تلك التجارب الكثيرة التي مرّ بها سادهارتا، لم تكن تُذمّ الواحدة منها عند العبور إلى الأخرى. في أيام حياته الأخيرة بدا سادهارتا راضيا عن كلّ ما مرّ به وممتنّا له. ذلك مختلف عما اعتدناه من التشبّث بالحال الأخير الذي يجد كل منا نفسه فيه. وهو اختلاف ثقافي ووجودي يعيدنا للتذكّر أن ما نقرأه رواية هندية غير متعيّن زمنها.

رواية «سدهارتا»: الهندي القلق عاش كل التجارب وأحبّها كلها

حسن داوود

 

وهو بعد في سنّ مبكرة رأى سدهارتا أن عليه الخروج مما رُسم له. لم يقنعه أن يتبع خطى أبيه الثري والمنتمي إلى سلالة مؤمني البراهما. اجتذبته حياة السامانية، حيث يقضي السالك حياته متسوّلا ومتنقلا على غير هدى بثيابه البالية الممزقّة. وقد تبعه في ذلك صديقه جوفيندا، الدائب على التمثّل به حتى بات مثل ظلّه. عاش الصديقان تجربتهما السامانية معا لمدة سنتين كانا في أثنائها يشعران بسعادة انتمائهما لها. لكنهما لم يلبثا أن غادراها بعد التقائهما بالبوذا جوتاما، الجليل والمهيب والممتلئ حكمة. لكن سدهارتا، دون صديقه جوفندا، لم يشأ البقاء هناك، في خياره ذاك. فما كان يبحث عنه لا تقدّمه التعاليم، بل التجربة، الحياتية والروحية. ما كان يبحث عنه هو معنى الأنا وجوهرها، «لغز أنني أحيا، وأنني منفصل ومختلف عن الآخرين» وهذا ما لا يتحقّق بالتعاليم التي ترى البشر سلالة واحدة.

جوفيندا بقي هناك إذن، ملازما لجوتاما ومرتديا الثياب التي يشترك في ارتدائها التابعون الآخرون. ولم يعد الصديقان الفتيّان إلى الالتقاء إلا وقد بلغا أعمارا متقدّمة راحا فيها يتداولان في حصيلة ما توصّل إليه كل منهما. في ذلك اللقاء بدا أن الصديق الذي كان ظلا لصديقه في البداية، ظلّ تابعا له في آخر العمر. ذاك أن سعيه كان قد توقّف في مرحلة ما من البحث عن ذاته، أما سدهاراتا فاستمر قلقُه في التساؤل عن معنى وجوده. فها هو، بعد تعرّفه على التاجر الثري كاماسوامي، يتبع خطاه في التجارة والثراء. لم يوقف سدهارتا شيء مما كان يعتنقه من قبل. بعد تعرّفه على كاماسوامي يُفتتن بالغانية «كمالا» الجميلة والثرية من العائد الذي يأتيها من مهنتها. سَحَره جمالُها وانسياب شعرها وعيناها الغاويتان وفمها الشبيه بحبّة تين مشقوقة. ولم يتأخر في الإقامة في بيتها والنوم في سريرها ومطارحتها الغرام.

هنا أيضا، مع كامالا، شعر سدهارتا بأنه وصل إلى آخر المطاف مع قلقه، متخلّيا عن ميزاته السابقة، تلك التي باح لحبيبته بها، وهي: «الصوم، والانتظار، والتفكير». أما الآن، في مرحلة العشق هذه، فراح يطيع ما تتطلبه رغبات جسده وحواسّه. مع معشوقته عاد عن كل ما كان تنقل بينه في سعيه الديني، أو الفلسفي لإدراك معنى «أناه». معها صار يرى إلى ما كان يعتقده عن الغرائزَ البسيطة الحمقاء، هي قوية للغاية، حيوية للغاية، وليست مجرد أفعال صبيانية. وها هو يقرّ بأن فيض المعرفة أعاقه، وكذلك الآيات المقدسة وطقوس القرابين، وكذا أعاقته الصرامة في إماتة الجسد، وكذلك أعاقه شعوره بأنه يسبق الآخرين جميعهم بخطوة التطلع إلى ما بعد.

لكنه لن يلبث أن يعود عن ذلك مغادرا كامالا والثراء الذي خسره بالمقامرة والتبذير. وهو أدار ظهره للمدينة تاركا فيها إبنا له سوف تلده كامالا التي، شأنه هو دون أحد سواه بين من عرفهم، رغبت في أن تتحوّل عما هي فيه لتصير ناسكة متخلية عن كل ما كان لها. إنها الشخصية الوحيدة في الرواية التي تنتقل متحولة إلى خيار آخر. صديقه جوفندا لبث عند خياره الأول، أي عند خيار سادهارتا الأول طالما أن جوفندا تبعه إلى ذلك كالظل. التاجر الثري كاماسوامي بقي تاجرا كما كان، دون أن تستدرجه الغوايات إلى المغالاة في اتّباعها. كلّ يلبث في الرواية حيث هو، باستثناء ذلك الانتقال الواحد الذي قامت به كامالا. أما سادهارتا فأراد كاتبه هرمان هسّه أن يطوّفه بين التجارب جميعها ليكون بطله قد اختبر كل أشكال التجارب وأنواعها. وكان على الروائي هسّه أن يُطيل حياته، وكذلك حياة الآخرين، حتى إلى ما بعد الشيخوخة، وذلك لكي تتسع الحياة لكل ما يمكن أن يتاح من تجارب. كامالا وحده أماتها المرض وهي في عمر مبكّر، ما جعلها، إضافة إلى تحولها عما كانته، شخصية درامية في رواية تميل إلى استبعاد المأساة.

أما آخر انتقالات سادهارتا فتمثل في لقائه الثاني مع المراكبي الذي كان نقله في فترة سبقت إلى الضفة الأخرى من النهر، لينضم هناك، مع ظلّه جوفندا إلى جماعة السامانية. وقد أقام مع المراكبي في كوخه إلى جوار النهر الذي تحوّل إلى أن يكون ملهم العجوزين. «المياه تتدفق وتتدفّق، وتتدفّق دائما، ومع ذلك فهي دائما هنا، ولا تتغيّر، ومع ذلك هي جديدة في كل لحظة». وهذا النقاء المتجدّد يعد العجوزين بأن دورة الحياة مستمرّة من بعدهما. مثالهما على ذلك يدلّ إليه ابن سادهارتا من كامالا، واسمه سادهارتا أيضا (ربما يعني ذلك أن الابن يكمل حياة أبيه ويستمرّ فيها) يكرّر حياة أبيه بادئا مثله بالخروج من كنف أبيه، ليبحث بمفرده عن معنى لوجوده.

تلك التجارب الكثيرة التي مرّ بها سادهارتا، لم تكن تُذمّ الواحدة منها عند العبور إلى الأخرى. في أيام حياته الأخيرة بدا سادهارتا راضيا عن كلّ ما مرّ به وممتنّا له. ذلك مختلف عما اعتدناه من التشبّث بالحال الأخير الذي يجد كل منا نفسه فيه. وهو اختلاف ثقافي ووجودي يعيدنا للتذكّر أن ما نقرأه رواية هندية غير متعيّن زمنها. هي حكاية يمكن أن تعود إلى ألف عام، لكنها مع ذلك ظلّت رسالتها فاعلة في زمن ما بعد الحروب العالمية. كانت تقدّمت لقرائها الملايين، هناك في الغرب، على أنها اقتراح بفهم آخر، جديد، للحياة.

«سدهارتا» رواية هرمان هسّه سدهارتا – قصيدة هندية أعاد نقلها إلى العربية سمير غريس معقّبا على ثلاث ترجمات سبقت لها كانت اثنتان منها عن الإنكليزية والثالثة عن الألمانية. الترجمة الجديدة صدرت عن دار الكرمة في 216 صفحة لهذه السنة 2023.

 

عن (القدس العربي)