منذ أن نشر الشاعر المصري قصائده الأولى في مجلة (الآداب) قبل عقود لفت الأنظار بقصيدته المتميزة، لكنه ترك الشعر بعدما ترك مصر، وها هو يعود إليه بقصيدتين مختلفتين، ولكن بينهما حوار ضمني مرهف يكشف الكثير من تناقضات اللحظة العربية الراهنة.

طفل فلسطين الجميل

وفي الطريق إلى القاهرة

فرانسوا باسيلي

1ـ طفل فلسطين الجميل

رؤية
وأرى دم النهار
من كوّة الكون يسيل
صابغا جلبابك الأبيض يا أمي
بحمر الزنبقات
وأرى دم الكلمات
نافرا من جبهة الأرض
ناثرا ورده الأحمر للنجمات

وأرى عيون النائحات
ترنو الى بدر
يحدق في المذابح صامتا
ماذا يقول؟!
وتفتش السموات والأرض عن المأوى
وعن رب سيرسل نجدة من عنده
فمتى الوصول؟

وأرى العذارى المريمات
يحملن أطفالا مضرجة
يرفعن قربانا الى الليل الوبيل
فعلى أي سحاب
سيهبط للصغار ملاكهم
كي يحمل الروح الى الله الرحيم
فتنام آمنة بحضنه مطمئنة

وأرى كهولا تحمل الأموات
في الصدر النحيل
وتسير من دهر الى دهر
تتمتم: أرضنا تبقى
ونبقى فوقها أو تحتها
مثلما يبقى الرفات، فلا رحيل
الروح تهفو للمروج وللمدى
فيخونها جسد كليل

وأرى الجباه تشققت
وبراعم الظمأ التي نبتت بأيديهم
مبللة بدم الهديل
هذا حمام ما أرى؟
أم أنه غصن
يلوِّح في السماء به القتيل؟
أم أنه جسدي
يحلق في الحرائق
ثم يهوي عاريا مشتعلا
فتضيء جمرته بقارعة السبيل
صبِّي عليَّ الماء يا أمي
واحتضنيني
وجففي قلبي بمنديل

ظمأ
لاصوت يعلو فوق صوتي
فأنا رفيف جناحك المجروح يا أبتي
وموال المواويل
وأنا
طفل فلسطين الجميل
وانا الذي يبكي
وينهض كي يصلي
متوضئا من دمع روحه
دمعك المسفوك ياروح قليل!
ومعمدا أنهض ممسوحا
بزيت القدس
والعبق العتيق من الجليل
وأنا الذي يمشي
ووردة قلبه ظمأي
أما ماء بدجلة يرويني؟
أما بالنيل؟!

حجر
ماكان يرجع لي
في كل ليل
طائر الأمل الضئيل
فسحرته حجرا
ورميته في وجه من قاموا
علي من العسكر
ورأيت منهم ماردا يعلو قليلا
ثم يهوي مثل تمثال تكسر
وأنا الوحيد الحي
فوق هذي الارض
كل من حولي
تماثيل

موت
أمسكت شمسا في يميني
والبدر في عينيك يا أمي
وفي فجر حرمت بصيصه
وحرمت أشرعة الاصيل
وحرمت هذا الدر في وجه الصبية
وهي راقدة
بعرس المستحيل
ودم الورود بصدرها
جمر علي ناري
كانت ستكبر كي تعانقني
واكبر كي أظلل فوقها
فتجيء منها آيتي وصغاري
لكنها مثلي ممددة
قتيلة حبها
ويلفها سعف النخيل
ما أبرد البدر المسجي في جواري!

للارض عرس قائم
سأغيب عنه
تزوجي غيري اذن
فأنا السماء حبيبتي ودياري

لا وجه يعلو فوق وجهي
انني القنديل
في سقف هذا الكون
والنجم الدليل
سأدلهم كي يقبلوا لمزاري
وأنا
طفل فلسطين الجميل
لاصوت يعلو فوق صوتي
سأقول: ما أبلغ موتي
هذه الارض ستصغي
لحواري.

قيامة
نوحي قليلا
موت طفلك ياجميلة
نوحي ولكن لا تطيلي
ها دمي يروي فؤاد الارض
كي تنمو خميلة
اني أميل عليك يا أرض فميلي
واعيديني الي حضنك
كي أغفو
لساعات قليلة
أو طويلة
ثم أصحو
قائلا: حي أنا
مامت يا أرض
فقولي.

2 ـ في الطريق الي القاهرة

في الطريق لمسقط رأسي
تربص بي قاطعو الطرقات
وترصدني إخوتي
وحين اقتربت أحاطوا بي
اشهروا خنجرا
تتلألأ فيه الطفولة والذكريات
أغمدوه بقلبي
فسال دم الحلم والاغنيات
ومالت علي شموسى
قلت: ما أبخس المهر
ان البلاد البعيدة محبوبتي وعروسي
وخارت قواي
وما كان حولي سواي!

في الطريق لمسقط راسي
مررت على بستان
باغتتني الفراشات من جهة غابرة
بعطر قديم
كأنه عطر الزمان
أجاءت إلي من القاهرة
بما ليس في الحسبان؟!

كنت منهمكاُ
في حسابات أيامي الخاسرة
وتذكرت من هاجروا
واستراحوا على حافة الذاكرة
صانعين لهم وطنا من دخان
والذين تركت ورائي
بغير دليل
سوى قطرات دمائي
في الطريق الى القاهرة

على ضفة في الزمان الجميل
باغتتني الفراشات
من شعرك المتهدل في النيل
مبتلة.. حائرة
لاتحط على الورد
أو تستريح على النهد
باغتتني الاميرات والملكات
من عهدهن السحيق
وقد قمن يقطرن نورا
تجلين لي في الطريق
وأغرينني، فلحقت بهن
وصرت لهن أسيرا
يمنحننى إن أردن
ويحرمنني إن أردن
يعلقنني كالهلال
أدور مع الانجم الدائرة
حولهن
وإذ أرتمي مجهدا
تميل الجميلة تلثمني
ثم تطعنني
طعنة غائرة!

رحت أركض خلف دم الاهل والأصدقاء
حين مرت قوافلهم من أمامي
وأصرخ يارب! من هؤلاء؟
الذين يحثون في سيرهم للفناء
وينحدرون بأحجارهم للوراء
من هؤلاء؟
وماهذه الأرض؟
صحراء.. لانبت.. لاماء!
مقبرة فاغرة
فهل سيحط الفراش على جثة؟
وهل في البروق وفي السحب العابرة
سألمح وجهك كالقنديل
على قبة الكون
في زمن لم يعد زمني
جاء في غفلة من زمن
ليس وجهك هذا
هو المتلألئ في الذاكرة
ولا النهر هذا هو النيل!
ما اسم هذا الوطن؟
وأي دليل
على أنه وطني؟
أين آوى إذن!
وأي سبيل
إلى وطن
ما عدت ألمح حين أحج اليه
على البعد
ما يشبه القاهرة!

شاعر من مصر يقيم في نيويورك