يثير الناقد المغربي المرموق هنا قضية الفيلسوف المصري عبد الرحمن بدوي، وعلاقاته الإشكالية بالفكر النازي الذي طعّم به حزب "مصر الفتاة" حينما انضم له، وواصل الدفاع عن بعض جوانبه في سيرة حياته التي تعد خلاصة لفكره وشهادة عميقة عن عصره، ويقارنه بموقف معاصر الفيلسوف الجزائري محند تازورت الوطني.

عبد الرحمن بدوي: هفوات السياسة أم أخطاء الفكر؟

فريد الزاهي

 

لم يُثر فيلسوف عربي من النقاش ومن الصراع والمساجلات، في تاريخ الفكر العربي، ما أثاره عبد الرحمن بدوي منذ نهاية ثلاثينيات القرن الفائت، ليس فقط لأن حياته كانت وراء ذلك، بحكم الصراعات والتحولات والتطورات التي كانت تعتمل في تلك الفترة في قلب الحياة السياسية المصرية والعربية، ولكن أيضًا لأن مواقفه كانت تثيرها بالنقد والمواجهة والسجال. والقارئ لمقالاته الغزيرة وسيرته الذاتية سيجد فيها من النقد والتحقير لعدد من الشخصيات الثقافية العربية المعروفة، كما من النقد الساخر للتعليم ونظمه في العالم العربي، وللمستوى المتواضع لطلاب البعثات المصرية والعربية في الجامعات الأوروبية، ما يمنحنا نظرة متعددة عن شخصية كرست نفسها للبحث والتدريس والتحقيق، بحيث يمكن اعتباره من أغزر الفلاسفة العرب إنتاجًا، وأكثرهم سجالية، وأغناهم تجربة.

بدوي والنازية وهايدغر
كانت دراسات بدوي عن الوجودية وأبحاثه ومقالاته فيها تبشير بولادة فلسفة عربية كان السابقون إليها (عدا الجزائري محند تازورت، ومصطفى عبد الرازق) عبارة عن أدباء يتعاملون معها بانتقائية، أو بشكل لا يرقى إلى مستوى التفلسف. وليس من قبيل الصدفة أن تضم اللجنة التي ناقشت دكتوراة الدولة للفيلسوف الشاب في بداية الأربعينيات، كلًّا من مصطفى عبد الرازق المعروف بانفتاحه الكبير على الفكر الفلسفي، وطه حسين، الأديب الذي احتك في مقامه الباريسي بالفكر العقلاني. كما أن كتابه الأول عن نيتشه (1939) كان ذا وقع كبير في الحياة الثقافية (بل والسياسية) لأنه فتح آفاقًا فكرية غير مشهودة في ثقافة وقفت مع طه حسين عند حدود ديكارت.

وفي الوقت الذي نشر فيه هذا الكتاب، كان هتلر قد أعلن عن بداية الحرب الكونية الثانية، وكان على البلدان العربية ومثقفيها وسياسييها، ومن ضمنها مصر، أن تتموقف في هذا الصراع بطريقة ستكون أبعد من أن تكون طريقة المثقفين والسياسيين الغربيين. فخضوع أغلب البلدان العربية للاستعمار الغربي (الفرنسي والإنكليزي، سواء أكان انتدابًا، أو حمايةً، أو استعمارًا) جعل أنظار العرب تتجه منذ البداية، باستراتيجية تكتيكية، إلى مساندة ألمانيا النازية في دعوتها الوطنية، من غير أن تنتبه إلى الأبعاد العرقية والعنصرية التي تحملها في تقديسها للجنس الآري. وكان عبد الرحمن بدوي من المثقفين والكتاب والسياسيين العرب الذين كانوا ذا موقف معاد للبلدان الغربية عمومًا، ومناصر لقضية هتلر، لا فقط في صراعه ضدها، وإنما أيضًا في معاداته لليهود واليهودية.

أمن الصدفة أن يكون لهايدغر وتلميذه بدوي النظرة نفسها للنازية والهتلرية؟ وهل يعود رأي عبد الرحمن بدوي في النازية وهتلر إلى اتباعه لنظر أستاذه للمسألة؟ ولماذا لم تحظ مواقف عبد الرحمن بدوي في العالم العربي بالنقاش نفسه الذي حظيت به مواقف هايدغر في الغرب؟ كان هايدغر ينتمي إلى حركة "الثورة المحافظة" منذ بداية الثلاثينيات، وهي الحركة التي قد تكون مهدت الطريق للحركة الوطنية الاشتراكية (النازية) ذات الطابع الشعبوي. وفي عام 1933، سيعين رئيسًا لجامعة فريبورغ، المنصب الذي لم يمكث فيه لأكثر من عام واحد، ليتفرغ إلى بلورة فلسفته المتمحورة حول التجذر في الأرض ومسألة الانحطاط. كانت تلك الأنطولوجيا تسائل الميتافيزيقا، غير أن السياق السياسي الذي جاءت فيه جعل بعضهم يرى فيها "أنطولوجيا سياسية" (حسب تعبير بيير بورديو). وهكذا حسب هؤلاء يتصل الكائن بالشعب والكينونة بالدولة.

انقسم المفكرون والفلاسفة بخصوص العلاقة الغامضة لهايدغر بالكيان النازي. وكانت حنا آرندت، طالبته اليهودية التي ارتبطا معًا بعلاقة في الثلاثينيات، كما جاك دريدا اليهودي ذو الأصول الجزائرية، إلى جانب آخرين، من المنافحين عن "براءة" أستاذهم من هذه التهمة، فيما رأى فيها آخرون مجرد سوء تفاهم. فحين كان هايدغر مسؤولًا عن الجامعة، دافع عن طلبته اليهود، ومدّ لهم يد العون، ومن ضمنهم الفيلسوف ذو الأصول اليهودية كارل ياسبرز، الذي أكد في التقرير الذي حرره عن أستاذه في عام 1945 الغياب التام لمعاداة السامية لدى هايدغر في السنوات السابقة على 1933. وباعتباره رئيسًا للجامعة، منع إلصاق أي منشور معادٍ لليهود في الحرم الجامعي، فيما مُنعت كتبه، ولم يعد يطبع منها إلا كتاب "الوجود والزمن».

بيد أن هايدغر سوف يفسر علاقته بالنازية في نص واضح قائلًا: "كنت أعتقد أن هتلر، بعد أن تربع على مسؤولية الشعب الألماني كافة، سيجرؤ على أن يحرّر الحزب النازي من عقيدته ومذهبه، وأن الكل كان يتلاقى على أرضية التجديد والتجمع في أفق مسؤولية ما للغرب. كان هذا الاعتقاد من جانبي خطأ وقفت عليه وأدركته انطلاقًا من أحداث 30 يونيو/ حزيران 1934. وكنت عام 1933 قد تدخلت لأقول نعم للوطني وللاجتماعي (لا للنزعة الوطنية والقومية)، ولقول لا للأسس الفكرية والميتافيزيقية التي كان تقوم علها النزعة البيولوجية لمذهب الحزب، لأن الاجتماعي والوطني، كما كنت أراهما، لم يكونا جوهريًا متصليْن بالأيديولوجيا البيولوجية والعنصرية".
وعبد الرحمن بدوي، الذي زار ألمانيا في الثلاثينيات، أبدى (كما يوضح ذلك بإطناب في سيرة حياته، ج. 1) انبهارًا كبيرًا بالسياسة النازية، وولعًا باهرًا بأدولف هتلر، الذي كان يمثل لديه رمزًا معاديًا للغرب الكولونيالي. وحين انتحر هتلر في 30 أبريل/ نيسان 1945، وكما يحكي ذلك فؤاد وهبة، أحد طلبته، دخل بدوي في اليوم الموالي قاعة المحاضرات وهو يرتدي ياقة سوداء تعبيرًا عن حداده عليه، حسب ما أخبرهم به. وكان هذا الحداد امتدادًا للانبهار الذي عاشه الفيلسوف في مدينة منشن وهو يحضر بالصدفة وبشكل مباشر لخطبة ألقاها الفوهرر. كان الحزب النازي يشكل لبدوي أنموذجًا يمكنه أن يستعيد به المصريون ألقهم الفرعوني. وما دام الفيلسوف رجل سياسة أيضًا ينتمي إلى حزب مصر الفتاة، فإنه بعد الأشهر التي قضاها في ألمانيا وإيطاليا (والتي كان لطه حسين اليد الطولى في ترتيبها له)، عاد محملًا بالإرث الكتابي للنازية لينشر في جريدة حزبه المصري عددًا من المقالات التي لا تكتفي بمديح النازية، وإنما بشرح مسوغات تبنيها المصري والعربي.

يبرر بدوي تشبعه بالفكر النازي بتشابه وضعية ألمانيا بوضعية مصر، ومن ثم بما يمكن أن توفره روحها القتالية والنظامية والأخلاقية لأبناء الشعب المصري للتحرر من النفوذ الإنكليزي. وبالمثل، فإنه يبرر تعامل النازية مع اليهود بأنه استعادة ألمانيا لنفسها من سيطرة اليهود خلال حكومة فيمارت، ونفوذهم المبسوط على السياسة والاقتصاد والفنون. كما أنه يعود إلى وثائق يهودية ليفند المزاعم القائلة بطرد اليهود من ألمانيا وتقتيلهم، أو التمييز العنصري ضدهم. بل يثبت بالمعاينة أنه خلال مقامه بألمانيا لم ير أي تعامل مشين ضدهم. "أما الفاشية ومؤسسها موسوليني، فلم يثيرا في نفسي أي إعجاب، لأنه لم يكن وراء الفاشية مبادئ سامية تصلح أن تكون نماذج إنسانية تُحتذى".ويضيف: "بيد أني كنت شديد الإعجاب بحركة البعث والوحدة في إيطاليا، وببطليها العظيمين: متسيني وغاريبالدي، وخصوصًا بأولهما، لأنه كان إنساني النزعة، مفكرًا له إنتاج فكري يُقرأ ويٌلهِم، بينما كان غاريبالدي مجرد وطني ثائر وقائد حربي، ناضل في سبيل حرية بلده..." (السيرة، 1، 54).

شاهد التاريخ والأسئلة العالقة
نشر بدوي سيرته عامين قبل وفاته في عام 2002. وهي سيرة ضخمة تبين عن علاقة احترام لكثير من المثقفين المصرين، كطه حسين، ومصطفى عبد الرازق، وتكشف عن احتقاره لكثيرين، ومن ضمنهم أحمد أمين. وتحلل تاريخ مصر والبلدان الكثيرة التي زارها هربًا من الناصرية، أو لإلقاء المحاضرات. لم يتزوج الرجل أبدًا، وأصدر ما يناهز مئة وخمسين كتابًا، بين التحقيق والتأليف والترجمة. عاصر وصاحب مستشرقين مرموقين، منهم لالاند، وماسينيون، وفلاسفة كبارًا مثل كويري، وبرانشفيك. وأتقن من اللغات ما عجز عنه آخرون، كاليونانية، واللاتينية، والإيطالية، والفرنسية، والألمانية، عدا العربية. وكان أول فيلسوف عربي يجعل من الألمانية لغة فكر ووجود، ومن اليونانية مصدرًا لإحياء التراث العربي الفلسفي.

وليس من قبيل الصدفة أن طه حسين، بعد مناقشة أطروحته، رأى فيه أول فيلسوف مصري. وما دامت مصر في ذلك الوقت كانت منارة العالم العربي، أضحى بدوي يُعرف بكونه أول فيلسوف عربي. والحال أن مصطفى عبد الرازق بالرغم من أنه لم ير نفسه أبدًا فيلسوفًا كان من ضمن المبشرين بهذا التفلسف الحديث. والغريب في الأمر أن بدوي لم يسر به فضوله (هو العارف بالثقافتين الألمانية والفرنسية) للتعرف على مفكر وفيلسوف آخر هو محند تازورت، الذي كان قبله، وبمُجايلة له، يكتب عن الفكر الألماني بالفرنسية، ويترجم ويحرر نصوصًا ذات عمق فلسفي باهر، حتى اتهمه الفرنسيون بكونه ذا ميول ألمانية نازية، لا لشيء سوى لدفاعه عن الثقافة الألمانية التي كان عارفًا بها. مع أنه لم يكن كذلك.

أضحى محند تازورت وطنيًا مدافعًا عن بلاده، وعن أفريقيا. أما عبد الرحمن بدوي، فإنه ترك حزب "مصر الفتاة" الذي طعمه بالفكر الهتلري الوطني، ولم يترك أبدًا اقتناعه بالفكر النازي. وفي سيرة حياته التي تعد خلاصة لفكره وشهادة عميقة عن عصره، سوف لن يتخلى عن هذا الإيمان، ولن يتراجع عنه. فهل كان الأمر عنادًا شخصيًا أم عنادًا فكريًا، أم مجازًا عن خيبة ألمّت بهتلر، كما ألمت بكافة أحلامه الوطنية؟

 

عن (ضفة ثالثة)