يتناول خالد عبد الغنى، المتخصص فى علم النفسن المعاناة التى تعانيها المرأة العربية، من خلال تنقيبه ودراسته لمجموعة "دموع الأوفيرا" للقاصة الواعدة مرفت ياسين. التى تسعى جاهدة، لا من خلال قصصها فقط، وإنما من نشاطها المميز والملحوظ فى الحفاظ على ذاكرة القصة القصيرة، كفن أدبى يواجه الكثير من التحديات، ويصارع من أجل البقاء.

معاناة المرأة في دموع الألوفيرا لمرفت ياسين

خالـد محمد عبدالغني

 

"دموع الألوفيرا " مجموعة قصصية تناقش قضايا ومشكلات نساء غلب عليهن المعاناة والأسى، لدى "مرفت ياسين" مؤلفة المجموعة أسلوب في الكتابة لم اعتده كثيرا في الكتابات المعاصرة للأديبات المصريات بخاصة حيث وجدت رقابة ذاتية من المؤلفة على العديد من المفردات والصور الخاصة بالأنثى وجسدها إلا في حالات نادرة جدا في بعض القصص، إنها مجموعة قصصية مليئة بالشجن الأنثوي بعد أن ضغطت الحياة بقسوتها على المرأة فأفقدتها البراءة والسعادة، وشيدت بداخلها جدران عالية من الهموم والمتاعب والمعاناة وكأن المرأة هي المعادل الموضوعي لزهرة الصبار  القادرة على الصبر وتحمل الجدب والظروف الشاقة دائما وأن دموعها وسيلة علاجية تنفيسية تقوم بعملية تفريج – تطهير – وهذه أحد وظائف الدموع النفسية، وأول ما يلفتنا هو البكاء – الدموع – باعتباره  خبرة نفسية يمر بها كل إنسان فى مختلف مراحل حياته، صغيراً كان أو كبيراً، ذكراً كان أو أنثى، غنياً كان أو فقيراً، ورغم شيوع خبرة البكاء لدى جميع الناس، فدائما ما ننصح  بالبكاء، وأن تترك العنان لدموعك تنهمر على خديك، عند تعرضك لمواقف نفسية صعبة أو توتر عصبى شديد، فالدموع تجلب الراحة النفسية لأنها تساعد على إزالة التوتر النفسى والتخفيف من الضغط العصبى على الإنسان وذلك لوظيفتها في تفريج الهموم – من فرج الله همك - .والإنسان عندما يبكى فإنه يعبر عن ضعفه واحتياجه إلى الأمان والراحة، فلا يجد غير الدموع تنفيساً عما يعانيه من ألم نفسى وضغوط عصبية، لذلك وضع قدماء المصريين تقاليد الجنائز عند الوفاة حيث يجتمع الناس ويبكون ويستبكون ويحمس بعضهم بعضاً، وبذلك تكون الجنائز فرصة لتفريغ شحنات انفعالية عند الكثيرين، وبكاء الشخص عند وفاة عزيز عليه نوع من الضعف واليأس، ومعناه انعدام القدرة على عمل ما ينقذ الموقف وغرضه اللاشعورى استدرار عطف الآخرين، فقريب المتوفى مثلاً يكون متأثراً وحزيناً دون أن يبكى عادة وهو بمفرده، فإذا ألتقى مع قريب آخر أو صديق بكى الاثنان معاً، فالبكاء يظهر عادة بالالتقاء الذى يصحبه التجاوب بين الأشخاص، فنحن عندما نرى الآخرين يبكون يتولانا ميل إلى البكاء ونبكى فى الغالب بالفعل كنوع  من التعاطف الوجداني والمشاركة الانفعالية . ولهذا كان عنوان المجموعة وقصتها الأولى عن الألوفيرا وهي زهرة الصبار المقاومة لجفاف الأرض وظروف الجو الشاقة .

وفي قصة "الألوفيرا " وقد عرفنا حياة كاملة أقرب لسيرة امرأة منذ شبابها الغض وانطلاقها في الحياة ونرى معها معاناة الأخت الساردة للحكاية :"فى منتصف الثمانينيات فى السادسة والنصف صباحا، أجلس على سرير متهالك فى حجرة صغيرة سقفها من الواح الخشب أستمتع بمشاهدة أختي الكبرى، وهي تقف أمام قطعة من كسر مرآة وقعت من دولاب أمي، ألصقتها بعجينة من الدقيق على الحائط، كانت ترتدى فستانا قصيرا، ضيقا من ناحية الصدر، والوسط ملفوف حوله حزام رفيع. من بعد الوسط ينسدل الثوب على شكل ثنيات واسعة، تنتهي عند الركبة تاركا لسيقانها البيضاء البضة مساحة أكثر من التحرر. تضع فى أذنيها قرطا كحبة حمص، وترسم عيونها العسلية بريشة من مكحلة فرعونية، صنعت ما بها من لبان مر. تمشط شعرها بمشط خشبي أسنانه واسعة، وتتركه ينسدل خلف ظهرها على هيئة ذيل الحصان ".

حياتها في العمل والزواج حتى مرضها الأخير وموتها : "منتصف الألفية الثانية ترقد على سرير فى مستشفى، وطبيب يضع فى أيدي ابنها تقريرا بسوء الحالة، ويطلب منا الدعوات بأن ينعم الله عليها بالراحة والسكينة بعد أن نخر السرطان جسدها الذي أصابه النحول، وفشلت محاولات الابن المتكررة فى جلب المسكنات عن تخفيف الألم.

شاهد قبر كلما زرعت بجواره زهورا تنمو سريعا وتتساقط وريقاتها، حينما عاتبت حارس المقابر، سخر منى قائلا:

  • الزهور تدفن هنا لا تزرع يا مدام، فقط الصبار هو من يظل بجوار الموتى شاهدا على طول معاناتهم وقادرا على مواساتهم

أومأت برأسي: فأحضر لي نبتة ألوفيرا زرعتها بجانبك ورحلت".

وتستمر ملامح الحزن والفقد فمثلا لم يسمح المجتمع بأن تعيش البنت بعض مرحها أو احساسها بجسدها وانتعاش روحها بموسيقى الناي الذي رمز في القصة لمظاهر جنسية لدى الشاب الذي أعجبت به الفتاة وبعزفه فتمايلت ورقصت في قصة عازف الناي :" شعرت برجفة شديدة تيبست على إثرها قدماها، ألقت نظرة خاطفة إلى الوراء فرأته، وأحست بعينيه ترسل سهاما تخترق كل تفاصيل جسدها. مضت فى طريقها، لكنها لم تتمكن أبدا من السيطرة على مشاعرها، عندما أحست بردفيها يتراقصان مع نغمات الناي. تباطأت خطواتها مع أنينه الذي أنّ معه جسدها، وحرك العزف شجونه، طالما نظرت إليه على أنه مجرد دمية لا روح فيها، مليئة بالثقوب كعود قصب نخره السوس". وهل صحيح أن عزف الناي هو ما حرك مشاعرها وجسدها أم نظراته المحدقة في تفاصيل جسدها ، وتستمر المشاعر والنشوة لتصل بها في النهاية لقمة شاهقة ولكن المجتمع أوقفها :" الآن وعلى وقع الناي كل تحفظاتها تتداعى، علامات الزمن تضمحل، نشوة تائهٍ تعتريها، تدخل جسدها وتتمايل به. تشعر بجسدها خفيفا كريشة تحلق فى الفضاء، وتتلاعب بها نسمات ترقص هي أيضا مع نغمات الناي، أغمضت عينيها، وتركت جسدها يعلو ويعلو، تحلق فى السماء، تدور وتدور، ثم فجأة توقف العزف. ألقت نظرة أخرى إلى الوراء، هذه المرة كانت نظرة عاتبة وغاضبة، صاحبتها حتى باب البيت".

وفي قصة "أصابع منحوتة" وجدنا الحلم غير المشبع للبطلة والتي أحبت في فترة طفولتها وقد فرقت الايام بينها وبين حبيبها ولكنها تعود إليه وقد صار شيخا واهنا :" سنوات مرت، حتى تحررت من كل ما يثقل ذاكرتي وحزن أبي لإجبار شيخ القبيلة له على الرحيل، لأبتعد عنك يا علي، ها أنا أعود مجددا. إلى تلك الشجرة، أتلمس صبيا وفتاة وحدتهما شمس الصحراء ببشرة داكنة، وفرقتهما طبائع البشر:

  • أين أنت يا «علي»؟

انتبهت من غفلتي على نباح كلب، يلهث وهو يجرى نحوي، يتشمَمني احتضنته بشغف، رفعت عيني لأرى عجوزا متكئا على عصاه أمـامي، يـردد مبتسما:

  • «علي زينب»......!!

وفي قصة وسادة تحدثنا عن معاناة ومشاعر فقد وحرمان البطلة لتصفها لنا  :" هي امرأة أربعينية وحيدة تنتابها رغبات جامحة، و بركان خامل كاد أن ينفجر، تتذكره كثيراً، بعد أن مكثت سنوات طويلة بالمنزل، تخلت عن كل شيء، وظيفتها، أصدقائها، هواياتها، كتبها، لكن عشقها لم يمح ذلك الحزن الدفين داخلها".

وفي قصة "مفارقة" تحدثنا عن زوجة تركها زوجها رغ حبها له ليجري وراء أمرأة شقراء أجنبية :" مددت يدي وقتها لأمسك يده، سحب يده مسرعا، حاولت أن أحتضنه بذراعي تأفف ونظر لي نظرته الصارمة، التي تخشبت بعدها فى وقفتي ليلتقط لنا المصور تلك الصورة التي ربما نسى أن يحذفها من صفحته بعد أن تحقق مراده من خلال التواصل عبر الإنترنت مع هذه الشقراء التي انتهت بزواجه منها فى أول فرصة لزيارتها لمصر بناء على اتفاق مشترك بينهما، سافرت هي بعد قضاء شهر عسلهما بين أروقة معابد الأقصر، ليلحق هو بها بعد ستة أشهر لم يترك لي خيارا، قرر هو كعادته، رمى عليّ اليمين وهو يفتح الباب ويحمل حقيبته إلى غير عودة".

 وفي قصة "حينما يأتي الموعد" نرى كيف تآمر الجميع على براءة الفتاة وسحقها بالاغتصاب من رجل غني ، وبيع أخيها لها وقبضه ثمن ذلك لنرى كيف انهارت الفتاة وماتت وظلت شبحا طارد الجاني بالاغتصاب  وإن تمنيت أن يطارد الأخ أيضا:" ذهب أخوها إلى بيته يطلب مقابلته، افتتح حديثه بطلبه:

  • البيت اللي فى الزمام الشرقي يلزمني يا كبير..

 ابتسم الكبير ساخرًا:

  • وماله... لو معاك تمنه..

مد الأخ يده فى جيب جلبابه، وأخرج هاتفه المحمول، ومده إليه ليشاهد أحد مقاطع الفيديو، ألجمته فظاعة المشهد. لم يمهله الأخ وقتًا، وأخرج من جيبه الثاني عقدًا، وقّع عليه الكبير وهو مذهول.

ثمن بخس أخذه الأخ مقابل الصمت عن جريمة كان شاهدًا عليها، ووثقها بوحشية لا تقل فظاعة أو ربما أكثر من فعلته هو، ثم أكملها بقتلها بدم بارد".

وبهذا كأمثلة فقط  نجد إن مظاهر الأسى والللوعة والفقد موجودة بكثرة داخل قصص المجموعة  وفي قصة حملت عنوان " امرأة وحيدة" لنجد السارد في هذه القصة هو الفنجان الذي عاش وحيدا مهملا بعض الوقت حتى التقطته يد هذه المرأة فعاش معها وقص علينا معاناتها ووحدتها حتى رحليها :"كانت تتطلع بعينيها لكل ما فى الفاترينة، تتأمل قطعة، قطعة. كنتُ منزويا وحيدا بين أطباق وأكواب وآنية تلفت انتباه العابرين، بلا نظرة واحدة إليّ. فلا أنا فنجان صغير للقهوة، ولا كبير يناسب عشاق الشاي. فى الحقيقة، لست فنجانا ولا كوبا أيضا، غالبا أخطأ صانعي فى تشكيلي، فأصبحت أحمل شكلًا مغايرًا، طوال الوقت كنت أحلم بعينين تحدقان بي وتبتسم لي، ويد تنتشلني من هنا، وشفتين تلمساني".

وهنا نجد ملامح لتناص مع قصص ألف ليلة وليلة أو مع ما يطلقون عليه أدب الفانتازيا أو العجائبي ولكن مع أي من كل هذه المفاهيم نجد قدرة رائعة لدى المؤلفة حين جعلت الفنجان بطلا وساردا للقصة مثلما الكثير من الجمادات أو الحيوانات التي سمعنا منها قصصا مشابهة أمتعت الذاقة فترات طويلة من تاريخ الأدب العربي الذي يعنيني في كل مقام . والمؤلفة تختم القصة بشعور الفنجان بالفقد بعد رحيل المرأة :" فى العشر سنوات الأخيرة، تثاقلت حركتها، توقفت عن العمل، وشاركتنا المنزل ليلا إحدى الممرضات، تخلت عن كل عاداتها فى القراءة ومشاهدة التلفاز، باستثناء طقسها المعتاد معي. عندما سمعت الطبيب يأمرها بالتوقف عن شرب القهوة، ملأني الغضب، وتمنيت لو كان قادرا على فهم لغتي مثلها. شعرت بالرحة وأنا أراها تنظر إليه بابتسامة ساخرة: ما فائدةالحياةإذا لم نفعل ما نحب؟!" وهنا نلاحظ تناص المؤلفة مع حديث سيدنا رسول الله محمد صلي الله عليه وسلم فقد روى البخاري أيضا عن جَابِر بْن عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قال: " كَانَ المَسْجِدُ مَسْقُوفًا عَلَى جُذُوعٍ مِنْ نَخْلٍ، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَطَبَ يَقُومُ إِلَى جِذْعٍ مِنْهَا، فَلَمَّا صُنِعَ لَهُ المِنْبَرُ، وَكَانَ عَلَيْهِ، فَسَمِعْنَا لِذَلِكَ الجِذْعِ صَوْتًا كَصَوْتِ العِشَارِ، حَتَّى جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا ، فَسَكَنَتْ" وقيل :"وظل صوت أنين الجذع يعلو ويعلو، حتى لم يعد الصحابة يسمعون صوت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يخطب، فأوقف النبي خطبته ونزل من على المنبر وأقبل على الجذع، وأخذ رسول الله يربت على الجذع ويمسح بيده الشريفة عليه كما تفعل الأم مع طفلها الذي يبكي، حتى أخذ الجذع يهدأ شيئًا فشئ حتى سكت، وضمه إليه وخاطبه وخيره بين أن يكون شجرة مثمرة في الدنيا لا تفنى حتى قيام الساعة وبين أن يكون معه في الجنة، فاختار الجذع أن يكون يكون مع النبي في الجنة، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: "لو لم أحتضنه لحنَ إلى يوم القيامة".  وحن أي بكى.

ومن الجديربالذكر أن المؤلفة «مـرفـت يـس»صاحبة المجموعة القصصية "دموع الألوفيرا" الصادرة عام2023 ، كاتبة مصرية. صدر لها: «روائع القصة القصيرة فى مختبر السرديات»، مشترك مع مجموعة من الكتاب، صادر عن مختبر سرديات الإسكندرية، دار نشر همسة، 2016م. «الأحمر»، قصص قصيرة، عن دار كيميت، 2020م. «بصيرة المتشكك»، الهيئة العامة للكتاب، 2020م. «الأستاذ من جديد»، إعداد مشترك مع الكاتب سيد الوكيل، 2021م. «آفاق جديدة للقصة العربية»، إعداد وتقديم، 2022م.