لم يبتعد حسن عن اعتناق وجهة نظر عدم الثقة في المطلقات، وكأنه يضع إطاراً ما بعد حداثياً لما يمكن أن يُطلق عليه سيرة ذاتية، إطاراً دونما شطط، أو استعراض، أو حتى الإيحاء بضربة حظ مقامر مبتدئ، لكن الأمر يبدو أكثر هدوءاً وعمقاً، بدون التخلي عن نغمة الإرباك التي تلازمه.

إيهاب حسن في «الخروج من مصر»

شذرات من متاهة خلق الذات

محمد عبد الرحيم

 

«إنني أستدعي شيئاً من المرارة في حياتي، بل وأستدعي ندماً أقل». (إيهاب حســــن، الخروج من مصر).
تم مؤخراً في مصر والعالم العربي تداول اسم (إيهاب حسن 1925 ــ 2015) قياساً بإنتاجه الفكري والتنظيري، الذي جعل منه أحد أهم مُنظري اتجاه ما بعد الحداثة. ومن خلال الترجمات ظهر اسم إيهاب حسن، وتم اكتشاف الرجل وأصوله المصرية. ومن النقطة الأخيرة ــ الأصل المصري ــ تأتي سيرة حسن، الصادرة عام 1986، التي تمت ترجمتها مؤخراً هذا العام، تحت عنوان «الخروج من مصر.. مشاهد ومجادلات من سيرة ذاتية». يبدو الرجل لا ينفصل عما عاشه ونظّر له، ومارسه بالفعل كتابة وإبداعا. حسن الذي نادى بتجاوز ما بعد الحداثة، وأنها ليست بالصنم الذي يجب عبادته، كما يفعل دراويشها الآن. وفي «الخروج من مصر» يحاول حسن، أسلوباً ورؤية، أن يسخر من طرق كتابة السيرة، وتقديس المفتقد والتباكي، كما هو متبّع في الكثير من هذه الشاكلة في الكتابة، بل ترسم شذراته أفقاً أوسع ورؤية أكثر إنسانية رغم قسوتها ونبرتها الصدامية في الكثير من الأحيان.. «الجميع يتحدثون عن الجذور. لا شأن لي بهذه المسألة. هذا الأمر لا يعنيني في شيء». فمن خلال هذه الشذرات يستعرض حسن ويستكشف في الوقت نفسه كيف خُلقت هذه الذات، عبر متاهات لا تحصى من أفكار وتجارب، والتخلص من رصيد ثقيل لم تشوّشه حيل وسخافات العاطفة، التي قضت على الكثيرين غيره.. «ذات أصيل قائظ من أصائل شهر أغسطس/آب عام 1946، وقد لفحتني رياح خفيفة، وعلى شفتيّ ملح البحر الأبيض المتوسط، اعتليت ظهر السفينة إبراهام لينكولن من ميناء بور سعيد وغادرت مصر، وقد عقدت العزم على ألا أعود إليها أبداً».

عن اللغة والوطن

كانت لنشأة حسن في أسرة تمتلك الكثير من السلطة وبعضا من نفوذ ــ فقدتهما بعد ذلك ــ الأثر على تكوينه كطفل، كانت أسرته ومربيته يتكلمون بلغات عدة، إضافة إلى حالة عزلة طفولية فرضتها عليه قيود التربية السليمة ــ من وجهة نظر أسرته ــ هذه الأسرة التي لا تخلو من أقارب لهم سلوكات وتصرفات المجانين ــ الأمر أشبه ببعض من تفاصيل أقارب فيلليني في فيلمه «إني أتذكّر» ــ وقد صمم الطفل (حسن) بألا يتحدث بالعربية.. «كنت متفوقاً في كل المواد عدا اللغة العربية، وذات مرّة أهلتني درجاتي للحصول على المركز الثاني، على الرغم من رسوبي في اللغة العربية. وحضر الناظر كالعادة لتهنئة التلاميذ الحاصلين على المراكز الثلاثة الأولى في الفصل… ثم نادى عليّ، وتوقف كما لو كان قد أصيب بحيرة كبرى، وسألني: لماذا يا بني؟ هل أنت رومي؟».
لم يتوقف الأمر على اللغة وحدها، بل امتد لكل المشاهدات التي يتغنى بها المصـــــريون، كالنيل والأهرامات، وحضارة الموت التي ندرك مفهومــــها من عبارات حسن المراوغة بطبيعتها، رغم سهولتــــها البادية، حيث يشير للوطن بقوله «يقولون إن الوطــــن هو حيث يقع القلب، لكن ثلاثة قلوب تخفق في صدري، أحدها وجود فاوستي بعض الشيء، وواحد يوتوبي، رغم أنه سياسي، وواحد أورقي صوفي على وجه التقريب، وعندما يترنح واحد من تلك القلوب الثلاثة، تذبل إنسانيتنا بعض الشيء».

عن الأيديولوجيا والكولونيالية
ومن وجهة النظر هذه، تأتي آراء حسن الحادة والكاشفة مدى القصور الفكري بل والعقائدي، بداية من الاعتناق الأيديولوجي، وصولاً إلى الأديان، وتلك الصورة الذهنية التي أصبحت محل اختبار لم يكن ولم يعد في صالح أصحابها على الإطلاق.. «تثير الكائنات الأيديولوجية غضبي، رجالاً ونساء، مضطهدين قبل أن يوجدوا، يأملون أن يجدوا في إحدى العقائد كفاً لآلامهم أو شكواهم. هل تبدأ العدالة دائماً ــ كما كان نيتشه يعتقد ــ بالكراهية والحقد، وتنتهي فقط عندما يبلغ العنف منتهاه؟». وهو الأمر الذي يتفاقم بعد ذلك على أرض الوقائع، فيطلق عليه حسن (عقدة الكولونيالية)، التي تؤدي بأصحابها إلى الردة والوحشية، والعيش من خلال حالة (جنون العظمة التاريخي)، فيرى أن المبدأ الضمني لما أطلق عليه عقدة الكولونيالية يبدو في «الاكتفاء بتمجيد الاختلافات التي تصب في صالح الذات، والاستخفاف بغيرها من الاختلافات أو تجاهلها. ومن ثم تشكل هذه العقدة سوء الطوية الواجبة.. الواجبة للمقاومة واحترام الذات، ومجرد البقاء على قيد الحياة، والغامضة والمراوغة، رغم ذلك في الوقت ذاته. يمكن لهذه العاطفة أن تكتسح في طريقها أمماً بأكملها، إن الموجة الرجعية والوحشية في أغلب الأحوال، لا تزال تقدم للمؤمنين اعتباراً جديداً… إن الإسلام الحديث يتحدث هكذا للغرب (لم يعد ماضيك الإمبريالي، ولا مستقبلك التكنولوجي مناسباً لنا، وسيطرتك الحالية في حالة اضمحلال بالفعل) ولا يمكن وصف هذا التحدي، سوى أنه نوع من جنون العظمة التاريخي».

زلات الذاكرة
لم يبتعد حسن عن اعتناق وجهة نظر عدم الثقة في المطلقات، وكأنه يضع إطاراً ما بعد حداثياً لما يمكن أن يُطلق عليه سيرة ذاتية، إطاراً دونما شطط، أو استعراض، أو حتى الإيحاء بضربة حظ مقامر مبتدئ، لكن الأمر يبدو أكثر هدوءاً وعمقاً، بدون التخلي عن نغمة الإرباك التي تلازمه ــ تختلف هذه النغمة تماماً عن سيرة إدوارد سعيد أو سمير أمين على سبيل المثال ــ «إن هذا العمل ليس سيرة ذاتية خيالية، على الرغم من توخيه بعض الحرية في معالجة بعض المشاهد والأسماء، ولكن الصدق، إنني أعرف شيئاً ما عن الرغبة واحتيالها، إشكالية سرد التجارب الشخصية من الذاكرة. على هذه الخلفية، يمكننا فقط التماس الرغبة في الموثوقية، في الثقة المتبادلة ليس غير». هذه الحالة من الثقة تجعله في موضوع آخر يصبح أكثر وضوحاً، دونما تأسٍ أو شعور بعدم الجدوى، أو حتى بعض الخذلان ــ خذلان الرحلة أو الاختيار ــ «ومع ذلك أواصل إنشاء هذه (السيرة الذاتية) حجراً خيالياً فوق حجر، مثل هرم يقوم على بنائه عبيد خائنون. هل في إمكان صرحي المتصدع أن يخلد ذكرى أولئك الطلبة المصريين الذين لقوا حتفهم في الشوارع؟ هل تعيد كلماتي التي لن تتاح لهم فرصة قراءتها أبداً شأن كل تلك الكتب المتخصصة التي قرأتها؟». فالأمر لا يعدو ــ في حالة التعاطف ــ ما هو إلا زلات للذاكرة، شذرات شوارد، يبني منها إيهاب حسن حكاية ذات حِس سردي، قد تبدو في غير ترابط لوهلة، لكنها تنال ثقة صاحبها أولاً وأخيراً، وهو الأهم. «إن السيرة الذاتية برمتها، في حقيقتها الخيالية الأعمق، مجرد أسطورة، شأنها شأن الموت ذاته».
إيهاب حبيب حسن 17 أكتوبر/تشرين الأول 1925 ــ 10 سبتمبر/أيلول 2015) ناقد ومفكر أمريكي من أصل مصري، يعد أحد المؤسسين لمفهوم ما بعد الحداثة في سياقه التاريخي والأدبي والفلسفي والسياسي، من خلال دراسات وأبحاث لنماذج في الأدب الأمريكي والأوروبي. هاجر إلى الولايات المتحدة عام 1946، وعمل أستاذا متفرغا في قسم بحوث فيلاس في جامعة ويسكنسن ميلووكي حتى وفاته عام 2015. من مؤلفاته.. «البراءة الراديكالية: دراسات في الرواية الأمريكية المعاصرة» 1961، «أدب الصمت: هنري ميللر وصمويل بيكيت» 1967، «تقطيع أوصال أورفيوس: نحو أدب ما بعد حداثي» 1971، «إشاعات التغيير: مقالات خمسة عقود» 1995، إضافة إلى العديد من المقالات والمراجعات لمفهوم ما بعد الحداثة وتطوره.
…………

الكتاب: «الخروج من مصر.. مشاهد ومجادلات من سيرة ذاتية» المؤلف: إيهاب حسن – المترجم: السيد إمام..الناشر: دار العين للنشر، القاهرة 2018.

 

عن (القدس العربي)