يقدم لنا الكاتب اللبناني المرموق هنا تغطية لمساهمات أحد أبرز المنظرين الألمان في عالمنا المعاصر يقدم للقارئ العربي إسهاماته القيمة في النظرية النقدية وجدليات الحراك الاجتماعي في عالمنا ومتغيراته الراهنة، وكيف أنه بلور مجموعة الأفكار والتحولات الأساسية التي انتابت هذه النظرية بعد مساهمات فوكو ومدرسة فرانكفورت، وطورها بشكل خلّاق.

أكسِل هونيث: الاجتماعي ونقد السلطة

اسكندر حبش

 

(1)

يبدو اليوم الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني أكسِل هونيث (وفي ترجمة أخرى هونيت)، معروفًا على نطاق واسع، ليس في أوروبا وحدها (حيث يُعد من أبرز الفلاسفة وعلماء الاجتماع الأوروبيين)، بل في العالم أيضًا. كنّا، نحن الذين نقيم في هذه البقعة من الكون، في حاجة إلى أن يُترجم إلى لغة نجيدها ـ (بكوننا لا نعرف الألمانية، قبل أن تبدأ الترجمات العربية بالانتباه إليه، كما الأبحاث المستفيضة عنه[1]) ـ كي نكتشف مشروعه الفكري الضخم، الذي بدأ في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، حين نشر كتابه الأول "نقد السلطة" ـ وهو عمل استخلصه من أطروحته الجامعية، التي كتبها خلال سنوات دراسته في معهد علم الاجتماع التابع لجامعة برلين الحرّة ـ الذي يحمل جذور عمله النظري إلى حدّ كبير. فمنذ صدوره اتخذ هذا العمل أهمية أساسية في العلوم الاجتماعية والفلسفة. أولاً وقبل أيّ شيء آخر، لأنه قدّم فيه نظرة عامة وإطار عمل لمناقشة التقليد الكامل للنظرية النقدية: من ماكس هوركهايمر، إلى يورغن هابرماس.

في أي حال، ومن زاوية شخصية، لم أكتشف هونيث، إلا بعد ترجمته إلى الفرنسية، التي نُقلت إليها معظم نصوصه، بدءًا من الألفية الجديدة (مع كتاب "الصراع من أجل الاعتراف"، عن منشورات Cerf، عام 2000).؛ ومع ذلك بقي كتابه الأول هذا، عمله الرئيسي، غير مترجم، لذلك أتت الترجمة الفرنسية (2017) لـــ "نقد السلطة"، أي بعد أكثر من ثلاثين عامًا من نشره في ألمانيا، ليساعدنا، من دون شك، على فهم هذه المسافات والتحولات التي اتخذها المؤلف، من البداية، مع مدرسة فرانكفورت وممثليها الرئيسيين، تيودور أدورنو، ويورغن هابرماس، (على الرغم من دراسته في هذه المدينة وإدارته لمعهد البحث الاجتماعي الشهير، فيها). إذًا، كتاب الفيلسوف الألماني هذا، هو ترجمة لكتابه الأول المهم، الذي صدر في عام 1986 تحت عنوان Kritik der Macht ("نقد السلطة"، عن منشورات Suhrkamp Verlag). كما أنه يحتوي على الكلمة الختامية للمؤلف نفسه، والمرفقة بطبعة "كتاب الجيب" عام 1988، بالإضافة إلى مقدمة للطبعة الفرنسية الحالية. تمّ تحديد موضوع الكتاب، الذي جمع نتائج بحث الدكتوراة الذي أجراه في معهد علم الاجتماع في جامعة برلين في الثمانينيات، حاملًا يومها عنوانًا فرعيًا (في طبعته الأصلية): "مراحل التفكير في النظرية النقدية للمجتمع".

وكان هونيث ينوي من هذه الإشارة نشر فكرة نموذج صراع المجتمع، على أساس نظرية الاتصال. أما النسخة الفرنسية الحالية فتختار عنوانًا فرعيًا آخر ذا مغزى (نقد السلطة ـ ميشيل فوكو ومدرسة فرانكفورت، تطورات لنظرية نقدية للمجتمع[2])، وهي بذلك تُسلط الضوء على أهمية نظرية ميشيل فوكو للسلطة في نشأة نظرية الاعتراف، حيث جسد الفيلسوف الفرنسي مفهومًا ثالثًا بين النظرية النقدية الأولى، "جدلية العقل" بواسطة ماكس هوركهايمر وثيودور أدورنو، ونظرية الاتصال عند يورغن هابرماس. أهمية هذا الكتاب، لا تزال سارية، وراهنة، بعد ثلاثين عامًا من نشره لأول مرة. إذ أنه يقدم تمثيلًا دقيقًا للعديد من المؤلفين الذين تمّت مناقشتهم، بإيجاز ملحوظ ودقة مفاهيمية، ممّا يوفر لنا مفاتيح قيّمة للدخول إلى أعمال المؤلفين الرئيسيين، مثل هوركهايمر، وأدورنو، وهابرماس. على هذا النحو، يمكن أن يكون كتاب "نقد السلطة" بمثابة مقدمة للنظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت. لكنها مقدمة تقدم قراءة معينة، يتتبع من خلالها المؤلف الأخاديد التي حفرها أمامه، ويناقش هذا التقليد في الفكر. في الواقع، يُطور هونيث مساره المفاهيمي الخاص، بينما يرسم بعض النتائج الحاسمة لبقية عمله، ما أدى به لاحقًا إلى تطوير نظريته الشهيرة (الآن) عن "الاعتراف الاجتماعي". ففي كتابه هذا يطوَّر المؤلف نقده المهم لمفهوم هابرماس المسكوني للمجتمع، ليصر على الحاجة إلى تطوير نظرية الصراع والنضال

(2)

يسمح لنا الكتاب، أيضًا، بتقييم البديهيات التي دفعت هونيث إلى جعل مفهوم القوة والهيمنة في تاريخ النظرية النقدية، حتى في نظريتي فوكو، وهابرماس، الخيط الحاسم الذي أدّى إلى نظرية الاعتراف، والذي قاد في النهاية إلى ما عُرف باسم التحقيق الواسع حول "الاجتماعي". لذا فإن قراءة "نقد السلطة" يكشف لنا، كيف تشكّل التفكير الذي طوره الفيلسوف الألماني: في إطار نظرية نقدية للمجتمع، وما هي قدرة المجموعات الاجتماعية على تغيير وضعها وبالتالي الهروب من شكل من أشكال الاستسلام في مواجهة الهيمنة، أو الحدّ من نشاط التواصل والتخاطب. نصه هذا، الذي يتبع حجج المؤلفين الذين أعاد قراءتهم لإظهار المآزق التي وصلوا إليها، يدفع إلى الخلفية ـ بطبيعته، كما من خلال طابعه التوضيحي المجرد ـ القضية السياسية التي يعيد هونيث نفسه التذكير بها، في المقدمة التي كتبها خصيصًا، لهذه الترجمة الفرنسية، وأضافها على هذا الجزء من العمل الذي استلّه من أطروحته. لذا تُظهر القراءة اليوم برنامج الفيلسوف الطموح والشديد الذي كان يعده لتأملات مقبلة.

من هذه الزاوية أيضًا، يقدم هذا الكتاب قراءة لعمل ميشيل فوكو، الذي يسجل مساهمته في سلالة مدرسة فرانكفورت. العلاقة بين فوكو والنظرية النقدية، غالبًا ما يتمّ استحضارها من دون مناقشة حقيقية وجدية، لهذا تجد لها تفسيرًا فعليًا هنا، ففي ألمانيا، لعب الكتاب دورًا مهمًا في استقبال عمل فوكو، في السياق المثير للجدل للتوتر بين هابرماس وما بعد الحداثة الفرنسية. بفضل ثراء قراءاته، وحفظ تعليقاته ودقة انتقاداته، ولكن أيضًا من خلال تسليط الضوء على المقاطع الفكرية المختلفة بين فرنسا وألمانيا، ما يتيح لنا فهمًا أفضل لفكر المؤلف الذي يلعب حاليًا دورًا ذا أهمية قصوى في النقاش الفكري العالمي

(3)

بدأت أطروحة التجديد الضروري للنظرية النقدية، التي تمّت صياغتها في أوائل الثمانينيات، من ملاحظة فشل هوركهايمر، وأدورنو، في التفكير في الاجتماعي، لأنهما بقيا عند مفهوم السيطرة على المجتمع، وفق نموذج الهيمنة على الطبيعة بالعمل، ذات الإلهام الماركسي. بغض النظر عن الانعكاسات التي من الممكن أنهما جلباها معهما من "المنفى"، إلا أن نظريتهما في الهيمنة تطورت خلال سنوات الفاشية والنازية والسوفياتية، وهي صالحة لعصر الرأسمالية الراسخة، حيث احتفظت المؤسسات بالأفراد في تبعيتها؛ لقد كانت تفتقر إلى نظرية المجتمع التي لا تترك الأفراد في وضع مهيمن بحت، ولكن تمنحهم إمكانية التفاعل. يرفض هونيث هذا الاختزال، ولكي يهرب من "احتكار" مدرسة فرانكفورت في ألمانيا الغربية، يلتفت إلى فيلسوفين دمجا بُعد الفعل الاجتماعي في نظريتيهما: ميشيل فوكو، ويورغن هابرماس.

يقدم الأول، الذي جاء إلى برلين مرات عدة، نظرية السلطة التي تنتقل من المقاربة السيميائية والبنيوية إلى تحليل من حيث علاقات القوة والمعرفة، على خلفية "معركة دائمة". باستثناء أن الصراعات الاجتماعية تفسح المجال لتكنولوجيا أفضل من أي وقت مضى للسيطرة الاجتماعية. هذه السلوكية (béhaviorisme)، بالنسبة إلى أكسل هونيث، لا تفسر "أشكال تكامل مجتمعات الرأسمالية المتأخرة" لذا، انضم أخيراً فوكو إلى أدورنو بطريقة معينة: حيث رأى هذا الأخير، خانعًا، إلى أين ستصل نهاية سيرورة الحضارة، مع اغتراب البشر الذاتي، فيلاحظ فوكو، في دراساته التاريخية، "العملية الموضوعية لزيادة السلطة الاجتماعية".

من ناحية أخرى، يركز هابرماس تأملاته على "التفاعل الاجتماعي"، إذ يطرح التواصل (التخاطب) كوسيلة لأعضاء المجتمع للاتفاق على معايير العمل: "لأول مرة في تاريخ الماركسية، يصبح التخاطب من خلال التواصل نموذجًا (براديغم) للاجتماعي". لا ينبغي أن يؤدي الإجماع الذي يتم تحقيقه على هذا النحو، إلى التفكير في أنه إذا حدث "عمل تواصل" في "عالم حيّ"، فإن النظام وهذا العالم المعاش يصبحان مستقلين، باستثناء تجديد أخطاء أدورنو ("الثنائية بين المنظمة وفرد")، وفوكو ("ثنائية بين جهاز الدولة وجسم الإنسان"). لا يفي هابرماس بوعود نظرية التواصل من خلال عدم مراعاة عدم المساواة بين المجموعات الاجتماعية، والتي لا يمكن أن تتفاعل إلا للوصول إلى إجماع أخلاقي من خلال الصراع الاجتماعي: هذه هي "النسخة البديلة" كما يقترح أكسل هونيث في نهاية تحليله الطويل.

كان هذا للإعلان عن برنامج عمل شغَله فعليًا للسنوات التالية، كما يقول في مقدمته للطبعة الفرنسية. لا شك في أن أكسل هونيث لا ينصف المؤلفين الذين يقرأ أعمالهم بدقة. لقد دافع أدورنو عن نفسه ضد اتهام الاستقالة الموجه (ليس فقط من قبل هونيث) ضد "الممثلين القدامى لما يسمى تقليديًا مدرسة فرانكفورت"؛ يوافق هابرماس، الذي يحمل الاتهام نفسه أيضًا، بشكل أساسي مع تفسير هونيث لفوكو، مشيرًا إلى "نقد السلطة" في "الخطاب الفلسفي للحداثة". لكننا نرى كيف يتقدم أكسل هونيث من خلال تفنيده لآراء مؤلف ضد الآخر، كي يسير في تفكيره الخاص، الذي يركز على قدرة المجموعات الاجتماعية، باسم المساواة، على الحوار بطريقة متضاربة. سيتم إبراز هذا البُعد من النضال الاجتماعي من خلال انعطاف "النضال من أجل الاعتراف" بعد قراءة (إعادة) هيغل. ففي كتاب "ما الذي يعنيه الاجتماعي" (Ce que social veut dire منشورات غاليمار، 2013)، قدم هونيث النتيجة المؤقتة لعمله، وهي فكرة "أن المجتمع يتكون أساسًا من النضال من أجل الاعتراف المتبادل"، والتي تمّ تطويرها لاحقًا في كتابه "الحق في الحرية" (الترجمة الفرنسية عن منشورات غاليمار عام 2015) حول العدالة الاجتماعية المقسمة حسب مجالات العمل، لضمان الحرية الموعودة للأفراد.

(4)

يرتبط هونيث بمفهوم "الاعتراف" الذي يتوارثه عن هيغل (في مرحلة شبابه)، من أجل تشكيل نظريته، بحيث أنه يوفر برنامجًا لفك رموز "الاجتماعي"، والذي أصبح من الواضح الآن أنه لم يعد من الممكن قراءته من الناحية السياسية، أو الاقتصادية فقط، لأن يجد نفسه مشبعًا بالقيم والمبادئ الأخلاقية، لذا نراه يكرس نفسه ـ عمله ـ لجعل الفلسفة الاجتماعية والسياسية تتجاوز الأهداف الأساسية التي حددها لها، من بين أمور أخرى، ممثله المعاصر العظيم، وهو جون راولز. إذا كانت "نظرية العدالة" لا تزال ضرورية لفحص طرق التوزيع العادل للسلع ولإصلاح المظالم الاجتماعية والاقتصادية (التي قبلها راولز بشرط أن تنتج تعويضًا عن المزايا وأن تحقق أكبر فائدة مع ذلك)، يتجاهل فكرة أن الوضع الاجتماعي يُقاس أيضًا بالتأثيرات المصاحبة له، والعواطف، والمعاناة الأخلاقية، والشعور بعدم الاحترام، وموضوع الازدراء، أو الإضرار بكرامة الفرد. لذلك من الضروري الانتقال من مسألة إعادة التوزيع إلى نوع من القواعد الأخلاقية للنزاعات الاجتماعية، إلى الأخلاق السياسية التي في قلبها بالضبط تكمن فكرة الاعتراكانت فكرة "الاعتراف الاجتماعي" لا تزال "قيد التنفيذ". من هنا، يبدو النقد القوي الذي قدمه هونيث، ففي مقدمة طبعة العام 2016 يتساءل المؤلف عمّا إذا كان هناك "بعض الأهمية للمناقشة الفكرية"، والتي تميزت اليوم بـ"حالة ذهنية متشائمة"، ففي اقتراحه المتأخر هذا نجد أنه "لا تزال روح التمرد المحمومة باقية والتي سرعان ما كشفت عن نفسها على أنها آخر اهتزاز لحركة 1968". وعندما اكتشف في برلين الغربية تحليل ميشيل فوكو للسلطة، والذي ظهر على أنه" أداة مناسبة لكشف الآليات الخفية للهيمنة، التي كان يعتقد أنها تخنق روح المقاومة المتحمسة للجماهير".

بيد أنه، بحق، يعطي إجابة إيجابية. أولًا، لأن نقد السلطة والهيمنة أصبح ضروريًا أكثر من أي وقت مضى ـ ولكنه بلا شك أكثر تعقيدًا، لأن هونيث، الذي "تغذى" من كتابات دوركهايم وغرامشي، يعد أن "أي ممارسة للسيطرة، مع استثناءات قليلة تقريبًا مثل تلك الخاصة بالإرهاب العاري، يفترض درجة معينة من الإجماع، بغض النظر عن أصل دوافع الموافقة من جانب المظلوم". ثانيًا، لأن "نظرية الاعتراف" ولدت من "نقد" نقد السلطة كما صاغه من جهة "الآباء" الذين هو وريثهم ـ الأول (هوركهايمر، أدورنو) والجيل الثاني (هابرماس)، من مدرسة فرانكفورت ـ ومن ناحية أخرى ميشيل فوكو. من هنا، يمكن لنا أن نعتبر أن نقد السلطة مكرس لهؤلاء المفكرين.

إزاء ذلك نفهم اللوم الذي وجهه هونيث إلى ماكس هوركهايمر، وهو بالمناسبة اللوم عينه الذي وجهه لماركس: تقليص الممارسة الاجتماعية إلى الإنتاج الاقتصادي، وبالتالي جعل "النظرية النقدية" (البرنامج النظري لمدرسة فرانكفورت) غير صالحة للعمل في اتجاه التحول الاجتماعي. لقد بقي أدورنو مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بهيمنة الإنسان على الطبيعة، ومن ثم أهمل، نتيجة ذلك، مجال التفاعل الاجتماعي، تمامًا مثل ميشيل فوكو. إلا أن هونيث، وبدءًا من عام 1982، جعل فوكو، بشكل مفاجئ، أقرب إلى مفكر فرانكفورت، حيث يرى كلاهما التاريخ الأوروبي كعملية عقلانية يتم خلالها، تحت قناع مؤسسات التحرر، أدوات الإقصاء، الهيمنة والسيطرة هي بدورها مثالية، لكنها ستضع "أشكالًا أخرى من العمل الاجتماعي قيد الانتظار"، ولن تأخذ في الاعتبار مشاركة المجموعات الاجتماعية، وقناعاتهم المعيارية، وتوجهاتهم الثقافية (على الرغم من أن فوكو نجح في "تحديث الظاهرة الاجتماعية "من خلال تقديم" النموذج النظري "للصراع"). "لا نظرية أدورنو النقدية ولا نظرية فوكو للسلطة [...] قادرة على تقديم أدوات لتحليل أشكال تكامل المجتمعات الرأسمالية المتأخرة".

(5)

في مقدمة كتابه "نقد السلطة"، يعترف أكسل هونيث بأنه ربما كان شديد القسوة في عام 1985 تجاه أدورنو وفوكو، ويأسف لـ"الظلم" الذي عانى منه هابرماس، المتهم في السبعينيات بخيانة مدرسة فرانكفورت بإصلاحاتها. ومع ذلك، فهو يلوم الأخير، في عام 2014، على "تحوله الليبرالي". وإذا ذكر في كتابه "ما الذي عينه الاجتماعي"، فإن ذلك يدل على فائدة "التيارات المختلفة للفلسفة الاجتماعية الفرنسية" التي لا تخدمه كـ "إحباط" بل تساعده على توضيح فكره، من هنا نجد أنه وقبل أي شيء آخر، يرى أن مرجعيته "دوركهايم العظيم" في كتابه "الحق بالحرية"، لذا فهو لا يُذكر فوكو إلا بشكل عرضي وسلبي، بسبب نسيانه لدولة القانون.

يُموضع أكسل هونيث عمله في السياق السياسي لبرلين الغربية، قبل سقوط الجدار، في امتداد الأحداث التي وقعت منذ عام 1967. وبدا أنه من الخطأ أن يؤمن بمعارضة بسيطة بين الهيمنة والسلطة التأديبية وقدرة التمرد المفترض. لذا كان يسعى من خلال النظرية النقدية، ومساهمة فوكو وهابرماس، إلى صوغ فرضية تتماشى مع حالة المجتمعات الليبرالية، وهي تأكيد النضال الاجتماعي، ضد عدم المساواة، على الوعد بالحرية والمساواة. اليوم، يعتبر أن هذا التوجه لا يزال محل اهتمام منذ أن عادت للظهور المعارضة القديمة بين السلطة والثورة، والتي يتبناها أنطونيو نيغري، أو سلافوي جيجيك، "وأبطال اليسار الشيوعي الآخرين". بل إنه يراها "أكثر انحرافًا"، لأن "ما تبقى من نزعات مقاومة" الشعب "أصبح الآن مدفوعًا بالأفكار القومية الجديدة والمتخلفة". لا يزال في إمكان المرء أن يتساءل عمّا إذا كان "الشعب" وحده يدافع عن هذه الأفكار، وليس المثقفين والقادة السياسيين. وماذا يمكن لها أن تغير فكرة الاشتراكية، فيما لو استعدنا عنوان كتابه في العام 2015 "فكرة الاشتراكية".

في كتابه هذا، "فكرة الاشتراكية" يقترح أكسل هونيث العودة إلى الاشتراكية، التي يأسف لأنها لم تعد تعتبر اليوم بديلاً جديًا محتملًا للرأسمالية، كما كانت عليه ـ الفكرة على الأقل ـ في زمن ماكس فيبر، بينما يبدو أن الدين يقدم نفسه على أنه الحلّ الفعلي من أجل المستقبل. وبشكل أكثر تحديدًا، يقترح هونيث إعادة اكتشاف فكرة الاشتراكية، والبدء من إلهامها المبدئي، من خلال تجاوز الحدود التي يفرضها التاريخ وتنظير أولئك الذين كانوا، في جميع الأشكال، مؤيدين لها.. يبدو ذلك "طموحًا كبيرًا" في إعادة الاتصال بشكل من أشكال اليوتوبيا العملية، بعد الانهيار الشيوعي، وفي وقت يبدو فيه العجز السياسي، في عالم في طور العولمة، هو القاعدة (وربما يجب أن ننتظر ما ستؤول إليه أحداث العالم اليوم المشتعلة من مكان إلى آخر). ومع ذلك، يتقدم هونيث بحذر ومنهجية، ويبقى على مستوى "ما وراء السياسة": فهو يحدد أولًا ما الذي جعل الاشتراكية عتيقة قبل أن يفكر في ما يمكن أن يجعلها مرغوبة وتملك ما تدفع به إلى التعبئة مرة أخرى.

الاشتراكية هي ابنة الثورة الفرنسية، وعصر الصناعة: لقد أسس الثوريون، تاريخيًا، برنامج الحرية الاجتماعية، على أساس الصيغة الشهيرة الحرية/ المساواة/ الأخوة، والتي كان على الاشتراكيين الأوائل وخلفائهم، ولا سيما الماركسيين، أن يطبقوا البرنامج في إطار ظروف الاضطراب الاقتصادي الناجم عن الآلات والصناعة. بالنسبة إلى أكسل هونيث، كانت المسألة الاجتماعية والعمالية مركزية للغاية لدرجة أن المنظرين الاشتراكيين استنتجوا أن الحرية المصادرة من قبل أنانية أرباب العمل يمكن استردادها من قبل المنتجين في إطار المصنع: "العيب الأصلي للمشروع الاشتراكي"، كما يكتب، هو تقليص "مبدأ الحرية الاجتماعية" إلى مجال العمل، إلى استبعاد السياسة.

فمهما كانت الفروق الدقيقة، أو الاختلافات بين المدارس حول الاتحاد الحر للمنتجين، أو تعاونهم الذي من المفترض أن يحررهم، وبعيدًا عن أي مجتمع، وعن ديكتاتورية الملاك الرأسماليين، فإنهم يتقاسمون قناعة مشتركة: من الممكن تشكيل اتحاد موحد لا يقتصر على "توزيع أكثر عدلًا". لكن من دون النظر إلى أن السيادة الشعبية يمكن أن تستخدم الحقوق الليبرالية التي جلبتها الثورة [الفرنسية]: فالسان ـ سيمونية تربط السياسة بالحكومة عن طريق الصناعة، ويلغي برودون الحكومة، بينما يجعل ماركس البروليتاريا، باعتبارها تتغلب على الانقسام إلى طبقات، جوهر الجنس البشري. وهذا الموضوع التاريخي يسمح لقانون تقدمه أن يتأكد في التاريخ، في تاريخ غير متوقع. من هذا "العبء النظري" يريد المؤلف تخليص الاشتراكية عبر شكل "ما بعد الماركسية".

(6)

ضد الحتمية، التي تؤدي إلى القدرية، ينادي هونيث بمفهوم تجريبي للفعل، مستوحى من ديوي (Dewey)، وللانتقال من الحرية الفردية إلى الحرية الاجتماعية، "الفردانية الكلية". تعني التجريبية نبذ الأفكار المسبقة، أي السعي لفصل السوق عن أبعادها الرأسمالية الوحيدة ودعم ونشر محاولات تنظيم عمل جديد. فقبل أي شيء، إنها مسألة تحرير الذات من التراث الصناعي، من "الأصولية الاقتصادية" لمراعاة "تمايز المجالات الاجتماعية" وتمكينها في المجتمعات المعاصرة. بالإضافة إلى العمل الاقتصادي هناك عمل ديمقراطي ومجال العلاقات الشخصية والعائلية: هنالك كثير من الأبعاد غير الهرمية والعالمية التي يمكن للأفراد من خلالها تلبية احتياجاتهم بشكل مشترك، ليس بالمعنى الليبرالي للسعي وراء الأهداف الشخصية ولكن بقدر ما تسود "علاقات المعاملة بالمثل من دون قيود، وبالتالي شروط الحرية الاجتماعية". من الناحية المثالية، يتعلق الأمر بإزالة الهيمنة في المجالات الثلاثة للتفاعل والتواصل لإنشاء مجتمع من الحرية الاجتماعية. هذا المجتمع الشامل، لاستخدام صيغة لا يستخدمها هونيث، يشير إلى النضال من أجل الاعتراف: لم تعد مجالات النضال الثلاثة هذه تتعلق بجماعة، أو طبقة، بل جميع المواطنين الذين يبحثون عن تحررهم، في الفضاء العام.

هذه هي "الاشتراكية" المنقحة، التي بفضلها "تتحقق الحرية الفردية، ليس على حساب التضامن، بل بالتضامن". هذا هو برنامج تحقيق إعلان الثورة الفرنسية، الذي يطرحه أكسل هونيث كنقطة انطلاق ووصول: فالاشتراكية هي فقط ترسيخ الحرية والمساواة والأخوة والتحقق منها في الوقت المناسب. إن إعادة صياغة فكرته هي في الواقع مثال معقول: لا ضرورة تاريخية ولكن يقين أنها ممكنة لأنها تتوافق مع مصالح البشرية، وفقًا لصيغة كانط في عام 1798. لقد أكد هونيث أن هذا ليس مجرد "أمر أخلاقي" لأن "الحق في [...] الاجتماعي يعبر عن المبدأ الهيكلي المحدد لكل واقع اجتماعي"، فمن الجائز التساؤل عمّا إذا كان، حتى في المجتمعات الليبرالية الحديثة والمسالمة، سوف يكون للتضامن و"الأخلاق الديمقراطية" القوة للانتصار على "حساب الأناني" في عالم "مليء بالضجيج والغضب".

(7)

هنالك أمر ثابت ومستمر في عمل أكسل هونيث: تقييم تفكيره، لمعرفة أين وصل، لتعميق فرضية أو صياغة فرضيات جديدة. على سبيل المثال، في مقدمته التي كتبها للطبعة الفرنسية من كتاب "ما الوسائل الاجتماعية: أمراض العقل" (2015)، أوضح كيف تساءل لمدة عشرين عامًا عن العواقب التي يمكن استخلاصها من نصه عن "الكفاح من أجل الاعتراف"، عبر شروط "الحياة الجيدة"، أو العدالة الاجتماعية: فبالنسبة إلى هذا المكمّل للنظرية النقدية، الذي يأخذ على هابرماس "دوره الليبرالي"، بدا أنه من الضروري صياغة نظرية للعدالة، مرة أخرى من خلال انعطاف هيغلي، تتمحور حول فكرة الحرية كما يمكن أن توجد في "المجالات المؤسسية" العائدة "للمجتمعات الديمقراطية الليبرالية الحديثة". كان هذا هو موضوع "الحق في الحرية". ونصه هذا، يبدو مدفوعًا إلى حدّ كبير باستقبال عمل "إعادة البناء المعياري" هذا، والذي يراه بعض القراء علامة على نبذ أي "تحول في النظام الاجتماعي القائم".
يبدو هونيث في كتابه أكثر تساهلًا مع معلمه (وأستاذه) هابرماس، الذي كان مساعده وخليفته في جامعة غوته في فرانكفورت. يدرك الجدارة، من خلال "تحويل النظرية النقدية من نظرية الاتصال"، من أجل "وضع التفاعل الاجتماعي في قلب منهجه". لكنه يشدد على نقص مهم في نظريته، وهي أنه غير قادر على فهم أن النظام الاجتماعي، طالما أن "الضوابط الاجتماعية للسلطة" لا تزال "موزعة بشكل غير متساو"، يتحقق قبل كل شيء "من خلال النضال الاجتماعي".

هكذا يعيد أكسل هونيث بناء تاريخ "النظرية النقدية" بالكامل، بما في ذلك أطروحات فوكو، ويثني على مزاياها، ويشير إلى حدودها، للوصول إلى ملاحظة أنه، حتى مع هابرماس، هنالك استخفاف بحقيقة أن النزاعات بين الفئات الاجتماعية تتعلق بـ"احترام الادعاءات المبررة أخلاقيًا التي تصوغها". في ذلك الوقت، كان يفتقر إلى "المفردات المناسبة". سيجده في المرحلة الثانية من عمله، مركّزًا على "النضال من أجل الاعتراف". سيكون للفكرة صدى كبير. لأنه يذهب إلى صميم حقيقة أن كل فرد لا يحتل مكانة مميزة في المجتمع يعاني بالتأكيد من عدم امتلاكه للسلطة، أو الثروة، أو حتى العمل ـ ولكن أيضًا، ربما قبل كل شيء، من عدم الاعتراف به، من الاحتقار، فهو يتعرض للإذلال كل يوم.

 

عن (ضفة ثالثة)

 

هوامش:
[1] من كتب هونيث التي صدرت مترجمة إلى العربية نذكر:
أ ـ الاجتماعي وعالمه الممزق ـ مقالات فلسفية واجتماعية ـ ترجمة ياسر الصاروط، سلسلة ترجمان، "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات".
ب ـ فكرة الاشتراكية، ترجمة جورج كتورة، "المكتبة الشرقية".
ج ـ الصراع من أجل الاعتراف، القواعد الأخلاقية للمآزم الاجتماعية، ترجمة جورج كتورة، "المكتبة الشرقية".

حول هونيث:
أ ـ أكسل هونيث فيلسوف الاعتراف، تأليف كمال بو منير، "منتدى المعارف".
ب ـ النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت، من ماكس هوركهايمر إلى أكسل هونيث، تأليف كمال بو منير، "الدار العربية للعلوم ـ ناشرون، منشورات الاختلاف".
ج ـ الاعتراف وسؤال الهوية عند أكسل هونيث، كمال بو منير، مجلة "تبين"، العدد 41، المجلد 11، صيف 2022
[2]
Axel Honneth, Critique du pouvoir - Michel Foucault et l'Ecole de Francfort, élaborations d'une théorie critique de la société, Trad. de l’allemand par Marianne Dautrey et Olivier Voirol, Ed. La Découverte.
مراجع:
مركزية مفهوم الاعتراف في تشكل الهوية الذاتية عند أكسل هونيث، علي العلامي كعبوش، "مؤمنون بلا حدود"، الموقع:

https://www.mominoun.com/articles/%D9%85%D8%B1%D9%83%D8%B2%D9%8A%D8%A9-%D9%85%D9%81%D9%87%D9%88%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B9%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D9%81-%D9%81%D9%8A-%D8%AA%D8%B4%D9%83%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%87%D9%88%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D8%A7%D8%AA%D9%8A%D8%A9--%D8%B9%D9%86%D8%AF-%D8%A3%D9%83%D8%B3%D9%84-%D9%87%D9%88%D9%86%D9%8A%D8%AB-7136
ب – أكسل هونيث والاعتراف بالآخر (نحو نظرية نقدية جديدة في قبول الآخر)، حسام الدين فياض، (https://bilarabiya.net/23897.html)
كتب هونيث:

L’idée du socialisme. Un essai d’actualisation. Gallimard 
La lutte pour la reconnaissance (Folio, Essais)
La société du mépris, La Découverte
Ce que social veut dire (Tome 1 et 2) - Le déchirement du social,Gallimard
La réification : Petit traité de Théorie critique, Gallimard