منذ أن تبلور الوعي بتعقيد الحراك الثقافي الذي يكرس نسقا ويهمش أنساقا أخرى، وتزايد الوعي بخصوصية الجنوسة والاهتمام بالمرأة والعنصرية وبالأعراق الأخرى، تطورت أطروحات عديدة حول المتن الذي يتم تكريسه في كل ثقافة، وهو ما دعته الكاتبة العراقية في ترجمتها بالمعتمد، ودار حوله نقاش موسع بغية زعزعته وفتح النقاش واسعا حوله.

تفكيك أوصال المُعْتَمَد الأدبي

جـيـفري بوكي

ترجمة: لطفية الدليمي

 

أنا شخصٌ أكتب الكتب، وأحاضرُ في موضوعة تدريب المعلّمين، وسبق لي أن قضيتُ خمس عشرة سنة أدرِّسُ الأدب الإنكليزي. وبالنظر لإنشغالاتي هذه فغالبًا ما يسألني كثيرون: ما الذي يتوجّبُ تضمينه في المعتمد الأدبي  Literary Canon أو ما المعتمد الأدبي الذي ينبغي أن يحل محل المعتمد الأدبي الحالي؟ هذه الأسئلة ونظائرها تدعو المرء إلى أن يشعر وكأنه واقعٌ في قبضة أناس يرومون التحايل عليه بغية إيقاعه في المصيدة.
أوّلًا، قد يكون تعريف المعتمد الأدبي أمرًا مفيدًا. عندما نذكرُ مفردة (المُعْتَمَد) فإنّنا نشير إلى مجموعة منتخبة راسخة من الأعمال المكتوبة التي صارت جزءًا جوهريًا في نسيج التعليم البريطاني. يبدو من الأمور العادية والمتفق عليها أن نعدّد أسماء باتت مؤبّدة الذكر ـ كما يبدو الأمر ـ في منهاج التعليم البريطاني، ويبدو أنها ستستمرُّ في الحفاظ على مكانتها هذه إلى الأبد. شكسبير، ووردزوورث، أورويل، بليك، بريستلي، أوين، لاركن....، وسواهم ممّن يتقدّمون موكب الرجال البيض الموتى ـ في أغلبهم ـ هم معالم بارزة في المعتمد الأدبي الذي دُعِيت أجيالٌ  كثيرة لاحقة من الطلبة البريطانيين لتمثّل حيواتهم والتفكّر العميق في أعمالهم خلال مختلف أطوار ارتقائهم الأكاديمي.
هنا لبّ الإشكالية مع المعتمد الأدبي: بقدر ما يبدو المعتمد خالدًا وعابرًا لمحدّدات الزمن فإنّه لا يوجد في فراغ. رغم أنّ المعتمد الأدبي أقدمُ من أيّ واحد فينا، لكنّه خُلِق ذات يوم بفعل مجموعة من الرؤى الأيديولوجية، وعلى أساس هذه الرؤية فإنّ سؤالي عمّا ينبغي أن يكون بديلًا للمعتمد الأدبي الحالي هو في حقيقة الأمر سؤالي عن المدى الذي سأرحّبُ فيه بقبول أو رفض الأيديولوجيات التي شكّلت المعتمد الأدبي في بواكير نشأته.
يعود مفهوم المعتمد الأدبي في أكثر التقديرات تشدّدًا وتدقيقًا إلى ستينيات القرن التاسع عشر، عندما اعتمد الشاعر الفيكتوري ماثيو أرنولد/ Matthew Arnold فكرة عن الثقافة باعتبارها المسعى البشري نحو "أفضل ما تمّ التفكير فيه وقيل The best that has been thought and said".هذه الكلمات بالضبط هي التي استُخدِمت في تعريف غايات المنهج التعليمي الوطني الإنكليزي عام 1988، وهو المنهاج ذاته المعمول به إلى يومنا هذا.
فكرة وجود نمط من الإجماع "الموضوعي" حول "أفضل" الأعمال الأدبية تبدو فكرة بريئة لا ضرر منها، وفي مقدورنا إيراد أكثر من مثال واحد عن الفائقية الأدبية المستديمة لأعمال أدبية بذاتها اجتازت امتحان القبول والانضمام إلى المعتمد الأدبي "الخالد"، لأنها كانت حقًا أعمالًا حائزة على معايير عالية من الجودة؛ لكن كيف نقبلُ أن تكون الأعمال الأدبية في المعتمد الأدبي لعام 1860 هي ذاتها ـ على سبيل المثال ـ في المعتمد الأدبي لعام 1988؟ هل نريد القول ـ حدّ الجرأة المفرطة وغير المسوّغة ـ بأنْ ليس مِنْ عملٍ أدبي كُتِب خلال هذه الفترة الزمنية الطويلة له القدرة على هزّ الأساسات الراسخة للمعتمد الأدبي؟

عندما تعمدُ إلى الالتزام بفكرة "أفضل ما تمّ التفكير فيه وقيل" على الشاكلة التي تؤكّدها وجهة نظر محدّدة فإنّك، وبكيفية تلقائية، تعلن التزامك بكلّ الأيديولوجيات المقترنة بوجهة النظر تلك. إنّ منهجنا التعليمي يبدو مصمّمًا لتأكيد السيادة البيضاء، مع كلّ ما يترافق معها من تحيّزات طبقية وجندرية، وعدد من المناطق (الداكنة) الأخرى في منظومة الأعراف المجتمعية (البريطانية). ليس من قبيل المصادفات أن يتسيّد الرجال البيض المعتمد الأدبي، لأنّ هويات هؤلاء الرجال هي التي استطابها ـ تاريخيًا ـ الرجال البيض، وجعلوها امتيازات حصرية لهم، وأنكروها على سواهم. أضِفْ إلى هذه الحقيقة حقيقةً أخرى مفادُها أنّ التعليم الرسمي/Formal Education صُمّم في أغلبه لخدمة تطلّعات أبناء أعالي الطبقات الوسطى من الفيكتوريين الطموحين؛ وعليه لن نندهش كثيرًا لمعرفة الميل المتزايد لسيادة نمطٍ من "الكلاسيكيات" الأدبية التي تعلي شأن الأعراف المجتمعية الفكتورية السائدة.
عند هذا الطور المفصلي، قد يشعر أي محارب من أجل العدالة الاجتماعية بنفسه مدفوعًا ـ ببساطة ـ إلى رفض المعتمد الأدبي التاريخي السائد، وكلّ ما يتّصلُ به من آراء وأفكار ورؤى. الإغراء كبير عند مثل هؤلاء المقاتلين لعكس حركة النوّاس (البندول)، وجعلها تبتعد عن أولئك الأدباء البيض (الذين تضخّمت كينوناتهم وباتوا أقرب إلى آلهة أدبية) بغية استبدالهم بمؤلّفين وكُتّابٍ آخرين من الذين جرى تهميشهم وإقصاؤهم انحيازًا إلى معايير العِرْق والجندر (النوع الاجتماعي) والإثنية والطبقة والجنسانية

الحقُّ أنني صرّحتُ غير مرّة بكلمات توصي بمؤلفين يتناغمون مع المعايير العابرة للمعايير السابقة، وهؤلاء المؤلفون (أو بعبارة أدقّ: العقول المعاصرة) يكتبون انطلاقًا من وجهات نظر مختلفة عن السائدة، وأراهم أقرب إلى الإيفاء بمتطلبات معتمد أدبي حديث. جرّبْ أن تفعل مثلما فعلتُ، وستجد نفسك، ومن غير أن تتحسّب لهذه الفعلة المفاجئة، على الخطوط الأمامية لحرب ثقافية حامية الوطيس يؤججها المدافعون عن "التقاليد المقدّسة"، الذين سيرمونك بشتى التهم، وفي مقدّمتها أنّك تعمل بالضد من كل ما هو بريطاني، وهم ينطلقون في حربهم الثقافية الشعواء هذه من افتراض (لا يمكن ردّه أو الاعتراض عليه كما يرون) جوهرُهُ أنّ استبدال المعتمد الأدبي عملٌ يكافئ تحطيم نُصُب الأبطال التاريخيين القدماء، مع كلّ ما يترتّبُ على هذا الفعل من إساءة شاخصة للتراث الثقافي البريطاني.
الأسئلة التي تكتنفُ عملية البحث عن معتمد أدبي جديد مثيرةٌ حقًا، ومنها: هل أنّ إعادة التفكّر في تخليق معتمد أدبي جديد هي فعلُ تدمير أم اكتشاف؟ هل هي مقاومة أم إثارةٌ وتحريك لمياه راكدة؟ ما الذي يعنيه توجيه إزميلنا الفكري، والبحث بعيدًا عن الأعمدة الأدبية التي قادت نظامنا التعليمي طويلًا؟

سأكون صريحًا بما يكفي: لا أعتقدُ أنّ النظام التعليمي يتأسّسُ في المقام الأوّل على تلك الدعامات التي يحتويها المعتمد الأدبي الكلاسيكي. أعتقدُ بدلًا من ذلك أنّ المنهج التعليمي الأدبي يعيشُ خارج نطاق "الموضوعية" المتخيّلة. أعتقدُ أنّه يعيشُ فينا، في قُلوبنا وعقولنا مع كلّ التجارب الحيّة التي يتمكّنُ معلّمو الأدب من تحويلها لنماذج متجسّدة في الأدب المعاصر. أعتقدُ أنّ المنهج التعليمي هو أي شيء نريده نحن أن يكون (وليس شيئًا مفروضًا علينا أو متوارثًا مع الزمن)، وهنا تتجسّدُ معضلة الذاتية في تدريس الأدب (أي من هو الذي يحدّدُ أيّ الاعمال الأدبية هي الافضل لتضمينها في المنهج التعليمي، وبالتبعية في المعتمد الأدبي). عندما نلجأ لعقولنا وقلوبنا سنجد الجواب المناسب لهذه المعضلة الكبيرة

لديّ قائمةٌ بكلّ النصوص التي لجأتُ إليها عبر سنوات طويلة لتعزيز المنهج التعليمي الحالي بغية استكشاف أفكار جديدة مع الطلبة. بقدر ما يختصُّ الأمر بي فإنّ تلك القائمة هي خلاصة رؤيتي التقييمية، ورؤاي، وتجاربي الحيةّ، ومنظوري العالمي للحياة والوقائع والأفكار. إنها رؤية شخصية بالتأكيد ومتنوّعة، ويمكن تسويغها تمامًا كقائمة بالأعمال المستحقة للتضمين في المنهج التعليمي الحديث في مدارسنا البريطانية. سيكون أمرًا محرّرًا لعقولنا وقدراتنا متى ما علمنا أنّ المعتمد الأدبي "الحقيقي" يعيشُ في تفاعلاتنا مع العالم، ومع تاريخنا الإنساني. لستُ مع رمي التاريخ والكلاسيكيات الأدبية في سلّة المهملات. أنا مع تخليق معتمد أدبي جديد يشذّبُ القديم وينسّقه مع الجديد بطرق غير متوقّعة وغير تقليدية. تبدو هذه المقاربة عظيمة الأهمية على مستوى القدرة الذاتية لإنجازها، وبخاصة في الاوقات التي يعاني فيها قطاع التعليم من أزمة توظيف أو تمويل؛ إذ حينها سيكون أمرًا فائق الحيوية أن يطوّر المعلّمون استقلالية وقدرة على الفعل الذاتي في كيفية إدامة المنهج التعليمي وتطويره.

لو كان لنا هذا المنحى من التفكير، فإنّ لعبة تشكيل معتمد أدبي جديد ستكون أقلّ انشغالًا ببناء أعمدة أدبية راسخة لا سبيل لتقويضها، أو استبدالها، وسنكون أقلّ اهتمامًا بتمثّل خطى أسلافنا الفيكتوريين ممن يفهمون ويحترمون نموذج المعتمد الأدبي "الكلاسيكي" الذي صنعوه. الأصل الذي ينبغي الاعتماد عليه في تشكيل معتمد أدبي جديد أن نكون في حالة حوار دائم لا ينقطع بشأن الحالة الراهنة للأشياء والأفكار والموضوعات الجوهرية في عالمنا المعاصر. ثمّة حواراتٌ آنية وطارئة شديدة الأهمية يتوجّبُ عقدها بشأن الموضوعات المتداخلة للعدالة الاجتماعية، وسياسات الهوية، واعتبارات الجغرافيا السياسية (الجيوبوليتكس)، ودراسات الاستدامة، وسواها من الموضوعات التي يمكن للمنهج التعليمي أن يكون نقطة الشروع الملائمة لتطويرها والارتقاء بها فرديًا وجمعيًا. ليست هذه الفعالية محض تجربة لتحرير إمكانياتنا المحبوسة، بل يمكن أن تكون مصدرًا لا ينضب لتزويدنا بالطاقة أيضًا ـ تلك الطاقة التي تنجم عن تخليق حوارات جديدة، وتوسيع نطاق الأصوات التي ستسمعها أجيالنا اللاحقة بدلًا من الاقتصار على صوت وحيد، أو بضعة أصوات فحسب. نريد من التعليم ـ كمؤسسة ـ أن يكون قادرًا على مخاطبة الحاضر، والتطلّع بثقة نحو مستقبلٍ ذي مآلات غير محدّدة؛ فذاك أفضل بكثير من أن يكون التعليم مقيّدًا بأغلال الماضي "الكلاسيكي" البعيد.

إنّ ما كتبتُهُ ليس سوى معالم صغيرة في كيفية بلوغ هذا النمط من التعليم.

 

هوامش:
قراءات إضافية  Further reading
The Great White Bard: Shakespeare, Race and the Future by Farah Karim-Cooper (Oneworld)
This is the Canon: Decolonize Your Bookshelves in 50 Books by Joan Anim-Addo, Deirdre Osborne and Kadija Sesay George (Quercus)
Diverse Educators: A Manifesto by Hannah Wilson and Bennie Kara (editors), Hannah Wilson (Legend)
*
جيفري بوكي  Jeffrey Boakye:  كاتب ومدرس ومتحدّث عمومي وصحافي وناشط على منصات التواصل الاجتماعي. ولد في حي بركستون جنوب لندن. درّس اللغة الإنكليزية منذ عام 2007 في المدارس الثانوية في لندن، ثمّ في يوركشاير. له ولع كبير في الموضوعات الثقافية الخاصة بالعِرْق والتعليم والثقافة الشعبية.  نشر عددًا من الكتب آخرُها في يونيو/ حزيران  2022 بعنوان:
سمعتُ ما قلتَهُ: معلّم أسود، نظام أبيض
I Heard What You Said: A Black Teacher, A White System
المقالة المترجمة أعلاه منشورة في صحيفة الغارديان البريطانية بتاريخ 12 يونيو/ حزيران 2023 بعنوان:
?Do we need to dismantle the literary canon

الرابط الإلكتروني للمقالة:
https://www.theguardian.com/books/2023/jun/12/the-big-idea-do-we-need-to-dismantle-the-literary-canon

 

عن (ضفة ثالثة)