما يتجلى فيما تقوم به الرواية، أحيانا، من استعادة – اعتمادا على الجدل والإحالة الضمنية إلى مقدمة ابن خلدون – لرفض ابن خلدون الشخص التاريخي للحكايات الممتنعة والأخبار المستحيلة كحكاية الاسكندر وصندوق البحر أو حكاية مدينة النحاس من منظور عقلاني يرفض تأسيس التاريخ عليها دون أن ينكر أن للحكايات (الغريبة اللطيفة، ذات الإيحاءات القديمة – الجديدة) لها أدوارها (في دوائر التخييل والإيهام)(67).

وتستند الرؤية التاريخية في بعض تجلياتها إلى نقد بعض أفكار ومسالك ابن خلدون الشخص التاريخي، ويرد ذلك النقد إما على لسان الراوي الضمني أو على لسان ابن خلدون الشخصية التاريخية ؛ ومما يرد على لسان ابن خلدون الشخصية الروائية نقده تركه العاطفة تُتلف عقله وتُعمي بصيرته أمام الواقع مدللا على ذلك بإطنابه (في الدفاع عن خلفاء عباسيين ضد تهم تعاطي الخمر والتهتك والفسق) ؛ فالشخصية الروائية، في هذا الموقف وفي غيره من المواقف، كانت تنتقد مسلك ابن خلدون الشخص والمفكر التاريخي(68). وإذا كان مفهوم العصبية يؤدى دورا جذريا في تصور ابن خلدون لحركة التاريخ(69) فإن ابن خلدون الشخصية الروائية يرى أن من "مواضع سهوه وكبوه" (أني تعبدت بعصبية النسب، رافعا مفهومها إلى سدة المفاهيم الطاغية، فأرتني أشياء وحجبت عني أخرى. وما حجبته كان من صعيد ما يجوز للمؤرخ تحقيره أو إهماله، منه على سبيل المثال حقيقة التمردات غير الموفقة، وحقيقة الثوار ودعاة المعروف الذين نعتُّهم بأفدح الأوصاف القادحة المسفهة. فكنت في هذا الموضع المخصوص أقف مع المتغلب الأقوى، فأحصر التاريخ في الأخبار عما يكتبه منطق الغلبة والقوة،وأُبقي خارجه جماهير المغلوبين ومن لا تعضدهم عصبيةٌ)(70). ويتبدى ذلك النقد أيضا فيما يرد على لسان ابن خلدون الشخصية الروائية من نقد لموقف ابن خلدون الشخص التاريخي من التصوف(71).

إن التماهي بين ابن خلدون الشخص التاريخي وابن خلدون الشخصية الروائية كان يفضي بثانيهما إلى محاولة تعليل أخطاء أو مثالب أولهما المتصلة بسلوكه السياسي، بنسبتها إما إلى طبيعة العصر وإما إلى طبيعته الذاتية التي يقول عنها بلسانه (إنه الكامن في نزوعي الحاد إلى الانسلال كالشعرة من العجين، والمشي على رأس قدمي، وذلك كلما تلبدت حولي سحب الضغينة والحقد، وتربصت بي دوائر القبض والفتك. الفرارُ الصريح في الحالات الخطيرة كان دوما مطلبي، وحين لا يستقيم، فالتذرع بالسفر إلى العلم أو إلى الحج كان من حيلي، ولا جناح على الراغب في النجاة وإعتاق الروح من أيادي الطيش والبطش)(72). إن تجاوز ابن خلدون الشخصية الروائية لابن خلدون الشخص التاريخي كان يمكِّنه من الاتكاء على البعد النقدي في الأفكار والمسالك التي يتوقف عندها، وذلك ما تجلى في ثلاثة وجوه، وهي تمكين الشخصية الروائية من نقد بعض جوانب عصر الشخصية المستدعاة، وتمكين ابن خلدون الشخصية الروائية من نقد عدد من أفكار ابن خلدون الشخص التاريخي، وتوجيه مجموعة من الأفكار إلى لحظة الكتابة والتلقي من ناحية أخرى،. ويتجلى الوجه الأول في وقفات شخصية ابن خلدون الروائية أمام سلبيات "اصطناع العبيد الأرقاء جيشا متراصا" بما يمكِّنه من انتقاد سلوك المماليك (73)، أو حرصه على التفريق بين نمطين من الاستبداد، وهما:(صنف يوافق انفراد الأمير بالمُلك وتوفقه في المزج الذكي بين الغلبة القاهرة والغلبة المعنوية ؛ وصنف تذهب فيه الهيبة عن رب المُلك بفعل ضعف شخصي وتسلط الوزراء عليه، فيباشر العنف مجردا صريحا. الاستبدادُ الأول ناجح في تأثيره وسريانه، وهو الذي يوجد في طوره المخصوص ؛ والاستبداد الثاني فاشل وبائس يوجد دون ذلك الطور في كل ما يليه من أطوار حياة الدولة)(74).

ويتبدى الوجه الثاني في موقف ابن خلدون الشخصية الروائية من مفهوم العصبية ووظائفها عند ابن خلدون الشخص التاريخي ؛ فإذا كان مفهوم العصبية يحتل حيزا بالغ الأهمية في تفسير ابن خلدون الشخص التاريخي لتشكل القبيلة وتأسيس الحكم فيها ونشوء ظاهرة المُلك أو السلطة وتحولاتها من فرع إلى آخر داخل القبيلة، فإن ابن خلدون الشخصية الروائية ينقد مفهوم العصبية من منظور يؤكد أن العبرة من التاريخ لا يمكن أن تتحقق ما ظلت العصبية هي المحرك والدافع، ويحلل "العواقب المدمرة" التي نشأت عن "بلوى العصبية" كاشفا عن آثارها المدمرة في سلوك السلطة قارنا ذلك برصده لمجموعة من المثالب التي يسوقها على نحو تعليمي مباشر(75)، ليصل إلى ضرورة تبديل ذلك المفهوم من حيث دوره في حركة التاريخ ؛ إذ (لابد للتاريخ من بذرة أحسن وأرقى حتى يبدل جلده ومجراه، وإلا فلا اشتغال للعبرة فيه ولا تقدم يُرجى من تعاقبه وسيره. دار ابن لقمان تبقى على حالها، وقد تسوء إن ظلت العصبية بين الأقوام تصول وتجول، وتستبد بالكلمة الفصل والموجة العليا )(76).

ويتجلى ذلك التجاوز أيضا فيما يطرحه ابن خلدون الشخصية الروائية من نقد لفكرة أن النهضة يمكن أن تتحقق بمجرد العودة إلى الماضي وإحيائه ؛حيث يأخذ في مناقشتها مناقشة جدلية (77). ولعل ذلك النقد دال على عمق اتصال هذه الرؤية بلحظة الكتابة والتلقي ؛ ففي عقد التسعينيات، من القرن العشرين،كانت عديد من التوجهات السلفية الأصولية لها حضورها القوي في الفكر العربي المعاصر، كما كانت لها تأثيراتها السلبية في الممارسة الاجتماعية والسياسية في عديد من المجتمعات العربية، ولاسيما مجتمعات شمال إفريقيا.

قسم اللغة العربية – كلية الآداب – جامعة القاهرة

الهوامش

 (1) من المفيد، في إطار تصنيف هذه الرواية، ملاحظة ما يقوله عبد الرحيم العلام من أن نص (العلامة رواية عن المؤرخ عبد الرحمن بن خلدون، أو بالأحرى هو "سيرة" روائية عن مسار حياة ابن خلدون وفكره، من خلال إبراز مراحل معينة من حياته (مرحلتا القاهرة ودمشق خصوصا). وهي السيرة التي لم تقتصر فقط على رصد فترات الإشراق في حياة العلامة، بل إنها حاولت أيضا، أن تتصيد الفترات الزمنية والمراحل الحياتية المتوترة في حياة الرجل)، عبد الرحيم العلام: سيرة الكتابة، دار الثقافة، الدار البيضاء، 2002، ص – ص 73-74.

(2) يرى عبد الفتاح الحجمري أن "أفق الحكاية" في رواية "العلامة" لا ينبني ( على التأريخ بقدر ما يبتدع تخييلا تاريخيا يعيد اكتشاف أحداث الماضي وتقديمها بحسب تنظيم خاص بسرد الماضي يجعل التاريخ والحكاية متطابقان(؟) ضمن خطاب واحد. وبهذا يبرز سرد الماضي ميلا واضحا نحو الإيهام بالحدث الحقيقي والمزيف في صياغة الحكاية) عبد الفتاح الحجمري: ابن خلدون ساردا، ضمن كتاب الشكل والدلالة: قراءات في الرواية المغربية، منشورات نادي الكتاب لكلية الآداب بتطوان، 2001، ص 30.

(3) نعتمد في مفاهيم التشكيل والرؤية على تعديل بعض المفاهيم التي صغناها في كتابنا مدخل إلى دراسة النص الأدبي المعاصر، انظر الطبعة الثانية، مكتبة الآداب، القاهرة، 2006، ص 11.

(4) هناك العديد من الدراسات التي تناولت استلهام الشخصيات التراثية في الأنواع الأدبية العربية المعاصرة، ومنها:

-         علي عشري زايد استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر، دار الفكر العربي، القاهرة، 1997.

-         مراد عبد الرحمن مبروك: العناصر التراثية في الرواية العربية في مصر ؛ دراسة نقدية (1914 -1986)، دار المعارف، القاهرة، 1991، ولاسيما الباب الأول ص – ص 33- 128، الذي يتناول فيه الشخصية التراثية.

-         أحمد شمس الدين الحجاجي: الأسطورة في المسرح المصري المعاصر، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة،2001.

(5) انظر: محمد القيسي: مخطوط في العشق، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2000، قصيدته "مقام فاس"، ص – ص 19 -25.

(6) حول تجليات حقيقة التاريخ في مسرحية باب الفتوح، انظر تحليلنا لها في كتابنا مدخل إلى دراسة النص الأدبي المعاصر، ص – ص 73- 90.

(7) محمود عبد الغني: فن الذات: دراسة في سيرة ابن خلدون، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2008، ص 158، وانظر ص – ص 158 – 162 حيث يحلل تجليات ذلك الانتماء في التعريف.

(8) حول أعراف كتابة السيرة الذاتية في الأدب العربي الوسيط يمكن مراجعة ما كتبه عبد الله إبراهيم في كتابه السردية العربية: بحث في البنية السردية للموروث الحكائي العربي، الطبعة الثانية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2000، ص – ص 150 -154. وانظر ما كتبه عبد الفتاح كيليطو حول سيرة ابن خلدون في كتابه الحكاية والتأويل: دراسات في السرد العربي، الطبعة الأولى، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 1988، ص – ص 69-80.

(9) للوقوف على نصوص أصحاب كتب التراجم العرب القروسطيين لترجمة ابن خلدون انظر: عبد الرحمن بدوي: مؤلفات ابن خلدون، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2006، ص – ص 253-310.وقد أورد كاتب العلامة في صدور فصول الرواية نصوصا من هذه المصادر، انظر: بنسالم حميش:العلامة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2003،ص 28، 105، 128.

(10) انظر الرواية، ص – ص 247-254، حيث تم تصوير لقاء ابن خلدون بتيمور، وقارن ذلك بما أورده ابن خلدون في التعريف بابن خلدون ورحلته غربا وشرقا، وتحقيق وتعليق محمد بن تاويت الطنجي، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة،2003، ص – ص 366 – 376.

(11) انظر: بنسالم حميش: العلامة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2003،ص – ص 28-30،98-104حيث ترد الحواشي التي أشرنا إليها في متن الدراسة.

(12)الرواية، ص 29.

(13)الرواية، ص 28.

(14)انظر الرواية، ص 36، ويستغرق نص الحاشية معظم مساحة الصفحة.

(15)الرواية، ص 99.

(16) حول دور النبوءة في بنية الحدث في السيرة الشعبية، انظر: أحمد شمس الدين الحجاجي: مولد البطل في السيرة الشعبية، دار الهلال، القاهرة، 1991، 48.

(17) عبد الله إبراهيم: السردية العربية، ص - ص 164-165.

(18) الرواية، ص 50.

(19) الرواية، ص 41.

(20) انظر الرواية، ص – ص 41- 45.

(21) كان القائم بكتابة ما يُملى عليه يوصف في التراث الثقافي العربي القروسطي بأنه الناسخ، ونجد لدى تاج الدين السبكي (727-771هـ/1327-1370مـ)، في كتابه "معيد النعم ومبيد النقم"، تحديدا للسلوك المثالي للناسخ من قبيل نهيه عن كتابة شيء (من الكتب المضلة وكتب البدع والأهواء وكتب أهل المجون)، ونهيه عن أن يحذف شيئا من الكتاب رغبة في سرعة إنجازه، وتوصيته بضرورة الحرص على أن يجعل الكلام مرتبطا بعضه ببعض.وإذا كان السبكي قد حرص في كتابه على توجيه النصح إلى أرباب الصناعات والحرف المختلفة، وأصحاب المناصب الكبرى كالسلطان والأمير والقاضي وغيرهم، فمن الملاحظ أن منطلقه في التعامل مع هؤلاء جميعا هو تقديم مجموعة من النصائح والتوجيهات الأخلاقية والسلوكية العامة بطريقة مباشرة تحقق المنظور الأخلاقي "الصارم" الذي ينطلق منه السبكي في كتابه، هذا المنظور الذي يرى أن كل نعمة منحها الله للإنسان يجب أن يستخدمها الإنسان في العمل الخاص بها أو في الغاية المرجوة منها (فلكل نعمة شكر يخصها، والضابط أن تُستعمل نعم الله تعالى في طاعته ويُتوقى من الاستعانة بها على معصيته).انظر: السبكي: معيد النعم ومبيد النقم، تحقيق محمد علي النجار وأبوزيد شلبي ومحمد بو العيون، الطبعة الثانية، مكتبة الخانجي القاهرة، 1993، ص – ص 131 – 132، ص 12. ورغم أن القلقشندي قد تناول مراتب الكتَّاب في دواوين الإنشاء وصنفها في سبع فإن بعض المتطلبات الخاصة بكتَّاب المرتبتين الثالثة والرابعة يمكن أن تكون لها أهميتها في تفهم واجبات الكاتب/الناسخ وصفاته، ومنها: الأمانة على الأسرار، وسرعة اليد في الكتابة، وحسن الخط، والأمن من الخطأ واللحن في اللفظ والخط، وحفظ الأسرار. انظر القلقشندي: صبح الأعشى في صناعة الإنشا،الجزء الأول، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2004، ص – ص 133-134.

(22)انظر على سبيل المثال ص- ص 49-55، 58-59من الرواية.

(23)انظر على سبيل المثال، الرواية، ص – ص 37-48 وهي ليلة متم ربيع الأول.

(24) انظر، على سبيل التمثيل، الصفحات التالية من الرواية:48، 58، 73، 77،79.

(25) انظر: أبو حيان التوحيدي: الإمتاع والمؤانسة، تحقيق أحمد أمين وأحمد الزين، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2002.

(26) الرواية، ص 63.

(27) انظر ص 67 حيث يقول ابن خلدون في سياق حديثه عن المآل والمصير (سجِّل ياحمو واقع الحال، قيِّد ملامحه المنذرة، سجِّله مذكِّرا أن معرفته فرض عين على كل مصلح ومدبر.التفاصيل في كتبي واجهتُ زحمتها وسقتُ أفيدها ؛أما الآن فلا وقوف إلا عند مصبَّاتها وأركان دلالاتها.ومن هذه المصبات، كم هو مرهق ومتصدع واقع الحال يا حمو!كم من علامات تشهد له بضعف الهمة وتردي المنحني!).

(28) في نهاية بعض فقرات إملائه كان ابن خلدون يستخدم بعض العبارات من قبيل (وللكلام صلة)،

و (للحديث بقية) انظر الرواية، ص 65،77.

(29)الرواية، ص 62.

(30) الرواية، ص 62.

(31) انظر الرواية، ص 68 حيث ترد الجمل الاعتراضية في موضعين فيها.

 (32) الرواية، ص 87.

 (33)الرواية، ص 91.

(34) انظر ما يدور بين ابن خلدون وحمو على النحو التالي وذلك في إطار حديث ابن خلون عن الكوارث التي شاهدها بالمغرب "وقي الله سيدي كلَّ مكروه، لكن يبقى في ذمتك أمران: أمر الثبت الثاقب، وأمر النظر في الخروج من عنق الزجاجة. فيرد ابن خلدون قائلا:"ذكِّرني بالأول، واترك الثاني إلى حين عودتي من الحج"الرواية، ص 76.)

(35)الرواية، ص 68.

(36) انظر، الرواية، ص 80 حيث يقول ابن خلدون لحمو (ما بحتُ لك به منذ برهة ليس أقل وقعا على النفس مما حدث لي مع بعض طلبة فاس ذات يوم. فاسمعه حتى تستعيض به عن التقييد). وفي ص 83 يجد القارئ الموقف التالي (انتبه عبد الرحمن إلى الحيحي، فألفاه يُجري خلسةً قلمَه على ورقه، فنهره مبتسما: نهيتك يا حمو عن الكتابة فلم ترعو. أتريد التقاط كلامه حتي طي استطراداته ونوافله! "......" انفض يدك من ذلك كله، وقرِّب إليَّ طاجنك حتى أتذوقه).

(37) يقول الراوي الضمني (في مطلع هذه الليلة دار بين الرجلين كلام، بعضه كان عبد الرحمن يطلب من كاتبه تسجيله،وبعضه كان ينصحه بتركه في مهب ريح اللحظة الفانية".)الرواية، ص37.

(38)التهانوي، محمد علي الفاروقي: كشاف اصطلاحات الفنون، الجزء الثاني تحقيق لطفي عبد البديع، دار الكاتب العربي، القاهرة، 1969، ص – ص 322-323.

(39) انتشرت ظاهرة تأليف ذيول للكتب، ولاسيما الكتب الموسوعية، في التراث العربي القروسطي مع القرن السابع الهجري، وقبله كانت ظاهرة محدودة، ويبدو لنا أنها انتشرت في عديد من مجالات الثقافة العربية وخاصة علوم التاريخ وعلوم الحديث المعنية بطبقات المحدثين ورجال الحديث. وقد أنتجت تلك الظاهرة عددا كبيرا من المؤلفات منها:

- ذيل الروضتين لأبي شامة (ت665هـ).

- الذيل على طبقات الحنابلة لأبي الفرج عبد الرحمن بن شهاب البغدادي (ت795هـ).

- ذيل مرآة الزمان لأبي الفتح موسى بن محمد اليونيني (ت726هـ).

- ذيل ميزان الاعتدال للحافظ العراقي(ت806هـ).

- ذيل تذكرة الحفاظ لأبي عبد الرحمن محمد الحسيني (ت910هـ).

- ذيل اللآلئ المصنوعة للسيوطي(ت911هـ).

 وبمراجعة بعض هذه الكتب نلحظ أن صناعة الذيل كانت تتراوح بين معنيي الإضافة والاختصار. فالإضافة تعني الزيادة إلى المصنف الأول بإكمال المادة الناقصة منه وبالتوسع في تقديم التراجم والتعليقات المتعلقة بالشخصيات المترجم لها واستيفاء الحديث في حق المترجَم لهم حتى (تكون مراتبهم في العلم ماثلةً أمام عين المطالِع)، والتفنن في ذكر أسانيد الأحاديث المروية، وضبط الأسماء والأنساب التي تثير الريبة. ومن هذا النمط كتابا ذيل تذكرة الحفاظ للذهبي، لأبي المحاسن الحسيني (ت765هـ)، لحظ الألحاظ بذيل طبقات الحفاظ، لتقي الدين محمد بن فهد المالكي(ت871هـ). وأما معنى الاختصار فيتجلى في تلخيص المصنف الأصلي والذيل عليه بذيول هي بمثابة مختصرات من كتب أخرى. والمثال الدال على هذا المنحى ذيل طبقات الحفاظ للسيوطي ؛ ففيه اختصر طبقات الذهبي وذيَّل عليها بمختصرات استمدها من "الدرر الكامنة" و"إنباء الغمر". انظر:

 - أبو المحاسن الحسيني الدمشقي: ذيل تذكرة الحفاظ للذهبي، مكتبة القدسي، دمشق، 1928.

- تقي الدين محمد بن فهد المالكي: لحظ الألحاظ بذيل طبقات الحفاظ، مكتبة القدسي، دمشق، 1928.

- جلال الدين عبد الرحمن السيوطي: ذيل طبقات الحفاظ للذهبي، مكتبة القدسي، دمشق، 1928.

 وأشير إلى إفادتي في هذا الهامش من المعلومات القيمة التي قدمها لي الدكتور أحمد عطا إبراهيم حول ظاهرة التذييل في التراث العربي القروسطي.

(40) الرواية، ص 280، وانظر أيضا ص – ص 281-283حيث تتكرر فيها الظواهر المشار إليها في متن الدراسة.

(41) الرواية، ص 59.

(42)الرواية، ص 10.

(43) يقول الراوي: (كأنما العدل عندهم صنفان: صنف حقيقي أو خالص لا يخدمهم في شيء ؛ وصنف مجازي مصطلحي هو المتعارف عليه والجاري به العمل في البلاد، وهو المعوَّل عليه في قضاء حاجاتهم ومآربهم) الرواية، ص 11.

(44) انظر الرواية، ص 17.

(45) انظر، على سبيل التمثيل، ص 56.

(46) انظر،الرواية ص 187.

(47) انظر، على سبيل التمثيل، ما يرد على لسان الراوي في ص – ص 189 – 190.

(48) يقول الراوي في نص طويل:(ساعات طوالا قضاها عبد الرحمن مفكرا في انجذابه نحو تيمور، رغم المصاعب والمخاطر. في سريرته صار يقر بأن سفره إلى دمشق في ركاب الناصر فرج إن حصل لن يكون دافعه تحيزا ما للمماليك، بل الفضول وحب المعاينة لا أكثر. مشروعية المُلك بعد الخلفاء الراشدين في تصوره وهمٌ وادعاء. فهي على رؤوس السيوف تُصنع، فلا تخدع إلا المغرَّرين بمحترفي الخطب والأنساب. قال هذا منذ زمن بعيد، ومازال يمعن في قوله وهو يرى الخلافة العباسية اليومَ يكبلها المماليك في أقفاص الزينة والعجز. وكانت تأتي عليه أحيان يرى فيها أن طالب المُلك لا يهم أن يكون أبيض الجلدة أو أصفرها، ولا مدوَّر العينين أو خزراءها، مادام الجميع يدَّعون الإسلام والدفاع عن بيضته وحماه.ذاهبٌ إذن إلى مشارف الوعي من دون سلاح ولا قضية ؛ ذاهبٌ لقياس حرارة التاريخ في إحدى منعطفاته العسيرة؛ ذاهبٌ وهمُّه الأكبر تشخيص الواقعة ووصف مجراها إلى خارطة الهزات وتبدُّل رؤوس الملك وعروشه)، الرواية، ص 213.

(49) نشير إلى أن العبارات المقتبسة في هذه الفقرة، من المتن،مأخوذة من الصفحات 210 – 216.

(50) انظر، على سبيل التمثيل، ص – ص 193- 202، 210-212،217 – 223.

(51) الأمثلة المثبتة في هذه الفقرة، من المتن،مأخوذة من الصفحات 224 – 246.

(52) الرواية، ص 268.

(53) انظر سرد الجوانب المشار إليها في المتن في الصفحات التالية من الرواية، 75- 84في عديد من فقراتهما، 84- 86، 90-91.

(54) انظر التعريف، ص 371، وقارن بالعلامة، ص – ص 99-100.

(55) انظر النصوص الواردة على لسان ابن خلدون في الصفحات التالية: 127 وفيها نصان، 134، 132-133.

(56) الرواية، ص – ص 132 – 133.

(57)انظر الرواية، ص – ص 161-163، 163-172 حيث يتم تصوير تلك الوقائع.

(58)من ملاحظة تلك الصفحات نتبين قلة الفقرات التي بدأها الراوي بتعبيرات زمنية، وهي لا تكاد تتعدى التعبيرات التالية:(بدءا من أواخر جمادى الثانية أخذت مصادر الأخبار من جهة السلطان تنضب يوما عن يوم) و(خلال النصف الثاني من واحد وتسعين لهذه المائة الثامنة لم يعد بالإمكان أن أتعامى عن أنباء الفصل الثاني من المأساة الدائرة رحاها حول القلعة والقصر الأبلق) و(من يوم التوقيع على فتوى الزور في خمس وعشرين من ذي القعدة إلى موفى الشهر، بقيت ملازما بيتي وصلاتي) و(ريثما تنجلي الأمور ويحين يوم الحسم، كنت أقضي ساعات أيامي بين بيتي والمسجد وبين الخانقاه والمدرسة) و(في منتصف سنة اثنتين وتسعين كان دخول برقوق عاصمة ملكه منتصرا مظفرا )،انظر الرواية صفحات 163،164،172.

(59) انظر التعريف ص – ص 326 – 335، وقارن بالرواية ص – ص 163-172.

(60) الرواية، ص 114.

(61) الرواية، ص 117.

(62) من الأمثلة الدالة ما يناجي به ابن خلدون نفسه وهو يتأمل بناء قصر السلطان المملوكي من داخله (همستُ في نفسي وأنا أنقر سارية: جبل أقرع ويزيدونه قرعا! هؤلاء العبيد، قبل تسلطنهم وبعده، يبنون بحنينهم إلى موطنهم الأصلي تركستان، وعمارتهم يريدون لها الصمود أمام جائحات الزمان)،الرواية، ص 110. وفي موضع آخر يقول، وقد عاين طبائع الأبنية الداخلية في القصر نفسه (كل الأفضية والمحلات في هذه القلعة رحيبة، لا تعرف للضيق المكاني معنى. فمثل هذه الغرفة قد تسع سكنى أسرتين من الفسطاط أو أكثر، وهي تفوق منزلي ببضعة أمتار وبذخ الفرش والأثاث. تخيلت، وأنا أقتعد أريكة، أمَّ البنين تلج هذه الغرفة، وتملأ فضاءها بآهات الانبهار والإعجاب؛ وتخيلتها تلامس فراش النوم، فتبكي مفصحة أن نعومة أغطيته ومخداته الحريرية ما تمثَّلتها حتى في أقصى أحلام المنام أو اليقظة، وما تمثلت أبدا مثل هذا التأنق في الأثاث والزخرفة. وتخيلتُ نفسي أواسيها قائلا: هي الحضارة المتمددة على ظهرها كعاهرة مستهترة! هو الترف المؤذِن بفساد العمران والأفئدة!)،الرواية، ص – ص 110-111.

(63) انظر ما يقوله الراوي الضمني، ص 191 (كل شيء في الأرض لهذا العهد صار يدعو العلامة إلى نفض غبار العياء من التاريخ، وشحذ الذهن من أجل فهم الحاضر واستشراف الآتي).

(64)الرواية، ص 208.

(65)الرواية، ص 198، وانظر أيضا ص – ص 198 – 201 حيث يقدم ابن خلدون نصائحه للسلطان برقوق لمواجهة خطر تيمور.

(66)الرواية، ص 273، وانظر أيضا ما يقوله ابن خلدون في صيغة منولوج يعبر عن يأسه في الصفحات الأخيرة من الرواية (أبدا لن تنطبع علاقتي بالسلطان بالدفء والحفاوة. الحاجز النفسي بيننا لا أمل في إبطاله، وأنا لم يعد يهمني الدوران في فلك القصر وبين أعتابه.كبري واشتغال ذهني بحالتي الجديدة وعوائق أخرى صارت تُزهدني في ذلك)،الرواية، ص 271.

(67)حول تفاصيل هذا الموقف أو الجانب انظر الرواية، ص – ص 31 -33، وقارن بما قدمه ابن خلدون في المقدمة، الجزء الأول، ص – ص 330- 331، تحقيق وتقديم علي عبد الواحد وافي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2006. وانظر أيضا الرواية، ص – ص 39 – 40 حيث يورد حكاية رواها ابن بطوطة عن كرم ملك الهند محمد شاه ابن تغلق، حيث يصفها ابن خلدون بأنها "حكاية عجيبة"، ثم يعلق عليها بالقول:(حققتُ فيها وفاوضتُ، فرأيتها إلى الاحتمال أقرب وعن الإنكار أبعد) وقارن بروايتها في المقدمة وتعليق ابن خلدون عليها، المقدمة، الجزء الثاني، ص – ص 552 – 553.

(68) انظر الرواية، ص – ص 41-42، وقارنها بما ورد في المقدمة، ص – ص 304 – 308.

(69) عن تصور ابن خلدون للعصبية وأدوارها في تشكيل القبيلة بوصفها وحدة اجتماعية ونشوء السلطة وتحولاتها فيها، انظر: ابن خلدون المقدمة، الجزء الثاني، ص – ص 480 – 490، 495 – 496، 503 – 504. وانظر عرض طه حسين لآراء ابن خلدون في هذا الجانب ونقداته لها في كتابه فلسفة ابن خلدون الاجتماعية: تحليل ونقد، ترجمة محمد عبد الله عنان، الطبعة الثانية، دار الكتب المصرية، 2006، ص – ص 85 – 96.

(71) الرواية، ص 42.

(71) انظر الرواية، ص – ص 42 – 43.

(72) الرواية، ص 55، وانظر الرواية ص – ص 43-46، حيث يعرض ابن خلدون تجربته في العمل بجهاز الدولة في الأندلس والمغرب. وهذه الوقائع مستمدة من "التعريف" ص – ص 80 – 93. وفي الرواية يعلل ابن خلدون الشخصية الروائية أخطاء ابن خلدون الشخص التاريخي بالقول:إني" في المعرفة ذو أخطاء وفي السياسة كمن يكثر الحز ويخطئ المفصل، ولا كمال لمن انتمى إلى زمن أفسد من السوس"، الرواية، ص 47.

(73) انظر الرواية، ص – ص 62 – 63.

(74) الرواية، ص – ص 59 – 60.

(75) انظر الرواية ص – ص 71 – 72 حيث يحلل ابن خلدون الآثار المدمرة للعصبية في سلوك السلطة، وانظر ص 73 حيث يورد على نحو مباشر وموجز مجموعة من السلبيات على النحو التالي "وازع القرابة والدم في الظفر بالملك عيب؛ اصطناع المرتزقة والموالي في إدارة دفة الحكم عيب؛ الاستبداد موفقا كان أو بائسا عيب؛ التعويل في الحكم على الهرمين والفاسدين ممن طبختهم سياسة العسف عيب؛ تفضيل المتزلفين على الأكفاء المضطلعين في الدواوين عيب، البذخ في محيط من العراء والفقر عيب؛ تنزل الحضر منزلة النسوان على ظهورها عيب، إلى غير ذلك مما لا مناص من قطع دابره وهجره من دون رجعة".

(76)الرواية، ص 71.

(77) انظر الرواية، ص – ص 64-65.

المصادر

- بنسالم حميش:العلامة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2003.

مراجع الثقافة العربية القروسطية

- التهانوي، محمد علي الفاروقي: كشاف اصطلاحات الفنون، الجزء الثاني تحقيق لطفي عبد البديع، دار الكاتب العربي، القاهرة، 1969.

-أبو حيان التوحيدي: الإمتاع والمؤانسة، تحقيق أحمد أمين وأحمد الزين، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2002.

- ابن خلدون: التعريف بابن خلدون ورحلته غربا وشرقا، وتحقيق وتعليق محمد بن تاويت الطنجي، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2003.

- الدمشقي، أبو المحاسن الحسيني الدمشقي: ذيل تذكرة الحفاظ للذهبي، مكتبة القدسي، دمشق، 1928.

- السبكي "تاج الدين عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي": معيد النعم ومبيد النقم، تحقيق محمد علي النجار وأبو زيد شلبي ومحمد بو العيون، الطبعة الثانية، مكتبة الخانجي القاهرة، 1993.

- السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن: ذيل طبقات الحفاظ للذهبي، مكتبة القدسي، دمشق، 1928.

- القلقشندي "أبو العباس أحمد": صبح الأعشى في صناعة الإنشا،الجزء الأول، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2004.

- المالكي، تقي الدين محمد بن فهد المالكي: لحظ الألحاظ بذيل طبقات الحفاظ، مكتبة القدسي، دمشق، 1928.

المراجع الحديثة

- أحمد شمس الدين الحجاجي: مولد البطل في السيرة الشعبية، دار الهلال، القاهرة، 1991.

- أحمد شمس الدين الحجاجي: الأسطورة في المسرح المصري المعاصر، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة،2001.

- سامي سليمان أحمد: مدخل إلى دراسة النص الأدبي المعاصر، الطبعة الثانية، مكتبة الآداب، القاهرة، 2006.

- طه حسين: فلسفة ابن خلدون الاجتماعية: تحليل ونقد، ترجمة محمد عبد الله عنان، الطبعة الثانية، دار الكتب المصرية، 2006.

- عبد الرحمن بدوي: مؤلفات ابن خلدون، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2006.

-         عبد الرحيم العلام: سيرة الكتابة، دار الثقافة، الدار البيضاء، 2002.

-         عبد الفتاح الحجمري: ابن خلدون ساردا، ضمن كتاب الشكل والدلالة: قراءات في الرواية المغربية، منشورات نادي الكتاب لكلية الآداب بتطوان، 2001.

-         عبد الفتاح كيليطو: الحكاية والتأويل: دراسات في السرد العربي، الطبعة الأولى، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 1988.

-         عبد الله إبراهيم:السردية العربية: بحث في البنية السردية للموروث الحكائي العربي، الطبعة الثانية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2000.

-         علي عشري زايد استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر، دار الفكر العربي، القاهرة، 1997.

-         محمد القيسي: مخطوط في العشق، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2000.

-         محمود عبد الغني: فن الذات: دراسة في سيرة ابن خلدون، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2008.

-         مراد عبد الرحمن مبروك: العناصر التراثية في الرواية العربية في مصر ؛ دراسة نقدية (1914 -1986)، دار المعارف، القاهرة، 1991.