استنادا لترجمة الشاعر سامي مهدي، لقصائد الشاعر الفرنسي جاك بريفير، يحاول الناقد العراقي قراءة قصيدة «أغنية المطر» ويحاول بيان أوجه التشابه والافتراق بيه هذه القصيدة وقصيدة السياب «أنشودة المطر» ولاشك في أنّ للغة اليومية التي استعملها جاك برفير الأثر الكبير في بقاء شعر قابلا للقراءة المستمرة.

الضجر ومتلازمة التكرار

قراءة في قصيدة «أغنية المطر» للشاعر الفرنسي جاك بريفير

عدنان أبو أندلس

 

لو ترصدنا وتتبعنا رؤى الشاعر " بريفير " في مشهد حياته من طقوس مُهملة، وغرائبية وحواش، لرأيناه شاعر الحياة اليومية بكل صراعاتها، وما يفكر به المرء من أشياء تلزمه بقضاء الحاجة عن طريق أدواته التي يستعملها؛ بدءاَ من الشارع والمقهى والحانة والساحات العامة والزحام والرخاء والفصول والجسور، وبعض هذه الأدوات، مادية وأخرى معنوية .. وبعض الشخوص يذكرهم بالاسم الحصري، مثل "الخادمة والأميرة والقطة والأزهار والحارس والفنار"، لذلك يمكن القول: هو شاعر الهموم الصغيرة والشؤون العابرة التي وظفها بعيداً عن "الأنا" التي تلتصق بالشاعر لحظة تناوله لنص ما، حتى قيل عنهُ من قبل بعض الدارسين والنقاد إنّ: " قصائده مثقلة باللعبة اللغوية التي لا تؤدي مفعولها إلا في لغتها الأصلية " *1 ..

ربما من يقراً ذلك في الترجمة يدرك صحة القول. وكُلنا قرانا نصه الجدلي الساخر بواقعية: "غدا كلنا نموت – أنا والملك والحمار – الملك من الضجر - الحمار من الجوع – وأنا من الحب " *2.

ويلحظ في نصوصه اكتشاف لذة غائرة وتوهج عشقي بأدواتهِ المحكة في اشتغاله، وقد قيل عنهُ: يكتب كما يكتب وهو سائرٌ، وكان ملتصقاً بالحياة " *3 .. وتبدو ظاهرة " التكرار" التأكيدي في توظيفه بين فضاءات النص وكأنها لازمة لا يحيد عنها، وقد جاءت بالفطرة الملائمة لشخصيتهِ دون التخلي عنها البته، فهو يعمل على خيط نسيجي موحد رغم ألوانه وما تتطلب القصيدة من إضاءات في بنيتها المعمارية.

وتمثل قصيدة " أغنية المطر " توظيفه للمفردات اليومية، فما مفردة "المطر" إلا هي مختارة من يومياتهِ الراسخة بالضجر والأسى والتحولات المفضية الى الاختلاف، ربما المطر هو المتساقط عليهِ بالمصائب، وكأنه سخط من السماء، لكن تحليل القصيدة يظهر غير ذلك وكأنهُ مطر أرضي أو هو الانعكاس الحياتي للأشياء التي ذكرها وقد ولدت لديه َ حالة من الإرتكاسات الحالمة بطبيعة حياتهِ، والانتكاسات المتوالدة من ذلك الضجر. وقد وظفها في أكثر قصائده " الصحو والمطر – درب السين – بربارا – الافطار "  حتى لو استعمل الجامد والهامش والمهمل؛ فانه يستنطق نبضها في ذلك الايقاع المتوالد كما في مفردة " أغنية " الحركية بلحنها وتناغمها المفرح ، كذلك " المطر" هي حركة القطرات سقوطاً وبنشيج حزين كما يتخيل القارئ، فما جمعهما سوى " الضجر " المتلازم بأسىً شفيف يبدو ظاهراً من حالة التكرار المتلازم معهما ..

ولو أخذنا عينة من هذا التوظيف المتقارب والمقارن بقصيدة أخرى هي "انشودة المطر" للشاعر الرائد "السياب" سنجد التناص والتعالق الروحي والمقاربة الرؤيوية والمقارنة والتقارب بينهما، نرى أنّ الأثنين تعتريهما حالة الضجر الحياتي من واقعهم المزري ومعايشة وسط هذا الكم الهائل من الهطول الحياتي للأشياء، حيث اللازمة النفسية "المرضية" لهما وهي مقرونة بالمطر، فكل منهما بنى صرحه الشعري في هذا المتساقط القاطر من علو "حزيناً بائساً" مقاربة، لكن يظهر الاختلاف توظيفاً، فالسياب حزنهُ جذري، وبريفير حزنه مصطنع بضجر مدني، ربما يشتركان مع " سان جون بيرس " في قصيدة أمطار ..  يقول في مستهل القصيدة:

أغنية المطر – RAIN SONG

مطر مطر مطر

تمطر قططاً

تمطر كلاباً

تمطر أولاداَ وبنات

تمطر ملكات وبغايا

كلاباً مدربة وقططاً صهباً.*4

تنمو القصيدة بناءً عضوياً وبتدرج نغمي وكأنها مُغناة، لذا تلاحظ "الضجر" المُبان" من التكرار، بدءاً بكلمة " مطر " الثلاثية تكراراً  أوجدت نغماً خاصاً بها في التلفظ المبني على صياغة الترديد المتتالي والمتتابع والتكرار دون أخذ جرة النفس المطلوبة بوقفة، والتي تعني ما يريده من ضجر الحياة بزخمها وكثافة الأشياء فيها من المهمل والهامش والحشوي، وكأن ضجر "باريس" قد استوعب النص مطابقة بـ الحي اللاتيني المزدحم بهذه الأشياء، فهو ليس مطر الخير كما في قصيدة السياب، بل جمعهما الضجر والأسى والخمول في واقع مرير جمعهما معاً ... فالمطر الكلمة المتكونة من ثلاثة حروف وترديدها ثلاثي الترنم = اللحن المأساوي، وكأني ارى هذا المطر أرضيا – أفقيا، وليس من علو = سماوي، بل عبر عنهُ تأويلاً عن الكُثرة والزحام في مدينة مثل باريس المفتوحة على عوالم الدنيا واستقطابها يتوالد منه هذا الكم من التوليف من " قطط وكلاب وبغايا وملكات: هذه الأغنية الضجرة التي تقولب وتستلزم ذلك الأسى المقرف من الترديد اليومي المعاصر.

مطر مطر مطر مطر

أخضر اخضر اخضر اخضر

ضفدع أخضر أخضر ضفدع

تمطر نابالم

قنابل وحرابا تمطر

دماَ وموتاَ

انها تطفو انها تطفو.*5

ومن المتعارف لدارسي نصوص الشاعر بأنهُ يجيد لعبة المراوغة، ومناورة وضع المفردة في محل فقرة ما، أو مكان آخر كي تأخذ مسيرتها المضاءة في التفرد والاختلاف الذي يرنو اليه. فترديد مفردة " مطر " أربع مرات جاء عن دراية بذكرها تدريجياً من 3 بالمستهل، و4 في هذا المقطع، لأنّ الضجر ازداد من استمرارية الهطول، وكأن الواحد منا يقول على لسانهِ " كل يوم مطر "! .. يحبس الأنفاس ويخنق كل شيء، الشاعر اضافة الى حسه الرومانسي رغم سورياليتهَ المُحببة لديه لاسيما هو أحد أنصار روادها، كما ذكرت تفرده جاء بـ دادائية من ذكره المراوغة في مناورة المفردات: أخضر، أخضر، أخضر، أخضر

ضفدع أخضر، أخضر ضفدع" ما الذي جمع هذه الأحياء في النص .. جاء التدرج بخباء الضجر نوعأ ما "مطر نابالم –قنابل وحرابا – دماً وموتا – تطفو تطفو، هذه التي استذكرها أو ذكرها لحظتها هي ماثلة أمام عينيه، أو من خلال استذكار مأساوي ألم به ضجراً . استدراكاً لما ورد بأن القصيدة تميل الى التصوير المشهدي بتقنيات سردية مألوفة، بجمل نثرية متكررة ببعض من مفرداتها بالتدرج.

كل الوقت كل الوقت

مطر مطر مطر مطر

ومطر ومطر

وبعد وبعد

وبعد حلم حب

ميل وشروق.*6       

رغم أنهُ لم يذكر الرقم التكراري المتوقع بتدرجه بـ 5 رغم عضوية القصيدة ونسيجها المألوف بذلك، لكنه كسر المتوقع وأقتصر على " كل الوقت" التي استعاض عن الرقمية، لأن كل الوقت يعني ربما 24 ساعة، اليوم كله. وحين ذكرها برقمها آنف الذكر لأنه ناور وغاير، لكن أردف تكرارين فيما بعد للاستزادة أو المعالجة الصوتية بذلك، لذا اصبحت بـ 6، ومن ثم " وبعد وبعد " للاكتمال أيضاً، أي رسخ الضجر تماماً بهطول المطر المستمر، وهي الحركات التي يعنيها من وراء ذلك حالة التداعي بالمألوف عن التساقط الاستمراري، حتى ختم المقطع أو قُل الفقرة ذاتها باستبعاد المفردة " المطر" وحلَ مكانها التي تفضي الى الكثير من التحليل من "حُلم حب، ميل وشروق " ربما استمر المطر بالهطول حتى بزوغ الشمس "الشروق " أوضح ذلك من الوقت الذي يعنيه.

وفي النهاية يمكننا القول: إنّ "بريفير" يمتلك حساً رومانسياً في التوظيف، مع ذوبانه في السوريالية حيناً آخر .. وله مؤلفات تفي بهذا الغرض، منها: "كلمات -1946 \ حكايات 1947 \ مشاهد \1951 " *.. 7 وغيرها ... ومن الواضح أن له أسلوبا سهلا وسلسا في التعاطي مع اللغة التي هي اقرب الى العفوية، لغة ابن الشارع في نصوص سردية ووصفية يلتقطها من اليومي، كأن تكون محاورة بين شخصين "هو والآخر" بلقاء بألفة بمناورة حتى يكمل المشهد، وقصائده تشبه لقطات ملصوقة على صيغة " كولاج " وهو البارع في هذا الفن: "قصائد بريفير تشع من أغوارها ضياء المخفي المبني على ايهامات " *8 هي مشهدية حياته تصويرياً، فهذه علته في التوظيف معتمدا على خبايا وخفايا ملموسة رغم اختبائها بين طيات المتن النصي، وهذا نجده في اكثر نصوصه المقروءة، إذ يدخل في التفاصيل الزمنية من "سنة وشهر ويوم" وغيرها من مكملات نفسه الشعري بالتزامن مع الوقت الذي يرصده: " كتاباته مجرد يوميات أو مواقف ذاتية  "٩ نعم يلتقطها من الشارع كـلُقى، ثم يعطيها الروح بحس انساني "، وهذا ما موجود في العديد من نصوصه.

الهوامش:

1- جاك بريفير، قصائد مختارة، ترجمة سامي مهدي، دار المأمون للترجمة والنشر، بغداد، ط 1 ، 1988 .

2- قصيدة لـجاك بريفير.

3-  لورنس فرلنغيتي، مقدمة سامي مهدي، قصائد مختارة .

4- جاك بريفير، قصيدة أغنية المطر، ترجمة سامي مهدي.

5- المصدر نفسه.

6- المصدر نفسه.

7- كتاب الشعر الفرنسي الحديث، بول شاؤول " 1900- 1980 "، دار الطليعة – بيروت، ط1، تشرين الثاني، 1980.

8- المصدر نفسه، ص 4.

9- صحيفة البيان الالكترونية ، 23-5-2010 .