نقدم هنا أول رواية جزائرية تنشرها (الكلمة)، يتأمل فيها الراوي، عبر مراحل حياته المختلفة، أحوال المجتمع الجزائري، وماطرأ عليه من تغيرات قيمية واجتماعية، بصورة تكشف عبر سردها التهكمي، ومرتكزها المكاني «المقهى»، عن تحولات الراوي والواقع معا.

مراجيح (رواية)

عبد الباقي قربوعه

كنا ثلاثة حين قدمنا إلى مقهى الفرارة(1)، هذا هو الاسم الذي غلب عليها، فالتصق بكل الألسن وانطبع على كل الشفاه، رغم أن المدخل قد كتب أعلاه بخط بهلواني: (مقهى الأحباب) الأحرف ببدائيتها أعطت للمقهى نقطة انطلاق عفوية وطبيعية، حيث تعكس البداية الفنية المتواضعة للمكان، ولمستوى من أشرفوا على تأسيس الثقافة الشعبية، وعكفوا على ترسيخ الجو العام بما فيه أنماط الحركة العامة، وقد كانوا يتفاخرون أمام شباب الأحياء النائية أنهم من شيدوا الصرح الحضاري لوسط المدينة، وكانوا عندما يلتقون في مقهى محاد الصغير، يقولون ـ عندما يريدون أن يستقبلوا بعضهم ـ في هتاف عال:

ـ أهلا.. أهلا (2)بـ les anciens انْتاع لبْلادْ!!

وكنا نحن نشعر دائما أننا وافدون جدد، ولا نجرؤ أن نصل إلى جرأتهم في حراكنا أو رفع أصواتنا في المقهى.

مقهى الأحباب.. قيل أن محّاد الصغير صاحب المقهى كتب هذه العبارة عند أكبر خطاط في القرية، وقيل أيضا أن هذا الخطاط ظل لوقت طويل يتباهى في المقهى أنه هو من كتب هذا. وأظنه لا يزال على هذا الحال إلى الآن، التمست ذلك في مشيته حين مضى في خيلاء صوب عمّي بوعزّاره(3) صاحب الدكان المقابل، حين طلب منه أن يكتب أعلى مدخل دكانه (مواد غذائية عامة)، رغم أنه لا يوجد على الرفوف إلا كيس من التمر، وأكوام من الشُّرْبة(4) الرقيقة، وبعض الخضر، وحاوية حديدية مليئة بحجر الكاربيل(5)، ووضعت علب الشمع والكبريت على الرفوف، رفوف غُلّفت بجرائد قديمة مهترئة قد اصفرت من القدم، أما خارج الدكان فقد راكم عمّي بوعزّارة جبلا من اليقطين، عرارم.. عرارم امتدتّ على يمين عتبة المدخل، ولم يكن عمّي بوعزّاره يبدي أي خوف عليها من السرقة لأنها رخيصة وكثيرة.

الخطاط بالغ في وضع علب الألوان وأشياء مختلفة، وضع في موضع وقوفه أمام الدكان أدوات كثيرة لا علاقة لها بالكتابة، كان يريد أن يبهر الناس أنه خطاط كبـ...ـير.. حالة خارقة للعادة! وكان بعض الشيوخ يفتحون أفواههم منبهرين لا يفهمون شيئا، وفي الجهة الأخرى أطفال يحملون محافظ، كان عمي بوعزّاره يندفع نحوهم كل مرة:

ـ يا الذْراري(6) روحوا تقْراوْ(7) على رْوَاحْكمْ..

يفرون.. وعندما يلتفت مرة ثانية، يجدهم قد تجمعوا من جديد، وحين حمل حجرة لإبعادهم، خاف الأطفال فتدافعوا جريا، حتى أن أولهم اصطدم بمن كان وراءه فسقط وبقي لصيقا بالأرض وهو يبكي، ولم يستطيع أن يقوم، فساعده عمي بوعزّاره على القيام، ودخل إلى الدكان وخرج فوضع في فم الطفل قطعة حلوى وأسكته، لكن سرعان ما ذابت الحلوى في فمه، فعاد إلى البكاء ثانية طمعا في المزيد، لكن عمي بوعزّاره طرده، فغير الطفل وجهته إلى البيت بدل المدرسة، وهو يحك عينيه وقد خفت صوته قليلا.

عمي بوعزّاره لامه الخطاط، قال له:

ـ ربما كان سقوط الطفل مؤلما.. انظر إنه عدل عن الذهاب إلى المدرسة.. يا عمِّي بوعزّاره زدْه حبّةً أخرى في خاطري.
ـ والله ما تدخل له فما.. هو من البداية لم تكن لديه رغبة في الذهاب إلى المدرسة، إنه يتخذ السقوط حجة فقط.. اكتب.. اكتب وعرّق الخَطْ زين!!

هذا النوع من الحلوى لذيذ جدا، وكنا نسميه حلوة الريح..! لخفتها وسرعة ذوبانها في الفم.

عمي بوعزّاره أخرج القهوة وبعض القطع من الخبر، وضع داخلها شيئا ما، وقد شارك الخطاط َهذه الوليمة كلُّ المحيطين به، حتى جاء الشيوخ الذين كانوا ينامون تحت الجدران، وقد اتخذوا من أحذيتهم وسادا، قدموا وكانت جوانبهم متربة، ذهبوا ناحية القهوة والخبز.. وهم يسيرون كانوا يشبهون الموتى الذين قاموا من قبورهم في التو.

الخطاط كتب أعلى المدخل (مواد غذائية عامة)، ورسم فوق العبارة يدا بأصابع متباعدة قليلا، وأوصى عمّي بوعزّاره أن يلونها بالأخضر، قال له:

ـ كي تُبعد عنك أعين الحساد!

فعل كل هذا مقابل يقطينة كبيرة الحجم، كانت صفقة ـ على ما يبدو ـ كبيرة جدا! وبالتأكيد قد حسدته الكثير من تلك العيون الشاحبة، والعديد من تلك الأفواه الصفراء المشققة اليابسة، رأيتها كانت تختلج من شدة الحرمان!!.

بوعزّاره ليس هذا هو اسمه الحقيقي، فكأنه قد اتفق معارفه وأقاربه، وكل جيرانه على هذا الاسم، حتى صار يستجيب لمن يناديه بهذا، بل لقد نسي اسمه الحقيقي تماما، ويحكى أنه قد نجا بسبب هذه الكنية، حين طلبته قوات الأمن الفرنسي، عندما دُرج شخصه بهذا الاسم ضمن قائمة المطلوبين، وعندما كشف لهم عن بطاقة الهوية أفرجوا عنه. سمي بهذا الاسم لما يتصف به من قوة وصلادة، لم يكن مجاهدا بالصورة المشهودة ذلك الوقت، ولكنه عرف بمواقف عنيفة رافضة للكثير من تدخلات الجيش الفرنسي بين الأهالي، فكان يهابه الجند، ولا يجرؤون على إهانته أو هتك حرمة بيته، كما كانوا يفعلون عادة خلال التفتيش والمداهمات، يُحكى أنه صفع جنديا من الجيش الفرنسي حتى خرج لعاب أنفه، وسقطت بندقيته، فأضحك عليه الأطفال من حوله!! حتى راح ذلك الجندي يتحرش به مرارا، وهو الذي أضافه إلى قائمة المطلوبين، كان يريد أن يدخله السجن، حتى يتمكن من تعذيبه وأخذ الثأر منه. بوعزّاره كان تاجر ماشية، معروفا في السوق بغلظته وشدته، فلا يستطيع أحد أن يجابهه أو ينافسه فيما وضع عليه يده أو كلمته، غرض الشراء من ماشية أو أي شيء آخر. كان بوعزّاره يحتل جهة معينة من أنحاء السوق، فلا يقربها أحد إلا مسالم، يريد أن يبتاع لـ بوعزّاره أو يشتري منه، وكان معروفا بالشراء أكثر من البيع، ولهذا تزايد عدد ماشيته، غير أنه تخلّى عن تجارة الماشية عندما تكاثرت البناءات حوله، ونمت المدينة بشكل سريع، ثم أقنعه ابنه الأكبر بأن يشتري سيارة، فعل ولكنه حلف أن لاّ يشتري سيارة أخرى في المستقبل، لأن السيارة التي اشتراها تسبّبت في موت ولده، حين انقلبت فسقطت في أحد وديان ضواحي المدينة. قيل بأن ابنه وُجد مقطعا، ولم ينتبه إليه أحد حتى أكلت الذئاب بعضه، وقيل بأنها وُجدت بجانبه قوارير خمر، لكنهم كتموا هذا الموضوع وأخفوه عن أبيه، من حينها بوعزّاره أقسم باللهأن لا تدخل سيارة أخرى مستودعه العتيق، كان يقول كلما يعثر على هذا الموضوع:

ـ (كاريها خير من شاريها!)(8).

وظل بوعزّاره حزينا على ابنه وقتا طويلا، لأنه الوحيد الذي كان معولا عليه ليكون خليفته في سوق الماشية، ولهذا فرح التجار بهذا المصاب، لأن الولد الذي فقده بوعزّاره كان أكثر منه قوة وبأسا، وقد أجاد تجارة الماشية في وقت مبكر جدا، فجعل التجار يقفون بين منبهر وقلق..! أكثرهم قالوا:

ـ هذا وهو صغير يفعل هكذا..؟ عندما يكبر ماذا يفعل؟!.

بوعزّاره كان من حين لآخر يتجادل الحديث مع زوجته، فهي تتهمه أنه هو السبب فيما حدث لابنها، فقد عارضت ذهابه معه مرات عديدة، كانت تتشاءم كثيرا عندما تراه يتباهى وهو يرافقه ناحية السوق، والناس يشيرون بأصابعهم، فقد لاحظت أن ابنها يصاب بوجع ما بعد كل مجيء، فتقول لبوعزّاره:

ـ هذه بالتأكيد ضربة عين، أو مس حاسد لئيم.

وهكذا ظلت تعارض خروجه معه حتى مات ابنها. ابنها أول من ساق السيارة في المنطقة، كانت من نوع (Deux Chevaux)، عندما ذهب بوعزّاره وابنه إلى المدينة المجاورة، استبدلاها ببقرة وعدد من الأغنام. فكان بوعزّاره كلما يتذكر المصاب يضرب بيديه على ركبتيه:

ـ يا ويلي ماني بالبقرة ماني بالبكري..!

التجار كانوا سعداء كثيرا، فقد خلا لهم السوق، وانعدم حس بوعزّاره إلى الأبد.

بدأ التجار الكبار يطعنون في السن، فأخذوا يتناقصون الواحد تلو الأخر، ولم يعد يظهر منهم أحد إلا عمّي بوعزّاره، يظل قابعا في دكانه، يبيع ما تيسر من التمر واليقطين والشربة الرقيقة.

كان الجو غير معتدل.. سحاب عظيم حجب الشمس، وغيوم كثيفة، وقد بدأ المطر يهطل وأظنه مختلطا بالثلج، هذا هو الطقس الذي يستهوينا نحن الثلاثة للمجيء إلى مقهى الفرارة.

كانت قاعة تتميز بطول شاهق وعرض قليل، في عمقها وأنت تقف عند مدخلها، توجد مدخنة أكبر من المداخن التي تتواجد في البيوت عادة، لأن مدخنة مقهى الفرارة تتسع لثلاث أواني، حسب تنوع المشروبات الساخنة، وأبرزها ـ طبعا ـ الفرارة التي كانت تتميز مجْمرتُها عن مجمرتيْ الزعتر والشاي وقهوة الصفّاي(9)، وكذلك إناء الماء الساخن الموضوع باستمرار لأغراض مختلفة، أهمها الوضوء، لم يكن أحد يتوضأ وقت الصلاة إلا عمّي محّاد الصغير، عندما يقول المؤذن الله أكبر تراه ينزع مئزره الأزرق، وهو يوصي القهوجي بالحرص على جمع الفناجين، وقبض المقابل من الزبائن المغادرين، ثم يشمر على ساعديه ويحمل إناءه الخاص، وينزوي إلى ناحية الكُنْتوار (10)، وإذا كان الجو مشمسا يذهب إلى الحديقة المقابلة.. هي لم تكن حديقة بالمعنى الصحيح، لأن لا أزهار فيها ولا عشب، سوى بعض الأشجار التي كان يعلق على أغصانها المشردون من الأطفال القطط الميتة، وربما كانوا يشنقونها لأنها كانت تنافسهم، عندما تسبقهم لانتشال ما يرميه الجزارون من بقايا اللحم القديم الفاسد.

هذه الساحة كانت من المفروض أن تكون حديقة، لولا هذه الظاهرة وما يتركه المجانين من فضلات تقزز المشاعر، دخلت هذا المكان مرة واحدة.. فشعرت بدوران.. كأنني دخلت مدينة الشياطين.. دخلتها حين تخللت رواق بائعي تبغ الشمّه(11)، كانوا جالسين مصطفين متراصين، الركبة للركبة كأنهم يُصَلّون..! يضعون الأكياس بشكل منتظم. الشّانْبيطْ (12) كان يخرج صدره فوق ما يلزم، يريد أن يعبر أن وراءه الدولة، وأنه يحتمي بالقانون، كان مرة يصرخ فيهم:

ـ تنظْموا يَرْحمْ والْديكم..

ومرة يهوي فيحمل بين سبابته وإبهامه شيئا من الشمَّة، ويضعه في فمه، ثم يمسح ما تبقى على مؤخرته، ومن كثرة ما كان يفعل هذا، صار كأنه مدمن من فمه ومن دبره.! عندما تغلغلت إلى عمق الساحة، وجدت القزّانات(13)، عندما أشارت إلي إحداهن بالتقدم نحوها اهتز صدري وانتابني الرعب، كنت على يقين أنها تعرف قصتي مع اللون الأحمر، رحت أتحاشاها حتى لا تخبرني بطالع قبيح أو خبر لا يسرني. لأني في ذات اللحظة كنت متشائما من القط المشنوق، المتدلي من غصن الشجرةالتي احترق جذعها، ورغم ذلك لا تزال تنبت أوراقا خضراء في أحد أغصانها، كأن هذه الشجرة شبح هي الأخرى.! كان كل المارة يستغربون، كيف لهذه الشجرة لم تمت، وقد أكلتها النار من كل جانب؟! في حين كنت أتأمل هذا، مرت بجانبي شْريفه المخبولة تجر طفلا، وقد تراكم فوقها وسخ السنين حتى صارت سوداء، أدركت أنها كانت بيضاء في الأصل، عندما أخذت تحك ساقها، وكانت تسب سبا فضيعا، واستغربت حين سمعتها تقول كلاما له علاقة بالسياسة:

ـ الدولة قالوا ضانية وجايبه فرخ(14) في بلاصه أخرى..!
ـ قالوا بلّي راهُم جمْعوا.. جمْعوا على جالي(15)؟ يا خي جمعوا على صوالحهم(16)..!!

شْريفة المخبولة جُنّت في سن مبكر، ذبحوا زوجها أمام عينيها، وهي لا تزال عروسا، جنت في أيامها الأولى من زواجها. زواج شْريفه كان تجربة نادرة مقارنة ببنات سنّها، فقد تزوجت بمن أحبته بطريقة عجيبة، حين فرت إلى بيت خالها، وظلت ماكثة هناك تتمرد، وتضرب عن الطعام أحيانا، ولما حاول أن يقنعها عمها بالعودة، اشترطت أن يوافق أبوها على زواجها من الشاب الذي تقدم لخطبتها عدة مرات، ولا يزال ينتظر ويتمنى.. لكن أباها أصر، وأعتبر ذلك (طحين(17) كبير)، كأنه يود أن يتنازل عن شرفه أو كرامته، أو يتخلى عن مبدأ من مبادئه، كل ذلك لأن الشاب الذي أحب شْريفه، بالغ كثيرا في وقوفه متربصا أمام بيتها، حتى كرهه أبوها، وظن أن الجيران يضحكون عليه، حين أفرط في الوقوف أمام الباب، لا يفصله عنه إلا طريق مترب لم يصله الإسفلت بعد! أبوها كان يعتبر ذلك تحديا ولهذا تعنت ولم يوافق. لكن شْريفه عندما فرّت إلى بيت خالها، بعثت إليه بشكل ما، طلبت منه أن لا يكرّر هذا أمام بيت خالها. قالت له:

ـ قد ينزعج خالي أيضا، ويضم رأيه إلى رأي أبي فيرفض هو الآخر.

وعندما بلغته الوصية، ظل صابرا ولا يمر إلا عابر طريق! وظلت شْريفه معتصمة في بيت خالها، ولأن زوجته لم تكن لديها رغبة في بقائها، تحركت بطريقة ما، فأقنعت أباها بأن تتم خطبتها في بيت خالها، وقد تم هذا بالفعل، وبذلك تزوجت شْريفه بالرجل الذي أحبته. كان هذا الزواج نادرا جدا من وجهة نظر التقاليد، والطرق التي كانت تتزوج على نمطها الفتيات، لكن زوج شْريفه ذبح أمام عينيها ذبحا شنيعا بعد أسبوع فقط من الزفاف!! لم يشك أحد في أبيها، بل راود الشكُّ الجميعَ فيمن تقدّموا لخطبتها فرفضتهم. ولم يكن الرفض بالشيء الهين في نفوسهم، لأن شْريفه كانت جميلة جدا قبل أن تجن، وينحل جسمها ويسود ويتجعّد شعرها وتذبل كل ملامحها. الطفل الذي كانت تمسكه شْريفه لم يكن ولدها من زوجها المذبوح، بل حملت به وهي مجنونة، ويكون أحد المجانين أو الخنازير قد وطأها ليلا وهي ملقاة في شارع من شوارع وسط المدينة، فقد كانت تنام بطريقة عشوائية. كان منظرها وهي حامل تقشعر منه الأبدان، وأثناء وجع الولادة أخذها فاعل خير إلى المستشفى، ولدت هناك.. مكثت بالمصحة أياما، ثم حملت رضيعها وخرجت دون أن ينتبه إليها أحد. ثم كبر ابنها بين الشوارع في زحمة القطط والكلاب.. صار يستطيع أن يمشي، فاستراحت من حمله شْريفه، وصار وراءها يتتبع سيرها، وإن جلست قبع يلعب إلى جانبها.

الطاولة القديمة التي أحطنا بها داخل المقهى كان ينقصها كرسي، فآثرت صاحبي وأشرت له بالجلوس. المدخنة بنيت على مكان مرتفع، كي يتجنب الانحناء ذلك الذي يتولّى إعداد الفرارة. كانت الشعّالة(18) منصهرة، والنار تأكل بعضها. الأثافي التي صنعت من حديد أجمرت قليلا، وتراكم سواد كثيف على قاعدة الإناء الكبير الذي امتدت منه ذراع طويلة، وانفتح من الأعلى، وقد بدا لي من بعيد كأنه حوض كبير، فاستنتجت من ذلك رواج مشروب الفرارة وكثرة زبائنها.. والله لم تكن في نيتي أن أحسد محّاد الصغير، فقد قلت في نفسي:

ـ الله يبارك..

وكررتها.. أما سقوط الصينية من يد القهوجي فهو مصادفة فقط. رحت أجزم بذلك لصاحبي..

لم أتمكن من الحصول على مقعد بسهولة، لأن البرد كان شديدا في الخارج، فكان المقهى مكتظا. اقتربت من الجالسين، واستعديت كي أنقض على الكرسي الذي كان صاحبه يتأهب للانصراف، لقد شغلني كثيرا التربص بهذا الكرسي المتآكل، وقد تعودت توسيع إدراكي، وتدقيق تركيزي، لأجمع بين مواضيع ثلاثة: الحكاية التي قد يستهلها أحدنا، والنار التي تقابلني، واكتظاظ الزبائن الهاربين من الطقس البارد المبتل.

تلبد السحاب وتراكم الضباب، وتكاثف الدخان في الداخل.. صرنا كأننا في الليل، حتى المصباح الصغير لم تكن وضعيته مدروسة كما ينبغي، فقد انحاز كثيرا ناحية الكُنْتوار فكأن محّاد الصغير لا يهمه أن يرى الزبائن بعضهم، بل حريص أن يفحص الدنانير، فكنت أراه يخرج لسانه ويبلل سباته وإبهامه، ويبتسم حين يقبل ناحيته أحد الزبائن المغادرين، كان يمزح فقط بهذه الحركة، وأشهد أنه كان يغفر لمن لا يملك ثمن الفرارة، حتى أنه كان يقول بأسلوب ساخر وهو يتنقل بين الزبائن:

ـ اللّي عنْدو يشرب، واللّي ما عنْدوش يشرب!!.

وكان يهوي برأسه كل مرة كي يقبل رؤوس الحجاج، والأعيان ويأخذ بأيدي الزهاد والدراويش، ويأمر الصبي أن يسقيهم الفرارة، وكان يوصيه على وجه أخص بالسّعدي، ذلك الزاهد الذي أحبه الجميع، حتى هو كان صاحبا للكل، فكان يقول لكل من يجلس معه:

ـ أنت صاحبي..!!

وهكذا حتى صار ـ بالفعل ـ صاحبا لكل الزبائن.! كنت أتأمل هذا وأنا أسحب المقعد إلى الناحية الأخرى حيث يجلس رفيقاي.
أخيرا تمكنت من الجلوس، بعض الواقفين حسدوني على المقعد، واعتبروني سامطْ(19)، حين وقفت عند رأس الرجل المغادر، وأنا أضع يدي على المقعد، ولم أرجعها إلى دفء جيبي حتى أخذته.

ألسنة اللهب تتلاعب أعلى فلقات حطب الكَرُّوش، تجعل زمهرير السّامريزهو ويتواصل، وطقطقات أعواد شجر العرعر، كأنها طلقات بارود تدفع النار للاشتعال أكثر. السّعدي الزُّهدي(20) عندما يغضبه أحد يقوم يندب وجهه:

ـ يا ويلي.. يا ويلي.. أخرجوا هذا من المقهى. ما يقْعدْش معنا.. هذا ما هوشْ صاحْبي!

عادة من يفعل هذا مع السّعدي الزُّهدي، أو مع غيره لا يكون إلا نازحا حديثا من الريف، يعتقد أن الذهاب إلى المقاهي لأجل هذا العبث والسخرية، ويضايق المجانين والزهّاد، يريد أن يظهر بأنه شجاع، وله القدرة على مواجهة المجانين، كان مثل هؤلاء يزعجون الجلساء، ويثيرون الثرثرة في القاعة، انصرف السّعدي الزُّهدي إلى شخص آخر، وكالعادة يقبّل رأسه ويقول له:

ـ أنت صاحبي..!

محّاد الصغير، والساقي، ومن كان يُعِدّ الفرارة، والذي كان يتولّى غسل الفناجين، ترى وجوههم قد انعكست على خدودها حمرة الجمر، فكأنها تتفجر دما، والبخار الطالع من أفواههم كأنه ينبعث من الشعلة التي ارتسمت في عيونهم.

المدخنون تزداد متعتهم كلما يختلط دخان السجائر بالدخان النافذ من أمعائهم، فترى الواحد منهم يمدّد شفتيه ويرفعهما، وهو يتأمل الدخان، وقد شكل عجاجه زرقاء فوق رأسه، ثم ينزل برأسه نحو الطاولة حيث بخار بطيء أقل كثافة، يعطي للفرارة مكانتها بين المشروبات الساخنة.. بخار يعكس حرارتها الملائمة، التي تكسر كساحة البرد الذي يصيب الشفاه دون أن تلحق بها أي أذى، فترى شاربيها يعضون بشفاههم على حواف الفناجين، فيرشفون بأصوات متباينة، وعندما يبعد الواحد منهم فنجانه عن شفتيه، يتركهما معسولتين، فكأنما قد غطسهما في عسل التمر، إلى هذا الحد كانوا يحبون الفرارة، ولهذا أيضا طغت هذه التسمية على ما كتب أعلى المدخل.

كان ينضم إلى مجلسنا من حين لآخر شخص، لم يكن في حاجة إلى كرسي، لأنه كان لا يهدأ في مكان، يريد أن يقول بتنقله الكثير بين الطاولات أن له أصحابا كثرا، وكان يزعجنا بسرعة تنقله من مكان إلى أخر، كان يتسبب في ضجة كبيرة داخل المقهى.. ولهذا اتفق الجميع على تسميته بالفطْفاطْ (21)!!.

صاحبي على يميني كان يحكي حكاية لم تكن تافهة، انصرفت عن الاستماع له، لأني أعرف تفاصيلها ونهايتها، كان يعلم ذلك ولهذا لم ينزعج من عدم اهتمامي.

كانت هذه نزوتي المفضلة حين تنتصب نفسي، وتستنفر الذكريات كل عواطفي، فعقدتي تجعلني لا أحب من الألوان سوى اللّون الأحمر، وهذا سر تواصلي مع النار، حتى أن السواد الذي يغطي أسفل الإناء كان يذكرني بعينيها!!.

لم أكن أدري لماذا أرتعش عندما أرى هذا اللّون، أعرف أنه هو أول لون يفتح عيني على الحياة، ويعرفني بنفسي، ويحدد لي ما أريده من الكون، وأعرف أيضا أنه لون المعطف الذي كانت تتردد على لبسه الفتاة، التي كانت تنافسني على المقعد الأول في الصف. حينها اكتشفت أن الخطين المتوازيين يمكن جدا أن يلتقيا، كان ذلك على ظهرها عندما كانت تكلم صديقتها، وكنت أتأمل ضفيرتيها وقد التقتا عند نقطة واحدة هي فتاة أحببتها.

من كان يعد الفرارة سبّ الدخان الذي تكاثف أمام عينيه فلعنته، لأني في تلك اللحظة كنت أرى الدخان كأنه شعرها!! عندما جاء صوبي وعيناه أكثر حمرة من النار، ادعيت أنني لا أقصده.. صاحباي تضامنا معي، وأكدا للرجل أنني ـ فعلا ـ لم أكن أقصده، فتراجع وبالتأكيد شعر أنه قد تسرع قليلا، وكي يكفر عن خطئه أشار بيده نحونا ثم قال:

ـ فرايرْكم يا جماعة راهُم خالْصين(22).

نزوتي وفرت لي ثلاثين دينارا، لأنه كان هذا المساء دوري في الدفع، ورغم ذلك شعرت بالحزن، لأنه قبل مجيء الرجل بعصبيته تلك، كنت أتلذذ جنوني وقد أخرجني منه ذاك اللعين.! رجعت أتأمل الزبائن، كي أسحب بصري تدريجيا ناحية النار وأغوص فيها من جديد!.

كانوا مكتظين بمختلف مظاهرهم وأشكالهم.. وانشغالاتهم: قهقهات مزعجة، وحكايات تطغى عليها الركاكة، وحركات يبدو عليها التكلف، فأغلبهم يحبون أن يظهروا أكثر تجارب، ومهارة في الحكي، على حساب جلسائهم.ختمت التأمل في الزبائن، كان آخرهم رجل أضحكني حين فتح فمه، ونظر في اتجاه السعّدي الزُّهدي، فكأني به قد حسده، وقد صار بزهده صاحبا للجميع، وكان يشرب (القهوة بالحليب) مجانا، عند كل طاولة!!.

عندما وصلت ببصري إلى النار، جذبني صاحبي على يساري بحكاية جديدة، وقد ضرب الطاولة بحماسة، حتى مسك كل واحد فنجانه حين تحركت الطاولة لأن أحد أرجلها كان منقوصا!.

تململت قليلا داخل قشّابيتي، وما جعلني أشعر بلذة غير متناهية هو ذلك المطر المتهاطل الخليط بالثلج (قطرة نوْ وقطرة ثلج)، هكذا كانت العجائز والشيوخ يصفون هذه الحالة من الطقس. كان البرد شديدا خارج المقهى، حالة أرجعتني من جديد إلى التواصل مع النار، غير أنه كان لزاما علي أن أهتم سماعا للحكاية الجديدة، لأن صاحبي يدرك أنني لم أسمع هذه الحكاية من قبل، ولذلك قد يغضب ويشك في إخلاصي ومجالستي.

كان يلزمني مزيدا من التركيز حتى أتتبع الحكاية، وأظل أمعن في النار، لا يهمني منها إلا اللون الأحمر، وما يخبئه من دفء، وشعرها الذي تمشطه الريح إلى فوق، كي يبرهن أن الخطوط المتوازية يمكن أن تلتقي، فأحطم بتأملي نظرية التوازي المستمر.

كانت لوحة رائعة، لا تتطلب مني سوى إمعان النظر، والاستمرار فيها.. لكن صاحبي يهمس إلي كل مرة ويقول:

ـ راكْ تسْمعْ فيّ..؟
فأؤكد له أنني استمع..:
ـ إني أعطيتك أذني..!
فغضب واعتبر الأمر استهتارا به:
ـ يا أخي ركز معي ماذا أفعل بأذنك..؟!!
وخوفا من أن يلح في طلب ما أعطيته للنار، رحت أقول بعد كل عبارة يقولها:
ـ إيه..
ـ ..........
ـ نعم..
ـ ..........
ـ أيْوه..
ـ..........
ـ ومنْ بعْد؟.

ولم أتنازل عن تواصلي مع النار، لأن أشياء في داخلي تجتمع وتصر على ذلك: الحنين والبعد والبرد.

مرارا أجرب الجلوس وحدي، حتى أتجنب أي أحد يخرجني من جنوني، الذي أجد فيه راحتي ومتعتي. لكن شكلي وأنا وحدي، قد يجعل الآخرين يظنون أنني بالفعل مجنون أو زهدي، لأن الخلوة والصمت والتأمل مظاهر شاذة في المنطقة، حتى أنني أعاتب نفسي أحيانا على ارتباطي المفرط بالذكريات، بل لست أدري لماذا أزاوج أحاسيسي بالطبيعة، واختلاف الفصول، لدرجة أنني أربط أمزجتي بتغير المناخ.

في البداية كنت أظن أن كل هذا يدل على وجود حالة مرضية، قد تكون جنونا مثلا.. كنت قلقا جدا، وما زاد هلعي هو أنني أحفظ أبياتا لمجنون ليلى، وأنشغل كل مرة حتى أتساءل: لماذا سموه بالمجنون؟ وعندما قرأت سيرته ظننت أن كل من يحب يجن، فزادني ذلك قلقا، فأنا إلى حد اليقين أشعر أنني قد وصلت إلى مستوى صدقه وإخلاصه، بدليل أنني كنت أنشد لصاحبيّ أبياتا من شعره، بأداء جيد وتأثر لا نظير له، لقد تقمصته فصرت كأنني أنا قيس بن الملوح، وكنت أخال الإسفلت رملا، والشقق والبيوت الحجرية خيما، والسيارات والشاحنات أحصنة وإبلا.. فكان صاحباي وكل من يسمعني يسخرون مني، وعندما أُقبل على الجالسين يقولون:

ـ ها هو جاء بن الملوح..!!

جليساي أحدهما كان متدينا، ويعتبر الحب لغير الله شرك، والآخر كان ماديا كثيرا، يقول لي دائما:

ـ إذا كنت غنيا فستحبك كل النساء، حتى المتزوجات..
فيقاطعه المتدين:
ـ القناعة يا أخي..
فيقاطعه الآخر من جديد:

ـ ستقول لنا:.. والصبر.. و.. و..، تلك أغاني نغنيها كلما نشعر بالحرمان والقهر حتى نقاوم وجع الواقع.

صاحبي المتدين كان أبوه سكيرا، يجلب الخمر والنساء إلى قلب البيت، ولذلك كبر متضمرا وكارها لما يفعله أبوه جهرا وعلانية، ولهذا السبب احتواه معلم التربية الإسلامية، وكان يقص عليه كل ما يفعله أبوه، وكنا نسمع المعلم يوصيه بالتقوى والإيمان، ويحذره من السقوط في مطب أبيه.. يقول له:

ـ أبوك خارج طريق.. خبيث، أنا أعرفه..!! وأنت ولد متدين.. عاقل وناضج..

وهو يمسح على رأسه بيد، ويمسك السيجارة بيده الأخرى يقول له:

ـ أنت ما خْرجْتشْ لأبيكْ نسْتعْرفْ بيكْ(23)..!!

وكنت ألاحظ صاحبي يشعر أن المعلم متناقض، وأن كلامه لا يتجاوز شفتيه..

صاحبي تدين فقط ليخالف أباه، وكي يتحصن حتى لا يقع فيما وقع فيه أبوه من انحراف، وعندما يتحدث أحدنا عن أبيه، يضرب الطاولة ويقول:

(إن الفتى من يقول ها أنا ذا *ليس الفتى من يقول كان أبي)(24).

ويضرب بيده على الطاولة ويكرّر:

ـ ها أنا ذا.. ها أنا ذا..!!

ثم يقوم ليؤكد ذلك للزبائن، فأمسكه من ثوبه وأرغمه على الجلوس:

ـ واش حاب تفرج(25) فينا الناس.. نْولّوا(26) سنِما ضرْك(27).!؟ ريَّحْ(28)!...

اختلافنا في فهم الحياة، هو الذي جعل كل واحد ينفر من سماع حكاية الآخر، غير أن هناك توافقا لا دخل لأحد في وجوده، منه تشابه المستوى المعيشي، وتشابه الأسر من حيث العدد والثقافة والتقاليد. ثم هناك ذكريات تعود إلى أيام الطفولة، لا تزال يافعة في صدورنا الحالمة.

أعترف أن عادتي سيئة للغاية، لأنها تميل إلى الصمت والتأمل، وأنا أجلس قبالة النار، أذكر أن صاحبيّ عند دخولنا مقهى الفرارة، يحاولان مزاحا أن لا يتركاني أجلس مقابل النار، لأن نزعتهما في الحياة (المال والتدين)، محوران يتطلبان الانتباه والمناقشة. أما نزوتي فلا تتطلب إلا الانحباس النفسي، عند من تذكرني بها هذه النار التي تأكل بعضها، حتى هي كانت تشبه كومة اللهب، وهي ترتدي ذلك المعطف الأحمر، وتتنقل من طاولة إلى طاولة في حجرة الدراسة!.

كانت تنتابني فلسفة عميقة، فرحت أبحث كي أعطي تسمية خاصة لهذا اللون، ولم أكتف بوصفه أنه أحمر، لأنني اكتشفت ألوانا حمراء كثير، تختلف عن لون معطفها، وكان هو أكثر وقعا على النفس من أي حمرة أخرى، أو هكذا أملت علي نفسي، وكأنني أنا أول من اكتشف أن من بين الألوان الحمراء ألوانا أخرى مختلفة، ولكنها لا تخرج عن نطاق لونها المتصف عادة بالحمرة...

معلم التربية الفنية في القسم، حين يراني تهت عن الشرح، يرميني بقطعة طبشور ويقول لي:

ـ انتبه!!...

فأحاول أن أعبر له أنني انتبهت، مع أنني كنت أكثر التلاميذ انتباها، لأنني أعرف أنه كان يعلمنا كيف تتمازج الألوان، كي يستمر الكون جميلا.!! وسرعان ما شردت من جديد عن الشرح، ورحت أفكر فيما إذا تزوجتها، أي لون يمكن أن أنجب معها، وأنا أرتدي هذه القشّابية البيضاء، التي تفننت أمي في نسجها، فوضعت على طولها خيطين متوازيين من الحرير على اليمين وعلى اليسار.

عندما أخاف ـ ونحن جالسين في المقهى ـ من حديثي مع نفسي أعود معترفا بخطئي، أمسح على ذقني وأقول:

ـ عيب الرجّالة يَهْدرُو(29)..

حتى لا يغضبون.. أحاول أن استنتج من آخر عبارة موضوع الحكاية، التي كان يقصها صاحبي على يساري بحماسة واهتمام، وهو يشرح بيديه، ويأخذ من السيجارة نفسا بعد نفس، ثم يحمل فنجان الفرارة كي يشرب، رغم أنها انتهت، ولم يعد هناك سوى حثالة البن، التي تراكمت في قاع الفنجان حتى أنه التهم منها شيئا.!! فضحكت عندما رأيت أسنانه تلونت بالأسود، ولم ينتبه لما فعل وهو مندفع في الكلام!!..

الفنجان وهو يذهب من الطاولة إلى فمه، ثم يعود من غير حاجة، كنت أتخيل كأنه يصرخ:

ـ اتركني وشأني فلا قهوة في داخلي، ويستنجد بالساقي أن ينتشله فيعود به ليغسله.

وتخيلت أيضا أن فنجاني وفنجان صاحبي يضحكان عليه، ولا يزالان يحويان شيئا من الفرارة. لم أصبر وقاطعت المتحدث، أشرت له بما التصق بأسنانه، وهكذا رحت استنطق الفناجين بطريقة الرسوم المتحركة، كي أعطي للموقف مسحة من الفكاهة، ولكي أنقص من حدة العصبية التي أصابت المتحدث فطغت على حكايته.

صاحبي على يميني كأنه كان ينتظر هذه المناسبة، لينفجر ضاحكا.. الموقف لم يعجب المتحدث، وأبدى شيئا من الغضب، لأنه كان على علاقة وطيدة بالموضوع، فقد كان يقص علينا قصة الفتاة التي أحبها أخوه حبا جما، وكيف خطبها أحد الأعيان.. قال:

ـ لقد تركته وأنا قادم إلى هنا حزينا، وكان ما يتعبه أنه يود أن يعرف هل تم ذلك بموافقتها أم أخذوها مكرهة؟.

وعندما أردت أن أضع حدّا للحكاية سألته:

ـ وإذا علم أنها تزوجته وهي غير راضية، ماذا كان سيفعل؟.

فأجابني، وقد هدأت أعصابه:

ـ كل شيء بالمكتوب!..

ثم طأطأ رأسه، وطل في جوف الفنجان فلم يجد شيئا، رثيت لحاله وناولته فنجاني وكان فيه ما يقارب النصف. راح يرشف الفرارة بانكسار كبير، غير أنني توقفت عند العبارة الشائعة، كل شيء بالمكتوب.! فلم تقنعني العبارة، وعدت فسرحت في النار من جديد، ورجعت بخيالي إلى أيام الجاهلية، فخشيت أن أكون جاهلا، ثم رحت أحدث نفسي كالعادة:

ـ إن هؤلاء الذين يعطلون رغباتنا هم الجهلاء.. هل للحطب رغبة في النار، ولو عطل أحد هذه الرغبة أكان ليصلنا هذا الدفء؟.

التفتُّ إلى صاحبي فوجدته يرتعش، رغم أنه لم يبد عليه ذلك قبل أن ينهي الحكاية. فأدركت أن للحطب رغبة في النار، وأن الماء عدو كبير للتواصل والدفء، قلت في حوار مع نفسي:

ـ ولماذا خلق الله الماء إذن؟

 قلت:

ـ لإعداد الفرارة!!.

كان جوابي لنفسي تافها، ولهذا ضحكت.. كنت أبدو كالمجنون، لأن الجلساء لم يروا أي مناسبة للضحك، أجبت السائل قلت له:

ـ لا شيء!!..

فلم يقتنع أنه بالفعل لاشيء..! ولما أصر على معرفة سر ضحكتي قلت:

ـ همْ الزْمانْ يْضََحّكْ..!

عدت إلى النار.. غير أنني حسدت الحطب هذه المرة، لأنني شعرت في ذات اللحظة أنني حطب في حاجة للاشتعال.! كان بجاني كوب فيه ماء فأبعدته إلى الناحية الأخرى.

انتابتني رغبة أن أطلب المزيد من الفرارة، فأشرت للصبي أن يفعل ذلك، وعندما حضر الصبي بها، توفرت نفس الرغبة عند صاحبيّ، وطلبا أيضا المزيد، ولأن تلك الثلاثين دينار هي كل ما أملك في جيبي، قلت لهما مبتسما:

ـ يا جماعة خلُّوكم من البُروفِيتاجْ. (30)!!

ذلك المادي قد حسبها الخبيث فاحتج بقوة، ولم ينس أن الفراير التي كنا قد شربناها كانت مجانا، وأنكر أن لي فضلا كبيرا في ذلك.. لكني رضيت، وأمرت الصبي أن يسقيهم ثانية، لأني من الذين يقدّرون كثيرا نكهة الفرارة، ولحسن حظي أن ذلك الفطْفاطْ المارد، طار منذ قليل إلى طاولة أخرى، وإلا كلفني فرارة رابعة فهو لا يستحي ولا يرتوي!!..

عدت وغصت في ناري ولا يعلم سر غوصي في قلبها أحد. ارتباطي بها جعلني أعذر أولئك الذين يعبدونها، فقلت لنفسي:

ـ أما وقد أحدثت النار في نفسي كل هذا الهوس، ولم أر فيها إلا ذات فتاة أحببتها، فماذا يدور في عقول أولئك الذين يعبدونها، وقد توهموا أنها هي الإله، فربما الذي عبد النار أول مرة كان يحب امرأة تلبس ذات المعطف الأحمر، الذي لبسته من جعلتني أظل أمعن فيما يلتهب داخل مدخنة مقهى عمّي محاد الصغير، ولذلك زاد يقيني بأنني لست كافرا، كما كان يتهمني صاحبي المتدين، ولا ضرورة إذن لكراهية النار، بل كيف يمكن أن يكرهها حطب يبُس من كثرة الحنين..ترى أين أنت كي نُكوّن بالتحامنا نارا رحيمة تزيد تواصل الدفء، فنغدو مؤمنين جميعا؟.

لقد أبطأت كثيرا أحدث نفسي، وهذا لا يليق.. الجماعة اعتذروا وهموا بالقيام.

أغلب الزبائن يلهيهم السّعدي الزُّهدي بكلامه الكثير المبعثر، وكان هذا سر متعة حديثه، لأنه يقول أشياء عجيبة، لم نكن ندري كيف يتخطفها، ولهذا أحبه الجميع، أنا أيضا أحبه وأشفق عليه، ثم أنا لا أنكر أنه صاحبي أيضا، يقول لي ذلك مرات عديدة حين يجلس بجاني، لكنني أكرهه في مسألة واحدة، ولم أخبر أحدا بالموضوع، لأن الكثيرين يعتقدون أن السّعدي الزُّهدي مكشوف عنه الحجاب، بعضهم قالوا جربنا هذا عدة مرات، فما إن ينطق بشيء إلا ويحدث!! ولهذه المسألة فقط أكرهه، لكنني لا أبدي له ولا لغيره شيئا، كان السّعدي الزُّهدي عندما يقدم ناحيتي يضع يده على كتفي، أطلب له قهوة بالحليب في كأس كبيرة كما تعود هو، وكان دائما يتخاصم مع الصبي، يلح عليه أن يملأ له الكأس، وكان الصبي القهوجي يحاول أن يقنعه أنها مملوءة، وفي نفس الوقت يمسكها بيديه، فلا يأمن السعدي الزُّهدي فقد كانت يده ترتعش، فربما يميل بها فتصيب أثواب أحد الزبائن، فيبدو السّعديالزُّهدي كالطفل وهو يرفع الكأس يقربها من عينيه، يكاد يقلبها وهو يتأكد من أنها مملوءة كما ينبغي، ثم يضعها على أي طاولة موالية.. يجلس بجانبي، وعندما يجدني أمعن في النار يقول لي:

ـ أنت صاحبي. بصّح راكْ تْعيّي في رُوحَك!..

يقول لي ذلك كلما يجدني غائصا في النار بكل ما أوتيت من تركيز، كان يخيفني كثيرا، ويبعث في نفسي القلق، ولهذا تجدني أكرهه.. وعندما يرى شيئا ما ارتسم على ملامحي، يدنو برأسه نحو رأسي وأنا مطأطأ وكأنه يطل على وجهي:

ـ أنت راك صاحبي، والله قا صاحبي.. بصّحْ هذِي اللّي حابّةتلُوحكْ (31) في النار خلّيكْ منها!!..

أشعر بانقباض شديد، وما جعلني أشعر بالغيظ أكثر، فأجعل كأني أود أن أرتمي في النار، هو أن الضحك يحيط بي، ولست أدري أهم يضحكون علي، أم يضحكون على السّعدي الزُّهدي؟ وكي يصبح السّعدي هو الوحيد المضحك رحت أضحك أنا أيضا!.

تعود السّعدي الزُّهدي أن يُضحك الجميع في هذا الوقت بالضبط، حتى صاروا يترقبون مجيئه بشوق ولهفة. المتحدثون ينهون أحاديثهم لمجرد أن يطل السعدي الزُّهدي من المدخل، فأغلبهم ينشغلون بحكايات تدعو للغضب والأعصاب، وأكثر الزبائن يمارسون أعمالا متعبة كالبيع والشراء، والكلام مع المتعاملين بمختلف طباعهم، وقليلون الذين ينشغلون بالموضوعات العاطفية كنحن مثلا..

عندما يدخل السّعدي الزُّهدي، كل واحد يدع همه جانبا، حتى لا تفوته لقطة مضحكة.. كنا نضحك ضحكا مميتا، ولا أحد منا يستعمل دبلوماسية معينة، في التعامل مع ما يبديه السّعدي الزهدي، من حركات وكلام فوضوي.. رحنا نضحك، وكذلك الكثير من الزبائن، حتى فقد أغلبنا اعتدالهم على الكراسي، صاحبي المتدين لم يضحك، وراح يدعو بصوت سمعناه:

ـ (الحمد لله الذي أعفانا مما ابتلاه به، وفضلنا على كثير من خلقه).

فمددت يدي نحو كتفه، ورحت أهزه هزّا لعلّه يفق وينتبه:

ـ يا أخي اضحك..

قال له صاحبي الآخر:

ـ (اجِيحْ تْريّحْ(32).!!).

صاحبي المادّي كان يضحك، يكاد يسقط من على كرسيه من شدة الضحك:

ـ كيف اقتنعت أنك أفضل منه، وأنت تراه يشرب القهوة بالحليب مجانا صباح ومساء..

لحظات وانجذبنا جميعا إلى مدخل المقهى، حين دخلت شْريفه المخبولة، نظرت إلى القفة التي علقتها وراء ظهرها، وكانت شفافة قد ظهرت من داخلها حمرة الطماطم، والموز، والبرتقال.. وكثير من الخضر، طبعا لا يلومني أحد حين انتبهت إلى ذلك، فاللون الأحمر هو نقطة ضعفي.. ورحت أقول لصاحبي وأنال أضحك:

ـ والله هؤلاء المجانين هم الذين حُق لهم أن يدعو لنا هذا الدعاء!!..

شْريفه المخبولة كعادتها قد أنهت كل التزاماتها، وكل ما لديها من شغل الآن، فقد قضت كل مآربها من المَرْشي(33) الكبير، جناح الجزارة كانت آخر محطة تغادرها، وبالضبطمن رواق طاولات الْمَزَامزْ (34)، فقد سبقت القطط المحترفة، التي توالدت في قلب هذه المَرْشي، فترى شْريفه المخبولة تنقض انقضاضا على المهملات، المكونة من قطع اللحم وكراديس(35) العجول، التي ما تزال تحتفظ في زواياها ببعض الهبر، تضعها فوق ما جنته من خضر وفواكه، فكنا نرى أمعاء الخروف، وقد طفح بعضها من القفة، فاغتنمت الفرصة لأبدي ثقافتي في الموضوع، عندما سألني أحد:

ـ وكيف عرفت أنها أمعاء خروف..؟.

فقلت له بطريقة منتشرة وبحركات معبرة، وكأنني أريد أن أكتسح المجلس بهذه المعلومات، التي كأنني واثق من أنها نادرة:

ـ هذه الأمعاء التي تراها أمعاء خروف، لأنها بيضاء ورقيقة، أما أمعاء الشاة الطاعنة في السن، فتراها غليظة وحمراء..

الشيخ الذي كان يضحك طيلة حديثي احتج، قال وهو يمطط عنقه يبحث عن مكان جلوسي:

ـ تقرأ بالعمى..! هذه أمعاء دجاجة، وليست أمعاء خروف.. حاجة ما تعْرفْهاشْ علاشْ تفْتي فيها.. ما تْغلْطوشْ الناس!!..

ثم غضب غضبا شديدا، حتى قلت يا ليته سكت:

ـ كيف للجزار أن يستغني عن أمعاء الخروف، وثمنها خمسون دينارا للتَّاوْسه (36) الواحدة!..

الجماعة من حولي لم تستطع مقاومة كبت ما تجمع في أشداقهم من ضحك، فانفلتوا جميعا..!! أما أنا فقد فتحت حفنتي يدي، ووضعت وجهي بينهما، ولم أعد في حاجة إلى النار فقد صار وجهي أشد حمرة منها. هممت بالخروج، لولا أن السعّدي الزُّهدي جذب الجميع بحركة عشوائية مثيرة.. جعلت الكل يهتز من فرط الضحك:

ـ شوفوا.. شوفوا شْريفه تقول ناقة شاردة من المرْحُولْ.. يا ويلي.. واش بيها!!..

فتجيبه شْريفه:

ـ مَرْحُولْ(37) اخْتكْ الناس يَضْحُكو عْليك وانْت دَايرْ(38) رُّوحكْ راجلْ.!

فيعقب عليها السعدي وهو يحاول أن يبدو عاقلا:

ـ ما ادِّيرُوشْ عليها، راها مريضة شْويّه..!

وأبدى حركة تشير إلى ذلك بيده العريضة.

ـ يْمَرَّضْ رَاسَكْ يا وجه الجمل..!

زبائن المقهى كلهم يضحكون، أما أنا فلا يزال وجهي محمرا، بسبب ما تعرضت له من سخرية، حين عقب على حديثي ذلك الشيخ المشؤوم. عدت وأكثرت اللّوم على نفسي:

ـ .. واشْ دخلْني.. رايحْ نتْحكّكْ(39) على الزهْدية.. شحْ فيّ..!

في الوقت الذي كانت فيه شْريفة المخبولة تغادر المقهى، اتجهت أنابنظري نحو النار، وكانت تقارب أن تنطفئ، والرجل خلف الكنتوار أبدى إشارة بيديه، يريد أن يقول أنه لم يعد مستعدا لتحضير المزيد من الفرارة، وبدأت الكراسي تتحرّك، لأن الزبائن أخذوا يغادرون المقهى الواحد تلوى الآخر.. تعودنا أن نكون آخر ثلاثة يخرجون، وأن أكون أولهم.. لأنني لا أحب أن أرى ناري تنطفئ، خصوصا قطعة الكروش الكبيرة عندما يصب فوقها القهوجي الماء، فيتركها سوداء فاحمه والدخان الساخن يتصاعد فوقها، هذا الدخان اللعين لا يوحي لي بالتوازي، كما كان يلهمني دخان النار المشتعلة.!! قبل أن تنطفئ كنت ألتفت حينا بعد حين، كأني أود أن أدسها في عيني، لآخذ صورتها معي إلى البيت.. أضع جفنيّ على بعضهما كالمستعد للنوم، ثم استحضر بخيالي ناري، أسامرها حتى أنام معها على وسادة واحدة، على وقع أغنية العندليب الأسمر، الأغنية التي صارت بيني وبينها علاقة نفسية رهيبة.

كنت أظن أنني أردد الأغنية بصوت خافت، لكن عندما رأيت أبيوأمي يتغامزان علي أسريت بالغناء:

ـ (.. نار يا حبيبي نار..
نار يا حبيبي نار..
نار.. نار.. نار.. نار.. نار..).

وأظل أردّد ذلك حتى أنام.

أذكر أنني أرى أحلاما كثيرة، أَبْلغُها حين رأيت كأن يداي صارتا أجنحة، فرحت أجوب الفضاء، وكانت الأرض من تحتي تصعد بألسنة اللهب، تراءت لي النار وأنا في الحلم دافئة، لكنني كلما أحاول أن أحط أخاف أن أحترق، كان يرن في أذني ما قاله لي السّعدي الزُّهدي، قصصت هذا الحلم لأمي، ففسرته تفسيرا جميلا، رغم أنها لا تعلم شيئا عمّا أضمر في نفسي.. قالت:

ـ أن تصير يداك جناحين فتطير بهما، فهذا مؤكد أنك ستعتمد على نفسك في المستقبل، ولن تكون عالة على أحد، وأما أن تصعد إلى السماء فهذه مكانة رفيعة ستبلغها، أما النار فهي مشاكل الحياة وعناء الدنيا. ثم اندفعت نحوي في هلع كبير:

ـ وهل نزلت إلى النار يا ولدي..؟

قلت لها:

ـ كنت أحاول.. أن أقترب منها، ثم أعود فأعلو.. وأحلق من جديد..

فتعاود السؤال مرة أخرى، كأنها تريد أن تتأكد:

ـ هل نزلت أم لا..؟

الحقيقة احترت فيما يناسبها من إجابة، فأمي كانت تريدني أن أقول لها لا، لأن أمي لا تجامل في تفسير الأحلام، ويبدو بسهولة كبيرة تأثرها إما فرحا أو حزنا، وكنت خائفا كثيرا من تفسير الإجابة إذا قلت نعم، ولو أنها كانت تعرف مسبقا ماذا تعني النار بالنسبة لي، لما كانت هناك مشكلة من الأساس، وربما لوجدت تفسيرا يناسبها ويناسبني. ورغم أنني شعرت بمتعة لا أستطيع أن أصفها، حين نزلت في النار فقد قلت لها:

ـ لا يا أمي لم أنزل..!

فتنفست أمي كمن حط من فوق ظهره أثقالا كثيرة، وقالت:

ـ الحمد لله.. (النارمَِِِِِِهِيشْ (40) مليحة في المنام يا وليدي..).

كنت أخالفها الرأي في قرارة نفسي، فهل رأيتم أحدا يسقط في النار ويخرج مبتلا.ّ؟! حتى أنني لم أستأنس برائحتي هذا الصباح، كنت أشعر كأنني قطعة حطب أصابتها النار، أكلت بعضها ثم انطفأت، لحظة الانطفاء كانت هي لحظة الاستيقاظ المبكرة التي لم تعهدها أمي.

كانت أمي تنتظر بقية الحلم، لأني إذا لم أنزل فيجب أن أخبرها أين ذهبت وأنا أطير، كان يجب أن أعطي نهاية للحلم غير التي رأيتها، لأن ما حدث بيني وبين ناري في الحلم لا يجوز أن أخبر به أمي.

ضعت رأسي على ركبتها، ورحت أواصل الحلم برمزية ظننت أنها لن تفهم منها شيئا:

ـ نزلت يا أمي كنزولي على ركبتك هذه، فوجدتها أرضا طيبة دافئة ولم تكن نارا يا أمي، بل كانت شيئا يتحرك يشبه ألْسنة اللهب، ولم تكن نارا كما كانت تبدو لي وأنا في الفضاء، فقد وجدتها جسما دافئا، يعلوه سواد يشبه شعرك هذا.

 بالتأكيد أمي فهمت المعنى، فهي تتعامل مع الأحلام بجدية فائقة غير أنني أخفيت عليها أن النار عندما هبطت ناحيتها، أحرقت شيئا بداخلي كأنه قلبي، ثم اختفت في مكان بعيد لا أعرفه، أخفيت عليها هذا، لأنها عودتنا عندما نقص عليها حلما لا يتناسب وما تتمناه لنا، يبدو على وجهها الحزن، وتتجلى على ملامحها الكآبة، وكم كنت حريصا ألاّ أحزنها.

لا أحد يتصور كم سيكون حزن أمي، لو أني أنهيت لها الحلم بهذا المعنى، كذبت رغم أني سمعت أمي مرارا تقول:

ـ (من يزيد في منامه يزيد في عذابه).

لكن أمي فرحت كثيرا، حين منحت لها فرصة كي تتوقع مستقبلي كما يملي عليها حنان الأمومة المفرط. ورغم أني أرى في الكثير من أحلامي أن النار تحرقني، ومع ذلك كنت أرى ذلك لذيذا، ولم أكف عن تأمل النار.

في الوقت الذي فرح فيه كل أفراد العائلة بالمدفأة الجديدة، التي ملأت ركن البيت، كنت الوحيد الحزين على الانقلابات التي تطيح بالتقاليد يوما بعد يوم، لم تتوفر لدي الرغبة في المكوث طويلا في مقهى الفرارة، إلا بعد أن أدْخل أبي المدفأة الحديثة إلى البيت، وسدّ المدخنة بالقوالب الصغيرة، ولا يزال أثرها إلى الآن.. قال أبي:

ـ سأحسّن مظهرها فيما بعد لأجل الديكور..

المدخنة عندما خمدت انقرضت أحاجي جدّتي، ولم نعد نحدّد لها مكانا، لأن الدفء عم كل أرجاء البيت، ولم يقنعني أيضا التلفزيون، فلم يغط المساحات الفارغة في نفسي، كما كانت تفعل الأحاجي، حتى جدّتي انبهرت بما رأته على الشاشة، وصارت تضيّع سبحتها من حين لآخر، أما أنا فلم أكن متسامحا مع خيالي كثيرا، لأني لم أعوده كي يتمتع بما هو ليس حقيقي، رأيت أني إذا فعلت ذلك أكون قد أهملت لمسات لها امتداد تاريخي مع نفسي، وهي سر سروري واستعدادي للحياة:

ـ اللعنة على الديكور، واللعنة على التكنولوجيا!!..

عائلة كلها مشدودة للتلفزيون، يستغربون كيف لرجل يطير، يتصرف كما القرد، حين يتنقل من شجرة إلى أخرى. جدّتي الطيبة كانت تحملق في الرجل الطائر، وتمرّر حبات السبحة بسرعة لم نألفها، وأحيانا تضرب على ركبتها:

ـ يا حفيظ يا ستّار.. يا حفيظ يا ستّار!!..

انت تشير إلي أن أهتم كاهتمام اخوتي، وطلبت مني أن آتي نحوها، لأنها رأتني شاردا أفكر في شيء خلاف ما يعرضه التلفزيون، ضحكت ثم مسحت على رأسي:

ـ هذا الرجل ذكرني بالحلم الذي قصصته علي ذات صباح..

ـ هذا صحيح يا جدتي، ولكن لا نار تحته، إني أراه يدوس الأزهار، ويكسر أغصان الأشجار..

ولأنها تفسر النار بغير ما أفسرها أنا تقول لي:

ـ أليس هذا خيرا من أن تسقط فوق النار فتحرقك..؟!

أشعر بشيء من اليأس والإحباط، كأنها تقول مثل قول السّعدي الزُّهدي، أو كأنهما قد اتفقا علي!!:

ـ هل جدتي زُهْديَّة أيضا؟! أم أن ما يتخلل جنبيّ من شعور هو بالفعل أعراض جنون..؟

فكرت جدّيا في التخلّي عن هذا اللون، ولكن شيئا بداخلي يجعلني أتشبث وأتمسك، لم أكن أدري أهذا غرور؟ أم ما حدثنا عنه المعلم أنه إرادة وعزيمة، فكيف أعود إذا كنت أرى ذلك هزيمة، وقد علمني جدي أن الرجل لا يهزم، فزدت إصرارا وقلت:

ـ يجب أن أستمر حتى وإن كان عاقبة ذلك الجنون..!!

أخي الأكبر بقليل كان أكثرهم حضورا وانبهارا، اتكأ على مرفقه، وتمطط بظهره إلى الوراء، حتى تدل رأسه إلى الخلف، وهو يرى أمّي مقلوبة، قال بإعجاب كبير:

ـ هذا يسمّوه طرزان(41)..

فضحكت أمي وقالت:

ـ إذا جاء طرزان فناولوني القطران..!

قال أبي على إثرها:

ـ نتْفرْجوا(42) في طرزان والخاوي أكثر من الشبعان..!

وراح أبي وأمي يتناظران، وكانا مولعين كثيرا بالإيقاعات الشعرية. كنت أنا أهتم بهذا الحوار الشعري فضحكت أيضا، وكان نادرا ما يحدث هذا بينهما لمكوث أبي طويلا خارج البيت. وعندما ألح عليهما أن يستمرا في هذا التبارز الشعري، اخوتي يلتفتون نحوي بغضب، يعتبرونني أشوش عليهم، وهم منشغلون بأحداث اللقطة الأخيرة من حلقة الفلم، ثم ينهضون كأنهم كانوا يغطون في نوم عميق، الصغار يستعيدون ما أثارهم، أحدهم قفز من على السرير المطاطي:

ـ طرزآ..آ..آ..آ..آ..آ..ن!!

حتى كاد يقتل من كان يحبو من اخوتي، وراح الكبار يمططون أعضاءهم، ويفرقعون مفاصلهم ويتثاءبون، ثم أخذوا يتصارعون حول وجبة المساء، ولم تكن شيئا غير الخبز وحليب العلب البلاستكية، وبعضا من الزيتون الأسود. وبعد ذلك خرجوا يتزاحمون، كي يتوزعون عبر العاب مختلفة، جدتي راحت تبحث عن سبحتها فلم تجدها.!!

لعبة الصّايو(43) انقرضت هي الأخرى، واكتسحت الشارع لعبة غريبة اقتناها الأطفال من التلفزيون. إدمان أبي على شراء البوزلّوفْ ساعد إخوتي الصغار، كي يتخذون من فكيه السفليتين مسدسات.. انتشرت اللعبة، فترى كل طفل يمسك فكّا يشير إلى صاحبه ويردد:

ـ طعْ.. طعْ.. طعْ..

فيدعي الآخر أنه ميت.. انتشرت أفلامالكاوبوي عبر كل أحياء القرية، فلا يكاد المار يسمع إلا عبارة راكْ ميّتْ.. راكْ ميّتْ..!! اللعنة على هذه اللعبة.. كان يكرهها الشيوخ والعجائز كثيرا، فقد كانت تكسر تفاؤلهم وهم خارجون من البيت أو عائدون إليه.

المختار تْشُونْبي(44) كان يتخذ ركنا من أركان أحد البيوت المهجورة. وينهمك في الصباح يقص على أولئك الذين لا يملكون أجهزة تلفزيون، أو الآخرين الذين ناموا مبكرا، أو ربما حرموا من متابعة البرنامج، لأن الآباء كانوا يحجزون التلفزيون في آخر الليل، حتى يستحوذون على فلم السهرة، ويطردون الأطفال كي ينامون بحجة أنهم على موعد بالمدرسة في الصباح. كل هؤلاء يحيطون بـ المختار تْشُونْبي، ويفتحون آذانهم وأفواههم، وكان يروي قصة فلم السهرة الذي شاهده في الليل بشراهة ودقة، ومن فرط حماسه وحركته وهو يقلد الممثلين، يترك أثرا مميزا جدا على الأرض، وكان يطرد الأطفال يقول لهم:

ـ هذا فلم خاص بالكبار فقط..!

يطردهم عندما يريد أن يصف آخر لقطة، عندما يتمكن البطل من القضاء على المهاجمين الأشرار، ويعود حيث تخرج أجمل فتاة في الضيعة وتقبل نحوه جريا، يلتفت المختار تْشُونْبي يمينا ويسارا، يتأكد من مغادرة الأطفال للمكان، ثم يصف النهاية والريق يقطر من شفتيه.. يقول:

ـ .. يعود البطل.. يقف أمام سكن جميل.. نافذته مفتوحة، تسرب منها ستار أحمر، تطل من خلفه فتاة جميلة جدا، تبتسم ثم تختفي، البطل يقف على مسافة ليست بعيدة عن البيت.. يفتح رجليه، ويثبتهما جيدا على الأرض، ثم يرمي قبعته بعيدا، ويفتح أحضانه عندما تخرج الفتاة، وتأتي نحوه جريا.. تتكئ على مرفقه الأيسر، ويحيطها بذراعه الأيمن، فتظهر كأنه يحملها، أحد ساقيها ممدد يصل إلى الأرض، والآخر انثنى، فشكل الحرف V مقلوبا، ثم يهوي عليها بشفتيه، وتبدأ الكاميرا في الابتعاد عنهما، وتظل تبتعد حتى تجعل منهما موضوعا مبهما، لا تستطيع العيون أن تتبينه، ثم تبدو أحرف صغيرة، وبطريقة معاكسة تبدأ الأحرف الحمراء تكبر شيئا فشيئا..النـ......هـ...ا..ية.

الجماعة تضع أياديها بين أفخاذها، وتمضي في رحلة تلذّذ متواصلة، ثم يكتظون في الصباح عند مرشات احْميْدَه الأبْقَع، الذي كتب على لافتة أعلى المرآة لا تضيعوا الماء من فضلكم..!!

الأطفال بمجرد أن يعودوا من المدرسة مساء، يكتظون على الحصير، ويتعاركون على الأمكنة المناسبة أمام التلفزيون، ويلحون على أمي أن تشغّله، وتفعل ذلك رغم أنه لم يحن بعد موعد إرسال البث، ولا يفارقون أمكنتهم، فيحملقون حتى في النقاط البيضاء والسوداء المتلاعبة على الشاشة. وكانوا يسمون هذا بالطُّشْطاشْ (45)، جدي هو الذي أطلق هذه التسمية على مظهر الشاشة قبل انطلاق البث.. لم نجرأ بعد على لمس شاشة العرض، لأن أبي حذّرنا من ذلك.. قال لنا:

ـ إنها مشحونة بالكهرباء وفيها قوة جذب عجيبة تمتص الأطفالفتحرقهم في الداخل!!..

قال أبي هذا خشية أن يدفعه أحدنا فيُسقطه، فلم يكن من السهل أن يشتري آخر، وكان يشدد كثيرا على هذا، ويؤكد عليه. كنت أنا في جميع الأحوال حائرا بين رغبتين، بين أن أبدو كبيرا،وبين أن آخذ حاجتي من اللعب والعبث كبقية الأطفال، فلا يهمني أن يراني الآخرون لا زلت صغيرا. كنت أعيش طفولة عجيبة..ممتعة ولذيذة، ولا أنكر أنها متعبة أيضا، وكثيرا ما تكلفني أرقا شديدا، عندما يتملكني ذلك الشعور، الشعور الذي يدفعني نحو الحنين إلى الذكريات، حاجة روحية تولدت لدي، تلح علي أن أبحث عن طرف آخر من خارج أفراد أسرتي، ولا هو واحد من أصدقائي، طرف مختلف تماما عن كل هذه المعاني، كنت عاجزا أن أسميه، وعاجزا أيضا أن أبرر طبيعة حاجتي إليه، شيء كأنه يحفر في ذاتي، يود أن يتخذ له مكانا رغم أنفي، موضوع كأنني لا أملك رده، كان يفرض نفسه علي فرضا، وكان يحفزني للحياة، يدفعني لانتظار الغد، يجعلني أحب الكثير من المظاهر الكونية، كالشروق والربيع مثلا، كأن هذا الشيء نفسه حاجة كونية هو الآخر.ولم أكن أرى الغروب نهاية ليوم ما، بل كنت أراه كأنه بصمة تتعهد بصباح جديد!!..

كذا كنت حازما مع نفسي، بل متشدّدا معها، فلا أبيح لها إلا ترقب الأشياء الجميلة والمواضيع المفرحة. روضتها على هذه العادة، ولم أكن أعرف أنها سيئة.. تمرنت على أن أجعل الأشياء المؤلمة خارج التوقع دائما، ولذلك يظهر على وجهي التأثر، عندما أصادف ولو مشكلة بسيطة، حتى صار يقال علي كثيرا أنني (حسّاس)، غير أنني لا أعترف لهم أن هذا عيب، بل أفتخر أمامهم أنني أتميز عليهم بهذا الحس.. أقول لهم:

ـ هل تريدون مني أن أكون صخرة، أم جذع شجرة منخور؟!!.

كنت أرى أن هذا الحس سيرشحني أن أصبح شاعرا مرموقا، وأحيانا أخرى أميل إلى رأي الأغلبية، التي لا تستسلم إلا للنوم، والأكل، والجنس، فأروح أمارس الإحباطات على نفسي، وأقنعها أن هذا مجرد أعراض مرضية لا فائدة منها، لكن غرور ما يستوطن حنايا ذاتي، يقول لي:

ـ أنت إنسان من نوع آخر.. لا تهتم بما يقولون، لقد غاروا حين لم يستطيعوا أن يصلوا إلى رقة حسك، إنهم يريدون أن يدوسوك فلا تبالي بهم، استمر وتصدّ لمعاولهم، إنهم يريدون أن ينحتوا ذاتك، فيجعلوها كما يريدونها هم..

حتى أنا تماديت مع غروري، وما جعلني أطمئن على إحساسي، وأتأكد أنه ذلك الذي ينبغي أن يتحلّى به البشر، هو رغبتي الملحة في مشاهدة خالي وهو يذبح الخراف ويسلخها في الأعياد والمناسبات. ولم أكف عن هذا حتى تعلمت منه كيف أفعل ذلك، قبلها كنت مشهورا بذبح الدجاج والأرانب، إحساسي ليس حالة مرضية إذن، وأكبر دليل على ذلك أن بعضا ممن يشيرون علي أنني حساس، رأيتهم يخافون من الدم، وأنا أذبح أولخروف كنت أحدث نفسي:

ـ سبحان الله لا يستطيعون أن يُقدموا على ذبح دجاجة، وها هم يذبحون قلبي كلما أرادوا!!..

لايزال غروري يهمس إلي:

ـ إن الحس الذي ارتفعت إليه حس موضوعي، وأنت على حد اليقين عندما ترى أن ما يبدو على علاقات البشر لا يمثل المستوى الحقيقي للإنسان. بمعنى أنك بعيد عن هذا الانحدار الكبير الذي وصل إليه الآخرون في سوء تقدير مختلف العلاقات البشرية.

كلما أتفقد مشاعري أجد صاحبة المعطف الأحمر قد توغلت بلهيبها، فأتمادى في غروري، وأظن أنني سأصير عظيما على قدر عظمة هذا الحب الذي صار كائنا حيا يتحرك بين جنبي، غير أنني كنت خائفا أن أغدو رجلا عظيما، أهتم بالإصلاح وأدعو إلى الفضيلة.. كما كان يحثنا معلم التربية الإسلامية، لأني بصراحة صرت أكره السجن، جدي هو الذي جعلني أكرهه، فقد خرج من سجون فرنسا يخاف الظلام، ولم يعد ينام بعد الاستقلال إلا مقابل ضوء القمر، لأنه كان لا يأمن ضوء الكهرباء.. يقول لنا:

ـ فواصل الظلام هذه تذكرني بسجون فرنسا، كنا نظن أنها لا تستمر تنطفئ هكذا..!!

جدي الطيب عندما ينقطع التيار الكهربائي، يضرب الطاولة ويقول لنا:

ـ إنهم يسرقون..إنهم يسرقون..!!

كان يظن أن الشعب يرى كما ينبغي، وأن أولئك لا يستطيعون أن يسرقوا إلا إذا قطعوا التيار وأخمدوا الضوء، كان شيء مضحك للغاية.! حتى أن أي طفل إذا أراد من صاحبه أن يُقدم على فعل شيء ما، قال له:

ـ أطفئ الضوء.!

كأن الحياة باتت ملغمة، لا يدري الطيبون متى ينطفئ الضوء، ومن أي جهة ستُبتر الهبرة من وطن كان يقف عند أفق الازدهار.

عندما فهمت ما يرمي إليه جدي، قلت دعني أعيش لذة هذا الود وعسل هذا التشهي ولا شأن لي بالعظمة. وأحيانا أخرى أخشى أن أصير فيلسوفا، حين أروح أربط حبّي بعلاقتي بالكون والطبيعة والألوان، فمعلم الفلسفة خوفنا كثيرا ذات شرح، قال لنا:

ـ إن الطالب إما أن يصبحفيلسوفا أو مجنونا، فلا أضمن سلامة عقولكم بعد خوض المحاولة.

طبعا كان يريد أن يعبر أنه استطاع أن يستوعب الإشكاليات الفلسفية، دون أن يصاب هو بالجنون كأنه كان يتباهى.!! أصدقه أحيانا! لأني كنت أخاف كثيرا عندما أراني أتأمل خلافات الناس ومواقفهم، وكلما يحدث موقف أمامي، حتى وإن يكن لا يعنيني، أجد نفسي أبحث له عن طريقة مثلى، كان من المفروض أن يمر وينتهي بها الموقف، وإذا سمعت خطابا من أي جهة تراني أبحث فيه، وأغير بعض الكلمات والمصطلحات وأحيانا حتى عبارات كاملة.

كنت أحمل في ذاكرتي كثيرا من الخصومات، حتى على مستوى السياسيين في هرم السلطة، وكذلك الكثير من القرارات، وعندما أخلو بنفسي أعيد المواضيع إلى بدايتها، ثم أشتغل على وضع افتراضات للحركة والخطاب، باستحضار ردود أفعال الأطراف التي ساهمت في تراكم هذا الموقف، في البداية الكثيرون ممن يحيطون بي يعتبرون أن هذه أيضا حالة مرضية، وعندما أقارن نسبة أخطائهم بنسبة أخطائي، أجد نفسي أستفيد كثيرا من تخزين المواقف، كانت كل المواقف التي آخذها بمثابة التمرينات، ولذلك تميزت بقلة الخصومات، وأحيانا بندرتها مع الآخرين، إلا مع أولئك الغيورين مني، حين يحاولون أن يوقعوني في فخ ما تورطوا فيه حتى رؤوسهم. حتى علاقتي باللون الأحمر كانت علاقة أكثر دقة من علاقات الآخرين بألوانهم التي يدّعون أنهم يحبونها.

استخلصت في النهاية أن الحياة مواقف متشابهة، وأحيانا متكررة، وأحيانا أخرى منقوصة بقليل من تفاصيلها فقط، ولا تختلف إلا في الشخوص، والمفردات، وأهم ما تختلف فيه هذه المواقف هو المستوى الحسي الذي ترتفع إليه هذه العلاقة، وتذكرت علاقة قيس بن الملوح بليلى فشعرت بالهلع من جديد، وخشيت أن أصير مجنونا!.

اللون الأحمر هو الذي أشار لي بالتوقف، حتى يمكن أن أكتسب يقين المرور إليها بسلامة، وأُظهر مدى جديتي في خوض مسافة الحياة، كل هذا لم يكن لإرادتي دخل فيه، بل رأيت ذلك نموا طبيعيا لأدواتي الداخلية، بالضبط كما أرى أعضاء جسمي تنمو سنة بعد سنة، غير أن لكل غذاءه، وغذاء روحي كانت صاحبة المعطف الأحمر.

شعرت أني استمريت بما فيه الكفاية استمد عاطفتي من أمي، وقد حان الوقت كي أشعر أنني تحت قوة جذب أخرى، ارتباط من نوع مختلف، نوع لا تطغى عليه التبعية المقدسة، التي لا تخرج عن صفحات الدفتر العائلي، الذي تخفيه أمي في صندوقها، ثم تخرجه كلما تطلبت الحاجة إلى استخراج شهادة عائلية للظفر بأكبر كمية من قفة رمضان. كنت أتطلع إلى علاقة أخرى، علاقة خارج هذا الدفتر المعوز، علاقة يترتب عنها احتكاك بنمط مخالف، وتداخل لا حدود له، لأني بدأت أتهجّى الكثير من الاحتكاكات التي تبدو كأنها لذيذة، كانت تدور بين أبي وأمي، حين لا يكترثان بوجودي، ربما كانا يعتقدان أنني صغير، ولا ضرورة لإخفاء ذلك التلاصق، حتى أنهما تأكدا من صحة ذلك عندما لاحظوا أنني لم أنصرف..

حبكة التلاحم جعلتني أضيف شيئا لما يمكن أن يحدث بيني وبين صاحبة المعطف الأحمر.

لا أنكر أن أمي كانت تتباهى أمام أبي بما يملك أبوها واخوتها، كانت تقول له مرارا و في كل خصومة:

ـ أفقر واحد من أهلي (يْعيْشكْ.. ويْعيّشْ أهْلك).

كنت أعيب على أمي ذلك، الغريب في الأمر أنهما رغم الشجار الدائم، يتكاثران بصفة مستمرة، حتى أنني قلت عندما كبرت قليلا:

ـ ما داما لا يرغبان في بعضهما، فلماذا يلتحمان كل ليلة، ويتكلمان كلاما خافتا ينتهي بفحيح وتأوهات.

أول محاولة في الرسم أخفيتها عنهما، كنت أخشى أن يضربني كل منهما.. رسمت أفعى وحنشا كبيرا يلتفان حول بعضهما، انطلقا من عش في الأسفل، ثم وقفا يشهران شوكتيهما نحو بعض، ورسمت في العش بيضا بعدد اخوتي، وكل مرة أتأمل من يبادر باللدغ، لأن كلا منهما يتمنى الشر للآخر طوال مدة العراك.

احتفظت باللوحة زمنا، ثم أخذها مني بعد عشر سنوات أحد الأصدقاء، وكان رساما بارعا اسمه شريفي، يسكن في مدينة المدية، كنت معجبا كثيرا برسوماته، اذكر أنني بكيت معه وشاركته حزنه عندما رسم لوحة رائعة.. رسم حصانا أبيض، حصان يرفع رجليه الأماميتين على شاطئ البحر، كان يغلب على اللوحة لونان:الأزرق والأبيض، وقل فيها اللون الرمادي، إلا ما يتطلبه الجانب التقني في مسألة الظل، وقلة هذا اللون توحي لك بجلاء الوقت الذي تعيشه اللوحة. حزنت كثيرا معه، لأن اللوحة أفسد ملامحها أحد الحساد من الطلبة في المعهد، شوش كل ملامحها، أفسد وقتها، جعله رماديا يميل إلى السواد يعكس رد فعلنا، ونحن متكئان على الجدار حزنا عليها، صارت اللوحة خلفية حقيقية لموقفنا بعد أن كانت هي الموضوع، ولم ننتبه لأنفسنا من شدة المصاب حتى تلطخت ظهورنا..

الصورة التي أخذها صديقي فيما بعد، هي كل ما رسمت كنت أظن أنني سأصير رساما، غير أنني لم أستطع أن أحدث أي جذب فانتبهت لنفسي، حين اكتشفت أن ليس في الأمر إلا تبذير للألوان، وتشويه لأثوابي القليلة التي أتعب أمي كل مرة بغسلها، رأيت أنه مجرد شعور كاذب كي يقال عني أنني رسام، توقفت على إثر هذا الشعور، قلت قبل أن يكتشف الآخرون أمري.

كان المحيطون بي يستغربون سلوكي قليلا، الحقيقة كنت رومانسيا أكثر من اللاّزم، أميل إلى التكلم بالعربية الفصحى، وسط محيط دارج جدا وحريص أن تكون كل مواقفي فصيحة، كأنني أريد أن أعود بالناس إلى تاريخ قديم، كان هذا عندما قرأت أول ديوان شعري، ديوان مجنون ليلى عاد بي إلى قرون خلت، أحْدث في نفسي خلخلة عظيمة، ورجة في جوارحي غير عادية، خلق في كياني ما يشبه البعث العاطفي العظيم، فعرفت بذلك ماذا أريد من صاحبة المعطف الأحمر، ولماذا أنا أميل إلى الغناء، والتكلم بالعربية الفصحى، لقد وضعت يدي على العلة الكامنة في كياني، العلة التي جعلتني أرى الحياة بهذه العين، حتى أنني رحت أشرح للمعلم في القسم وأدافع عن بن الملوح:

ـ قيس لم يكن مجنونا يا سيدي، قيس أحب حبا لم يستوعبه الآخرون، حب خال من الشوائب والعلل، حب نادر أحرق فيه كل عواطفه وقواه الداخلية، في حين الآخرون لم يسخّروا لهذا الشعور العظيم إلا زاوية ضيقة في قلوبهم، والباقي موزع بين الأكل، والنوم، والحقد، والثأر. ولهذا اعتبروه مجنونا، لأنهم لم يفقهوا حالة الشعور التي وصل إليها.

زملائي في الصف ضحكوا، واعتبروني معارضا للتاريخ، أو ربما اعتبروني مجنونا أيضا.. المعلم قالها بصراحة، حتى أنه دفع التلاميذ للضحك أكثر.. قال:

ـ لا يدافع عن المجنون إلا مجنون..!

فزاد هلعي أكثر، لأني في الحقيقة لم أكن أدافع عن قيس، وإنما كنت أدافع عن نفسي، لأني أشعر أني وصلت إلى ذات الحالة التي وصل إليها مجنون ليلى، وأنا مجنون صاحبة المعطف الأحمر، وكانت حينها تجلس أمامي، وكانت تضحك أيضا، كنت أريدها أن تدافع عنه، وتلعن أباها، الذي رحل بها إلى العراق، ودفع قيسا إلى الفلاة والجوع، والعطش، لكنها استمرت تضحك، وتلوك علكة في فمها.. حينها شعرت بما شعر به قاليلي، عندما قال لهم: إن الأرض تتحرك، وقد تكون تدور.. فحكموا عليه بالإعدام. ساعتها عرفت أن الحب كون جميل، لا يدور حول قلوب الناس جميعا، ولذلك هم يضحكون الآن.

كانت مراهقة لذيذة في البداية، ذلك أنني لم أكن أميل إلى الأعمال الشريرة المؤذية، لقد غلب على هذه المرحلة الطابع الفني والأدبي، على خلاف أترابي الذين لا ينتهون من الألعاب العنيفة، وتنظيم الحروب بين الأحياء، لكن أذكر أنني لم أغب عن تنظيم مباريات كرة القدم، ثم يفتقدونني في سائر الألعاب الأخرى، مرة واحدة فقط نشطت ائتلافا بين فريق حيّنا، وفريق حي مجاور لمواجهة فريق حي آخر، رغم أن فريق الحي الذي تآلفت معه كان شريرا، ولكن ماذا أفعل فخالتي تسكن هناك، وأخشى إن زرتها يوما أتعرض للاعتداء، فسعيت أن أكون حليفا صديقا حتى أأمن على نفسي عندما أجد الحاجة لزيارة خالتي، ولذلك عرفت فيما بعد لماذا بعض القوانين تمنع أن يتزوج الرئيس امرأة من جنسية أخرى. عرفت أن هذه الظاهرة تعمل على زعزعة السيادة، وعدم ضبط الإرادة، وحرية القرار، والتنقل، لأن المد العاطفي والشد العائلي يعدم الخيارات، ويذوب الشخصية، وعادة ما ينتج عن هذا مصالح غير موضوعية، تكون غالبا على حساب الشعوب، فقد قالت لي خالتي ذات يوم وهي تمزح:

ـ تزيد تحارب ضدنا ما تدْخُلشْ داري..!!

فحاربت هذه المرة لإرضائها فقط، رغم أنني آذيت حيًّا طيبا، كان أبي يلعب تحت أحد جدرانه لعبة الدّومينو، ولم يتعرض له أحد بسوء، بل كان يقترض من أحد دكاكينه، وضحكت يوما عندما احتجت أمي قالت لأبي:

ـ لماذا لا تلعب في حي أختي، حتى تمدني ببعض الأخبار عنها.

ولهذا أيضا عرفت فيما بعد، كيف تتعارض المصالح بين الدول، لأن أبي على علاقة غير لائقة مع زوج خالتي، زوج خالتي كان متدينا ويكره لعبة الدّومينو(46)، حتى تصورت أن العالم كله يلعب بين الدينوالدّومينو. التأمل في كل هذه التفاصيل، هو الذي جعلني أنجح في تحليل الكثير من القضايا السياسية، والإشكاليات الدولية، وأسباب توعك العلاقات العربية، كان أبي يتعجب كثيرا كيف أجد هذه التفسيرات، مع أنه كان مدمنا على حضور نشرة الأخبار.

رغم أن أبي يدعي الحنكة في إظهار عيوب الزعماء، وتقويم أخطائهم، إلا أنني كنت أضحك عليه خلسة، لأنه لم ينجح في خطابه مع أمي، ولا في سلوكه أثناء التعامل معها في الكثير من المواقف، كنت أجتهد أن لا يراني أضحك، طبعا لأنه لا يرى سببا لذلك، وربما سيغضب.. وغضب أبي تتفتت منه الجدران، ولهذا كانت أمي تخاف من غضبه كثيرا. كنت متضامنا معها، لأنني لا أصدق أن تظل إلى هذا الوقت لا تعرف مقادير الملح والسكر في أنواع الأكل والشرب. كان أبي يحتج دائما، في الحقيقة أنا كنت أشك في نواياه، وربما كان يقصد التضييق عليها مقابل أنها تضيق عليه بأنه فقير. أمي لا تبرر الأمر إلا بقولها في كل مرة:

ـ راكْ تتعوّجْ(47) وحابْ تتْزوّجْ عليّ... يا راجل روح وخلّيني مع أولادي.. روحْ الله لا يردّكْ.

أبي لم يكن وضعه المادي ولا مظهره، يؤهلانه لخوض تجربة زواج أخرى.

كان عندي تفسير آخر للظاهرة، كنت أعتقد أن أبي فقط لا يحسن التعبير أنه هو السيد، أو كما كان يروج في الحديث الديني على الشاشة أنه ربّ البيت، فيريد أن يعبر أمامنا أنه بالفعل رب البيت، وأنه يستطيع أن يقرر، ويرفض، ويعاقب، وأنه يعود إليه الأمر من قبل ومن بعد، فهو يرى أن هذا هو المعنى الحقيقي للربوبيه، كأنه قد اقتنع بما يقوله ذلك الشيخ في حصة الحديث الديني، ولذلك كان يقول لنا عندما نلح في طلب شيء ما:

ـ واشْ بي رَبْكُم؟!

وعندما يلتمس في وجوهنا الاشمئزاز من هذا، يقول لنا:

ـ أنا لا أقصد رب الكون، أنا أقصد نفسي.. ألا ترون أنني أنا رب هذه العائلة، ألم يقل الإمام هذا عندما تكلم عن الأسرة، من الآن يجب أن تعرفوا أني أنا ربكم!؟

أنا أعرف لماذا كان أبي يلعن نفسه، فقد كان باستمرار يلعن اللحظة التي عرف فيها أمي، وعندما أقول له أن معلم التربية الإسلامية أخبرنا أن فرعون قال هذا منذ قرون خلت. كان يغضب ويضربني، ثم يلتفت إلينا مرارا:

ـ كونوا رجّالة يا أولادي.. كونوا أربابا حقيقيين..!!

كان يشعر أنه رب مزيف، رب غير حقيقي، حين أخطأ بزواجه من أمي، لأنه سمع في الحديث أن الأرباب لا يخطئون.

كنت لا أرى مناسبة لهذه النصيحة، لأننا وإن أردنا أن نكون رجّالة أو أربابا على قوله، فلا نكون كذلك على أمنا، كان ذلك رأي اخوتي أيضا، لكنني فهمت المعنى، إنه يوصينا أن لا نترك زوجاتنا تتحكمن فينا في المستقبل، ويحاول أن يكون نموذجا للمقاومة، وعدم الرضوخ، فهو يكره الطْحاحْنه، وما أكثرهم في الحي، كان محقا في ذلك، لكن ما أعيبه في أمي أنها كانت تزدريه وتشيد أمامنا بأبيها واخوتها الأغنياء. كان هذا ما يجعل أبي غائبا عن البيت طوال الوقت، فكانت تستحوذ على البيت بحركاتها ودندنتها، وأشغالها المستمرة.. كأن أبي لا يحضر إلا لأجل الصراخ، أو كأن أمي هي التي تدوس على زر هيجان أعصابه كلما يدخل، كأنما هناك تفاصيل دقيقة، لم نتمكن من الوصول إليها في علاقة أبي بأمي.

استحواذ أمي على التواجد داخل البيت، جعل الأولاد أكثر تعلقا بها، وكنت أكثرهم أشعر بذلك، لأن هناك دندنات حزينة تخرجها أمي من أعماقها، كنت أتفلسف فيما تخبؤه وراء هذه (اليايْ(48)) الحزينة، المشحونة بالندم والأسى، كأن أمي نادمة هي الأخرى على الزواج من أبي.

تعلقي بأمي في المرحلة الأولى من طفولتي جعلني لا أرى النساء إلا نماذج لها، ولذلك كنت أعطي لاختلاطي مع أي فتاة صفة القداسة والاحترام، لولا أن صاحبة المعطف الأحمر أيقظتني فيما بعد، وعرفت أن الحياة ليس فيها فقط رائحة السخاب(49)، بل فيها أزهار أيضا، وقوس قزح، وربيع، وريح مراجيح.

إقبال أبي إلى البيت فقط لأجل أن يأكل، ويفعل في أمي، جعلني ألتزم بحكم معين تشبثت به حتى كبرت، هو أن المرأة مظلومة ومقهورة، لكني فيما بعد وجدت نفسي تورطت في إثراء موضوع حرية المرأة، لأني استمريت أعتقد بأنها مظلومة ومقهورة، حتى ظلمتني وقهرتني، ذلك أن الضعيف إذا لم تُبرز له قوتك يعتقد أنك أضعف منه، بالضبط كما يفعلون في المناورات قبل أن تنشب أي حرب، وفيما بعد عرفت أن المرأة هي المبادرة بالمناورة، وأن أغلب الرجال يخضعون ويستسلمون، فكأن أبي لا يريد أن يستسلم، ويعتبر من يفعل ذلك طحّان. في الحقيقة أنا لم أناور ضد المرأة، حتى اعتقدَت أن الله خلقني أجرد من لسان الشفتين ولسان الفخذين، لأن المرأة تراهما أسلحة للجذب والموت.

كان أبي رجلا فقيرا.. يبدو مكافحا في البداية، يملك عربة بأربعة عجلات، يجرها حصان أحمر على جبهته بقعة بيضاء، أخذت شكل القلب، وضع أبي على رأس الحصان ـ بالضبط بين أذنيه ـ يدا صغيرة صنعت من النحاس، أبي كان يتحاشى بها العين والحسد، الحصان روضه أبي على أكل السكر.. صار يحبه كثيرا، كان يعطيه قطعة سكر مع كل استعداد للسفر وقطعة أخرى عند كل الوصول، ثم يزده قطعة مع كل استعداد للرجوع، وقطعة أخرى كل عند الوصول، كان يعطيه أربع قطع في اليوم، ولذلك نرى الحصان ساخنا مطيعا دائما، كنت دائما ألح على أبي أن يسلمني قطعة السكر، كي أضعها بنفسي في فم الحصان، وأقرب رأسي من رأسه حتى استمع إليه وهو يُقرمشها، حتى أنه كاد يأكل أذني ذات يوم، كان أمرا مضحكا حين جذبني أبي من ذراعي.!! ولا زلت أفعل هذا حتى ألفني الحصان، وصرت أقبله في شفتيه دون أن يصيبني بأذى، ثم أرافق أخي الأكبر، عندما يأمره أبي أن يأخذ الحصان إلى عين السرار(50) حتى يأخذ حاجته من الشرب والتمرغ، لم تكن هذه العين بعيدة عن البيت، كانت خلف العرقوب الذي يخفي منازلنا عن الجهة الغربية، كانت المسافة لا تزيد عن مسيرة نصف ساعة فقط، لكن وأنا صغير كنت أشعر كأنني ذهبت إلى بعـ.......ـيـ........د!!.

وعندما أعود أتظاهر كأنني كبير، وأنني كنت في مهمة، وقد رجعت متعبا وجائعا، كنت أفعل كما يفعل أبي بالضبطعندما يعود، فكانت أمي تضحك، وتعطيني شيئا من أول قرص خبزينضج، فأمضي أحوله من يساري إلى يميني لأنه لا يزال ساخنا..!!

كانت الكثير من البيوت مهجورة عندما رحلت فرنسا. لم يكن جدي ماديا ولا أبي كان كذلك، وفي الوقت الذي كانا فيه فرحيْن بجلاء المحتلين عن البلد، والاطمئنان على الكثير من الأقرباء الذين شردهم الاحتلال، كان الكثيرون يحصون المساكن، وبقايا فرنسا من العتاد والأمتعة، ويحتجزونها بحجة أنها كانت لهم، أغلب الذين أخذوا الغنائم وحدهم لم يحاربوا، ولا كانت بينهم وبين العدو أي مشكلة أصلا.

حتى أن سي روينب الذي صار حاجا فيما بعد، حجز لنفسه شارعا بأكمله، وشاحنتين، وعربة بأربع عجلات، هي التي باعها لجدي، ثم ورثها أبي عنه عندما ضعفت حركته، وكانت قد قطعت يده في الحرب، وقد رآه كل سكان القرية يسوق العربة بيد واحدة، فكان يلقبه الأهالي بمقطوع اليد، ورغم ذلك لم يكن مسجلا في الدفاتر الرسمية للمجاهدين، لم يكن يرى ذلك مهما، وخشي إن هو خاض في هذه المسألة، فربما ستفسد نيته في الجهاد الذي أقدم عليه في سبيل الله، وعندما نصحه أبي أن يفعل ذلك وحاول أن يقنعه، غضب مرة أخرى وتراجع، عندما وجد الوثيقة الرسمية لإثبات المشاركة في المعركة تباع في المقاهي بثمن بخس، وكان عليها جميع أنواع الأختام، لا ينقص إلا المعلومات الشخصية لمن يقرر أن يشتريها، ثم يضحك ويقول بسخرية:

ـ حتى عطية المهْبُولْ (51) صار مجاهدا، وقد رأيته بأم عيني قد ضربه عفريت، وهو يلعب في الوادي الذي كانت تذبح فيه الماعز، أثناء الزيارات الأسبوعية للخوني(52) صاحب الإنشاد.

حتى عطية المَهْبُولْ صار مجاهدا.. يكرر هذا ويضحك كلما تعرضت الجماعة لسيرة المجاهدين.. وظل على هذا الحال حتى توفي فقيرا معدما، واحتفظت بسبحته وقتا طويلا، الحقيقة لم أسبّح بها يوما، خشيت أن يلهيني التسبيح، عما تحمله لي السبحة من مآثر وذكريات لجدي.. توعدْت وأخذت عهدا على نفسي قلت:

ـ عندما يشتري أبي سيارة، سأعلقها وأتركها تتأرجح أمام عيني، أسفل المرآة التي تعكس خلفية السيارة، كما يفعل الكثيرون ممن يملكون السيارات.

غير أنني أهملتها عندما طال الأمد، ولم يتمكن أبي من شراء سيارة، رغم حركته ونشاطه، واستيقاظه باكرا، فأدركت أن الشعوب النامية لم يخلقها الله هكذا، وإنما هناك ربوبية في الأرض تتحكم في المستويات المعيشية والترفيهية، تصنفها الجهة المتحكمة التي لها القدرة على إعادة تشكيل الخرائط، وفرز أنماط البشرية حسب الألوان المحببة، وحسب ما يحدده التاريخ من هزائم..

ورثت أختي السّخاب عندما توفيت جدّتي.. جدتي كانت وفاتها هادئة جدا، ولو أنها استمرت تسامرنا بالأحاجي حتى توفيت لكان حزننا عليها أعظم بكثير، لأن جدتي ماتت فنيا منذ أدخل أبي التلفزيون إلى البيت، وسكتت هي عن الأحاجي، فغيابها الأول كان أكثر وطئا على روحي، ولذلك حمدت الله أنه مهد غيابها، فلست أدري ماذا كان سيحدث لي لو أن أنفاسها توقفت في نصف أحجية من أحاجيها.

صاحبي في مقهى الفرارة يقول ـ دائما ـ وهو مندهش:

ـ.. كل شيء بالمكتوب.!

ثم يقص علينا تلك الحكاية التي صارت تزعجني، يقصها بنمط الخطاب الديني الهادئ، وكان يطلب منا الإنصات والتركيز.. لغته لم تكن سليمة. صاحبي المادي قالها له بصراحة:

ـ ما تلْعبْهنّاشْ (53) شيخْ..!!

لكنه يصر ويمضي متحدّثا:

ـ عندما يولد المرء يُكتب على جبينه..

لكنني كنت لا أدعه يكمل، لكثرة ما كان يعيدها على مسامعنا، أنا لست كافرا بالقضاء والقدر، ولكني أعرف أيضا أن الله قد يختبر مخلوقاته بشيء من المال والفقر، والمرض، والموت، والخوف، ولكنه لا يظلمهم، لأن من حقي أن أسأل صاحبي:

ـ ولماذا يأمرنا بالعمل والسعي إذن.؟

صاحبي رغم ادعائه أنه أكثرنا تدينا، إلا أنه يعجز عن مناقشتي، فيختلط عليه الأمر، هل أنا مع الدين أم ضده.؟! كان يغيظني عندما يضع جبهته على يده ويستغفر..!!

عندما عدت إلى البيت، وجدت سبحة جدي قد وقعت بين أخوي الصغيرين، تجاذباها بينهما حتى انقطعت، وتناثرت بعض حباتها لا أدري أين اختفت، ضاع منها عشر حبات، أنقذتها في آخر لحظة، ورقعتها حين أكملت عددها بحبات من لون مغاير، غير أنني لم أقتنع أن عددها قد اكتمل بالفعل، بل بقيت أراها منقوصة من حيث المعنى، فكأنني أرى الحبات الدخيلة تحكي حكايات خارجة عما أحتفظ لجدي من ذكريات. وصلت إلى درجة أنها سببت لي خللا في مخيلتي، وأثارت نوعا من الثرثرة والبلبلة، ولم أصبر ففكيت حلقة الخيط ثانية، وعزلت الحبات الطفيلية التي تسربت إلى التركة، ثم عاودت الاحتفاظ بها منقوصة، ورفضت طلب أمي بتغيير الخيط، قلت لها:

ـ إن كل الأسرار تكمن في هذا الخيط.. هذا ليس وسخ يا أمي، هذه آثار أصابعه، ورقبته، ورائحة جيبه، وحجره، وسمات الأمكنة التي زارها وطاف بها..

ثم قربتها من أنفها:

ـ شمي رائحة جدي، وتلمسي بصماته..
ولأن أمي تكره أبي ترفض دائما..
أبي أخطأ.. كان عليه أن يهمل كلام أمي، ولا يأبه بازدرائها له طوال سنوات الحرمان.

توظف أبي في شركة حكومية مهمة، أدرت عليه أموالا كثيرة، خلاف ما كان يحصل عليه من حرفة بيع الحطب، فرغم أنها كانت متعبة وشاقة، وتتطلب عمل يوم كامل، كان يخرج وآذان الفجر:

ـ (... الصلاة خير من النوم..).

أبي وهو يلف الحبل حول ذراعه، ويشد الفأس من رأسه، يتفقد حدتها، ثم يضع زاده وكل ما يلزمه طيلة الغياب، بعد كل ذلك أراه يتلمس، يبحث عن الحجرة تحت الأفرشة، فكأن جلب الحطب خير من النوم والصلاة، كانت صعيدا طيبا جدا لونها أزرق، متوارثة منذ القدم، على قول أمي:

ـ لقد ورثها أبوكم عن أبيه..

كانت تستهزئ طبعا..! أما أنا فقد تعلمت الصلاة فقط لاستمرار تقاليد التيمم، لأني خفت أن تضيع هذه الحجرة، إن لم تجد من يتمم عليها، كان أبي يتمم مرتين، مرة في الفجر ومرة بعد المغرب بقليل، لأن الصلاة الوسطى يصليها وهو يحطب. كنت أرى على الحجرة بصمات أجدادي.

أبي انشغل بما كانت تقول أمي، فكأنه عندما استلم عمله الجديد أراد أن يعبر عن نفسه، وأقدم على الانتقام منها، نسي أن يحمد الله على هذه المهنة المريحة، اهتم بنفسه وهندامه وبوقته، وصار له أصحاب كثر، ولم يعد يتواجد في البيت إلا قليلا، أهمل أمي وأهملنا، صار يأتي في وقت متأخر من الليل، وصار آذان الفجر إعلانا كي يعود لينام، ولم يعد يبحث عن الحجرة الزرقاء الموروثة، وبات صديقا حميما للمرآة، التي تهشمت وأخذت شكل خريطة الجزيرة العربية، وقد لصّقها بنفسه وشد جوانبها بالجبس، وعلق بجانبها مشطا مستديرا لونه أحمر، شده بخيط طويل عريض، مظفور بألوان العلم الأمريكي، ربط المشط وشد وثاقها حتى لا يعبث بها الصغار، ويضربنا كلما حاول أحدنا أن يفك المشط عن الوثاق،! فقد صار البحث عنها يهدر له الوقت، ويعطله عن المواعيد الجنسية المهمة، هذه المرآةوالمشطلا يفارقهما حتى يخرج أنيقا.!! كنت أكره ذلك، لأنه أهمل حجرة التيمم وسبحة جدي، وكان يبالغ في زخرفة مظهره، كأنه يريد أن يقول لأمي:

ـ.. لست المرأة الوحيدة في هذا الكون..!!
حتى كنت أقول في نفسي:
ـ لماذا لا يفعل كل هذا لأجل أمي، فربما غيرت رأيها وصارت تحبه..

فوجدت أن أبي له أنفة غريبة، فقد شعرت أنه لا يريد أن يلح، لأجل أن يحبّب نفسه عند أمي، كان يريدها أن تلين هي وتعتذر له، لكن كانت أمي بمثل أنفته..:

ـ اللعنة على الأنفة.!!

غياب أبي يدل أن لديه صفقات جنسية كثيرة، يبدو ذلك من خلال نشوة عظيمة تنتابه، وهو يجلس بيننا في تلك المرات النادرة، وكان عطره يفوح من بلاد إلى بلاد!! على رأي أمي..

استطاع أن يزعزع كيانها، ويحدث اهتزازا شديدا في نفسها.. لقد أثار تشويشا رهيبا في عواطفها، بالأمارة أنني التمست في غنائها انكسارا كبيرا، يعبر عن جديتها في العدول عن رأيها السابق في أبي، وقد أخذ مظهرا جميلا جدا، كأن أمي تفاجأت بهذا الانقلاب، ظني بها أنها اعتقدت أن أبي سيظل حطابا طول العمر، وهي المنحدرة من الجبل، كانت ترى أن هذا الزواج سيكرس لها تلك الحياة الجافة القاسية، تريد أن ترتمي في أحضان أبي، ودائما تمنعها عزة نفسها..:

ـ اللعنة أيضا على عزة النفس.!
عندما أذهب إلى المقهى مساء، وكأنني على موعد بشريط أم كلثوم:
ـ (.. وعزة نفسي منعاني..).

فأتذكر أمي عندما تُخرج من قاع صندوقها العتيق فستانَها الوحيد، تلبسه وتظل تحوم حول أبي تستنفر غريزته، كما تفعل الحمامة حول قمريها، لكن أبي كان قمريا لحمامة أخرى، كان يبدو عليه ذلك وهو يصلح من شأن قُصته، يريد أن يضع بعض الشعيرات بين حاجبيه، كنت أتتبعه وهو أمام المرآة، يرمي خطوة إلى الوراء وأخرى إلى الأمام، كأنه يستيقن من لياقة مظهره، وأمي تروح وتغدو أمامه، وهي تتنهد وتسعل أحيانا سعالا كانت تتكلف فيه كثيرا، لأنها تعبر فقط عن وجودها بجانبه، ومن كثرة ما كانت أمي تعيّره وتقلل من شأنه، كان هو يستمر غير آبه بها. كنت متأكدا لو أن أمي جذبته من ثوبه ـ مثلا ـ وبادرت بملاطفته لعدل عن الحمامة التي كان على موعد بها، وأمضى مع أمي حكاية من حكايات الحياة. لكن تظل عزة نفسها تمنعها من أن تكون هي المبادرة. ومن معايشتي لهذا الموقف بين أمي وأبي، كنت أعتبر نفسي الوحيد الذي يفقه ما تردّده أم كلثوم في مقهى الفرارة:

ـ (.. وعزّة نفسي منعاني..!)

لقد بدأت أمي تحسن من مظهرها هي الأخرى، كانت أمي في القديم ترمي ضفيرتيها خلفها، لكن هذه المرة تركتهما ينسدلان من جهة صدرها، ولأن أمي كانت نهداء، جعلتني أكتشف أن على صدرها رقما يجب أن يُقرأ:

ـ 1001..

 كيف لمن قرأ هذا الرقم على صدر أمه، ولا يذهب كي يبحث عن قصة ألف ليلة وليلة ولو كلفته مال قارون.؟ أبي كان قليل نظر، كيف لم ينتبه فيقرأ هذا الرقم حتى يصنع حكاياته مع أمي.

أمي كان عليها أن تنتبه أيضا، فبماذا يختلف أبي عن شهريار، وهو يملكها ويملكنا، ويملك هذا البيت بما فيه من مدفأة وتلفزيون، كانت تبدو متعتي في النظر إليهما عندما يكون الطقس باردا جدا، بحيث تتعطل الحركة في الشارع قليلا، فيضطر أبي للبقاء في البيت.

كان أبي يمنعنا من إشعال المصباح والتلفزيون في وقت واحد، يقول لنا:

ـ ضوء المدفأة وضوء التلفزيون كافيان..!

وكان هذا رأيي أيضا، كي أتأمل أبي وهو يحيط نفسه بالبرنس البني، ويضع فوق رأسه عمامة صفراء، فأعيد وأقول:

ـ بماذا يختلف أبي عن شهريار..!؟

وأتأمل أمي في الجهة الأخرى، ولا يزال الرقم بارزا، كان على أبي أن ينتبه..:

ـ بماذا تختلف أمي عن شهرزاد..!؟

الديك في الخارج أظنه يصيح من غير داع، فليست هناك أي حكاية يمكن أن تنتهي بصياحه..! كانت أمي تطعمه كي يُمضي الديك نفسُه ألف ليلة وليلة مع دجاجته الرقطاء، بل لم تكن تهمها الحكايات، على قدر ما هي شغوفة بعدِّ البيض، فكأنها تريد أن تصل إلى ألف بيضة وبيضة، وأبطأت كثيرا بالوصول إلى هذا العدد، حسب عدد اخوتيفقد أمضى الديك مع الدجاجة الرقطاء عشرين ألف ليلة، ورغم ذلك فإن أمي لم تصل إلى العدد الذي ترغب في الوصول إليه، لأن أبي كان ينتقص بيضتين في كل ثلاثة أيام، ولا تلبث أمي أن تزهو بما جمعت من بيض، حتى تصر الدجاجة على حضن ما باضت، تتوقف عن إنجاب البيض، وتنفخ ريشها، وتظلتُقَطْقِِطْ (54) خارج الخم، وتظل تفعل هذا حتى يغضب أبي فيذبحها، بالضبط كما يحتج الشعب فيحتشد في الشوارع، ويعتصم خارج المنازل، فتهدده الداخلية تريده أن يستمر في إنجاب البيض، أو يموت بحجة مكافحة الشغب، أمي تبيع ما جمعت من بيض من الدجاجة الضحية، وتشتري به دجاجة أخرى.. وهكذا، وفي الأخير يظهر أبي هو المستفيد الوحيد من لحم الدجاج وبيضه، فإذا كانت هناك حكايات بين أبي وأمي، فهي ألف دجاجة ودجاجة، كان غضب أبي في مصلحة الديك، فقد كانت لا رغبة لديه في أن تحضن الدجاجة بيضها، فهو يرى أنه سيضيع حكايات كثيرة، ثم تنجب فراخا يحولون بينه وبين رغبته في امتطائها. ولذلك حمدت الله كثيرا، لأنه جعل الإنسان من الثديات، وإلا كنت وجبة معلبة طبيعيا لأي زاحفة، ولا أظن أن ابن آدم يأكل بيضه، أشك فقط أن أبي سيقول لأمي:

ـ أن هذا البيض ليس لي. وربما يغضب، فيفقسه خارج البيت، لأنه كان والديك (عقلية واحدة).

كنت أراهما يتحرشان ببعضها في المصادفات القليلة التي تحدث في البيت، كأنهما لأول وهلة يلتقيان، بل كأنما تلكم الغرفتين صارتا شارعا، ونحن مارة ندعي أننا لا نفهم ما يجري حولنا.!! لم يلتق أبي بأمي إلا كما يلتقي بأي امرأة أخرى، الفرق الوحيد أنه يرى أن ليست هناك مشكلة عندما ينجب مع أمي، لأنها زوجة شرعية أمام الله والناس.. إلا أمام قلبه، وهكذا أنجبنا جميعا، مع صفق التواطؤ والكراهية، ودون أية حكاية تذكر، كان من المفروض أن أكون أنا ليلة من هذه الليالي، ولكن يبدو أنني كنت أقل من لحظة، ولا يوجد فيما يقوله البشر حكاية يمكن أن تستغرق لحظة، فأنا واخوتي جميعا ربما لا نصل إلى نصاب ليلة واحدة مما تعد شهرزاد، فكأننا جميعا لا نمثل ألف لحظة ولحظة، أستنتج ذلك من تقارب السن بين اخوتي.

أبي في الأيام الأخيرة صار شهريار في مكان آخر، في البداية كنا نعتقد أن هذه مجرد خطة ليغيض أمي، لكن أبي تمادى في هذا بل ذاب تماما في أجواء أخرى، حتى يئست أمي من رجوعه، حسب الأغنية الجديدة التي كانت ترددها طوال اليوم، وهي خلفالمنسج(55)، لقد عمرت هذه الأغنية كثيرا على شفتيها، كانت ذات إيقاع حزين يملؤه اليأس، والندم، والقنوط، وأحيانا تنفتح على إيقاع يعكس ضياعها ومتاهتها وفراغها، كالذي يبحث عن ظله في صحراء حرور فلم يجده، وعندما رفع رأسه وجد الشمس فوقه كأنها ملأت الفضاء، وحين أنزله اختلطت عليه الاتجاهات، فلم يعد يدري من أين هو قادم، ولا إلى أين هو ذاهب فربض في مكانه، أمي ربضت في مكانها وراحت تغني:

(يا ديني منَ الحْمارْ ادّاهْ(56) الْوادْ ** وادّاتوا جهْله تْفوتْ الْعوّامة)

تعبت أنا كثيرا فيما بعد، ولم أعد أبالي بالخلافات بين أمي وأبي، صرت أتراجع وأقول لنفسي:

ـ لا دخل لي في الصراع..

ثم أكتفي بانتمائي إلى الأسرة المنحدرة عبثا، وأحمد الله أنني أعرف والدي، وأمضي أستهلك دفئي وامتدادي ونسبي، دون أن أسعى إلى إقحام نفسي في علاقة لست مسؤولا عن بدء نشأتها. وكل مرة أوصي نفسي:

ـ إذا أنا خضت في هذا مرة أخرى، فأنا أخوض في مسألة كونية..

وأتمادى كالعادة مع نفسي، وأعطيها الحق في ذلك، لأن آدم وحواء لم يكونا مسؤولين عن وجودهما كزوجين، ولكن مسؤولين عن نمط سلوكهما فيما بعد، أعني ما تقتضيه الحركة والسلوك، ولم يكونا أيضا مسؤولين عن عرائهما قبل أن يكتشفا شجرة التوت. ربما كان الكون في عجلة للنشأ، ولم يكن هناك بينهما أي حوار، إلا الحوار الذي انبثق عن اختلاف الجسدين، وأسال نفسي:

ـ هل اختلف آدم مع حواء يوما، أو حتى لحظة في غير الجسد.؟

وأتواطأ مع نفسي دائما لأعطي إجابات، تقنعني بالتعايش مع الحاضر فأقول:

ـ لم يحدث هذا لأنهما أنبياء، وربما عُصما من هذا، ولأن الكونانفرد بها، فلا يمكن لحواء أن تتهم آدم أنه يَتْعوّجْ وحَابْ يَتْزَوَّجْ عليها.!!

كنت أرى أن الله اختزل كثيرا من التفاصيل، فلم يحتاجا إلى وقت كي يلتقيا، ثم يسيران مع بعضهما غرض التعارف، ولم يكونا في حاجة إلى مكان غرض التخفي، فكان الكون بمثابة ناد فسيح، شيده الله لأجل هذه العلاقة النادرة، أما الهدية فكانت حبة التفاح، وهي التي حدّدت مسؤولية المكان، ولذة الغواية وبدء الخطيئة.

يبدو أن أمي تكره حبة التفاح، أما أبي فلم يبد أي كراهية تذكر تجاه هذه الفاكهة، مشكلته أنه كان يبرز بآدميته بشكل رهيب، فكأنه يحمّل أمي مسؤولية ما، أو كأن له فهما خاصا لكُنه الخطيئة.. كأن تأنيبا في ضميره وعذابا في نفسه، كأنه كان يشك في رجوعه إلى الجنة، رغم أن الله قد ذكر في القرآن أنه تاب على آدم، هذا ما جعلني أتساءل عن هذه الضبابية التي شكلت حاجزا بين أبي وأمي، ثم انجلى كل الغموض عندما أخبرني خالي، أن أخته يعني أمي تزوجت من أبي بغير رضاها، وأخبرني أيضا أن أبي كانت لديه رغبة في امرأة أخرى، وتزوج بأمي لأن جدي من أبي قال له:

ـ إن لم تتزوج بمن أختارها لك، فسأتبرأ منك إلى يوم الدين.!!

خالي قال لي:

ـ هكذا كنا نتزوج طاعة لآبائنا ونكبت رغباتنا، ولا حاجة لنا بالفتاة قبلت بنا أم كرهت، كنا نصف البنت البالغة بالقنبلة، وتتسرعالعجائز بتسميتها بالعانس رغم أنها لم تتجاوز السن الخمسة عشر، كانت تحرم كبار القوم من السفر إلى المدينة، لإحضار مؤونة الأسبوع، أما من كانت في بيته مطلقة فقد كان يمسك البندقية، عين مفتوحة وأخرى مغلقة، ولا يبرح الخيمة، لأن الرعاة في البادية يدْراقوا(57) البنات في خيمهن بالمرآة في النهار، وبمصابيح الجيب في الليل، وكانت فضائح كثيرة تحدث لا يسترها إلا الزواج، حتى أن شاعرة لم يعرف اسمها منحت شرفها لأحد الرعاة في أحد وديان المنطقة، جلبها بالمرآة حين صوب نحوها أشعة الشمس قال لها:

ـ سأريك عشا غريبا لم أر مثله من قبل، والعجيب أن فيه بيضتين ذهبيتين، أمهما نادرة الظهور، أما أبوهما فيقف باستمرار وقفة لا تعرف الانحناء.

وكان العفريت يقصد ما يقصده..!! عندما أتت نحوه صوب الدير، وحدث ما حدث، رأت في إحدى الشقوق عش بوم، فراحت تنشد:

ـ (اسْترْني يا ساتْر البيضة في الْعشْ
ويا كسيها في الْبلادْ الْعريانه).

ذاع هذا البيت الشعري في أوساط الناس، وتأثر الأفراد بهذه الحكاية، فصاروا يعتبرون أن بقاء الفتاة في البيت ـ بالفعل ـ قنبلة، لا يدري أحد متى تنفجر، فالآباء يخطبون لبناتهم، ويُعطونهم لرجال غرباء عنهن بدون مهر، كل ما في الأمر وليمة يشبع فيها الإمام ومرافقوه، وبعض الشهود من الجيران، ثم تزف العروس على متن 404 Troixcanteurs بلون كبد الأرنب، السيارة الوحيدة التي اشتراها سي زمْزومْ حين باع لأجلها ما يملك من أغنام، تسير السيارة ببطء، وتتبعها بعض البغال والحمير، أما العرسان فيغيبون عادة عن الأنظار، قيل بأنهم يذهبون إلى بيت حجَيْلَة العائِبَة(58)، كي تعلِّمهم الفَيرِيكِيكو (59)، ثم تسقيهم كأس أبي نواس حتى تذهب عنهم الحياء والنعاس.

لا تجد على ألسنة الآباء إلا هذه العبارة التي صارت مأثورة جدا:
ـ لو كان يخْطبْني فيها طلاّب(60) نمدْها بشْلالقْها (61)..!!

كنت ألاحظ ترقب أبي الحذر لأخواتي البنات، وكن أصغر مني، فكان يرى أكبرهن من تحت إلى فوق، فيكتئب ويصفر وجهه:

ـ أتفوه.. الأنثى كحبة الفول تنبت ولو خبأها المرء في جيبه الداخلي..

 وكان يوصي أمي قبل خروجه.. يفتح بسبابته عينه، ويمدد جفنها السفلي إلى ناحية خده:

ـ عليك أن تحذري.. افتحي عينيك جيدا.

ويردد عبارة تقال عادة على الماشية:

ـ .. راها تولد بلا ضرع..!!

الإشارة مفهومة لدى الجميع، كان على أبي أن يسر بحديثه مع أمي.. فلم نعد صغارا، والعبارة الأكثر إزعاجا التي كانت لا تفارق فاه أبي، عندما تُسد أبواب نقاشه مع أمي، أو عندما يشعر أنها لا تفهمه، فيقول لها في صراخ ونحن نسمع:

ـ .. راكي في قَـ....ـعْـ....رِي (62)!!.

فننسحب جميعا على إثر هذه العبارة، لأن البيت لم يكن يتسع إلا لغرفتين، وليس لدينا أين نهرب بحيائنا إلا إلى الشارع، وإذا كان الطقس باردا نصد بوجوهنا إلى جدران الغرفة، المشوش بالخدوش على طلائه القديم.

هذا الطلاء كنت أتسلّى به كثيرا، كلما أنهمك في حساب عدد الألوان التي دُهن بها الجدران منذ بُني هذا البيت، كانت في البداية قوالب حجرية مترابطة بخليط الطين والتبن، ثم طليت بالجير الخاثر، وبعد ذلك أخذت اللون الأخضر، لم يكن أبي يعلم من اختار هذا اللون لأنه كان أقدم الألوان، ثم أخذ على يد جدي اللون الأزرق الداكن، وبالتأكيد لم يكن مخيرا فيه، ثم على يد أبي تلون باللون الأحمر الرماني.. فاللون الرملي، وكان هذا اللون الذي لا تزال غالبيته على واجهة الجدران، ولم يضف له شيئا ذلك الإطار الذي صنعته جدتي من فلقات القصب، حين لفتها بخيوط ملونة، ثم وضعت داخلها صورة جدي وهو في السعودية، أخذ هذه الصورة وهو يؤدي مناسك الحج، علقت الصورة فقط لأن وراء جدي الكعبة المشرفة، ولذلك لم يهتم أبي ويعلق بجانبها صورة أبيه، لأن الموضوع سيكون مختلفا، فأبيه أعني جدي من أبي لم يكن ذا سعة، كي يزور البقاع المقدسة، وعندما لاحظ أبي ملامح التفاخرفي تعبيرات أمي نزعها.. وقال لها:

ـ الحَيطْ(63) حَيْطي وأنا مولاه..!!

اللون الرملي لم يقاوم فيما بعد، وراح يتقشر ويتناثر، ويهدِِر معه كل الألوان السابقة، فكأنها مرحلة ما بعد التصحر.. توحي لي الظاهرة بالحقب التي مر بها الكون، كان ذلك الوقت بداية تطبيق فكرة (ألف قرية اشتراكية)، والثورة الزراعية، ومشروع السد الأخضر، ومكافحة التصحر، ولذلك تناثر اللون تلقائيا من على الجدران، ذلك ربما من كثرة الأناشيد والخطابات والشعارات، فقلت لصاحبيّ في مقهى الفرارة:

ـ سيكتسح اللون الأخضر كل بيوتنا، وربما حتى ألبستنا.

على كل حال هو أجمل الألوان القديمة التي بدأ بها الكون، لكن مع ذلك أظن أن اللون الأزرق، وذلك اللون الأحمر الرماني لن يصبرا، لأن هناك أقداما لا يحلو لها السير إلا عليها، كنا نبتهج ونرقص احتفالا بهذا اللون، ولكن لا أحد يدري ماذا سيحدث فيما بعد. ما حضرته وشهدته، هو أن العشب تسرب حتى من بين حواف القرميد أعلى البيوت، وكسا كل مساحات السقوف الترابية، كنا نجده في الصباح قد نبت حتى أسفل أحذيتنا وكنا نستغرب كثيرا..!

الشيوخ الذين عايشوا هذه الحقبة، لا يزالون إلى الآن يتحسرون على تلك الأعوام المباركة، وهم يتحسّسون احمرار المواقف القادمة، بعد أن غاب من ألهم الاخضرار عقول الناس. ثم اكتسح الأمكنة لون رمادي باهت قد عمر طويلا.. شحبت منه الوجوه، واحترقت منه الأرض، واحتارت منه الأشجار، هل ستتطاول أكثر في الأيام القادمة، أم أنها ستظل على ما هي عليه من طول.. اللعنة على هذا اللون الذي لا أحد يعلم من ابتدعه.. اللعنة عليه لونا، لقد عمر طويلا حتى اعتصرت منه القلوب تكاد تنزف.

لا أخفي كنت متشائما كثيرا من هذا اللون، كنت أخاف أن يرجعنا إلى لونين كان يكرههما جدي.

مرت سنوات وبدأت الجدران تأخذ دون إرادة الطيبين ملامح ذلك اللون القبيح. فئة كبيرة ظهرت متخفية وراء ألقاب عربية مألوفة، لا تزال تضمر حبها للّون الأزرق، لكن لا أحد يجرؤ فيخرج بهذا اللون، لأن الخناجر التي أُشهرت ذات استقلال ضد الخونة، لا تزال سافرة من أغمادها، اللّون الأزرق ينتعش خفية ويحاول تسلق الجدران. الجداران لم تكن متشوقة كثيرا إليه، فربما بعد أن تجدّرت القلوب وتصلبت، صارت هي قلب الوطن الذي يحفظ التاريخ ولا يأمن المكائد.!!حتى اختلط علي الأمر، هل أُقشر كل الألوان حتى أطل على طلاء الطين كي أطمئن على سلامة الوطن.!! وكالعادة لا أجد ملاذا سوى مقهى الفرارة، وأرتمي في أحضان صاحبة المعطف الأحمر، كي أقتات نار النضال ونار الحب والدفء، وأتذكر السمر والأحاجي، وأرفض في تو الوقت نار الحقد والخيانة.

كان شيء يدفعني للغبطة عندما أجلس مع صاحبيّ، فيشرعان ككل مرة في نزع خيوط الصوف الملونة من على ظهري وكتفيّ. وأنا أرتدي قشّابيتي البيضاء، وأحيانا كان أحدهما يجد شعرة طويلة بالتأكيد هي شعرة من رأس أمي، فتنفتح شهية صاحبيّ للمزاح، فأقول لهما:

ـ هتوها كي أخفيها حتى لا يلحق الخبر لأبي، فيقول عني أنني طحّان حين أخرجت شيئا من مفاتن أمي، ويتهمني أنني من أنصار حرية المرأة.!!

وكنا نضحك، وأظن أن كلا منا جاء لأجل هذا الغرض..

لقد استمريت لوقت كبير أنام بين الحائط والمنسج، كنت من بين جميع اخوتي لا أحب الاكتظاظ، ولأني أتميز بنوم هادئ يتلاءم وحساسية المنسج، لم تمنعني أمي من النوم خلفه، نمت في هذا المكان خمس سنوات، أعني أنني كبرت مع أربعة جلابيب، اثنان منهن بيضاء واثنان بنيتا اللّون والبيضاء التي ألبسها، وثلاثة من الأفرشة، وزربيتان مختلفة الألوان والمساحات. كانت أمي تسمي هذا النوع من الزرابي العقدة، ولهذا كانت آخر زربية بالنسبة إلي تعد بمثابة العقدة، لأن أمي نسجت في وسط هذه الزربية وردة حمراء، كنت قد أقنعتها بأن تفعل ذلك، كانت هذه هي الهدية الوحيدة، التي منحتني إياها أمي بعد الرضاعة طبعا، وهدية حملها بي، ولا أنسى الهدية العظيمة.. وهي هديةإنجابي حين أتقنت كأي أنثى مخاضها، ولو أنني أعرف أنه حدث كل هذا بعد رحلة شهوة وعويل، وأظن أن أبي انصرف بعد أن مسح بكمه ريقه، وشرب قليلا من الماء حتى يعوض ما نفذ منه من عرق. وبقيت هي تأكل جسدي بالقبلات فكأنها تقبل رحمها من الداخل.

الوردة الحمراء التي رسمتها أمي على مساحة الزربية، كنت أشعر كأنما قد ولدتها هي الأخرى، فقد رأيتها تظل تتأمل فيها وتشرحها لكل امرأة تزورنا، لكنني كنت أقبلها في مكانها، وتظل أمي تعتقد أني أنا الوحيد المعجب بما صنعته، فكانت ترى أنني أشجعها حين أفعل ذلك، غير أنني طلبت منها إذا أرادت أن ترسم وردة أخرى، فيجب ألا يكون لونها أحمر، هذه الوردة اشتهرت كثيرا، واقتنتها نساء كثيرات نسجنها على زرابيهن، وكنت أنا أكره ذلك فلا أريد أن تتواجد إلا على مقربة مني. الوردة التي نسجتها أمي كانت بأكمام كثيرة، وجعلتها خشونة الصوف تظهر كأنها حقيقية، خصوصا عندما قصت أمي خلفيتها الخضراء وعفت عنها فبرزت وحدها، حتى أن الطريح على إحدى جوانب الزربية، يعرف أنها وردة حين يتلمسها ولو في الظلام، لا أنسى أنني كنت أظل أتلمسها حتى يأخذ النوم يقظتي.

لقد استغرب الجميع سر تعلقي بهذه الوردة، كانوا يحسبون أنني أراها مجرد خيط وصوف ولون.. وبسبب ارتباطي بهذه الوردة اكتشفت بطريقة عشوائية، لماذا يعبرون عن شدة الذوبان في حب الآخرة بالتصوف، فكأنني أراها آخرتي، وبسببها أيضا عرفت أن هناك الكثير من الألوان الحمراء، وكنت أخاف أن أتوه عن حمرة معطفها، ولم أنس أنني تعبت كثيرا، وأنا اضبط هذا اللون، حينما كانت أمي تلون الصوف، فاستطعت أن أقترب كثيرا من الملامح التي كنت أعتقد أنها هي الحياة، وكان يسندني في هذه المهمة فريد الأطرش، حين أراه في التلفاز يتمايل برأسه:

ـ (والورد لون الجراح..
.. والورد لون الجراح..).

وكيف أتوه عن هذا اللون وهو يتحرك في روحي.. يلون عمري نائما كنت أم مستيقظا.. أمي تسمي كومة الخيوط، وهي تنسج بالقيام، وهو مصدر الفعل قام، لأن الخيط عندما ينتصب في المنسج تقوم الخيوط عموديا، أي تشكل مع أفقية خيوط الصوف الملونة زوايا قائمة كثيرة، ولا يمكن للزربية أن تكون معتدلة، إلا إذا توفرت هذه الخاصية، وكانت تسمي خيط الصوف الملون المغزول بالطّعْمة(64)، لأن كل خيط من هذه الخيوط تعتبره أمي طعما، تضعه بين الخيطين عندما يتقابلان عموديا، ويتقاطعان في نقطة، ثم يفترقان فيشكلان بذلك فتحة بين نقطة تقاطع وأخرى، الفتحة تشبه الفم، ولذلك تسمي أمي خيوط الصوف بالطّعْمة، أنّثتها لأنها ترى أن خيوط القيام مذكرا، حتى تعرف الفرق بين الطعم والمُطعّم، لأن الخيوط العمودية لا تصير زربية فيما بعد، إلا إذا شبعت من خيوط الصوف التي توضع أفقيا، وكانت أمي ماهرة لا يجب أن تغلق فما إلا بعد أن تطعمه، وهكذا كانت تفعل مع اخوتي الكثُر أثناء الأكل، لأنها إن نسيت فمًا يبدو فيما بعد ثقبا، فتكون بذلك الزربية معيوبة. فإذا كثر فيها الثقوب، قالت عنها أمي أنها زربية خاوية.!! زربية أمي لم تكن خاوية، ولم تكن تتخللها ثقوب، كانت تطعم كل أفواه التقاطع، وتمسك بالخلاّلة(65) مسكا جيدا، وتضرب بها خيط الصوف ضربا صحيحا، تسميها خلاّلة، لكنها تعجز عن شرح معناها، هي آلة تشبه يد الإنسان تنتهي بأصابع حديدية طويلة شبه حادة، وتنتهي من الأعلى بمقبض صنع من خشب، وكانت تصنع صناعة تقليدية، كان الشيخ مْسيْكة بارعا في هذه الصناعة، ربما هو من سماها خلاّلة، لأن أصابعها تتخلّل الخيوط العمودية، وترص عند الضرب الخيوط الصوفية الملونة، حتى تصبح الزربية متينة متماسكة، ومن هذه الحرفة استلهمت أمي كيفية مهمة لتربيتنا إذ كان أبي غائبا طول الوقت.

عندما تأتي أمي على آخر خيط من الزربية، تعتبر ذلك يوم عيد، تحضُر فيه النساء من الأقرباء والجيران، يأتين ومعهن القهوة والمسمّن والبسيسة(66)، يسمون هذا يوم القليعة من القلع، لكني كنت أراها تواطؤا مع نفسي إقلاعا، ورحت أتصور وأنا محتفل باكتمال الوردة الحمراء، فكأن الزربية تستعد للإقلاع، وأنا أجلس في وسطها كأنني حي، أو كأنني ميت لا أحد يدري..!! كنت أراها كأنها على قواعدها تستعد كي تطير كبساط الريح، أتأملها وهي محصورة بين خشبتين متوازيتين، تشكلان مع الأرض زوايا قائمة من كل جانب، كانت في شكلها تشبه قاعد صاروخ يتأهب للصعود، كانت النساء تنتظرن أمي متى تهوي بمقصها، كي تفك الخيوط التي تشد الزربية على الخشبة العلوية والسفلية، كنت أنا في الزاوية أروح وأجيء أترقب.. أنتظر متى تخرج روحي من شرنقتها، كأن وردتي الحمراء عروسا، وكأن المنسج هودجا، وكنت أنا قلقا جدا، ألاحظ متى تنزل فوق ثرى أرضي الطيبة، ورحت في مسائي أستعد متى أدخل بها، لأن أمي وعدتني قالت لي:

ـ ستكون أنت أول من ينام عليها..

كانت هي تقصد الزربية، أما أنا فكنت أقصد الوردة الحمراء، ولذلك كنت أصحح في قرارة نفسي:

ـ معها وليس عليها..!!

ولم أجرؤ لأشرح لها أنني لم أكن أنتظر الزربية، وإنما شغوف بلقاء الوردة الحمراء، محادثة هذه الوردة علمتني أشياء كثيرة، علمتني التأمل في الحياة، في المواقف اليومية، وهذا ما جعلني أبدو صامتا كثيرا، واكتسبت منها أيضا قدرة رهيبة في استرجاع المواقف التي تحدث لي، وتحدث أمامي، وأشرح الكلمات المغلوب عليها أنها عامية، وأفسر العبارات، وأستنطق الأشياء، وأترجم حركات الحيوانات الأليفة، فكأني في حوار مع كل شيء، أذكر أنني كنت الوحيد في العائلة، الذي يحتمل احتكاك القط وهو يمر بجانبي رافعا ذيله يكاد طرفه يلامس أنفي. وكنت الوحيد الذي يحتمل شخيره وثقله، عندما ينام فوق ركبتيّ أو على بطني، لأنني أعرف أنه يتعب كل ليلة في مراودة قطة جارنا الجزار، وكانت قطة سمينة لونها بني، على رأسها وصدرها من الأمام بقع بيضاء، وكان القط أكثر مني جرأة وذكاء في رصد لونه، ولهذا أحببته، فكأني أريد أن يلهمني شيئا من شجاعته وذكائه، وحسب ما يثيره من صخب فوق السقف يكون قد نال منها عدة مرات، أما أنا فلا أنال سوى النظر بالنهار، واسترجاع الصورة بالليل. وفي غمرة استنطاق القط وهو نائم، أمسح على رأسه:

ـ نسْتعْرفْ بيك.. ترى كم ستنجب معها من جرو يا قطي الأشهب..؟!

فيحك رأسه على يدي، فكأنه قد استحى من السؤال..! ثم أنتبه لنفسي فأضحك..! وأحيانا أخجل، فلا أتبين هل حاورت القط سرا، أم جهرة، لأن أبي التفت إلي وقد رآني أضحك..!! لأول مرة أطرد القط حتى ينام في جهة أخرى، لأني أستعد هذا المساء لليلة دخلتي، وعلى غير العرف سوف لن أتمكن من الخلوة بها، وسأبيت أتلمسها بيدي خلسة، وكان اخوتي يستغربون طريقة نومي الجديدة، فكنت أنكب على رأسي، وألف جسدي بالغطاء، فأبدو كأنني ساجد، ولا أحد يدري أنني كنت أقبل الوردة، حتى أمي استغربت كثيرا تغيّر طريقتي في النوم، وأنا الذي تعودت أن أظل طريحا على قفاي حتى الصباح أتأمل النار، ثم الوردة على مساحة الزربية قبل أن تُقلَع وتُقلِع بروحي فتصير هودجا، وتنزل بوردتي، فتصبح فراشي وغطائي كيف ما أشاء أنا.

كانت هذه آخر زربية تنسجها أمي، وكنت مغرما بها كثيرا، لأن الوردة الحمراء التي توسطتها أخذت بلباب عقلي، سببت لي هوسا كبيرا، وانبهارا لا نظير له دون جميع اخوتي، ولم أكن لأرضى أن تنتقل هذه الزربية تحت أي ذريعة إلى مكان آخر، غير أن طوارئ معينة تحوم حولها، فكأني بالوردة الحمراء ترتجف، كنت صغيرا عاجزا عن حمايتها، خائفا أن تُهدى أو تباع، وخوفا من أن يحدث هذا رسمتها.. انتقيت لون معطفها من ثلاث علب تلوين، غرض الوصول إلى اللون الأحمر الذي يناسب معطفها، رأيت أن أي حياد عن لونها الدقيق يعد تزييفا للكون، ومغالطة كبيرة لتنفسي، كنت أشعر أنني يمكن أن أختنق إذا لم أركز كما يجب، كانوا يظنون أني أتلمس اللون بيدي، وكنت أتلمسه بروحي كي لا أحيد فأتسبب في حدوث خلل في حركة الكون، لأن الموضوع مطلب وجداني، ولذلك استطعت أن أرسمها بدقة، ولم أهتم ساعتها بالخلفية الخضراء، لأنها أضحت أيديولوجية اكتسحت عقول كل الكادحين، وغزت نافذة الإعلام الوحيدة التي أنجبتها الدولة، ثم خرّبت الأم رحمها كي تُبقي عليها وحيدة، لأن الدولة تخاف كثيرا من قيام الساعة، وقد ذاع بين الإسلاميين أنه قد ظهر أشراطُها، وأخطرها أن تلد الأمة ربتها، ولقد حمدت الله أن هذه الابنة الوحيدة هجينه طيعة، عجينه لينة، تعيش بهدوء ورضوخ في إبط أي حكومة آتية، وخوفا من توفرها كشرط لقيام هذه الساعة طمست رحمها، وحسب تراكم الأحداث، وثبوت ظهور صحون غريبة فوق البيوت، كانت تبدو عند الآخرين أقمارا مكتملة، وكادت الأمة أن تقتنع بأن القيامة قد قامت، لولا وجود كلمة إضافية لا علاقة لها بالغيب:ـ اللعنة علي.. أين ذهب عقلي..؟ وقد تعهدت لنفسي ألاّ أدخل في الصراعات، وأكتفي بدفء انتمائي وانتسابي، ولا أفسد نكهة الأناشيد، التي صارت تشكل في قلبي ما يشبه ركام الحلوى، وقد علمني جدي ألاّ أدع دودة السياسة تتسرب إليها، قال لي جدي:

ـ يا ولدي إذا فسدت هذه الحلوى، فلن تجد دكانا تأمنه كي تشتري منه حلوى لا تقتل قلبك..!

بصراحة خفت أن يموت قلبي، ولا يعرف فيما بعد كيف يستمر في حب الوردة الحمراء.

رسمت الوردة بلونها الذي مثل أمام عيني مرات عديدة، كل أفراد الأسرة يستغربون سر اهتمامي بهذه الوردة، أختي عرفت متأخرة كنه الحكاية، ولأنني كنت صغيرا، كانت بدلا من أن تساعدني تضحك!! لأنني كنت جادا في عاطفتي، إلى حد تحدثت عن الزواج في سن مبكر، وعلمت فيما بعد أن التفكير في هذا الموضوع، لا يتطلب عاطفة فقط، حتى أنني ضحكت على نفسي.!!

كأني أود أن أحيا معها حياة فضائية، غروري جعلني أنفصل عن المدرسة مبكرا، أريد أن أحصل على عمل، وأن أشيّد سكنا، وأمتلك المتاع والأثاث، لكنني لم أفلح، ولم أجد أين أنام، لأن أمي توقفت عن النسيج، وربض في مكان المنسج التلفزيون، لأنه لم يكن في مكان مناسب من قبل، حتى أنا لم يعد لي مكان معروف بين اخوتي، وسحبت مني أمي الزربية، لأنها لم تقبل أن يفترشها الجميع، وحسدني أخي الذي يكبرني بقليل حين انفردت بها جانبا، لم يعد لدي خيار لأنتقي مكانا على اليمين أو على اليسار، لأني لم أتعود النوم في الوسط، أي بين اخوتي، لم يكن هذا مزاجي في الأصل، ولكن تعودت هدوء الحائط من جهة، وسكون الخشبة السفلية للمنسج، خصوصا الزربية الأخيرة، فقد كنت أشعر أنني متزوج بالوردة الحمراء التي كانت بجاني، وكانت تنمو شيئا فشيئا ولذلك رأيت أنني لا أحتمل النوم في المكان الذي أُكرهت عليه، تمردت واتخذت مكانا عند الباب، فكنت آخر من ينام لأن أخي الأكبر عودنا بدخوله في ساعة متأخرة من الليل، أنتظره متى يدخل ثم أجتهد أمام قلة الأفرشة والأغطية، أن أصنع ملبدا لائقا نسبيا، جلد خروف كان يتخذه جدي للصلاة، وجلد عنزة كان قد ذبحها أبي عرسا بمناسبة دخول التلفزيون إلى البيت.

كان أبي من الثلاثة الذين استطاعوا أن يمتلكوا جهاز تلفزيون (أبيض واسود). كان ذلك على مقاس العقليات السائدة، والثقافة المتواضعة في قراءة الألوان، فكأن الفكر بحد ذاته لم يكن ملونا، ولم تكن النفوس مهيأة كما ينبغي، كي تستوعب أن ترى إنسانا بألوانه الطبيعية، يتحرك ويتكلم إضافة إلى النموذج الأصلي. الذي سبقنا بشراء هذا الجهاز كان يعمل بفرنسا، وكان يرسل لأبنائه سراويل، وقمصان، وألبسة نسائية، كانوا يتباهون أمامنا، وقد فتح أخوهم الأكبر قاعة لمشاهدة البرامج، كان يتقاضى مقابل الليلة عشرين سنتيم، كنا نشعر بالضعف والسيطرة، ونحن نشاهد خارج بيوتنا، ولذلك ذبح أبي عنزة احتفالا بالمناسبة عندما اشترينا تلفازا، كان عرسا وكأننا استعدنا سيادتنا..

وأنا أتكئ في مكاني الجديد، لم يكن وضعي مريحا، فقد كانت الشاشة مصوبة نحو اخوتي، وعندما اذهب كي أصوبها نحوي قليلا يرفضون، كان هذا بمثابة العقوبة، بسبب انعزالي في اختيار مكان النوم، فأنظر حينا إلى الشاشة، ومعظم وقتي أقضيه أتأمل وأحادث الوردة الحمراء، وهي تقابلني والزربية ملفوفة متكئة عموديا في الزاوية، وقد انعزلت هي الأخرى عن باقي الأفرشة، كانت تقابلني بشكل جيد على خلاف شاشة التلفاز، اخوتي ينامون على وقع متابعة البرامج من أفلام، ورسوم متحركة، وأشرطة، وحتى ما لا يستحق أن يُشاهد، نظرا لحداثة هذا الجهاز، وسيطرته على العقول والقلوب، النساء اكتسحتهن مسلسلات ساعة السابعة بعد الزوال، حتى أن الفتيات اقتنعن أن لا زواج دون قصة حب، كنا عندما تُذكر كلمة الحب في أي لقطة نتفرق، أبي لا يطلب الماء أو أي شيء آخر إلا عندما يسمع هذه الكلمة، يطلبه بطريقة يثير بها التشويش، ويُشبع الجملة بكثير من التنحنح والسعال، يحاول أن يوهمنا أنه لم يسمع شيئا، مع أنه كان أكثرنا انتباها، بالأمارة كان يقول لنا من حين لآخر:

ـ اسْكتوا وإلاّ أطْفَِيْته..!!

وكانت أمي تنتظر متى ينامون جميعا كي تخمد الجهاز، وعندما تجدني لا أزال أحملق تتوقف، فأقوم وأفعل ذلك بدلها، ثم أستمر أتأمل الوردة حتى يدركني النوم، كانت أمي تحذرني مرارا أن النوم في فم البابما هو زين. تقول لي:

ـ قد يضربك عفريت..!!

فأضحك:

ـ وكيف يدخل العفريت حين أغلق الباب، وأمنع فتحه بجسدي وأنا نائم.؟ ثم هل وجدت أنا أين أنام، حتى يدخل هو إلى هاتين الغرفتين الضيقتين.؟

أمي تخاف أن أصاب بمكروه، عندما أتحدث بسخرية في هذا الموضوع، فتأتي بحفنة من الملح، وتدوّرها حول رأسي سبع مرات، ثم ترميها في المرحاض، وأحيانا تُسبّعُ بالبخور وهي تقول:

ـ حَنْطقْ.. مَنْطقْ.. عين المرأة تشعلْ، وعين الراجل فيها منْجلْ.!

فأضحك أنا ولا أهتم بما تفعل أمي، غير أنني كنت أعتقد أن بنيتها الخالصة ستقي البيت من شرور كثيرة، ولكني كنت أخشى أن تقيني من سحر الوردة الحمراء، لأني أشعر أنها هي الدافعة التي تلهمني كي أنتظر الصباح، ولا يهمني وأنا أتأملها إن كنت في فم الباب، أو في فم مستودع، ولم يكن يهمني أيضا أن يضربني عفريت، أو حتى يجتمع الثقلان ويضربونني بيد واحدة.. فلست التائب دائما، وكان على رأي المغني الكبير رابح درْياسة، حين أحْدثت أغنيته تلك هزة عظيمة في شاشة التلفاز:

ـ (وانْتوبْ على كلْ محْنه ** غيرْ عْليكْ يا واه.. واه).

أمي تتفقد الزربية وتعتني بها اعتناء كبيرا.. تكنس تحتها، ولا تأمن عليها من مكر الفأر اللعين، وتدس في عمقها كل مرة كريات صغيرة من الكوثر، حتى تستمر رائحتها طيبة، ولا تتلفها بعض الطفيليات والحشرات. كانت هذه أجمل هدية تهديها لي أمي، رغم أنها لا تعترف بهذا، عندما أقول لها ذلك يغضب اخوتي، فأقول لهم:

ـ أنا لا أقصد الزربية، وإنما أقصد الوردة التي بداخلها.

فتضحك أمي وتبرد أعصاب اخوتي، وخصوصا من وُلد بعدي، الذي تسميه أمي عندما تريد أن تُرتّبنا حسب الولادة طريدي، لأنها عندما حملت بي أمي، وحسب ما تفهمه في مخيلتها أنني قد طردته من رحمها، وبعد أن اعتبرتُ أمي مهندسة وهي تنصب سدّاية المنسج، وفنانة أيضا، حين نسجت تلك الوردة، ها أنا أعتبرها مرة أخرى عالمة نفس، عندما وصلت إلى تفسير سبب مشاكسة الأخ الأكبر لأخيه الأصغر منه، غير أن هذا الطريد ظل فيما بعد أصغرنا جميعا، لأنه هو من أثار موضوع حرية المرأة في البيت، فقد كان أول من ذاق عسيلة هذه الحرية، ولذلك كان آخر من تزوج من أفراد الأسرة، زوجه أبي بعسر كبير، لأنه لم يع بعد ماذا سيضيف الرجل بالزواج إلى تلك اللّذة التي يشتريها بثمن بخس في الزقاق الضيق. تزوج في سن متقدم جدا، لأنه ظل ينادي بالحرية في البيت، شجع أمي على الخروج، وصارت تهتم بلباسها، وبعد أن كانت تتشوق كثيرا لعودة أبي، صار في مصلحتها أن يغيب بل كانت تتمنى موته. كانت أمي قديما طيبة جدا، ترى في نظراتها جسارة جدتي التي حملت البندقية، وتشم في أثوابها رائحة المرأة الريفية، المعبأة بدعوات الخير، وكلمات التفاؤل، والأحاجي، وحكايات الفصول، ولا تجد في مطبخها إلا معروف يوم الجمعة وأكلات المواسم.. أمي لم تعد تسبّع حول رؤوسنا الملح ولا البخور.

 أتأكد أنني لا زلت صغيرا عندما أجد صاحبة المعطف الأحمر أمام الباب، تنتظر أختي كي ترافقها إلى المدرسة. كلما أراها تغمر قلبي نفخة ساخنة، كتلك التي يرسلها صانع الزجاج في عمق القارورة وهي ساخنة، ثم تصطك قدماي، وتفتر كل أعضائي فلا أتبين ما تقوله لي، ولا ما أريد أن أقوله لها، ولأن أختي تحفظ وقت مجيئها تنقذني من الموقف دائما. كنت أراها تمضي وهي تضحك، كان مظهري مثيرا، ولذلك لم أعتب عليها، ولم تكن هي أشجع مني، فقط لأنني لا أمثل في نظرها أي موضوع، ولهذا لم أشك في شخصيتي، ولا في مستوى شجاعتي لمواجهة الموقف، فربما لو أنها كانت تشعر بما أشعر به ناحيتها لارتبكت هي أيضا، وشعرت في قلبها بشحنة حامية كتلك التي خربت جوفي، هذا حديثي مع نفسي، وأنا أروضها على قليل من الموضوعية، وأظل أجدد شكلي ومظهري ووضعي النفسي، كلما ألقاها عند الباب في موعد كل ذهاب إلى المدرسة صباحا أو مساء.

ذلك اللون الخبيث كان يترعرع شيئا فشيئا، أما اللون الأخضر فقد كانت تهدّده الأيديولوجيات من كل صوب، وكنت أفكر دائما في مصير لوني بعد زوال اللون الأخضر، لأن الأيديولوجية الخضراء بدأت تزول يوما بعد يوم، كان ذلك في أواخر الثمانينيات، اختفت كل المعالم الخضراء، لم تبق سوى زربية أمي والقلم الأخضر، فقد كان معلم اللغة العربية يعاقبنا إن لم نحضره، وعندما استمر المعلم مرتبطا بهذا اللون، اعتبروه متخلفا ولا يتماشى مع تجدد المناهج، وعندما اندثر اللون الأخضر ظهرت أيديولوجية بلون النفاق. ازدهر هذا اللون الخبيث وتكاثرت الحسابات المبتورة، والتنقيط الناقص المشوه المشبوه، والمعادلات المعوقة الدامية، حتى صارت العقول لا تستوعب أي لون، ولأول مرة ينتابني قلق على لوني من طغيان هذا اللون، الذي لا ينبئ بأي خير، حتى صار يدفعني القلق لأتمعن في أي لون أحمر أصادفه، وكأنني أتحسس انقراضه هو الآخر. لوني لم يكن بلون الدم، لوني فاتح قليلا، أما هذا لون النفاق هذا فقد راح ينزاح إلى لون أحمر بلون الدم الخاثر، لون داكن يثير الرعب، ويحدث وهنا في القلوب وفشلا في العضلات.

كنت كل مرة أحاول إحياء المدخنة، وأفتحها من جديد لأن الدفء هو الوحيد الذي يعطيني معالم لوني، وعندما أقترب من المدخنة يرفض أبي، لأنه لا يريد أن يتذكر تلك المهنة المتعبة، لهذا أدمنت الذهاب إلى مقهى الفرارة أكثر من أي وقت مضى، صرت من أكبر روادها، أو بالمعنى التجاري المتعارف عليه، صرت مُشْتَاري كبير، وأصبحت أشرب الفرارة سيان توفر ثمنها أم لا، يقول محَّاد الصغير صاحب المقهى مشيرا إلي:

ـ أعطوه ما يريد.. المحل محله.. ما تْخافوشْ ما هوش خارج الطريق.

وكنت أحرج كثيرا إن أنا خرجت مدينا بفرارة واحدة، وأحرص أن أحضر ثمنها في المساء الموالي.. أقول للقهوجي:

ـ هذا ثمن فرارة الأمس..

فيقبض ويقرضني أخرى وهكذا.. وأحيانا أضع على الطاولة ثمن(الفرارتين)، وأنفخ صدري أكثر من اللزوم:

ـ .. تذكر مليحْ راهْ خالصْ كلّشْ..!

لكنني أعود غدا كالمتسول، غير أن القهوجي يضع فرارتي بين يدي قبل أن أمد يدي.! وبهذا أطمئن على شخصيتي ومكانتي بين الزبائن، ولهذا أيضا أحببت مقهى الفرارة، لأني أحصل فيها على قهوتي بأسهل ما هو عليه في البيت، ففي الكثير من المرات تمدّد أمي رجليها إلى الأمام، ثم تزيح المنديل من على رأسها، ينقبض وجهها وهي تضرب بيديها على فخذيها، وتقول لاخوتي الصغار بغضب:

ـ بحّاحْ.. روحوا دوْروا على مُوبيكُمْ(67) يشتري لكم القهوة..!!
وعندما يلح عليها أصغرنا فيتعبها، وتعجز عن فعل أي شيء، يعتصر جسمها، وتضع أصابعها أسفل عينيها وتسألنا:
ـ واشْ.. هل أندب وجهي..!!
فنهرع نحوها خائفين، ونجيبها:
ـ لا.. لا يا أمي..!!
فنرضى بأن لا نأكل ولا نشرب، المهم أن لا تندب أمي وجهها..! كثيرا ما أجد نفسي متواجدا في مقهى الفرارة بدافع من هذه العبارة.

كنت مختلفا عن صاحبي، فأنا مواظب كثيرا على المجيء إلى مقهى الفرارة، وهما يتغيبان بمعدل يومين بعد كل زيارة، ولذلك لم يحصلا على هذا الامتياز الذي وصلت إليه، فقد صرت محل ثقة، وأتصرف كما لو أني صاحب المقهى.. أدمنت الفرارة أكثر وزدت تغلغلا في المدخنة.

لقد صرت في نظر الزبائن كأنني أعبد النار..!! صاحبي المتدين صار ينزعج كثيرا من تأملي المتواصل لها، وهي تتلاعب بألسنتها، كأنها تهاجم شيئا مخفيا لا تتبينه العيون.

الكَرُّوش ليس لديه خيار إلا أن يستميت مستجيبا للاشتعال. كما النار ليس لها خيار إلا أن تستمر تأكل بعضها، لأن الكَرُّوش يابس فاحم من شدة العطش.. يذكرني بنفسي وأنا أتلهف أشتهي أن أحترق، لكنني لا أعرف كيف ألتحم بالشرارة التي أفحمتني وأيبستني، ثم أوحت في ذاتي أن الحياة انصهار..

ـ .. ما أطال النوم عمرا.

رحم الله أم كلثوم، تراها فهمت المغزى فهما فلسفيا، ولذلك تجدها تردد هذا الشطر بتنهيدة تشبه النار المتآكلة على أعواد الكَرُّوش. ولأنيلا أستوعب كثيرا أن أسمع أم كلثوم وأتأمل النار في آن واحد، أطلب من القهوجي أن يعيد الشريط من الأول، وأن يزيد قطعة حطب كلما تتناقص ألسنة اللهب. كان هذا الشريط شبه مفروض على القهوجي، أما محَّاد الصغير فكان لا يهمه شيء، المهم أن الزبائن مبتهجين والفرارة تباع باستمرار.

محَّاد الصغير لا يأمن ذلك الفطْفاطْ، فقد كان يراوغ كثيرا القهوجي، ويحلف كل مرة أنه قد دفع ثمن الفرارة، ونحن نعلم أنه لم يدفع ثمنها اليوم ولا البارحة ولا أي وقت مضى...!! وكان يطلب شيئا على كل طاولة، ويبالغ في العبث، ومحَّاد الصغير يتجنب دائما مشاكسته حرصا على راحة الزبائن، ويقول للقهوجي:

ـ دعه بيْنو بين ربّي..

محَّاد الصغير راح يلح عليه أحد الشيوخ، أن يستبدل شريط أم كلثوم بشريط عيشي بشير، وقد فعل إرضاء له، وكي يضفي على الزبائن نوعا من العدالة في تلبية طلباتهم، حتى أنا تفهمت الموضوع، وكنت أتذوق قليلا هذا النوع من الغناء أستمد ذلك من ذوق أبي وجدي.

عندما يدوي إيقاع القصبة الطويلة المرقّطة، وتتعالى طلعات عيشي بشير، ترى شعبية القُنْبُز وقهوة الصفّاي والحار الملقم بالحليب الطبيعي.. تراهم كلهم ينتعشون، فتتطاول القَنانير كعشب ذاق الماء بعد قحط، كان بيني وبين هذا الجيل دفعتين أو ثلاث، اغتنمت الوضع كي أختار لنفسي شيخوخة مريحة من هذه القَنَانِير التي تحيط بي، غير أنني كنت خائفا أن أظل ولهان بصاحبة المعطف الأحمر، كما أراهم لا يزالون شغوفين بالقُنْبُز، أو ما يسميه البعض ببوعُويْنة (68)، وكنت أعجب كيف يتعرف الواحد منهم على التي يريدها، وهن متشابهات كأنهن نموذج متكرر، تتراءين لك مكفنات كالنعوش، لولا عين سوداء تتحرك داخل ثقب صغير، تبدو العين كجرذة الخلاء، تترقب متى يذوب الثلج من حولها كي تخرج لتقتات.!! الشيوخ يجذبون أنفاس سجائر السُّوفي(69)، فتتقعر أشداقهم حتى تكاد تلامس بعضها داخل أفواههم، ويكادون يمتصون معها أصابعهم، ثم تتساقط الأجزاء التي احترقت في حجورهم، فترى عباءاتهم مثقبة تشبه الغرابيل. يجذبون دخان العرعر وهم يتنهدون.... يتخمون.. ويرمون كور تبغ الشمّة، ويضعون أخرى من شدة الشوق والكلح، تراهم يتمايلون برؤوسهم تفاعلا مع نغمات ومعاني الأغنية، حين تعود بهم إلى نمط الحياة القديمة التي صاروا يحنون إليها:

ـ (يا شجْرة ما عْييتْ تحْتكْ نظلّلْ
والطْيورْ على غْصانكْ غنّايهْ
يا شجْرة كيْ نتْفكْركْ قلبي يتْعلْ
ونتْفكرْ من كانْ قاعد حذايهْ).

هؤلاء الشيوخ زاحمتهم دفعة أخرى بدون عباءات، ولا لفائف على رؤوسهم، يضعون بين أصابعهم سجائر برؤوس حمراء، أثارت استغراب شعبية سجائر العرعر التي تناقصت بشكل رهيب، أغلبهم طعنوا في السن التزموا بيوتهم. ليست أم كلثوم هي التي طردتهم، بل ذبلت نفوسهم، ولم يجدوا حيلة غير التدين بحجة التوبة، آخرهم كان يأتي باكرا إلى مقهى الفرارة، فكنت أراه يمطط هيكله وهو واقف، وعندما يجلس أراه يمدد ظهره بعناء على مسند الكرسي حتى يظهر مستقيما. كان شاربه قاتم السواد، يتراءى لي كأنه هو أول من استعمل الحجرة السوداء بعد أن كانت تقتصر على النساء.

كان هذا الشيخ ينزعج كثيرا، عندما يسمع أن أحدا من جلسائه قد مات، أراه يجلس ويتحرك على مضض، كان يلتفت كثيرا كأن الموت يطارده، وأحيانا يظل طويلا راخيا رأسه، وذقنه تتدلّى ذابلة على صدره، فكان يظهر على عباءته، وعلى كتفيه بالضبط يبدو أثر الحجرة السوداء، نتج ذلك من كثرة التفاته فقد كان شعر شاربيه طويلا جدا، وكنت أراه يظل يبرهما من اليمين ومن الشمال، فقد كان هذا الهرم من سنه المبكر يفعل ذلك كي يظهر كأنه زعيم فحل، وكان يمسح على شعر شاربه ويبتسم كلما تمر قبالته أي امرأة ملتحفة لا تظهر إلا عينها، لكنه صار الآن يشبه لعبة بلاستيكية قد أصابتها النار فأذابت صلابتها.

لقد صرت أكره هذا الشيخ، ولو أنه تاب وقبع في المسجد لكان خيرا له، لأني كنت أرى مصيري على محيَّاه، لقد أحرق حطبي وأنا لا زلت أحتفظ في عروقي بالخضرة والماء..:

ـ اللعنة على هذا الشيخ، لقد رسم على وجهي صفرة مبكرة، فأنساني ناري ولوني.!!

انسحب الشيخ عندما تأكد من انقراض القُنْبُز، ضالته الوحيدة التي ظل يتعطر لأجلها، ويغطس شيبه بالحجرة السوداء، ذهب يكحّ وقد اصطدم بكرسي أمامه.! الفطْفاطْ المغرم بشبابه وأناقته، قال ذلك في وجهه دون أن يراعي مشاعره:

ـ (اللّي عاش أيّامَه، ما يطمع في أيام الآخرين..!)

التفت إليه الشيخ التفاته ذابلة، كإنسان آلي نفذت طاقته، ثم واصل سيره إلى الخارج، وبالتأكيد هو ذاهب من غير رجعة..!!

عبت على الفطْفاطْ ما قاله، واقشعرت قلوب الكثير من الزبائن:

ـ يا أخي أنت ما تخافش ربي أفرض أن أحدا قال هذا لأبيك..!

فرد علي وكان ـ على ما يبدو ـ له حساب مع هذا الشيخ:

ـ أنا أقصد ما تظنه، قلت ذلك حتى يسارع ويتوب، فيكف عن التطلع للنساء بعينيه الذابلتين المنكمشتين الغائرتين في الداخل، ألا ترون أنه صار كأنه مغمض العينين، ثم هذا الشيخ الذي ترونه، كان لا يدعنا نلعب أما الباب.. كان يطردنا كلما رآنا، وقد حرمني من صاحبة العمر جارتي، عندما أختار لها مكانا مناسبا للتربص بها، كان كلما يراني يطردني..

همس له صاحبي المتدين:
ـ ولماذا لا تتوب أنت..؟!
رفع حاجبا وحط آخر، وبسخرية:
ـ ما زال عنْدنا الوقت..!!

ثم أخرج لسانه وعضّ على شفتيه عندما مرت فتاة، وقد حشت وسطها في سروال ضيق، رأيتها عندما صدت بقفاها نحوي، كأن الخيط الذي يمنع إليتيها من التدفق يكاد يفقد متانته، كانت بالفعل بُونْبهْ(70) على رأي ذلك الفطْفاطْ، الذي كان يستعجل الشيخ للتوبة، الفطْفاطْ صفق تصفيقة واحدة، وحك كفيه على بعضهما ثم مضى وراءها.. كان قلبه يخفق أسفل سرته، ليست تلك الفتاة الوحيدة التي هرع وراءها هذا المخلوق.. حتى أنه يظل يكذب على الزبائن.. يقول لهم:

ـ لقد ضحكت معي وحدثتني، ثم أعطتني عنوانها وصورتها عندما استدرنا مع الشارع الآخر.
فضحك من سئم كذبه:
ـ إذن فعناوين صور الفتيات اللائى جريت وراءهن كلها عندك..؟
قال:
ـ نعم.!!
ـ وكلهن ضحكن لك..؟
ـ نعم.!!
فغضب مَن سئم كذبه وبهتانه:
ـ أنت ما تحمْش.. كل يوم تْخرطْ علينا..!!
فضحكت أنا أيضا من كذبه، وقلت له:

ـ الأجدر بك أن تذهب إلى ذلك الشيخ الذي ازدريته وتطلب منه أن يعينك، ويمدك بقليل من خبرته.. هيا اذهب إليه، أدركه قبل أن يتوب أو يموت..!!

ورغم أن كذبة هذا الفطْفاطْ كانت واضحة، وعندما كشفناه طار بسرعة البرق وحط عند طاولة أخرى، وبدون حياء ولا خجل راح يحكي نفس الحكاية، كان لا يهمه الناس إن ضبطوه يكذب، وما أكثر كذبه، حتى أن بعض الجماعات كانت تتسلّى بحكاياته الملفقة، وظل كذلك حتى التبس عليه الكذب بالحقيقة، وتراه في الكثير من الأحيان يحلف بالله وبالكتاب أنه صادق، وكنا نحن نضحك كلما نراه يحرك يديه بجرأة وصحة وجه.

الشيخ المسكين لم يعد يأتي إلى مقهى الفرارة، كأنما قد نسف عليه ذلك اللعين..!! ذاك هو مكانه كانت رأسه ملفوفة بلحاف أبيض استطال إلا ثلاث دورات، وقد أدار طرفها الأخير حول عنقه، كي تلتقي حاشيتها السفلية مع بادرة البرنس التي خيطت بسلك ذهبي.

فقدت المقهى آخر تحفة من الجيل القديم، كثرت الرؤوس السافرة التي تطاول شعرها على نمط الشعر الطويل، ودبّت على الأرض أقدام بسراويل اتسعت من الأسفل سميت بقدم الفيل، انتشرت هذه الموضة كثيرا بين الشباب وكانت مكلفة جدا. لا يزال عمي يحتفظ بصورة لهذه المرحلة، فأضحك كثيرا عندما أتأمل الملامح، كان عمي قد أحاط بكل تفاصيل هذه الموضة، ولم يُغيّب منها شيئا، غير أنه كان يعاني من مشكلة شعره المُجعّد، ولأنه يصر أن يكون شعره ناعما يمشطه بالمشط العريض، الذي كانت تتخذه أمي لتنظيف الصوف، ثم يعصبه بلحاف وينام، وفي الصباح يجده مستقيما يابسا، يمسح عليه بزيت الزيتون حتى يظهر لامعا، لا يزال يظهر لامعا جدا في الصورة، وقد وضع الصورة داخل إطار، وعلقها في دار الضيوف، وظل يتباهى بها.. حتى دخلت موضة القصة العسكرية. كان عمي يتباهى عندما تتعرض الجماعة إلى الحديث عن الماضي، يريهم الصورة ويقول لهم:

ـ كنت عايشْ وقْتي..!

كانت الصورة تعبر عن زمن غابر، وقد أُخذت بلونين بدأ بهما فن التصوير.. القميص الأبيض ميّله الدهر إلى الصفرة الخفيفة، وهذا ما بيّن أنها قديمة بالفعل، أما المعطف فكان أسود ينقبض على مستوى الخصر، ثم ينفرج كي يخفي سروالا ضيقا، يبدأ في الاتساع تدريجيا حتى يصل إلى الأرض، مشكلا ما يشبه قدم الفيل، وكان هؤلاء الذين يلبسون مثل هذه السراويل يجلبون بها كثيرا من الطين إلى بيوتهم، لعدم توازن نمط نمو المدينة، فقد كانت تنتشر على الطرقات البدائية حفر، وارتفاعات وانحدارات، طرق لم تكن متلائمة مع هذه الموضة..!! أما الحذاء فلم يكن ظاهرا في الصورة، أخفته استدارة السروال التي وصلت إلى الأرض، ظهر في صورة أخرى أخرجها عمي من الصندوق، وقد بدا فيها الحذاء واضحا جدا، نمط السروال في الأسفل كان مشكلا كبيرا، وقد جعل عمي يأخذ صورة أخرى فهو مصر أن يظهر الحذاء، كان يجلس على كرسي طويل كذلك الذي رأيناه في أفلام رعاة البقر، وكان عمي يضع قدمه فوق ركبة رجله الأخرى، الحذاء كان بكعب عال جدا، مدبب من الأمام، وقد حُفرت على جوانبه عدة نجوم، يلتفت ويقول لنا:

ـ هذا الحذاء كان لا يلبسه إلا الكاوبوي(71).

عمي وهو يجذب السروال، حتى يعري على الحذاء ليمكنه من الظهور على الصورة، رحت أنا ألاحظ بدقة، فجذبني أكثر ذلك الخاتم وكان يلمع، عندما سألت عمي ماذا يعني الحرف B، انقبض وكره أن أسأله هذا السؤال أمام زوجته.

كنت أزور عمي فقط حتى أحفظ نمط هذه الألبسة فلا أتوه عنها، كنت أنتظر متى أنهي الدراسة، ثم أشتغل وأقبض فأشتري سروال قد الفيل، وحذاء طالو، ولم أكن أعلم أن هذه الموضة قد فات أوانها منذ سنوات، وقد ضحك عمي حين أخبرته بذلك.

لقد فاتتني الموضة وجاءت موضة أخرى، وأنا لا أزال أدرس وألبس أي شيء، أغطيه بمئزر حتى أسفل ركبتي، أما من يملكون الدراهم، فقد راحوا يتهافتون على شراء سراويل التْشُونْقَايْ (72) وسراويل الجينز، اشتقت كثيرا لبذلة التْشُونْقَايْ، وكان أول من تفنن في لبسها هو باباي الحوّات، حتى أنه افتك الأضواء عن الصينيين، حين سمي هذا التْشُونْقَايْ بسروال بَابَايْ كأنه هو الذي صنعه.!!

فاتتني هذه الموضة أيضا:
ـ اللعنة على هذا السلوك، كان على الناس أن يلبسوا أي شيء، كي يسترون عوراتهم وكفى..!
عادة سيئة راكمت في داخلي طبقات من الحرمان، كأنها جليد قد يئس من طلوع الشمس.!!

صاحبة المعطف الأحمر كانت تساير موضة النساء بشكل دقيق، غير أنها كانت متمسكة بلوني فلا تغيره، لست أدري لماذا، ربما لأنها تأبى أن تتنازل عن لهيبها، حتى تستمر تلفح الناس خصوصا أنا، كنت أشعر بجرح كبير، وهي تراني حبيس المئزر الأزرق، أخبئ تحته سروالا قديما لا أدري إلى أي تاريخ يعود، ولا أعرف الدولة التي صنعته، لأن كل الملامح والعلامات قد طُمست من فرط الغسيل، وحذاء تآكل بطنه واندثر طلاؤه، حتى ظهر لون جلده الأصلي..!:

ـ اللعنة على عواطفي، من الذي دفعها أن تحب جذوة، تحملها الريح من بيدر إلى بيدر فتحرق كلما أنبتت الأرض.؟!!

كانت تتجول في قلبي، تحرق دمي يوما بعد يوم، المضحك أنها جعلتني أحب كل شيء أحمر، حتى دمي فحين يسيل بعارض من العوارض ألحسه بشراهة جنونية. ويشك البعض في أنني يمكن أن أكون مجنونا، كنت غير متسامح مع نفسي أن أهين هذا اللون، وأرمه على الأرض فيدوسه الناس.. كنت أشعر كأنهم يدوسون روحي. أمي كانت عندما تصنع حلقات الفلفل الحار، وتعلقها على الجدار، كي تيبس وتحمر.. أخالها حينا تحضر حبل مشنقتي، وحينا لكأنها تعرف حكايتي مع هذا اللون فهي تحاصرني، وحينا آخر أشك أن الفلفل الأخضر وأنا أراه يحمر بسرعة، كأنه متآمر هو الآخر.. عندما يحمر طوق الفلفل أرسم داخله قلبي، أمي لم تكن تفهم شيئا طبعا.. ولذلك ترفع رأسها نحوي، ثم تعيده إلى جهة الموقد دون أن تقول شيئا. رضخت شيئا ما، واستعديت بأنفي أرتقب الرائحة، وكنت على خلاف الجميع أنتظر رائحة اللون، وليست رائحة المرق.. فقد كنت أشعر بجوع لا يستطيع أن يستوعبه أحد.

ولأول مرة أتأكد أن النار تحب أيضا هذا اللون، اكتشفت سر ارتباط تلك التي أحببتها باللون الأحمر، وأنا أرى ماء المرق يحمر والفلفل متمسك بلونه.. مع أنه حوّل مرق أمي إلى نكهة عظيمة، حتى توهمت أن معطفها هو فلفل الكون، وأننا لن نبرد من حرارته إلا عندما يصب الثلج، ولم يكن الثلج بعيدا فقد تراكم بين شفتيها وأصر أن لا يذوب، وكأنه يعلم حدة حرّ لون المعطف. وكنت أحْسي مرقها بشكل غريب وعجيب، ولا أبالي إن كان ساخنا، لأنه انحدر من ناري التي أحبها، ومتى أشاء ألعب عاريا فوق ثلجها فلا يؤلمني بردها، لأني مطمئن على خلاف كل الناس أن ثلجها محاط بنارها التي لا تنطفئ، وهكذا كنت أنا أول المؤمنين بين اخوتي بأن الكون مستمر بين نار وثلج، وبينهما ورد للشعر والخطيئة.!!

أصبت بهوس عظيم لبضع دقائق، فكرت في ألوان الألوية وعلاقتها بالحروب، فأخذني الشك في أصل ألوانها.. قلت:

ـ قطعا هذه الألوان كانت ألوان معاطف، أو فساتين كانت ترتديها نساء لهن علاقات عاطفية مع زعماء هذه الألوية.!!

ورأيت أيضا أن وجود أكثر من لون على الراية الواحدة، إنما يدل على معارضة داخلية، استطاعت أن تضيف لونا آخر، للون الذي أسس أول علاقة عاطفية منذ بدء الكون.. فسألت صاحبي:

ـ ماذا كانت تلبس حواء يا ترى..؟!

فتسرع ذلك الفطْفاطْ، أجابني إجابة تبيح فوضى معينة، وكان كلما نتكلم عن الألوان، يستهزئ ويعتبرنا متخلفين، كان يقول ـ دائما ـ بأسلوب ساخر:

ـ أنا ليس لدي مزاج معين.. فمرة أحب كل الألوان، ومرة أكرهها جميعا، ومرة أجد نفسي حبيسة محنطة، لا هي محبة ولا هي كارهة، وأحيانا كثيرة أكره نفسي، وأكره كل العالم، ولو كنت أملك أداة إبادة عملاقة، كالتي نراها في أفلام الخيال لأبدت البشرية جميعا، وتربعت على الكون كالقيصر العظيم، وأحطت من حولي كل متاع الدنيا، ورحت آمر وأنهى حتى وإن لم أجد من أحكمه..!!

كان بذلك يفسد شهية جلوسنا في مقهى الفرارة، كان يقلقني صراحة بهذا الحديث.. أعدت السؤال على صاحبي مرة أخرى:
ـ ماذا كانت تلبس حواء يا ترى..؟

فضحك صاحبي.. ثم قال:

ـ في البداية كانت لا تلبس شيئا، ثم غطت عورتها بغصن شجرة.

فاعتبرت أن بعض الدول لا تزال مخلصة لهذا اللون، وأن من أحب هذا استطاع أن يصمد فلم يضف لون صديقة إلى الراية، فقلت ربما هؤلاء الزعماء كان كل واحد يجلس وحده في المقهى، أو ربما يضعف من قوة مشاعر الآخرين غير أنني تعجبت لماذا هي متخلفة إذن، فقلت لأنهم عبثوا بسنة الكون حين تعدّدت حواء بألوان شتى، وبقوا هم حبيسي لون أمهم أو اللون الذي أحبه أبوهم آدم، وربما أحببت أنا اللون الأحمر لأنني لا أريد أن أخلو بأمي، وحتى يزهو أبي وتتفاخر أمي أنني رجل له شخصيته ولا أبدو مقلدا لأبي.

قلقت على لوني.. حوائي في الوقت الذي أعيشه، والهواء الذي أتنفسه، وعدت إلى النار ورفعت رايتي من جديد، تنازلت قليلا، لأنني استحضرت كل رايات العالم، فوجدت أغلبها يتكون من ثلاث ألوان، فاعتبرت أن ثلاثة فقط يمكن أن يكوّنوا دولة، إذا كانوا يحبون ألوانهم بإخلاص وصدق، حتى رحت أقترب من السبب الذي يجعل الزعماء يقدمون على الحروب بحجة الدفاع عن الألوان، فهم في الحقيقة يذودون عن نسائهم الضامرة في لون الرايات.

وأنا ذاهب صوب الموقد لأنقذ لوني من الاحتراق، شعرت أني زعيم أيضا..! أبعدت لون روحي، وذهبت على الفور إلى مقهى الفرارة، وأنا مقبل للجهة التي كان يجلس فيها صاحبيّ، انتابني غرور عظيم، بل تأكدت أنني بالفعل زعيم، حين رفع صاحبي رأسه وقال:

ـ ها هو جاء..!!
وزدت غرورا عندما قال لي أحدهما:
ـ عمرك طويلة.. كنا في التو نتحدث عنك..
فقلت لهما:
ـ الزعماء فقط.. هم الذين يتحدث الناس عنهم..
فرد أحدهما ويبدو أنه قد حسدني على الفرارة التي جاءني بها القهوجي لمجرد أن رآني مقبلا:
ـ كاشْ ما كاينْ زعامة قدّكْ..؟!

لكني لم أعبأ بما يقول، فقد كان خيالي بعيدا عن هذه السطحية من التفكير، فأنا كنت لا أزال منجذبا لتاريخ تشكل الألوية، وحكايتها مع الألوان، وعندما وجدتهما في انتظاري، اعتقدت أن دولة ما أخذت ملامحها تبرز، وبدأت ألوانها تجتمع لا ينقص إلا لوني، ولهذا اندفعت خطواتي متسارعة إلى الأمام وأنا ذاهب صوبهم.

الشيء الجديد المثير، أن ذلك الذي يغلب على لسانه الخطاب الديني تورط حديثا في حب جارته، وهو يقص علينا الحكاية، لم تكن لديه رغبة في استعمال كلمة أحببت، بل يقول رغبت، ولذلك لم نتفاعل نحن مع الحكاية، ولم نستمتع بها كما يجب، كنت أعقب عليه كل مرة:

ـ لا تقل رغبت، وقل أحببت فهي أحلى وأبلغ تعبيرا.
فيعتصر ويتشدّد، ويغضب شيئا ما:
ـ لا يجوز الحب إلاّ لله وحده..
غير أنه كان لا يخيفني كثيرا، فأمضي أواصل تعقيبي:
ـ الرغبة في الأكل، وفي النوم.. وفي شهوات كثيرة، فهل يمكن أن يكون ذلك الشعور الذي يتملكنا اتجاه المرأة، مجرد رغبة تضاف إلى سائر الرغبات الأخرى.؟!
فيقول وهو يمد يده نحوي، ويرج سبابته ويصوبها نحوي:
ـ (من تمنطق فقد تزندق..!).
فأتوقف وقد أثار في عقلي سؤالا:
ـ لماذا يخاف بعض المتدينين من المنطق..؟
كان يظن بصمتي هذا أنني انهزمت، فأضع يدي على كتفه بلطف:
ـ ولكنني يا صديقي سمعت في الحديث، أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول:(تحابوا.. تراحموا.) فأنظر أنه أمرنا أن نتحاب..
فتأمل يدي وهي موضوعة على كتفه، ثم قال لي:
ـ لا تقل يا صديقي بل قل يا أخي.
فأنزلت يدي وتوقفت عند هذا الحد، لأني لا أريد أن أبتعد عن الموضوع الأساسي، فقد كنت على وله بمعرف اللونين الباقيين كي نشكل دولتنا نحن الثلاثة.

لم أكشف لهما عن لوني من قبل، وما دمت جادا في الوصول إلى الراية التي ستجمع بيننا بشكل حقيقي كما هو حال الدول، كان لزاما علي أن أكشف لهما عن لوني، فرحت أشرح لهما سر ارتباطي بالنار، حتى وصلت إلى اللون الأحمر، فأخبرتهما أن هذا هو لون المعطف الذي ترتديه الفتاة التي أحبها.. فعقب صاحبي بشدة:

ـ قل أرغب فيها..

أزعجني كثيرا، لأنني تعودت أن أعطي للحكاية تعبيراتها الحقيقية، حتى أن البعض يعيب عليّ أني أستعمل في بعض الحكايات كلمات قبيحة. فأقول لهم:

ـ يا جماعة لست أنا من يقول هذا، إنها الحكاية هي التي كانت هكذا.

وكنت مقتنعا أن الموضوع لا يكون حلوا وممتعا في أذن من يسمعني،إلاّ إذا جاء بألفاظه الحقيقية، فكنت لا أترجم الكلمات العامية القبيحة إلى اللغة العربية الفصيحة، كما كان يطلب مني صاحبي المتدين مرارا، حتى أنني جربت ذلك، فوجدت نفسي كأنني أخطب في الناس، مع أنها تتوفر لدي رغبة أخرى، رغبة في سرد قصص بعض المواقف المضحكة، التي أصادفها حيث لا تغدو هذه النكت مضحكة إلا إذا وردت بتعبيرها الدارج.

صاحبي الذي غلبت على تعبيراته النزعة المادية، طأطأ رأسه ونظر إلى أسفل الطاولة، وكان يكسر عينه نحوي ويبتسم، لم أفهم ما يقصده.. أبطأت شيئا ما، فجعلته يرفع قدمه ويشمر على ساقه، تأكدت أنه يشير إلى لونه، ولكنني لم أتبين بعد، هل يقصد سواد الحذاء، أماخضرار الجوارب، فأشرت له بيدي أسأله من منهما، فوضع إصبعه على الجوارب.

صار لدولتنا لونان الآن. ضحكت كثيرا لأنه يبطئ كثيرا، وهو يرفس بقية السيجارة أسفل الطاولة، وكان يفعل ذلك مرارا، وأحيانا يتذرع بإعادة إحكام قفل حذائه، وأحيانا أخرى يدعي أنه ينفض سرواله، وكان يبالغ في ذلك. تراه كان يتحجج بذلك كي يتأمل لونه..!! وهويضحك قال لنا:

ـ كنتم تظنون أنني أجْرب، فأنا أعلم نواياكم الخبيثة..!

وأخبرنا أنه يريد أن يفتكها منه لون قرميدي، لون لا يصلح لأي راية، وبدا متوترا كثيرا..!!

عندما نظرت إلى لون جواربه، تذكرت زربية أمي التي جعلت خلفيتها من نفس اللون، وتمنيت أن لا يخرج لون صاحبي الآخر عن لون الإطار، كلون متبق من ألوان الزربية، وقد جعلت منه إطارا يحيط بالمساحة الخضراء التي توسطتها وردتي الحمراء، كنت أستعجل صاحبي المتبقي، كأن لدي رغبة أن أعلن زربية أمي راية حين جمعت بين ألواننا. رحت أجتهد كي أصل إلى صيغة نقاش بطريقة الزمالة والمزاح، وليس بالطريقة التي يفرضها هو، الطريقة التي تحتّم علينا أن نلم بالمصطلحات ودقة المسميات. أريد أن أعرف باختصار، وببساطة أي لون ألهمته جارته، أردت أن أعرف أي لون أحبه، من خلال ما تتردد على لبسه تلك التي أحبها، كما فعلنا نحن.. صمت كثيرا.. وانتظرنا نحن طويلا، وهذه مشكلته، بل هذا هو الفارق القبيح بيننا وبينه، وهذا ما يجعلنا نمل معظم حكاياته، فهو عندما يريد أن يحدثنا، لست أدري لماذا يخاف أن يخطئ، كأننا في امتحان أو مسابقة، فهو عندما يغطس في زراديب نفسه، ينهمك في البحث عن الكلمات والمصطلحات، وكأنه يخطط أن يقول كلاما مرتبا لا عوج فيه، وكنا على عكسه نحكي ما بدا لنا بعفوية، ولا يأبه أحدنا إن أخطأ أو أصاب، وبهذه الطريقة كنا نستلذ الحكايات، ونضحك ونمرح ونفرغ شحنة التعب والملل، وهكذا نغادر المقهى ونحن مستريحين مسترخيين، أما هو فكان على عكسنا تماما، فقد كان يغادر وهو منهك متعب.

الفطْفاطْ كان يزعجنا كثيرا بتدخلاته، فكان يشوش علينا كثيرا، ولكنه يصطدم مع صاحبي المتدين، وكانت صورة جميلة ونادرة.. يصمت كل الزبائن، لأن الصورة لا تتكرر كثيرا، الفطْفاطْ عندما يجدنا نتكلم في موضوع الألوان يضحك علينا، وأحيانا يعتبرنا متخلفين:

ـ خلّوكم من الألوان يا جماعة، شوفوا ماذا تخبئ هذه الألوان تحتها..

كان صاحبي المتدين أكثرنا انزعاجا، لأن الفطْفاطْ كان يستعمل كلمات قبيحة جدا، خاصة عندما يقول:

ـ واشْ من ألوان..؟ انْقبْ واهْربْ..!!

كان يكرّر هذا.. ولا يأبه به أهو متدين أم غير ذلك، ثم يفتح رجليه ويبرز بوسطه إلى الأمام قليلا.. يفتح ذراعيه، وهو يمسك الفنجان بيده اليسرى والسيجارة باليمنى:

ـ أنا ثاني متْديّن.. واشْ خاصْني..!؟

فكان شكل صاحبي المتدين مثيرا جدا وهو غاضب منفعل، وقد عود الجميع بكلامه الخافت من جهة، والفطْفاطْ الذي لا يستطيع أحد أن يوقفه عند حده، حتى محَّاد الصغير صاحب المقهى، وعندما يستهزأ بالسعدي الزُّهدي ويحتقره، فيرفع الزُّهدي يده إلى السماء يقول له الفطْفاطْ:

ـ (ديرْ عشْرة واقْرصْ..!!)

وكنا نحن منبهرين ونترقب متى تصيبه المصيبة، والغريب أنه يتفق مع صاحبي المتدين على هذا، لأن صاحبي لا يعترف أيضا بالزُّهديَّة، ويستشهد بالفطْفاطْ، حين لا يحدث له أي مكروه.. يقول لنا:

ـ لو أن هذا الدرويش مكشوف عنه الحجاب كما تعتقدون، لأصيب الفطْفاط بمصيبة عظيمة..

وكان يحب أن يحدث هذا للفطْفاطْ، فقد كان يحرجه كثيرا أمام الزبائن.. وعندما ينصرف هذا الفطْفاط إلى طاولة أخرى، يتمتم صاحبي وهو منقبض:

ـ .. كيْلو.. ما يحْشمْش..!

طيلة ثلاث جلسات كنت أحاول أن أعرف لون صاحبي المتدين، لكنه كان لا يجيب جوابا مباشرا، ويحاول كالعادة تأطير إجابته بدقة وانضباط، وهذا ما أكره.. كنت مضطرا لأصبر وأعاني، حتى أعرف لونه فدولتنا تتطلب الكثير من التأني والصبر والذكاء.. لا نزال ننتظر بداية الحكاية، القهوجي أقبل بصينية الفراير، وهو لا يزال صامتا، أحيانا أرى حركة ما على شفتيه، كأنه يراجع ما يريد أن يقول، وكان يلتفت ناحية القهوجي من حين لآخر، حتى أنني خفت أن يشاركني لون النار، فنخالف بذلك حضارة الاختلاف، فنعزل صاحبنا الآخر حين نشكل أغلبية، وبالضرورة يكون هو في موضع العزلة، فنُكوّنُ بذلك دولة براية شاذة مستعدة للحرب دائما، راية لا تذكرنا بالحلوى والربيع، والكريات الصغيرة الملونة، التي كانت تجمعنا في الطفولة، وتعلمنا أن نلعب دون أن نتصارع، فكنا نرسم خطا ونقف على محاذاته بانضباط، ثم نرمي الكريات ناحية الحفرة، لقد لعب ذلك الخط دورا كبيرا، فقد علمني كيف أحترم الآخرين، وعلمنا أيضا كيف نتقاسم الحظوظ، ونعيش بمعنى اللعبة، وليس بدافع حب الانتصار. لقد علَّمني ذلك الخط كيف أنطلق، وتمنيت لو يفعل السياسيون مثلنا، وكانت أمي توصيني أن لا أضع كريتي الحمراء في فمي.. تقول لي:

ـ سيسخر منك أصحابك.. يقولون أنك تأكل ألعابك..!

وتوصيني أيضا أن لا أضعها في جيبي تقول:

ـ ربما تظن أنها نقود فتشتري بها شيئا، فيعطيك من يساومك شيئا أقل منها قيمة.

وكانت تتحايل علي.. تخشى أن تُحدث تلك الكريات ثقوبا في جيب سروالي، لكنني كنت أتخيل كأنها تقول لي:

ـ لون رايتك لا يباع يا ولدي، ولا يُطرح للّعب..!!

 كانت توصيني أمي أن أحمل الكريات الملونة في يدي، وأحفظ ألوانها في قلبي، حتى لا أبلعها ولا أفقدها، وأن أحبها حبّا جما حتى لا أخسرها، وإن حدث ذلك فحبي يجعلني أعجل باسترجاعها، ولا زلت أتمنى أن يفعل السياسيون مثل ما توصيني به أمي..!!

حضور الفراير جعلني أعود من طفولتي، لكن صاحبي لا يزال صامتا.! دنونا نحن الثلاثة من بعضنا، وامتدت أيدينا كي يتناول كل منا فنجانه، صاحبي الذي لم نعرف بعد لونه، احتضن فنجانه بين راحتيه وضغط عليه قليلا، كأنه يمتص بيديه الدفء.! وكان يرفع عينيه نحونا كل مرة، أظنه تذكر أنه مطالب بالإجابة عن سؤال ما، كان صاحب اللون الأخضر مشدودا إليه، أما أنا فكانت عين إلى النار وعين إليه، لقد أتعبنا كثيرا وبدا الوضع مملا نوعا ما، فعلا هي مشكلة حقيقية، إذا كان يريد أن يحكي الحكاية باللغة العربية الفصحى، وبأسلوب ديني، لأنه لا يستطيع خلالها أن يعض على شفتيه، ويتأوه، ويتأحْأحْ، كما فعلنا نحن، لأن الحكاية بالشكل الذي يريده تتطلب الكثير من الوقار، وتجنب التعبيرات الجانبية المباشرة، وهو يعرف أن الحكاية لا تحلو في آذاننا بهذا النمط. يبدو أن المشكلة ليست عندنا هذه المرة، لأنه يعرف أننا تعودنا على أسلوب حكاياته، المشكلة هي أنه يشعر بلذة عامية في داخله، ولم يستطع مطابقتها مع المصطلحات الدينية، وقد نسي فوضع يده بين فخذيه وهو يستهل الحكاية، ثم استغفر الله حين انتبه لنفسه.!!

لم يكن سباقا للضحك في السابق، لكنه فعلها هذه المرة، وكانت ضحكة دارجة على غير العادة، لم أتضمّر منه.. ولم تقلقنيإطالته ولا تماطله كما كنت أشعر في السابق، بل اقتربت منه لأني أراه يتماثل للشفاء، أنا لم أكن أكره الدين كما يعتقد هو دائما، ولكنني كنت أكره الشباب الذين يطبقون عصمة الإمام وهم ليسوا بأئمة، وكثيرا ما يتحلون بوقار العلماء، وهم لا يجرؤون على كتابة أسماءهم بشكل صحيح، أفحمت أحدهم ذات يوم حين عقبت على تشدّده، فقال: التشدّد من سمات الرجل المؤمن. فقلت لماذا لا تتشدّد وتحفظ القرآن؟ تتشدد فقط بجسمك حتى تؤذي كتفي ونحن في الصف نصلّي؟!فضحك بعض ممن كانوا يسمعون هذا الحوار، أما هو فقد وقف لا يجد ماذا يقول..! صاحبي أكمل ضحكته الدارجة، وقد أسعدني بذلك كثيرا، ثم ضحكنا جميعا ضحكة دارجة حتى جذبنا انتباه الزبائن، ضحكنا لأنه بلع ما وضعه في فمه من مسحوق البن الذي تراكم أسفل الفرارة، ابتلعه بعفوية مطلقة لأنه اعتقدها فرارة وهو مرتبك كي يحكي لنا قصة لونه. ثم بدأ:

ـ أولا..

تراجعت مجدّدا شراهتي في السماع، لأنني أكره أن يكلمني أحد بخطة رسمية، فيقول:أولا، وثانيا، وأما بعد.. خصوصا ونحن في مقهى ولسنا في قاعة محاضرات، ثم نبدو نحن كالمنتبهين، المترقبين لأي امتحان مفاجئ.. كنت أعتقد أنه تماثل للشفاء.. كأنني قد ثرت من جديد:

ـ نحن في مقهى يا سيدي، نريد أن نرى التجربة في ملامحك ونحياها في عينيك، ونعيشها بحركاتك وعفويتك وليس بمهارتك في صناعة الحكاية..

في الحقيقة أحرجته كثيرا..!! لأنه توقف وراح يبحث عن بداية أخرى، وكي أعطي للجلسة نوعا من السماحة والفكاهة قبلت رأسه، في الحقيقة خشيت أن يغضب فينصرف دون أن أعرف لونه...

لقد حرك شفتيه.. إنه يوشك أن يتكلم، نظر ناحيتي ثم تراجع، رفع رأسه ناحية السقف، فاطمأنيت أن لونه مخالفا للوني ولون صاحبي، استبشرت باكتمال الراية، وفرحت كثيرا بدولتنا المتعددة الألوان، وعدت فانغمست في النار من جديد... ورحت في سريرتي أحدث مهجتي، أما هو فقد انهمك يشرح بأسلوبه المفضل:

ـ لونها موجود في كل مكان.. في الفضاء، في ألبسة الناس، لونها هو أصل الألوان جميعا، ولذلك تنزه أن يتواجد بين ألوان قوس قزح..

وظل يتكلم هكذا حتى أهملته شيئا فشيئا، وغصت في النار بكامل فكري وخيالي وعواطفي.. لدرجة أنني نسيت الفرارة، في حين صاحبي كان غاطسا في لونه هو الآخر، فصار صاحب لون قشّابيتي يتحدث وحده، لأنه لم يأخذ بنصيحتي، وراح يحكي تجربته العاطفية بطريقة المحاضرة، البعيدة عن العفوية التي تجعله يتآكل، وينصهر، ويتأثر، ويذوب، فيمكننا أن نفعل كل هذا معه، فلا يكون لديه الوقت كي يؤطر الموضوع ويرتبه وينظمه، لقد بدت الحكاية مفرغة من روحها، تصنّمتُ(73) أنا وصاحبي منتبهين، لا ينقص إلا أن نصفق أو نهتف، أو نخرج قصاصات أوراق وأقلام، حتى نكتب ملاحظات وأسئلة، كما يفعلون أثناء المحاضرات والندوات..!!

كان يزعجني كثيرا عندما يقول:

ـ ثم عدلت عن النظر إليها لأن ذلك حرام.!!

فأشك أنه كان ينظر إليها بأعضائه التناسلية وليس بقلبه.!! صراحة خفت كثيرا على دولتنا الفتية من هذا اللون، هو لون بريء يرمز إلى السلام والصفاء، ولكن خوفي من سوء فهم صاحبي، وقراءته القاصرة لهذا اللون.! لم يعجبني قوله: أن لونه هو أصل الألوان جميعا، وقوله أنه تنزه أن يكون بين ألوان قوس قزح.. ماذا يقصد.؟! عندما شعرت أنه يريد أن يكتسحنا ويهمل ألواننا أوقفته:

ـ لونك موجود بين ألوان قوس قزح، أنت الذي لا تراه.. كان عليك أن تفحص الألوان جيدا قبل أن تتحدث.

عندما وجدني أكلمه وأنا منغمس في النار، ثار وجذبني من كتفي:

ـ أنت شيوعي.. أو أنك من عُبّاد النار، لأن لا علاقة بين الحب وتأملك للنار..!!

ثم نصحني أن اذهب وأقيم في الهند..!! بدا الموضوع مضحكا لأنه كان يتكلم بصوت مسموع، حتى صمت كل الزبائن.. ثم توتر أكثر من اللاّزم، ولم يعد يعي ما يفعل، ثم عاود فأكل حثالة الفرارة التي رسبت في قاع الفنجان، وعندما شعر بالمرارة جذب حاوية السكر وملأ فمه فهدأ قليلا، ووضع شيئا من السكر في يده وراح يتأمله، نظر إليه قليلا.. وهو يستلذ نكته في حلْقه، أغمض عينيه كأني به ذهب إلى بعيد.. في هذه اللحظة شعرت أنه سيحكي الحكاية بصدق كبير، حتى أنه أنساني ناري ولوني، فتح عينيه وقال بتنهيدة كأنه قد سقاها بحلاوة من ذهب إليها بخياله، وليس بالسكر الذي في فمه:

ـ لوني كحلاوة وبياض هذا السكر..

كنت من البداية أريده أن يحكي بهذه الطريقة، لقد ذوّبني معه، حتى صرت أهتف من أعماق قلبي:

ـ الله أكبر.. الله أكبر..!!

لقد أدركت أن الراية بخير، وأن الدولة متينة لم تتصدع، ومن فرط إعجابي بوصفه للونه، أهديته قشّابيتي البيضاء، رأيت أنه بعد أن كشف عن لونه بهذه البلاغة، لم تعد تلزمني وصارت من حقه هو، ومن جهة أخرى خفت أن يَغار عن لونه وهو على ظهري، لا تضحكوا.. خشيت أن يمتطيني من شدة الشوق إلى لونه!! وربما يضربني فيفصل عنقي عن جسدي، عندما نزعتها ورميتها ناحيته راح يلبسها، فكأنه يلبس جارته صاحبة المنديل الأبيض..!!

عدنا إلى بيوتنا.. وفوق رؤوسنا ترفرف ألواننا كالفراشات.!! كنت أمشي منجذبا إلى كل لون أحمر، يصادفني في الطريق.. لا تضحكوا ثانية.. صرت أحب كثيرا سيارات المطافئ، ودكاكين الجزارة، وتوفرت لدي رغبة في تكاثرها، وامتدادها على طول شوارعالقرية، وصارت عيناي شديدة الحمرة من قلة النوم، عندما قلت ذلك لصاحبيّ في مقهى الفرارة ـ كنت أريد أن أضحكهما فقط ـ اتهماني بأني أنوي أن أكتسحهما، واعتبرا ذلك منافيا لتعدّدية الألوان، وأني أريد أن أكرس لونا واحدا وهو لون أحبه أنا.

يظنون أنني لا أعلم شيئا عن أسرارهما وما يدور في أخيلتهما. فهذا الذي بجانبي الكل يعرفه أنه كثير التعثر، لأنه يظل طوال النهار كالمشنوق ينظر إلى السماء، يتأمل السحاب الأبيض، ويكون حزينا إذا صفت السماء، وانجلى السحاب، لأنه لا يرى إلا زرقة، ولا يفرح ويسعد إلا إذا لبست الأرض ثوبا أبيض، غير أنه يظل مستمرا في السقوط والانزلاق، لأنه من فرحته يجري بطريقة بهلوانية على خلاف البشر، ومن شدة حبه لهذا اللون صار يحب كل شيء أبيض، حتى أنه حين يلبس العباءة يوم الجمعة إلا لأنها بيضاء، وكان كلما سمع بجنازة يسير وراءها، ولم يكن أحد يدري أنه كان يشيّع لونه ولا علاقة تربطه بالإنسان الذي توفى، وفي ذات الوقت يبدي شراهة كبيرة للزواج، فكنا نستغرب كيف يوفّق في أحاسيسه بين كفن الميت وثوب العروس، وكيف يقرأ اللون في الموقفين؟!!

أما صاحبي المتبقي فكان يمسك نفسه جيدا على الأرض، وكان ثابت الخطى، لأن عينيه لا تصدان عن جواربه، إلا أنه كان يتوه كثيرا، ولا يرد تحيات معارفه في الطريق، فهو يسير دائما مطأطأ الرأس، لا يهتم إلا بلونه، ويحسبه الناس مخلصا لتلك الأيديولوجية الخضراء، وكان يتظاهر أنه أكثرنا إثراء لها، وكان يساهم باجتهاد كبير في حملات التجشير، والاعتناء بالحقول والمساحات الخضراء، وكنت أعرف أنه لم يكن مخلصا في كل هذا، إنما فعل هذا إرضاء لروحه، وإشباعا لجوعه العاطفي من فرط شوقه لصاحبة القميص الأخضر.

عندما دخلت البيت كأن الجن قد تخطف عقلي، لأني لم أر الزربية في مكانها، ورأيت أبي وأمي يستعيدان حكاية ما، كأنهما قد قام بزيارة مهمة خاطفة، فأمي لم تنزع نقابها بعد، وكذلك أبي كان يمدّد ركبتيه ناحية أمي، وقد ثنى رجليه إلى الوراء دون أن ينزع حذاءه. كانا يدعوان معا أن يتحقق الأمر الذي كانا قد خرجا من أجله، لم يكن لدي الوقت كالعادة للبحث في سر هذه القعدة، بل انحنيت بدهشة فائقة نحو أمي:

ـ أمي ماذا فعلت بالزربية..؟!!

أبي انزعج كثيرا، لأنه كان يرى أن لا دخل للأطفال في شؤون الكبار. كان يرى أيضا أنه من المفروض أن انصرف، ليقينه في احتمال تطور الموقف بينه وبين أمي، فقد رأيته ينفتح بركبتيه بين ركبتيها، وكانت أمي مرتبكة قليلا، لا تكاد تجمع بين ما يفعله أبي وبين الرد على سؤالي. أمي تباطأت بنزع نقابها، كانت تريده أن يراها كاللائى يصادفهن أبي في وسط المدينة، كانت أمي مغرية جدا وهي منقَّبة، وعندما ضحكت من وراء النقاب، ولم تعد تظهر تلك الفجوة بين أضراسها التي تشبه شارع المنكوبين..! أضرمت النار فينفس أبي، وكان ينتظر متى أخرج، لكن عندما ذهبت، وارتكنت في مكان الزربية غضب أبي، وصرخ في وجهي:

ـ يا طفلْ أخرج للْبرْ..!!

كنت في البيت.. ودون الوردة الحمراء كأنني في البر والعراء! شعور يخالف شعور أبي تماما، وقد التمست رغبته في الغطس، وهي سباحة سرية بين البحر والعوام، وأنا ابن العوام وقد فقدت بحري.. لقد أطلت التأمل كثيرا، رأيت في أبي أنا، وفي أمي صاحبة المعطف الأحمر..!! ارتجت كل أعضائي، عندما صرخ أبي ثانية بصوت أعلى:

ـ يا فرْخْ أخرجْ.. امْشي طيرْ(74)..!!

رحت أتمتم صوب الباب:

ـ كيف للفرخ أن يطير يا عقاب.؟!!

قد يكون أبي وصفني بالدروشة عندما لاحظ تثاقل خطواتي، حينما جذبت الباب خلفي، سمعت أن البحر قد هاج، وسمعت أيضا أن الباب قد أصابه شيء ما، فأحدث صوتا من الداخل، لا بُدَّ أن العوام قد نزع حذاءه ورماه اتجاه الباب، فأصابه أو أصابني لست أدري.!!

رغم أن الوقت لم يكن مناسبا للذهاب إلى مقهى الفرارة إلا أنني فعلت ذلك، كأن هذا المقهى بيتي الثاني، جلست في زاويتي، وأحاطت بي النيران من كل جانب، نار المدخنة أتدفأ منها ولي فيها مآرب أخرى، ونار في مخيلتي تحركني تدفعني للحياة، ونار في صدري تلتهب، تريد أن تعرف أين اختفت الزربية، تملكني هوس كبير عن مصيرها، وكيف يمكن أن أعود ولم يعد هناك ما يذكرني بلوني، أمضيت ساعتين في المقهى، وكان لابد أن أعود مبكرا إلى البيت، حتى أعرف أين ذهبت الزربية، لكنني كنت أتثاقل وأتباطأ، حتى تنطفئ النار التي اشتعلت هناك بين أبي وأمي.. زدت في السرعة قليلا، لأني التقيت أبي في الطريق، ولم تكن مشيته معتدلة..! كان وجهي يرتعش من البرد، لكن أبي كان وجهه محمرا ودافئا، يسير وكأن جسده معتصرا، كأنه كان تحت طائل قوة ضاغطة لم تخل سبيله حتى امتصته.. اقترب مني ورثى لحالي، وشعرت أن ضميره يؤنبه، مسح على رأسي ووعدني ببعض الدراهم.. قال لي:

ـ ذكرني بذلك رأس الشهر القادم..

وأمرني أن أعود إلى البيت، ولا أخرج أبدا، لكأنه أكد لي ما حدث بينه وبين أمي، ولو أنه تجاهلني في الطريق، ومر كأن لم يراني لكان خيرا له، إنه لا يزال يعتبرني صغيرا وليست لدي القدرة أن أفهم وأستنتج. أنا أيضا أخطأت عندما بدت على شفتي ابتسامة، تأكد أبي من خلالها أنني أعرف كل شيء، وجعلته يتراجع عن شفقته بي، فصرخ في وجهي مرة أخرى:

ـ أمْشي طيْر للدّارْ.. ياخي بزْ(75)..!!

أعترف أن أبي لم يكن مخطئا، ما ضرني لو ظهرت بمظهر البزّ على رأيه، على الأقل لا أفقد غنيمتي من الحرب التي اشتعلت منذ قليل، والتي شاركت فيها بقرار الانسحاب وعدم التدخل، كما تفعل الدول بحجة احترام السيادة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لأي تجمع لذيذ.!! فظهوري بمظهر الكبير العارف الفاهم، جعل أبي يشعر بالقلق على إمكانية تكرار هذه الاجتماعات، ها قد جعلت أبي يستعمل حقه في ربوبية العائلة، ويحرمني من مكاسبي.. كما تفعل أمريكا عندما تحاصر أي زعيم يدعي أنه كبير ويفهم، أكملت سيري وأنا أشعر كأنني في حصار، وشعرت بالحرمان أكثر عندما عاد أبي، وراح يقرّب اخوتي منه، مع أن فيهم من هو أكبر مني ويفهم كل ّشيء، فقط أنه يمتلك قدرة خرافية أن لا يبدو أمام أبي كما اخترت أن أبدو أنا، حتى أنا لم أكن قبيحا، ظننت أن أبي سيزهو حين أبرهن له أنني كبير، وأنها توفرت لدي من الرغبة ما توفرت لديه، حتى يفكر بجدية في أمر زواجي، أردت أن أعبر له أنني صرت زعيما مثله، من المفروض أن هذا يفرحه، كنت أشعر أن هذا أمرا طبيعيا فلماذا يحاصرني، وتفعل أمي هذا أيضا، كان علي أن أعرف أن ضيق الغرفتين هو ما فرض على الجميع تلك البلاهة والغباء، لم أكن أعرف أنها ثقافة فرضها ضيق المكان وضنك العيش، ولا تتطلب سعة انفتاح وحضور، كالأسلوب الذي انتهجته أنا..!!

لم أكن أعرف أنني حين ألمح لأبي أنني أفهم، سأحرم أمي من بعض الفرص التي تخلو فيها بأبي، وكانت قليلة جدا أمام ضيق الغرفتين، وحرية أبي المفرطة خارج البيت، فقد كان من أولئك الذي يهرعون وراء القُنْبُزْ (76)، لا أنكر أنه كان شهيا جدا ومؤثرا بقوة على النفوس، كان بالفعل ملهبا للغرائز.. لا يستطيع أحد أن يمسك نفسه، عندما تحيط الصغيرة كامل جسدها بالملحفة البيضاء، لا تترك إلا عينا واحدة، فتبدو كأنها لا تتوقف عن الغمز، وكي لا تنسدل الملحفة عن رأسها تشدها بفمها، حتى يبرز أحمر الشفاه خارج بياض الملحفة، فتصبح حمرة شفتيها وسواد عينها كأنهما دخان ونار، تسير وهي ترفع الملحفة قليلا عن ساقها، فكأنه عمق آخر يعبر عن غاية لما بعد النار، مشكلتي أنني أتوقف دائما عند اللون الأحمر، ولا أتجاوزه لأنه دائما لون معطفها. كنت على عكس أبي، فقد كان منقّبا ماهرا عن مصدر الدخان والنار، أحيانا تراودني فكرة بأن أصير كأبي، ولكن هناك رومانسية تتغلغل في روحي، لا أدري من أين اكتسبتها..!! كنت أتساءل دائما:

ـ هل هذه خلقة قد فُطرت عليها، أم أنني اكتسبتها حين نزحت إلى قراءة الشعر والقصص العاطفية المثيرة كعنترة العبسي، وجميل، ومجنون ليلى، وروميو..

وصلت الآن إلى البيت.. أمي وضعت حولها كومة الغسيل من جهة، وقصعة العجين من جهة أخرى، وكانت تسند ظهرا وتتوجع، كأنها تريد أن توهمني أن الذي أصابها من فرط الشغل..!! جاءتني بقطعة خبز بائتة وقليل من القهوة، كان نفس الشعور الذي شعر به أبي قبل أن أغضبه..!! لكن لم أبتسم من مظهر أمي هذه المرة، وتظاهرت أني لم أفهم شيئا، كنت بالفعل بَزْ، ولهذا حضنتني وقبلت رأسي، وكي أبدو أمامها أبلها غبيا أكثر من هذا قلت لها:

ـ أشفقي على نفسك يا أمي، هذا الشغل الذي تضعينه بين يديك ينهك كواهل أربعة نساء..!

ونصحتها أن تخفي منه شيئا قلت لها:

ـ حتى لا يفكر أبي في الزواج عليك بحجة الشفقة..

حتى اعتقدت أمي أنني جاد في النصيحة، فأخفت قصعة العجين، وأبقت على كومة الغسيل، واستطعت أن أكبت البسمة التي حامت حول شفتي، وهي تعصر ثوبا بيدها تذكرت أبي وحالته التي توسم بها وهو يمر بجانبي..!!

ـ اطمئني.. لن يجد من تفوقك مهارة في الغسل والعصير ونسج الزرابي.. أمي ماذا فعلت بالزربية؟ إني لم أعد أراها في مكانها.!

أمي غضبت واعتبرت أن هذا موضوع لا علاقة لها به، وأنه شأن من شؤون الكبار، عذرتها لأنها لا تعرف أنني أسأل في الحقيقة عن الوردة الحمراء وليس عن الزربية.!! ثم غضبها لا يكمن في السؤال، ولكن يكمن في خوفها من أن يترتب عن إجابتها كشف سر ما، قد تكون تعهدت لأبي بأن لا تفشيه لأحد، ولم أكن أنا ـ طبعا ـ ذلك الأحد، فهم يخشون أن يتسرب السر عبر الأولاد إلى الجيران، كنت أرى أنهم محقين في ذلك، وأشهد أن الخَرُّوبي عيْنِينْ بَالاَلَهْ (77) عندما عاودت الخروج، قد سألني عما كان يخبئ أبي تحت جناح برنسه.. فأجبته:

ـ لا أعلم.

اللعنة عليه كان دائما يشير إلي بيده، وهو جالس عند الحائط، فأذهب إليه جريا، أظنه يناديني لأجل شيء مهم، فلا يسألني إلا هذا السؤال.. ظل يفعل هذا حتى صرت أرفض أن أذهب إليه، ومن شدة غيظه، اشتكاني لأبي قال له:

ـ إن ولدك تنقصه تربية، إذ أنني أناديه لقضاء حاجة ما، فيمتنع عن المجيء إلي.
صرخ أبي في وجهي، وجذب أذني:
ـ يجب أن تطيع الكبار..!!
ـ اللعنة على الخَرُّوبي عيْنِينْ بَالاَلَهْ، فقد بهتني عند أبي.
أمي قامت في ثورة متواضعة جدا:
ـ هذا الشيخ اللعين يجلس دائما عند الحائط لا يفارقه أبدا، وينادي كل مرة طفلا، لا ندري لماذا يفعل هذا..؟!
أبي تأكد أن أمي تطلّ أحيانا، وتراقب ما يحدث في الشارع، مع أنه يحرم عليها أن تفعل هذا.. غضب وضربها.!!
ـ اللعنة على الخَرُّوبي عيْنِينْ بَالاَلَهْ، لقد تسبب في حدوث فتنة كبيرة بين أمي وأبي، وأظنه يفعل هذا في كل بيت..!!

وهذا ما دل عليه سلوك غريب، استطاع أن ينتهجه بعض أطفال الشارع، فقد رجموه بالحجارة ذات يوم.. وسعدت بهذا طبعا، ولكن دون أن أشاركهم، غير أنني شمت في الخَرُّوبي عيْنِينْ بَالاَلَهْ، وتمنيت أن يغادر ذلك الحائط الذي اختاره مناسبا ليترصد كل الأبواب، ولكن رغم ما فعله به الأطفال ظل قابعا تحت هذا الجدار، حتى شك الناس في أنه قد يكون أوصى بأن يدفن تحته، ظلّ الخَرُّوبي عيْنِينْ بَالاَلَهْ كالشبح لا يفارق مكانه، يشهد كل حادث، وكل طارئ ينشب في الشارع، وكان يمنعنا من اللعب في الساحة، ويطردنا إلى أمكنة بعيدة، وبخنجره الذي يخفيه في جيبه الداخلي، ويشده بخيط حتى لا يضيع، استطاع أن يمزق خمسين كرة على مدى بقائه هنا، منذ أن عجز عن مغادرة الحي، وكان الجيران كلهم يعطونه الحق، ومن بينهم أبي، يعطيه الحق على أنه شيخ مسكين ونحن شياطين..! ولذلك أمي تطوف بإناء البخور، ثم تضعه عند الباب الخارجي، وتنفخ ناحية الخَرُّوبي عيْنِينْ بَالاَلَهْ، تريد أن يصل الدخان إليه، حتى تعمي بصيرته، فلا يستطيع أن يري أحدا..!

ـ اللعنة على الخَرُّوبي عيْنِينْ بَالاَلَهْ..، قد يكون السبب في اختفاء الزربية.. زوجته اللعينة حدثته عنها، عندما حضرت لتشهد يوم القلع!

كانت أمي تقولها كل يوم.. تقول:

ـ كان علي أن أسمح لكل النساء بالدخول، إلا تلك القهْروب النارية(78)..!!

قررت أن لا ألح بالسؤال عن الزربية طالما الموضوع يغضب أمي كثيرا. أمي لم تكن ذكية كثيرا، كان بإمكانها أن تعدني بنسج زربية أخرى في الأيام القادمة، تكفي هذه الإجابة لأكف عن السؤال نهائيا، فالتجاهل والغضب لا فائدة منهما، وأنا الذي فقدت وردتي الحمراء في مدينة ضيقة الشوارع، طويلة كالأفاعي تبلع كل شيء جميل..

ـ اللعنة على الخَرُّوبي عيْنِينْ بَالاَلَهْ، لقد أصابها بعينه، ولم يفد بخور أمي وتعويذها بشيء..!!
وكنت أسأل نفسي كلما يتملكني الحنين:
ـ ترى أي بيت تركن فيه.؟ وأي جثة تنام عليها..؟!!
أمي عندما سألتني عن القشّابية، أخبرتها أنني أهديتها لصاحبي، غضبت وصرخت في وجهي:
ـ أهديتها هي الأخرى؟
لقد تورطت أمي فكأنها قد أخبرتني بما فعلت بالزربية.. وضعت يدها على فهما، فقد كانت تخاف أبي كثيرا.
شرعت في نصب السَّدَّاية (79)، قالت:
ـ سأنسج لك قشابية أخرى، مقابل أن لا تكثر الكلام حول الزربية.
ثم همست في أذني:
ـ لقد تقربنا بها هدية لدى مصالح الإسكان..
ضربت بيدها على ركبتها:
ـ شَاهْيِِِِِِِِِِِِيِِِنْ نتْفَكُّوا (80) من هذا الدار الضيقة..!
طلبت منها أن تنسج زربية أخرى فرفضت، قالت:
ـ الزربية لا تُنسج إلا في فصل الصيف، حتى يتسع الوقت لها، فهي متعبة وشاقة.

عندما وعدتني بذلك في الصيف القادم، فرحت بمشروع قشَّابيتي الجديدة، لكنني طلبت منها أن يكون لونها بنيا هذه المرة.. وقد وافقت.

حين خرجت راودتني قناعة، أنني لن أرى الزربية مرة أخرى.. كان ينتابني البكاء، فألجأ إلى إخراج صورة الوردة المتواضعة جدا، لم يكن يهمني فيها إلا اللون، ولم تكن كبيرة بالقدر الذي يذكرني بالزربية.. كنت أعاني كثيرا.. إلى هذه الدرجة كانت الزربية مؤنسة لروحي، ولصيقة بجوارحي، أمي لاحظت ارتباكي وضيق نفسي، عندما اختفت الزربية..!! جُننت أكثر عندما أخذنا عطلة الصيف، ولم تعد صاحبة المعطف الأحمر تدق الباب كي ترافق أختي إلى المدرسة:

ـ ما أطول أيام الصيف ولياليه..!!
كنت الوحيد الذي يكره العطل، ولأن رفاقي يجهلون السبب، يعتقدون أن ذلك لحبي الشديد للعلم، حتى أن أحدا دفعني ذات يوم حتى كدت أسقط:
ـ تلْعبْ فيها قرّايْ كْبيرْ..!!
ولم أخبرهم بالسبب مخافة أن يتخذوا الأمر سخرية، حين أكشف لهم عن كبدي، فألفت من حولها العيون وأُكثر في سيرتها الكلام، ورحت أؤكد له:
ـ إيهْ.. أنا قرّايْ كْبيرْ..!

ثم نفترق دون أن ينتبه أحد لما أخبؤه وراء كراهيتي الشديدة للعطلة. وأعتبر ذلك ذكاء وصبرا، لأنني رأيت الكثير من رفاقي يكشفون عن من يرغبون فيهن ببساطة، كأنما يحكون ما أكلوا في عشاء البارحة، وأستغرب حين يتطلعون إلى العطل دون خوف من فراق من يحبون، كنت أفتخر بعاطفتي كثيرا، وأعتبرها أصدق من كل عواطفهم، رغم ما يبدو على سلوكي من حشمة، وخجل، وارتباك، كنت متعبا كثيرا لأنني أشعر بحالة كبت عظيمة، لا يبدو ذلك عند رفاقي، فقد كانوا يحتكون بالبنات بشكل أراه رهيبا، وكنت أمنع نفسي أن اقترب من أي فتاة، أو يفوتني طرف عيني.. وبدقة أكثر كنت أحرم أن يهفو قلبي إلى غير صاحبة المعطف الأحمر، رغم أن صاحبي المتدين كل مرة يقنعني أن النظرة الأولى لي والثانية علي، فكنت أعتبره فاسقا، وأردد هذا في زراديب نفسي، لأني أخاف كثيرا من المتدينين، إلا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات.! أنا لست جبانا، ولكن الخوف انفعال طبيعي تتعارف عليه كل المخلوقات، كما كان جدي يقول:

ـ (الّلي خاف سلم والّلي سلم سعدت أيامه!).

هكذا كنت جادا مع كل النصائح والمواعظ، لدرجة أنني أعترف بسهولة عن أخطائي لأبي ومعلمي، ولكل من أعتبرهم أعمامي من جيراني والعابرين، حتى أنني آخذ صفعة على رأسي إثر كل اعتراف، مشكلتي أنني وعيت الدرس جيدا، حين ضرب المعلم سطح مكتبه، وقال:

ـ (.. قل الحق ولو كان مرا..)

فعرفت فيما بعد لماذا الزعماء والأبطال يعذبون، ثم يُزجّون في السجون. وعرفت أيضا لماذا هي الحياة مُرّة في أفواه الطيبين.
كنت متعبا كثيرا على خلاف رفاقي، وكنت سعيدا بذلك الكبت الذي يحرق نفسي، لأني قرأت أيضا أن (..من الحب ما قتل!!)، فصرت استعد للموت كلما شعرت بتلك الحرقة التي تذهب عني راحتي ونومي، وتسبب لي أرقا كبيرا، وكأنني أشعر أني سأكون محظوظا بهذه الموت، وكان عبد الحليم حافظ ينادي كزعيم لثورة الحب:

ـ (يا ولدي..
قد مات شهيدا،
من مات فداء للمحبوب..
من مات فداء للمحبوب.. للمحبوب.. للمحبوب.. للمحبوب.. للمحبوب..).

كنت أشعر كأنني ولده، وفي الوقت الذي كنت أنتظر متى أموت، كان رفاق هذا الجهاد يستهلكون المواقف، ويستثمرون اللقاءات عبثا وتلذّذا، وأراهم يستبدلون الرفيقات كما يستبدلون أثوابهم، فأدركت لماذا تفشل الثورات من جراء الخيانة، فتتهاوى الدول ويُغدر بالزعماء، فاكتشفت أن الكون يمكن أن يتهاوى إذا فسد الحب، وتخللته خيانة، وبهذا أيضا عرفت لماذابدأ الله نشأ الخلف بزوجين اثنين، وليس بأزواج كثيرة، لأن الحب ينمو بطيئا ولكنه لا يفنى، بخلاف الخيانة تنمو سريعا ولكنها تموت بعد ليل وشهوة، ولهذا أنا صابر أريد أن ينمو حبي بطيئا،لا أخفي كانت غريزتي تتحرك بجميع تفاصيلها، للدرجة التي ألعن فيها الشعر، والورد، والوفاء.. ولكن سرعان ما أستغفر، وأعتبر هذا همسا من الشيطان، ثم تتراجع نفسي عن انتصابها، وأعود لأتخيل لوني وأنتظر موتي..

أقسم أنني لم أحاول مرة كي أفحص ما تكتنزه صاحبة المعطف الأحمر، لأني كنت أعتبر أن المسألة في هذه المرحلة روحية، أما مسألة الجسد فهي مؤجلة حتى الفراش الرسمي، كنت لا أكتفي في هذه الآونة إلا بعينيها وشعرها، وحزنت حزنا شديدا ذات برد وصقيع، عندما قصت شعرها على نمط قصة الأولاد. بلغني أنها قصته في بيتها، لأن قاعات الحلاقة لم تكن متوفرة ذلك الوقت، استعطت أن أحصل على بعض من خصلات شعرها، عندما بكرت وسبقت شاحنة النظافة، وتمكنت من الزواج بشعرها دون مهر يذكر، غير أنني أشعر أنني لم أحصل إلا على بعض من دخانها، لأن ناري لا تزال تلتهب، ولا تزال تنبت دخانا آخر. أترك غنيمتي من الدخان البارد، ثم أعود كي أتأمل دخانها الساخن، وأنظر إلى عينيها، أكتفي بذلك وإن نزلت قليلا فلا أتجاوز شفتيها، كنت مصرا أن لا أنتهك أنوثتها مبكرا، ولو بمجرد استراق النظر من بعيد، ولا أبيح لنفسي عن بعد أو عن قرب التمتع بالفروق التي بيني وبينها. ولهذا كنت أرتبك، ولو كان الخطاب خطاب جسد، لما بدا علي هذا، لأن الأجساد لا تخجل من بعضها.. ولا يترتب عن تلاصقها أو انفصالها أي عذاب أو معانات، لأنها متشابهة، ومتواجدة في كل مكان.. هكذا كنت ألاحظ رفاقي العابثين. أما أنا فقد اخترت أن أقحم روحي في هذه المعركة العاطفية الخطرة.. وعبد الحليم لا يزال ينادي بأعلى ألحانه:

ـ (يا ولدي..
قد مات شهيدا يا ولدي..
من مات فداء للمحبوب..
من مات فداء للمحبوب.. للمحبوب.. للمحبوب.. للمحبوب..).

كنت أردّد هذا لبعض رفقائي، حتى أن ذلك الفطفاطْ هوى بطوله صوبي، وقال في سخرية كبيرة أضحكت كل المحيطين بنا من بنات وبنين:

ـ (واشْ مازالْ راكْ حيْ..!!)

وبعد أن أيقنت أن (من الحب ما قتل..!)، عرفت أن من الحب ما يجنّن أيضا، وذلك عندما حجزت ديوان قيس بن الملوح في نادي المعلمين، كنت أهرول صباحا أو مساء، أخاف أن يسبقني إليه أحد، أطلب الشاي وأضعه على الطاولة، ثم أحيطه بذراعي، وعندما أشبك أصابعي، أصنع دائر حوله ثم أهوي بقلبي، فكأنني أهوي على صحن من عسل، أذكر أن ريقي يسبقني قبل أن أفتح دفتي الديوان.

كنت أضع ريشة مصبوغة باللون الأحمر، عند كل قصيدة أتوقف عندها، فأُقبل على الديوان بلهفتين.. لهفتي وأنا أبحث عن الريشة الحمراء، ولهفتي وأنا أود أن أصل سريعا إلى القصيدةالتي توقفت عندها البارحة. ولذلك لم أستغرب حين كان يسيل ريق كثير على الصفحة، وأظل أمسحه بكم قميصي، وأنظر خلسة لعل من يراني.!

كان كلما يزداد خوفي من الموت والجنون، يزداد تعلقي بصاحبة المعطف الأحمر.. وكلما تمر بشارعنا، تزداد لذتي بهذه الموت ومتعتي بهذا الجنون.

كنت أنا أيضا نارا في نظر بعض البنات، كن يقتربن مني لأجل أن يتفحمن هن الأخريات كأي حطب يابس، وكان جسدي بما يتوفر من مميزات ظاهرة وخفية لا يستجيب، لأني عودته أن يستجيب فقط لشهوات لا تستدعي الكشف عن عورتي، إلا ما يتطلبه دخولي إلى المرحاض، كعادة سرية يتفق عليها كل المتوضئين..!!

الرفقاء عندما يرون الأخريات تقتربن مني، ولا أبدي أي نوع من القابلية، يضحكون ويقولون عليّ حين يهمزون:

ـ ما فيهشْ..!
فأقول لهم:
ـ لا أحد يستطيع أن يصل إلى مستوى عاطفتي، علاقاتكم لا تتعدى هذا البلاط..!

أذكر أن كل الفتيات اللائى تحدثت معهن، لم يفهمنني ولم يصلن إلى الغاية من علاقتي السماوية الصوفية بالمرأة. كل فتاة تكلمني، وعندما لا أمكنها من الوصول إلى جسدي وأعضائي.. تقول لصديقاتها:

ـ إنه معلّب.. معقد.. نفسه ميتة.. ما فيهش!!

أذكر أن واحدة منهن أفزعتني حين جلست، ووضعت رجلا فوق رجل، وقد جعل فستانها ينحدر نحو وسطها، حتى تعرّى شيء داخلي وكان لونه أحمر.. قمت بفزع شديد، وسرت بخطوتين إلى الوراء:

ـ هذا انحدار أخلاق، وتسيب قيم.. وانهيار مبادئ..!

كنت أشبه الإمام في وقفتي تلك، قامت هي مرتبكة وخشيت أن يكون قد سمعني أحد، لم أنو بهجومي عليها دفاعا عن الأخلاق كما اعتقدت، فقد كان غرضي أن أُسمع صاحبة المعطف الأحمر، حتى تتأكد أني متمسك بها. ومن جهة أخرى كرهت أن أرى لوني في ذلك المكان، وأنا لا أزال أركب هودج روحي، اعتبرت هذا انحطاط لمشاعري. وبعد أن كنت لا أربط هذا اللون إلا بالقصائد والقصص والروايات، عرفت في هذه اللحظة أنه يخفي أيضا شيئا آخر غير القلب والكبد، مكان له علاقة كبيرة بالغريزة والشهوة، شيء مرتبط بجوع آخر.. جوع غير جوع الخبز، جوع جعلني أتفقد نفسي لأكتشف أني نحيل جدا رغم بدانة جسدي، وحينها أيضا عرفت أن في الوجود أشياء كثيرة شهية جدا، أشهى من اللحم المحمر، ولكن لذتها تمضغ بنمط مختلف وتبلع بحس آخر.. المهم تأكدت أن في المرء بطن ضامرة، بطن تتحسس غذاءها، ولا تتلمسه كالبطن الظاهرة، فأوحت لي المعنى أن الرجل والمرأة آكل ومأكول، وأن كلا منهما يجوع بغياب الآخر، جئتكم للمعنى الذي أريد أن أطلعكم عليه، عندما رأيت لوني بين فخذيها شعرت أني في مجاعة منذ سنين طويلة، وأن زملائي يعيشون تخمة وفائضا كبيرا، كما هو حال المستوى المعيشي بين الدول الغنية والدول النامية، فأعتبرت أني دولة نامية جنسيا، وأن ما اطلعت عليه بداية نضج، وملامح أولية كي أفكر في التنقيب عن خيراتي وثرواتي في صاحبة المعطف الأحمر، ولكنني تعهدت أن أنقب عن خيراتي بنفسي، ولا أفعل كما تفعل الدول الغربية، في طرح ألوانها بين يدي دول الغرب بحجة التعاون، فقد علمني أبي كيف أمارس ربوبيتي على أشيائي.. كنت أحدث نفسي، في حين تلك التي رفضت أن أنقب عن ثرواتها تسير صوب زميلاتها، وكنت أتأمل مؤخرتها وكانت تحمل ما تحمل..تشوه خيالي كثيرا.! عندما وصلت إلى حيث تجلس صديقاتها، وشوشتهن من بعيد تدل دلالة واضحة أنهن يقصدنني، وحسب الضحكة الجماعية التي سمعتها، بالتأكيد قالت لهن:

ـ .. إنه معقد.. معلب.. مريض.. ما فيهش!!.

أما الرفقاء الذين كانوا يراقبون تطور الموقف، فأنا على يقين بما قالوه، لأن أحدهم كان يقولها صراحة، كلما أغوص في شرح تجربتي العاطفية، فأكلمهم عن المشاعر الحقيقية، وصدق العاطفة.. ثم أنساب في الحديث، حتى أجد نفسي قد ثرت قليلا، فأنصحهم بعدم الاستجابة للشهوات المادية المنقطعة عن الروح.. باختصار قلت لهم:

ـ لا يجب أن تكون علاقة الرجل بالمرأة، علاقة ذكر بأنثى فقط.
ويغضبني ذاك الفطْفاطْ المارد حين يقاطعني:

ـ لا تتْفلسفْ علينا.. قل ما فيكشْ(81) وخلاص..!!

وعندما يحرجني ويشوش أفكاري، ولا أجد ما أقول، تبدو على وجهي حمرة ويطرأ اختلاج على شفتي، وبعصبية أرد عليه:

ـ انبطح وابرك تحتي وسأريك..!!

ضحك الجميع ورغبوا في مجالستي، وكان يسعدهم أن أتكلم بهذا المستوى، أما أنا فلا رغبة لدي في هذا الانحدار، لأنه يشوش علي نظرتي للحياة، كنت في موقف المضطر فقط، فذاك المارق لا يفهم إلا بهذا الأسلوب.. لكن صاحبي المتدين قام وبحركة فنية كبيرة، كنا لا نراها إلا في الأفلام الدينية، رفع يده مفتوحة ثم انحنى قليلا:

ـ السلام عليكم..

ثم انصرف...

تعودت أن أستعيد أنفاسي، وأن أتمتع باسترخائي في مقهى الفرارة، فالألوان مصرة أن تلتقي هناك، رغم الفرق الشاسع بينها، لكن الذي يجمع بينها شيء أعظم من مجرد الفرق، إنه العمق الذي يربطنا بحب كبير متجانس، لأننا نتشابه في طموحنا، أن يشعر كل واحد منا أن لونه كالحياة، يتنفسه بين جنبيه كل حين، تشابهنا في أن يرى كل واحد منا لونه يتعالى فوق الأشياء والمواضيع.

في صباح مثلج رأيت أغلب إشارات المرور حمراء، فاكتشفت أن لوني متوقدا دائما.. لحظتها قلت لهما:

ـ إن السير الآمن تصنعه هذه الإشارات الصامتة، كما دفء الكلام يصنعه اللسان الطيب..

كنت أرى أيضا كيف أن ألسنة الحكماء والشعراء، أقل ظهورا من الآخرين، فكأن لسان الحكيم إشارة أيضا لشيء ما، وكنت أتعجب أيضا كيف يستشهد أولئك المخلصون كي تستمر الحياة ويتواصل الدفء، فليس اللون الأحمر مؤذيا دائما، والنار ما كان لها أن تكون دافئة، لو أنها اتخذت غير هذا اللون.. بالغت كثيرا في وصف النار، لدرجة أنني قلت:

ـ إن طقسا كهذا يجعلني أمتص الجمر، كما يمتص الأطفال الحلوى بعد بكاء مرير..!!

صاحبي كان عليه أن يتحدث، ويتكلم عن لونه، ويصفه كيف ما شاء، بدلا من أنيغضب علي، ما الذي يزعجه عندما أتكلم عن النار، فيزمجر في وجهي:

ـ نارك هذه ستذيب لوني..!!

وراح يصرخ:

ـ أمسك نارك عن لوني..! أمسك نارك عن لوني..!

وضحكنا كثيرا عندما رأيناه يرتعش ويكح، وأنفه تسيل..! ضرب الطاولة، وشرع كأنه يخطب في الزبائن، ولم يكن عارفا كثيرا باللغة العربية، وهو يتكلم بدا لنا كأنه مهووس بأن يصير زعيما سياسيا، أو خطيبا، أو أميرا، أو رجلا مهما في المجتمع، كأن يكون مصلحا مثلا..! كان وهو يتكلم مضحكا.. بل لحد الإثارة قام، وقد رفع صوته قليلا، فصمت كل الزبائن، وجعلوا ينظرون ناحيتنا.. شعرنا بالحرج كثيرا..! رحت أجذب ثوبه من الأسفل، أشير عليه بالجلوس، لكنه أفزعني كثيرا، عندما التفت إلي:

ـ اتركني.. دعني أتكلم ولطالما سكت وكبت.. يا جماعة إن السلام يذوب شيئا فشيئا، كذوبان هذا الثلج.. إن اللون الأبيض في خطر..!

عندما راودنا الشك في إصابته بالجنون، مسكته من يده، ووضع صاحبي يداه وراء ظهره، ورحت أنا أسحبه نحو الخارج، وصاحبي يعينني يدفعه من الخلف. كانت تظهر على وجهه أعراض تعب ما، يرتعش وأسنانه تصطك، وقد تكاثر عطاسه، ولم يعد يتحكم في سيلان أنفه وعينيه.. لاحظنا وجوه الزبائن ونحن نسحبه قد تأثرت كثيرا، ويبدو أنهم رثوا لحاله، ذلك الفطْفاطْلا يخاف ولا يستحي، قالها جهرة:

ـ يا جماعة مبروك عليكم..مجنون جديد يتخرج من مقهى الفرارة.!!

وأخذ الزبائن يتكلمون بطريقة فوضوية ساخرة:

ـ هذا واحد دفعْ كْوَاغْطُوا (82) جديد..
ـ يا ربي مسكين طَلْعتْلوا القَفْلَة(83)..!!

التفت إلى الأمام ولم أكترث بكل ما يقولون ثم اتجهنا به إلى البيت.. عندما فتح أبوه الباب، رأينا أمه في الرواق وكانت قلقة جدا، راحت تهرول نحونا وهي تضع يديها على خديها.!!جذبنا الباب نحونا.. أغلقناه وانطلقنا، بعد مسافة قليلة شعرت بأن صاحبي يعرف إلى أين يتجه، فتركني ومضى، أما أنا فلم أدبر أمري بعد، بعد اختفاء الوردة الحمراء، لم تعد لدي رغبة في الذهاب إلى البيت، وبعد الذي حدث لصاحبي في المقهى، كان من غير الممكن أن أعود إلى هناك، أردت أن أتجنب ما يفترض أن أتعرض له من أسئلة...

قد يخف صاحبي قريبا، لأنه لابد أن تجتمع الألوان في مقهى الفرارة، فهي المقهى الوحيدة التي تعتمد على النار الطبيعية، لتحضير المشروبات الساخنة.. كنت مضطرا أن أذهب إلى البيت، بعد أن وقفت كالعمود معطل الحواس، لم يكن سيري نحو البيت قرارا حازما، بل كنت هيكلا يمشي في اتجاه ألفه من زمن بعيد، ولا يوجد شيء في داخلي مقتنع أنه ذاهب إلى المسكن، وقد اعتبرت الوردة الحمراء هي المسكن والملاذ..!! كأنني قد وصلت.. كأنني قد دخلت.. وكأنني قد رأيت مجموعة من البشر مختلفة الأعمار، كأنها أمي التي ناولتني الملعقة، وكأنهم اخوتي أولئك الذين لبسوا أثوابا، حضرت فيها كل الألوان إلا اللون الأحمر، وكأن ذاك أبي الذي له خبرة كبيرة في ملء الملعقة، كان يزأر ويتنحنح، يريد أن يؤكد أنه رب البيت بل ربُّ الغرفتين بما تحتويان من تلفاز ومدفأة..!! كأنني قد جلست، ودون أن أفكر هل يمكن أن يكون الأكل لذيذا أم لا، كأنني آكل.. لا أشعر بأي شيء في فمي.. كأنني قد شبعت.. هكذا كل شيء معطل في داخلي، كأنني لا أحتوي نفسي، أو كأن نفسي لا تحتويني، كأن الكون قد وسع كل شيء إلا أنا.. الشمس خير مني فقد لبدت وراء السحاب، والعصفور أقوى مني فهو يستطيع أن يطير كي يدرك لونه ووكره.

بت ليلة سوداء قاتمة، في الصباح انسلخت من الغرفة كالحلزون، كأن جدار البيت استدار حول جسدي أنا فقط، قلبي عدل عن الخفق، وعيناي لم يفتحهما الماء البارد، كأنما لم يقنعهما الفضاء، والمتحركات من بشر وعصافير وأشياء..:

ـ هل أنا ميت..؟!

توقفت في مكاني حتى أتبين إلى أين أنا ذاهب، كأن قلبي قد تعود هذا الاتجاه، قدماي ترتبكان.. تختلجان تودان البقاء في مكانهما أو تعودان من حيث جاءتا:

ـ اللعنة على زبائن مقهى الفرارة، تجدهم يتربصون ينتظرون متى يدخل أحدنا، كي يبذرون شيئا من الشفقة، أو تراهم يعتقدون أننا سنجن الواحد تلو الآخر فيضحكون ويستهترون.!!

لكن حمحمة في قلبي تدفعني إلى الأمام دفعا شديدا، فقد اشتقت إلا النار كثيرا.. أريد أن أرى لوني مهما كلفني هذا الإحراج. عندما دخلت.. كلهم التفتوا ناحيتي، الفطْفاط جهرة أشار بإصبعه:

ـ ها هو جاء واحد منهم..!!

حدة الإشارة ولهفتهم لقدومي، وصمتهم جميعا، كل ذلك جعلني أفكر في الرجوع، لكن وقع النار في عمق المقهى، ولفح البرد من ورائي جعلاني أغض الطرف عنهم، وأذهب صوب زاويتي ومقعدي، لم أكد أعتدل في مكاني حتى استداروا بي جميعا، واخذوا يلتهمونني بالأسئلة، كثيرون هم الذين يستفسرون عن حالة صاحبي باستهزاء وسخرية، وقليلون من كانوا جادين، يسألونني ببراءة وحسن نية ويتمنون له الشفاء..

الفطْفاطْ كعادته لا يكف عن سخريته واستهزائه، وضع يده على كتفي، وكانت ثقيلة ثقل جبل عتيد، ضحك وقال كأنه يوصيني:
ـ عندما تذهب لزيارة صاحبك، فقل له ترقّب النشرة الجوية هذه الليلة، فربما يسقط الثلج غدا، وأوصيه بأن يضع يده على الشمس حتى لا يذوب البياض..

ثم جذبني آخر:

ـ لماذا لا يذهب إلى القطب المتجمد، ويسكن هناك..؟!!

قالوا كل هذاالكلام ولا يزالون يضحكون.. أزحت يد الفطْفاطْ من على كتفي، وهممت أن أوجه صوب وجهه ما توفر في فمي من لعاب، ولكن كتمت غيظي، وبلعت لعابي احتراما لباقي الزبائن، الرجل الذي نوى الوقوف في صفي، لم يختر كلمات مناسبة كي يطلب من الزبائن أن يعودوا ويلزموا أمكنتهم، ولذلك احتدم الموقف أكثر، وتسبب في نشوء شيء من التصادم، حاولت أن أنسحب فلم أجد ثغرة، فشعرت بضيق كبير بل بانقباض، حتى شعرت بعرق بارد ينفذ من جلدي، لم أجد ملاذا إلا النظر إلى النار، رغم الجدار البشري الذي شكله الزبائن بين مشفق لحالي ومتخذ الموقف لأجل الضحك والسخرية. كانوا محيطين بي، وأغلبهم سمان غلاظ طوال، شعرت كأني هويت في بئر عميقة مظلمة، ضربت الطاولة بكل ما أتت به قوتي، وصرخت صرخة عظيمة:

ـ دعوني أنظر إلى النار، لا تقفوا بيني وبينها.. النار أرحم منكم.
عندما لمحت موقدا حديديا، وأنبوبة غاز في الزاوية الأخرى، استغربت كثيرا.. دفعت من كانوا أمامي وورائي، وعلى يميني ويساري، ورحت أخاطبهم:

ـ انظروا إلى النار.. تمتعوا بلونها ودفئها قبل أن تنقرض، ويحل محلها موقد اصطناعي كما حدث في كثير من المقاهي.

أردت أن أصرف نظرهم عن موضوع صاحبي، وإذا بي قد أخطأت أنا الآخر، وصرت أكثر سخرية منه.! ذلك الشهم الذي دافع عني، هو أول من ظن أنني قد جننت أنا الآخر، لأنه مد يده إلي كأنه يسلم وأوقفني برفق، ثم وضع يده اليسرى بين كتفي، وأخذ يدفعني نحو الخارج، ويسألني أين أسكن، كانت نيته سليمة، أراد أن ينقذني من سخرية ألئك الذين لا يخافون الله. كان يجب أن لا أقدّر نيته، وإلاّ ظنوا أنيجننت بالفعل، رحت أتنصل من يديه وأصرخ:

ـ دعني وشأني، لماذا تسألني أين أسكن..؟!

ولما أتعبته أطلق سراح يدي وتركني، وعاد إلى مقعده، لكن طريقته وهو عائد، جعلتهم يتأكدون أنني قد لحقت بصاحبي، وبالتأكيد قد قالوا علي مثل ما قالوا عنه:

ـ يا ربي مسكين.. إلخ..

التقيت بصاحب اللون الأخضر، وقد رأى أنني مرتبك قليلا، طلب مني أن أعود إلى المقهى فرفضت، اعتقد أن رفضي احتجاجا على طول انتظاري هناك، فأخبرته بالحكاية كلها.. رافقني إلى البيت ثم مضى لحال سبيله.

صرت أنفر من كل الألوان، لا لون يربطني بالحياة سوى اللون الأحمر، لدرجة أن شيئا ما بداخلي، يدفعني للهجوم على تلك المواقد التي أتت بلون أزرق لا يرمز إلى النار، كنت أشعر أنني غير مؤهل لهذه الحياة، حتى سيارات المطافئ تخلت عن هذا اللون، وكذلك دكاكين الجزارة، كأن لوني قد صودر من الكون.

مكثت بالبيت أياما طويلة، وكان مكوثا صامتا، لا أقبل في محيطي إلا الأشياء الحمراء، ولا يستهويني من الأفلام إلا الذي تكثر فيه النار والاحمرار، لأني كنت أشعر أني أموت موتا بطيئا، وعلي أن أستلذ بموتي وأتمتع بناهيتي، ولا يزال العندليب الأسمر يعلو بألذ ما أوتي من ألحان:

ـ (قد مات شهيدا..
يا ولدي
من مات فداء للمحبوب..
.. من مات فداء للمحبوب.. للمحبوب.. للمحبوب.. للمحبوب..).

المضحك أن سيارة بلاستيكية لونها أحمر، كنت أضعها في يدي مرارا، وكان أخي الصغير ينافسني عليها، يزعجني كثيرا عندما يصرخ كي يسترجعها..! سمعت أبي قال لأمي ذات يوم:

ـ ابنك.. اللهُ أعلم ضربه بن الأحمر..!!

وكي أظهر له أنني سليما معافى أتقدم من التلفاز، وأشارك اخوتي ما يشاهدونه، ورغم أنني مولع بمنظر الدم، إلا أنني كنت أستغرب لماذا لا أرى دما أمريكيا في أفلام رعاة البقر، أثناء حروبهم ضد الهنود الحمر، الواحد من المائة الذي يصاب بسهم في ذراعه أو فخذه، ودن أن يسيل منه الدم، كان يظل يمسك مسدسه، ينثر الرصاص ويهدر اللون الأحمر كما لو أنه يبيد ذبابا. وبالمناسبة هذا هو السبب الذي جعلني أكره الأمريكيين كثيرا، فقد اعتبرتهم هم الذين أبادوا لوني بالظلم والتكنولوجيا، فلا أنسى أبدا أن خبزنا كان لونه أحمر، وكذلك بيض الدجاجة الرقطاء، التي كانت تنقر من حولنا العقارب والحشرات، وتعيننا في جمع حبات القمح كي تأكل وتسمن.!!

انتهى الفلم.. خرجت إلى الشارع كي أروّح على نفسي قليلا، لكنني رجعت مغموما مضطربا من جديد، لم أحتمل ما رأيت فعدت على الفور، رأيت مجموعة أطفال يلعبون بكرة حمراء.. لم تكن تهمني الكرة طبعا، كنت أرى لوني يعبث به الأطفال، قلت يجب على الألوان الثلاثة أن تعقد اجتماعا طارئا، فرحت وتمكنت من إخراج صاحب اللون الأخضر من البيت، لم أكن أتمنى أن يذهب في غيابنا إلى مقهى الفرارة، كنت أخشى أن يحدث له مثل ما حدث لنا، تراه فعلها وندم على ما فعل، قال لي:ـ كنت أريد أن أذكر القوم بالمبادئ، والمستقبل الأخضر، عندما أحاطوا بي، وانهالوا علي بالأسئلة الواحد تلو الأخر، رأيت أن الإجابة مملة وغير مهمة، ولأني أصلا لا أعرف عن حالتكما شيئا، فرحت أحمسهم على الثورة الزراعية، والسد الأخضر، والألف قرية اشتراكية.. ثم لا أدري لماذا أحاطوا بي ساخرين مستهزئين، وعندما قام ذلك الفطْفاطْ الخبيث، وسب السد الأخضر، وكل الألوان، شعرت بشيءكالإغماء وكدت أسقط، لو لم ينتشلني أحد الواقفين ورافقني إلى البيت..

تعقبنا الشارع فوجدنا ثالثنا في صحة وعافية، اجتماعنا نحن الثلاثة جعلنا لا نخشى الدخول على أولئك العابثين في مقهى الفرارة. لكن الذي جعلنا نخرج على الفور، هو أن مقهى الفرارة لم تعد فيها نار، ولا كرُّوش يلتهب، ولا عَرْعَرٌيُطَقْطِقُ محتفلا، وفقدت الفرارة نكهتها المعهودة، واكتسح بهو القاعة غاز محترق يُسيّل الدموع، بعد أن كانت رائحة الصنوبر تروج دفئا وشفاء.

لقد فقدت المقهى سمعتها ورواجها، هجرها كل الزبائن القدامى، وعمّرها جيل آخر كثير الحراك، لهم طلبات غربية: قهوة مْزَيْرَة، وقهوة خفيفة جدا، وأخرى خاصة وواحدة كريم سوداء كثيرا..ثم يبالغون في الخروج والدخول، لايثبتون في مكان.. يرفعون أصواتهم، وليست لديهم أي حكايات، أغلبهم يرقصون ويهزون أجسادهم بطريقة بهلوانية، يخرجون وسرعان ما يرجعون، يراهم محاد الصغير يتحايلون كي لا يدفعون ثمن مشاربهم وكانوا يتعبونه كثيرا. أولئك الذين كانوا يعتبرون أنفسهم قدماء وسط المدينة صاروا لا يفهمون شيئا مما يحدث..!!

كنا نرى أيديهم بيضاء ناعمة، يلبسون سراويل جينز ضيقة، تتدلّى من أعناقهم سلاسل، ويتركون شيئا من شعرهم يتدلى بين حواجبهم، كانوا ينزحون كي يشبهون النساء وقد ملئوا المقهى ضجيجا.. لا يقعدون ولا يهدؤون في مكان، كانوا يتكلمون في البيع والشراء دون أن ترى سلعة بين أيديهم. لمتعد هذه المقهى مقهى للفرارة، ولا هي مقهى للأحباب، كثر فيها الشجار والعراك، كأنها صارت مقهى للأعداء، لأنهم يتشاجرون مرارا ثم يعودون إلى بعضهم حتى صرنا لا نتبين مزاحهم من عراكهم، يطلبون المشروبات متنوعة بطريقة فوضوية، ثم يتركون الفناجين معبّأة ويخرجون، وبعضهم يعودون في التو، ويتخاصمون مع القهوجي، يطلبون منه أن يرجع الفناجين ولو فيها قطرة واحدة،أحدهم اقترب وقال له، وهو يمطّط شفتيه نحو أذن القهوجي:

ـ هذه القطرة التي احتقرتها، هي الـ(84) GOùT انْتاعْ الصَّحْ.. أنت ما تعْرفشْ تشْربْ القهوة..!!

حتى احتار محَّاد الصغير ماذا يصنع، هل يعيد الفناجين كي يستعملها، حتى يلبي الطلبات الأخرى، أم يتركها مكانها ويشتري أخرى، حفاظا على الـ GOùT انْتَاعْهُمْ، وكان يرددّ هذا مرارا ويضحك!!

القهوجي أتعبه كثيرا أولئك الذين يحملون الفناجين، ويتجولون بها في الحديقة المقابلة، لقد رأيته بعيني يجمع الفناجين وكؤوس الشاي، وقوارير المشروبات الباردة، وكأنه يجني فاكهة لذيذة سقطت من أغصان الأشجار.!!

الزبائن الجدد صاروا يقصدون التكبر على القهوجي، ويذلونه بطريقة مناداته، هؤلاء أغلبهم طردوا من المراحل الأولى من التعليم، أما القهوجي فقد علمنا فيما بعد أنه طالب جامعي، كان يحمل الصينية المستديرة، يتخذها مقودا، لكن لم نكن ندري ما نوع السيارة التي يتخيل أنه يقودها، كان كلما طلبه زبون، يحك جيبه الأيمن كأنه يحرك مغير السرعة ثم يتقدم، وهو يحدث صوتا كأنه محرك سيارة:

ـ فرْ.. فرْ..رْرْرْ..!!

لا يهمه شيء.. الذي يهمه أنه يقبض في آخر الصيف كي يشتري أثوابا وأدوات، ويلتحق بالجامعة وهكذا كان يفعل كل عطلة.!!
لقد كثر الجراد الذي لا يؤمن بالألوان، وشعرنا بالقلق على رايتنا ودولتنا، كان مظهره شائكا وبعضهم أبيض ناعم لا تمت بشرتهم إلى الرجولة بصلة، وكانت تبرز أسنانهم، وشعر وجوههم أخذ أشكالا مختلفة، مرة بحجة الاختلاف، ومرة بحجة الموضة.. ولكن في الأخير شعر ملأ الوجوه حين قحلت الأرض..!!

أحد الشيوخ كان يحكي قال:

ـ رأيت في المنام أن سحابة سوداء غطت كل المدينة، ثم انهمر منها مطر أحمر، جاب فيضانه الطرقات والشوارع..

لكني أغضيت سمعي، وكرهت أن ينحدر لوني من سحابة سوداء، وفي حين كان الشيخ مستمرا في سرد الرؤيا، التفت إلى النار.. فارتبكت كثيرا، وكأني أصبت بالصرع، ولم أعد أتحكم في أعضائي، أخذت أتحرك بعشوائية، كنت أريد أن أنصرف فورا، لأني لم أجد النار التي كنت أستأنس بها، وأرى فيها صاحبة المعطف الأحمر. كانت النار الزرقاء المتوقدة من أنبوبة غازية، والرؤيا التي يقصها الشيخ، وندرة الفرارة.. أشياء لا تدعو إلى التفاؤل والاستمرار، حتى السَّعدي الزُّهدي لم يعد يظهر على الإطلاق، كأن لم يعد له صاحب في هذه المقهى.. عدت إلى البيت، وقررت مقاطعة المقهى احتجاجا على اختفاء نار الكَرُّوش والسَّعدي الزُّهدي. حتى محَّاد الصغير لم يعد يطق خدمة هذا الجيل المكشوف على قوله، وندر وجوده وراء الكُنْتوارْ، وشيئا فشيئا اختفى، قد يكون تقدم عمره وضعفت حركته.

الدخول المدرسي غدا.. كنت على موعد مع الحنين والشوق.. أنا الآن في منتصف الليل.. لا يفصلني عن رؤية لوني سوى سبع سنوات، هكذا أملى علي ضيق روحي! لقد أرهقت خيالي كثيرا حين رحت أستحضرها.. رحت كأني أفتح لها الباب صباحا، وفي الطريق أوصي نفسي أن أبدو شجاعا، وأبحث في العوامل التي تجعل قلبي يخفق، ووجهي يحمر، قلت في نفسي أنصح أنا:

ـ كن رجلا..!!
اللعنة على نفسي الخبيثة، كان المؤذن يقول:
ـ (الصلاة خير من النوم..).
وكانت هي تقول بين جنبي:
ـ صاحبة المعطف الأحمر خير من كل شيء..

تراه إبليس كان يقول هذا عند أذني، قمت للصلاة.. كنت أعتقد أنني خاشع، المعطف الأحمر ترقص أمامي، كانت كالعصفورة تحط تارة فوق كتفي، وأحيانا فوق رأسي، ثم تنزل فتحط مكان السجود..! عندما سلمت أعدت الصلاة.. أعدت الصلاة ثلاث مرات، ولم تبرح تلك العصفورة مكانها..!! لم أمتلك القوة الكافية لأبعدها عن خيالي ولو لبضع لحظات حتى أصلي. لأول مرة أستفيد مما يقوله صاحب اللون الأبيض، فقد بشرني حين قال لي:

ـ لقد قرأت أن الله لا يؤاخذ الناس بما حدثتهم به أنفسُهم.
وأقنعني أيضا:
ـ (أن الله جميل يحب الجمال).

صاحبي المتدين متورط حتى شعره في حب صاحبة المنديل الأبيض، تراها هي الأخرى كالعصفورة تحوم فوق رأسه، لا تدعه يصلي، ولا يأكل، ولا ينام..!! وكذلك الأمر بالنسبة لصاحب اللون الأخضر، إذن فنحن في الجنة جميعا، حتى وإن جننا أو متنا..!!

كنا آخر من دخل المدرسة، وكل واحد يخجل أن يقترب من لونه،الحارس أغلق الباب الرئيسي على إثرنا، أما أنا فقد خرجت عن الانضباط، تخليت عن الصف ودخلت القسم مبكرا، جلست الجلسة المناسبة ولزمت مكاني، ثم التفت ناحية الباب أترقب دخول لوني.

كأن القاعة قد توهجت عندما دخلت، كأنني كنت ميتا فحييت، كأن يدي هي التي امتدت ومسحت مقعدها، كنت منتبها جدا بالأمارة كان المعلم يذكرني كل مرة:

ـ انتبه..!

لم يكن أحد يستطيع أن ينتبه مثلي، لأن لوني كان يتوهج على الطاولة الأمامية، المعلم فوق المسطبة يصوب عنقه نحوها كالعقاب، شيء جعلني أتتبع الشرح وأناقش، كنت أريد أن ألهيه وأشغله عنها، حقيقة كان اللون مغريا وجذابا.!! خرج المعلم فجأة ربما لم يحتمل توهج المكان، فرصة عظيمة كي يحتك كل واحد بلونه:

ـ اللعنة على خجلي.. لو أستطع أن أقترب منه على الأقل..!

أزعجني سمير ذاك الذي يفرط في الاهتمام بنفسه، أبوه جارنا ويعد من المرفهين، كان يساير الموضة بشكل دقيق جدا، شعره ناعم، وبشرته كبياض النساء، له جسد كثير الحراك والاهتزاز، تظهر عليه جرأة كبيرة في مخاطبة كل الألوان، رأيناه يندس بين اللون والآخر ولا يبالي..!! من كثرة ما كان يهز رأسه، ويمسح على شعره.. يبالغ في نفض سرواله، ويخرج كل حين قطعة قماش كي يلمع حذاءه أكثر.. ولأنه يفعل كل هذا بمبالغة واستمرار، اتفقت الجماعة أن تلقبه سمير قْنيْزيزه(85). في البداية شعرت بشيء من الغيرة لاندفاعه كثيرا نحو لوني، ولكنني تراجعت وبرُدتُّ.. صار لا يقلقني كثيرا عندما رأيته وقد انحدر به دُقْمان(86) لكْحلْ نحو الوادي، وقد تأكدنا أنه قد فعل فيه كما يُفعل بالنساء:

ـ أتفوه.. اللعنة على الفاعل والمفعول به..!

وقد رأينا بأم أعيننا الفاعل منحدرا، والمفعول به مجرورا نحو الودي منحطا على بطنه طيعا.. هذا ما شغل الجميع عن الدرس، شعر المعلم أننا لم نقتنع أن الفاعل مرفوع، وأن المفعول به منصوب. لقد فسد خيالنا، وتخيلنا أن الفاعل منتصبا والمفعول به منبطحا.!!

ـ اللعنة على دُقْمان لََََََََكْحَل واللعنة على هذا اللون الذي أحبه..!

في الاستراحة اجتمعنا نحن الثلاثة، قلنا إلى متى نظل نتأمل ألواننا من بعيد.. قلت لهما:

ـ ألا يدعو هذا الموقف إلى السخرية..؟

ومن ثمة راح كل واحد يحاول أن يكون أكثر شجاعة من الآخر، ولكن لم يستطع أحدنا أن يجرؤ فيقترب من لونه. كنت كلما أقترب منها أحس ببركان عارم يجرف صدري، وكأن أعضائي تنفصل عن بعضها، وكل عضو يرتعش في جهة، أشعر كأني أُبتّرُ إلى إرب كثيرة، كنت أخشى أن أكون جبانا، وكان هذا أهم امتحان لشجاعتي وإقدامي.. القلب يخفق والوقت يمضي.

كانت هذه آخر عطلة صيفية بالنسبة للمرحلة.. كأن القيامة ستقوم بعد أيام.. أمامنا ثلاث صباحات، ومع أنه لا رغبة لدينا في ترك المدرسة، إلا أنني كنت شغوفا بالدخول إلى ما سمي ذلك الوقت بالحياة العملية، فقد كنت محاصرا.. كيف يمكنني فتح بيت يليق بلوني، وأنا لا زلت وأخي نتجاذب الغطاء ونحن نيام بالليل، ثم يقوم يعاركني في ساعة متأخرة من الليل، لأنني جذبت الغطاء أكثر من اللاّزم فجعلته يتعرى للبرد، كان الغطاء أثناء الجذب لا يحتمل، فيتمزق من جهات كثيرة، وتظل أمي متحرصة تخيطه بإبرة كبيرة، وكلما مرة تستعمل أمي خيطا بلون مغاير، حتى صار الغطاء ونحن نيام كاللوحة التشكيلية البارعة المنظر، بل كانت لوحة متفردة، فقد كانت تشبه الكائن الحي.. أتوهم ذلك عندما أتأملها تنتفخ وتنكمش، حيث يتنفس اخوتي وهم يغطون تحتها في نوم عميق.!!

كلما مرة تخيط أمي الغطاء وهي تقول لنا:

ـ حاولوا أن تناموا هادئين.. خلاص راكم كبرتوا وصرتوا رجّالة..

كانت بوصفي أنني صرت رجلا تزيدني إصرارا أن أصير رجلا فعلا، كيف لم أستطع شراء فراش وغطاء، مع أنني مقبل أن أشتري بيتا أسكن فيه أنا ولوني.!!؟

كل هذا جعلني أهِبُ المحفظة لجدي، كي يخفي بداخلها وثائق الأرض، وكذلك الوثاق التي تثبت أنه مجاهد، رغم أنه لم يكشف عنها لدى أي مصلحة من مصالح الدولة، أمي تظل تحتج على ذلك تقول له:

ـ هذه الأوراق التي لا فائدة منها، إلى متى تظل تضايقنا بها؟. احرقها أو أخفها في مكان آخر فصندوقي لم يعد يحتمل.

وكانت أمي تستغل هذا الصندوق البنّي لإخفاء ذخيرة العوز، فالمنطقة باردة، وتتراكم فيها الثلوج بصورة مفاجأة جدا، كثيرا ما نجد في الصباح الأبواب مسدودة.. كان الثلج يباغتنا، فيظل طوال الليل يتراكم في هدوءونحن نيام، كانت أمّي لا تأمن الدهر، تخبئ في صندوقها مقدار وجبة من المقرونة، والعدس، والتمر، وشمعة أو اثنين، فتخرج واحدة منهما عندما تباغتنا الكهرباء بالانطفاء ليلا. وأهم ما كانت تخبؤه أمي في ذلك الصندوق المبارك، هي سرّة القهوة الخضراء. وكانت تختلط برائحة سخاب جدَّتي، الذي كان يعطر كل الصندوق، كنا نشم رائحته عندما نهوي بشفاهنا كي نرشف القهوة، وكأننا نشربها من صدر جدتي، أبي كان يصرخ دائما، ويحتج على هذا الموضوع وكنت أنا أتلذّذ.! لأنني أعرف أن ما يغضب أبي هو أن السَّخاب لجدتي من أمي، ولم يكن ليغضب هكذا لو أنه لجدتي من أبي.

غادرت المدرسة، وفعل مثلي الكثيرون من أترابي، استجبنا للمصطلحات الواردة في ذلك الوقت: (القسم النهائي، والحياة العملية) لم نكن نحن نقول هذا، بل سمعناه من أفواه المعلمين والموجهين، استجابة لهذه المصطلحات اعتبرنا أن القسم النهائي هو نهاية العلم، وأن الدولة ستحتفل بنا، عندا ندخل الحياة العملية تزامنا مع شعارات قوية تبثها وسائل الإعلام:

ـ (العمل والصرامة لضمان المستقبل..).
ـ (كلنا من أجل البناء والتشييد..).
ـ (العمل مجد وكرامة..).
ـ (العمل حق وشرف..).
ـ (العمل حق شرعي لكل مواطن..).

وأكثر ما كان يغرينا ويدفعنا دفعا شديدا للعمل، هو ذلك الكرنفال الاحتفالي في عيد العمال. عندما نحمل في أيدينا علما صغيرا، وبعد أن يعلّمنا المعلم كيف نمسكه، نقف على الأرصفة.. نشاهد فيالق العمال على مختلف اختصاصاتهم ومجالاتهم، وأنواع أثوابهم وبدلهم، فكنا نرى الفلاح، والطبيب تحيط به الممرضات، والمهندس، والبناء، ولم نكن نرى ما يرمز إلى الكتّاب، ولم أذكر أن لعيد العلم يوما مغمورا، سوى بعض الحفلات الهزيلة في بعض المؤسسات التعليمية، المؤسسة التي كنا ندرس بها، كان مديرها يحتج دائما يريد أن يكون هذا اليوم عطلة مدفوعة الأجر، ولهذا يصادر الاحتفال بعيد العلم، كنا نعرف أن ذلك من باب الحسد فقط، لأن مركزه لا يجعله يشاركنا الحفل حتى يأكل المرطبات، ويشرب المشروبات، كما يفعل المعلمون والطلبة، كان في البداية يسمح بالحفل، لأن أحد المعلمين كان يأخذ له إلى مكتبه قطعة Milles feilles وقارورة كوكاكولا.. فكنت أراه يضحك، وكأنه قد أعجب أخيرا بعيد العلم، ولأن ذلك المعلم استهزأ به زملاؤه، ولقبوه بالْقُواوْدي (87) توقف ولم يعد يأخذ له شيئا، فغضب المدير ثانية ومنع أي احتفال داخل المؤسسة..، يقول وهو يمدّد ذراعه نحونا، ويهز سبّابته ويرج رأسه كما كان يفعل هتلر في خطبته المشهورة:

ـ ممنوع الاحتفال ولو كان بعيد العلم..!

حتى المعلمون لا يتواضعون إلا عندما تحضر الإكراميات، لكن أثناء الدروس كانوا يبدون نوعا من التعالي والكبرياء، كانوا يدفعوننا للظن أنهم خارقين للعادة، كأنهم قادمين من وراء البحر، أو منحدرين من كوكب آخر، وبهذا أغلقوا في عقولنا كل منافذ الإستعاب.. كنا نشعر أننا لا نملك عقولا كعقولهم، ولا نملك أجهزة تنفس كأجهزتهم، ولا خطابات بارعة كالتي يواجهوننا بها، كان خطابا تعجيزا أكثر منه تحفيزا للبحث والعلم. كنا نرى أنه من المستحيل أن نصعد إلى الكوكب الخارق الذي قدموا منه، خصوصا ذلك الأكْرش معلم اللغة الفرنسية، فقد كان في البداية يكلمنا عن الحضارة الفرنسية أكثر مما كان يعلمنا حضارتنا وهويتنا، وكان يغازل المعلمات أمام أعيننا، وعندما تزوجت من كان يحبها، ثم رحل بها زوجها إلى فرنسا، حدث له انقلاب معين في نفسه ومظهره، فتطاولت لحيته، وتقوقع داخل جلابية رخيصة، وبدت عليه سمة من الدروشة، وصار لا يتكلم فرنسيته إلا قليلا، وصار يحدثنا عن أذناب الاستعمار، وضرورة الانتقام منهم، ولم نكن نأخذ عنه لأننا كنا على علم بخلفيته، فإما كان يظن أننا صغارا ولا نفهم شيئا، وإما كان لا يخاف الله، ويقوم أمامنا بسلوك منافي للتربية..!ورغم أنه تاب في حدود نظره، إلا أنه لا يزال مجاهرا بما يتنافى والأخلاق..! كنا نرى أنه لا يستطيع أن يتدين كما ينبغي، لأن قلبه أكثر خشونة من بدنه، وظن أنه عندما وجد الإسكافي الذي صنع له حذاء على مقاس قدمه، ظن أيضا أنه يمكن أن يجد عالِما سيمده بإيمان على مقاس قلبه، ويغذيه بفكر على مقاس عقله، وحين لم يجد اكتفى بمظهره وأجل التقوى، قال حتى تصلني فتوحات أخرى على مقاسي، وربما هو ينتظر صاحبته متى تطلق وتعود من فرنسا، فيعاود ويصنع لها مناخا فرنسيا في الدَّشْره(88)، حتى لا تتخلى عنه وتتركه مرة ثانية..!!

تأسفت كثيرا أنني لم أشبع من علم النفس، لأن ذلك الطويل المُتَصَفْصِف (89)، لم يكن يدرسنا أبدا، فقط يقول لنا كل مرة:

ـ راني عارف كل واحد منكم على واش راه مبني، وإلا لماذا أنا درست هذا العلم..؟!

كنا نراه يكاد يثقب السقف برأسه، ينقب في الأقسام المجاورة عن القهوة وما يقتلها، ويقنعنا من حين لآخر أن الطفل في بطن أمه ليست لديه شخصية، وكنا نراه يتحرك عندما تفرح أمه، تتحسسه وتقول:

ـ يتوقف قلبي عن النبض، ولا يتوقف ابني عن الحركة.!

وتظل تتلمسه في بطنها.. أما ذلك المعلم المتصفصف فيظل يقول وهو يضرب بعصاه على المكتب:

ـ الطفل في بطن أمه ليست لديه شخصية..

يكرر هذا وهو لا يزال يمدد عنقه نحو نوافذ الأقسام المجاورة، ينقب عن القهوة وما يقتلها، وعندما يجدها في مكان ما فيقضي حاجته، يأتي صوبنا وهو يتلذذ بما التصق بين أسنانه، وكنا نحن من الجوع كأننا نتلذذ أيضا..! ثم يذهب ثانية، وعندما يعود يقول لنا:

ـ أستطيع أن أعرف من خلال ملامحكم الماكرة، من كان يشوش أثناء غيابي.!

ويعيد كعادته:

ـ .. وإلا لماذا درست علم النفس إذن..؟!!

وكنت أنا صامتا أتعجب كيف احتوته أمه في بطنها، ورغم ذلك لم تكن لديه شخصية، ربما أمه بعد أن ولدته شعرت أنها لم تكن إلا مجرد قوقعة، ولم تكلف نفسها كي تنحني حتى ترضعه أو تقبله، بل تجده يبحث عنها فيما دون السقف فلا يجدها حتى تناديه، فيمسح على رأسها وينحني كي يرضعها، ربما أمه وهي تحمله في بطنها لم تكن لديها شخصية.. وهذا هو الأرجح.! وقد لقبه بعض الطلبة بـ (طويل بلا قَلّة..!!)، لقبوه بهذا لأنه لم يفدنا بشيء، فقط يظل يهددّنا بما يدعي أنه تعلمه.

اكتفينا أن نعيش في مناخنا وطبيعتنا، وتوجهنا لندخل نحن الثلاثة الحياة العملية مبكرا.. لأن ألواننا ظهرت على أجسادهن تشكيلات معينة، وطرأت عليهن بروز مفتنة، فصرن كأنهن نساء عاريات، هن أخطأن أيضا عندما لبسن سراويل ضيقة، حتى صرن كأنهن أكياس قد ملئت بشيء حلو لذيذ، أو كأنهن إناث خيول سوّمت، وعكفت أذنابها إلى فوق وصارت جاهزة للركوب. هذه هي الصورة التي انطبعت في أذهان الآباء ولذلك حبسوهن في البيوت. أُعجبنا نحن الثلاثة بهذه الفكرة كثيرا، فقد كان يضايق ألواننا كثير من العابثين في الشارع، أشرسهم دْهَيْنَة(90) أبو ناب ذهب، وسمير قْنِيزِيزَة الذي اشترى له أبوه سيارة فيما بعد.

قبعت ألواننا في البيوت، ورحنا نحن نكد ونشقى، هكذا أخذنا النصائح من آبائنا، حتى معلم العربية قالها لنا مرارا.. قال:

ـ (من طلب العلا سهر الليالي..).

كنت أرى لوني هو العلا.. كان الواقع صعبا علينا نحن الثلاثة.

كنت مصرا أن أسهر هذه الليالي التي يتكلمون عنها، كي أبلغ علاي.. رحلتي للبحث عن شغل كانت شاقة جدا، أحد المسؤولين عندما أخبرني أن لديه ما يكفي من الموظفين.. سألته:

ـ هل هم يشتغلون نهارا أم ليلا؟

فضحك:

ـ لا يا ولدي، هم ينهون كل ما يكلفون به في المساء، ثم يذهبون إلى بيوتهم.

فأخبرته أن لدي استعدادا رهيبا أن أشتغل ليلا، وأظهرت عزمي ولياقتي، وأعدت على سمعه المثل:

ـ (من طلب العلا سهر الليالي..).

فضحك ضحكة حتى هوى برأسه على سطح المكتب:

ـ أشكرك على شجاعتك وإقدامك، ولكن احذر أن تقرب المؤسسة ليلا..

أجابني عندما سألته عن السبب:

ـ ستأخذك الشرطة إن فعلت..!!

فقلت له بكلمات باهتة:

ـ إذا سهرت الليالي كي أطلب العلا تأخذني الشرطة.؟

فقام ودنى برأسه نحوي.. وبصوت خافت:

ـ هذا الكلام في الكتب فقط، أما من يسهرون الليالي هذه الأيام فهم المجرمون، وقطاع الطرق.. فأحذر أن تسهر معهم يا ولدي..!!

حقيقة كان الواقع صعبا علينا نحن الثلاثة، صاحب اللون الأبيض كان رأسه يكاد يتفجر، يقول وهو يضعه بين يديه:

ـ لقد قدِّمت لصاحب المؤسسة ملفا تضمن هذه الوثائق:

فقال لي صاحب المؤسسة بصرامة بالغ فيها كثيرا، حتى شعرت أنه يطردني:

ـ هذه الأوراق غير كافية.. هيا أخرج..

خرجت مع أنني قرأت في الإعلان أن هذه هي الأوراق المطلوبة بالضبط.

ثم اندفع صاحب اللون الأخضر نحوي:

ـ لقد قيل لي نفس الكلام.. حتى أن رجلا أصلع تبرز بطنه كثيرا، قال لي وهو يضحك، ويستهتر مع زميله الذي كان بنفس شكله:

ـ تنقصك أوراق مهمة يا ولدي..

فأعدت فتح الغلاف ورحت أتفقد الأوراق، وأقارنها بما كتب في لوح الإعلانات، لم أتبين الحروف.. حاولت أن أقترب فدفعني ببطنه إلى الوراء:

ـ الأوراق التي أقصدها غير مدونة في الإعلان.. أخرج وأسأل عنها في الشارع..

انسحبت بمرارة شديدة.

الفطْفاطْ لم يكن يشتغل بوظيفة معينة، لقد انتهج طرقا ملتوية كثيرة، وتحسن حاله.. صار لباسه أنيقا، غيّر سيارته وملك سكنا فاخرا، كان يبدو مهما، وله علاقات كثيرة مع كل أصناف البشر، مع الشرطي، والمعلم، والإمام، ومع السكير، والملتحي، ومع الرجال والنساء على حدٍّ سواء، يدخل دور الزنى، ويذهب يوم الجمعة كي يصلي، وكأن الأمور لا تبدو في نظره متناقضة، وتعلم خطابات كثيرة.. سمعته يقول ذات يوم:

ـ المهم نقْضي صوالْحي..!!

أما نحن فقد شعرنا بفراغ مفزع، اتسع أمامنا الوقت واستطال، حتى صار كالطريق القاحل الموحش، لم نعد نعرف شيئا عن ألواننا غير تلك النظرة الخاطفة، التي نسرقها عندما يخرجن برفقة آبائهن أو أسرهن، وكل ما أستطيع أن أفعله، هو أنني أجلس عند الحائطقبالة حيث يسكن لوني، كنت أظن أنني لا أزال صغيرا، وأن هذا غير مضر بالجيران، حتى صار يطردني أحدهم، اتهمني أنني أتربص بالأبواب، لقد ظلمني كثيرا، ولم أكن أتربص إلا بلوني فقط..!!عدلت عن الجلوس بسبب ذلك الشّانْبيط الأعور، ورحت أعبر شارع لوني مرتين، وأحيانا ثلاث مرات، لعلّي أحظى بنظرة خاطفة كلما فتحت الباب لناقريه من الأطفال والأقارب. وأفرح كثيرا عندما أجد النافذة مفتوحة، ويهتز قلبي كلما تحرك شيء خلف الستار، وكان يراوغني الريح، وأحيانا ذلك القط الأبيض المُوبّر، الذي لا يفارق قاعدة النافذة كل طلوع شمس، في غالب المرات لا أحصل على ما أطمع، وأحيان كثيرة ألمح بطرف عيني ملامح رجل لم أكن أدري أهو أبوها أم أحد اخوتها، المهم أنني أضع بصري فوق أنفي وأمضي دون أن ألتفت، ذلك الشّانْبيطْ الأعور لا يخفي أنني أضايقه، ربما كان يعلم نيتي من المرور عبر هذا الشارع، ولعله فعل هذا كثيرا في صباه، أو ربما هو الآن يتربص بلون أو لونين في سنه المتقدم هذا، ولذلك تراه يطفح بما يخفي كي يتبينني ماذا أريد من هذا العبور:

ـ اللعنة على هذا الشّانْبيطْ الأعور.. ألا جلب الله له موتا مفاجئا، كي يخلو لي الشارع فأرى وجه لوني..!!

عندما استفسرت عن مصدر عيشه، وهو يظل قابعا في الشارع، يجلس أين ما ذهبت أشعة الشمس، مثله مثل ذلك القط، فأخبرني صاحبي:

ـ ذاك الرجل يسمى الحاج بُوظَبْية(91)، ليس في حاجة إلى عمل، فهو لا يزال يرضع بزّول فرانسا(92)!!

ولذلك أراه يلبس أثوابا أنيقة خلاف الزوّالية ومنهم أبي، الذين يخرجون من الفجر، ولا يعودون حتى وقت المغرب، الحاج رويْنب أيضا يبدو عليه أنه متْهنّي ومتْبحْبحْ..!! فقال لي صاحبي:

ـ لا.. الحاج روينب مجاهد كبير.. لقد سوّى وضعية أرضه الفلاحية، واستفاد بقرض لشراء جرار ومعدات فلاحية أخرى، ثم استفاد بقطعة أرض صالحة للبناء وسط المدينة، واستفاد من حافلة ورخصة لفتح مقهى، ورخصة امتلاك سيارة أجرة، كما استفاد أولاده بوظائف وشقق، وأخيرا رخصة جزافية لحمل السلاح.. الوحيد الذي كان يطلق الرصاص احتفالا بزواج أولاد.
سامح الله أبي ما كان من أولئك ولا من هؤلاء، ولا هو استشهد فدخل الجنة، وتركنا نحن متْفحْشّين (93) من بعده..!! ثم صرخت صرخة فقدت فيها وضوئي:

ـ ولكن كيف السبيل.. كي نحصل على ألواننا..؟!!
سألني صاحب اللون الأخضر:
ـ كيف يمكن أن أحصل على الأوراق التي يقصدها ذلك الأصلع.؟
فضحكت عليه:
ـ الأوراق التي يقصدها هي تلك التي نريد أن نعمل للحصول عليها.!

فاكتشفنا أن الدائرة مغلقة ولا تشملنا، وسنظل هكذا بعيدين خارج حيز التفاعل.. عام كامل لا أحد منا نحن الثلاثة يعلم شيئا عن مصير لونه.. أختي توقفت هي الأخرى عن الدراسة، ومنعها أبي من الخروج، ولو أنني أشاطره الرأي في حبسها، إلا أنه كان لدي مأرب من خروجها، فربما ستزور صديقتها، وكنت أطمع في أن يكلفني أبي بمرافقتها، وشيء في قرارة نفسي يملي علي أنه سيكون موقفي وأنا أصحبها، كالطفل الصغير المكلف بمهمة فقط، لأجل هذا تراجعت عن هذه الرغبة، وأحيانا ينشب في داخلي صراع بين الفكرتين.

كانت أختي تزور صديقتها من حين لآخر، ولن أغيب أبدا عندما تعود، فأجلس وأركز انتباها عندما تبدأ أختي تقص حكاية خروجها، غير أنه يتملكني القلق، وأشعر كأني دخلت في ظلام دامس، عندما تتوقف عند زيارة عمّي الذي كان يسكن في طريق ذهابها، لم تقل شيئا عن زيارة صديقتها، رغم أنني متأكد من أنها قد ذهبت إليها، ربما لم تتفق مع أمي على ذلك، وخشيت أن تقول هذا لأبي فيمنعها من الخروج مرة ثانية. حتى أنا تكتمت الموضوع، ولم أخبر أحدا فهذه الوشاية ليست في مصلحتي، وأحيانا أشك في الموضوع فأقول:

ـ ربما وراء إخفاء زيارتها شيء آخر، فلو أنها كانت زيارة بريئة لصديقتها لما أضمرت نصف الحكاية.. اللعنة على ظنوني الآثمة..!

ربما لم تكن ظنونا، بل كان هذا مؤكدا، فأنا لا أرى في أمر زيارة صديقتها أي داعيا للتكتم.. ترى هل هي لون لأحد اخوتها، وهذا ما يجعلها تذهب كل مرة كي يراها بحجة زيارة صديقتها..؟!!

ـ اللعنة علي.. فلو أنني اصطحبتها لمسكت بخيط ولو واهٍ للمسك بالموضوع.. اللعنة على خجلي..!

لم يكن خجلي التواء في شخصيتي، أو عيبا من العيوب التي تشين بشيم الرجل، ولكن ما اكتسبته من أخلاق في المدرسة، هو الذي أودع في نفسي هذه الحشمة، أو الخوف لا أحد يدري، ولطالما سمعت المعلم يقول:

ـ (الحياء من الإيمان..).

يقول هذا عند رأسي وهو يضربني، وقد اختلط علي الحياء بالخوف، في الحقيقة أن هذا الحياء أو الخوف، والحركات التي يبديها الواحد منا، التي تدل على أنه متدين ومحتشم، لم تكن الأغلبية مخلصة فيها، فحتى يقال فقط أن هذا الولد متْرَبّي، وأن الفتاة تسْتتر فقط لتكتسب رخصة الخروج.

كنا نرى الفتاة التي تتجرأ أن تتحدث مع شخص آخر، ولو كان من أقربائها تتعرض للضرب والحبس في البيت، أما الشاب إذا رأوه تحدث مع فتاة ثم خطبها، فإنهم يرفضونه عقابا له على ذلك التقرب المشين من الحرمة. ولذلك تبدو لك الفتاة خجولة مستحية، وفي الحقيقة هي خائفة، وكذلك الأمر بالنسبة للفتى، وكانت هذه فضيلة يتباهى بها الأولياء:

ـ فْلان بنْتُو الله يْباركْ تْحشمْ بزّافْ، وين تحّطّتْ تتْحط.. شفْت وليدُو؟ الحجْرة تنْطقْ وهو ما ينْطقشْ، الله يْبارك.. هذي التربية وَلاَّ خَلَّي..!

أخيرا استطعت أن أحدد سبب خوفي وخجلي وتراجعي. أدركت أن هذا هو السبب الحقيقي، عندما ضرب أبي أختي حين رآها تجاوزت بيت عمي، كانت ذاهبة إلى لوني أو لونها لا أحد يدري، حتى أنني تساءلت:

ـ هل عاقبها أبي لمجرد أنها ذهبت، أم رآها تكلم لونها..؟

من البداية كنت أظنها لونا هي الأخرى لأحدهم..!! كانت أختي تلبس معطفا بنيا وشالا قمحيا، ترى أي لون منهما هزه، أم أنها هي التي هُزّت بلون من ألوانه، وربما لم يهتز هو على الإطلاق، لا للون البني ولا للون القمحي.

كنت أتهرب من سؤال يراودني دائما، سؤال يخص قشابيتي البيضاء، التي أهديتها لصاحبي، كنت أرى أنني ضيعت لون ناري، هذا إذا كانت تعتبرني لونا من الأساس..!؟ ما أذكره أنها كانت تزور أختي مرات لم تكن كثيرة في نظري، حتى أخذني الطمع أنها تفعل هذا لأجلي..:

ـ اللعنة على تلك العيون التي تترقبنا وأنا أحاول أن أتبين ذلك.

كان بمعدل شانْبيطْ واحد في كل حي، كانوا يشبهون الكلاب التي لا صاحب لها ولا مأوى. أخاف كثيرا أن يصل الخبر إلى أهلها، فيعُدّونني غير مؤدب، وأنني عَفَّسْتْ(94) على شْلاغمْهم(95)، وقد يحاسب لوني حسابا عسيرا، وأحاسب أنا أيضا بأعسر من حسابها إذا تقدمت لخطبتها. كانت أختي تظن أني أنا من يخبر أبي بأنها تزور بيتا غريبا، حين اكتشفتني أسير على أثرها..:

ـ اللعنة على خجلي وأنانيتي..

كان من المفروض أن أبين لها غرضي، فأستفيد من مسألتين أو لهما أتبرأ من التهمة وثانيهما كي تخبر صديقتها أنني أحبها. حاولت كثيرا ولم أمتلك الشجاعة الكافية، بل كنت أعتبر ذلك تشجيعا لها كي تجاهر بلونها، كنت أرى ذلك إخلالا بأنفتي وكرامتي. ربما ورثت هذه الأنانية من أبي، الذي يسره أن تعج المدينة بالقُنْبزْ والملحفة البيضاء، وبوعُوِينه، وفي نفس الوقت يغلق الأبواب والنوافذ على أمي، بل يضرب أحدنا إذا ترك الباب مفتوحا خلفه، خاصة النافذة الشرقية، التي حذر أمي وحذرنا جميعا من فتحها، قال لأن السَّيَاقة (96) يجلسون قبالتها كل مساء، أما في الصباح فكان دْهَيْنة أبو ناب ذهب لا يغادر أيك شجر الصنوبر المقابل.. حرص أبي على الموضوع يعتبره رُجْلة كبيرة..:

 ـ اللعنة على خجلي وأنانيتي مرة أخرى.. بل إلى يوم الدين..!!

كنت أصلح من حال مظهري، ثم أختلس السير وراءها، وبمجرد أن يفتح لوني الباب لأختي أو لأيَّ طارق.. تلقائيا أمسى سعيدا إذا لمحتها سعيدة ضاحكة، وأمسى حزينا إذا لمحت على محياها أي علامة تدلني أنها على غير ما يرام. ومن جهة ثانية أبدو مستاء مما يمكن أن يكون قد حدث بين أختي وبين من يفترض أنه لونها. فكنت أظهر لها بملامح الشاك في الأمر، وهذا ما يؤكد لها أنني أنا من وراء علم أبي بتحركاتها، طبعا المسألة محسومة فليس من مصلحتي أن يمنعها أبي من هذه الزيارة، بل كنت أتواطأ لأخفي معها هذا، لكنها مع ذلك ظلت تشك في أمري، لا حل لفك هذه الطلاسم أمام فوضى نفسية جامحة طلبا للرغبة، ومنغلقة في قبول الآخر عندما يكون مريدا منا شيئا، كان المجتمع يعيش إعاقة كبيرة، تحول دون استهلاك المشاعر بطريقة موضوعية، وتمنع تعاطي الرغبة بذلك الانجذاب العفوي، كانت عاجزة عن تناول الحياة دون حسابات، لا تجد في أفواه الآباء غير عبارات صارمة صارت كالشريعة:

ـ أعْرفْ لمن نْزوّجْ بنْتي..!!
ـ أعْرفْ لمن نمدْ دْراهمي..!!
ـ أعْرفْ لمن نكْري حوشي..!!
ـ أعْرف من يأكل طعامي..!!
ـ أعرف من يركب سيارتي..!
ـ وأعرف..وأعرف..!!

وهكذا كانت الأشياء تعرف وجهتها، حتى أني سمعت رجلا يلوم رجلا آخر كان قد زوج ابنته البارحة.. قال له:

ـ عنْدكْ طفْلة للزواج وجاحدْها علينا..؟
كأنه قال له للبيع..! وظل الرجل يلومه:
ـ .. كيفاه تصرّفْها عليّ، وأنت عارفْ بلّي عنْدي طْفلْ شْلاغْمو يكتْفو(97) بْغلْ..!
ـ كلْ شيء بالمكْتوب يا الحاج..
ـ هذا موشْ مكْتوب.. قلْ لّي ما نيشْ مالي عيْنكْ..
وعندما أغضبه قال له وهو يرج وجهه بالقرب من أنفه:
ـ شوفْ يا... ما دبّرشْ علي نعرف لمن نْمدْ بنْتي..!!
من حينها تملكني رعب كبير، وخفت أن يذهب لوني في مهب ريح كهذه.

ليس الزمن كما كل صيف، فلم نشعر أبدا أننا في عطلة، السبب هو أنه لا يوجد لدينا استعداد نفسي للرجوع، ولذلك أخذ الوقت طعما آخر غير مألوف كما لو أنها قامت قيامة الحياة.

لأول مرة أوقن، وأدرك ذلك المعنى اللاّبد خلف عبارة كنت أراها عادية جدا. ولم أمارسها بوعي كما لو يقولون للطفل وهو في رحم أمه:

ـ هذا البطن هو بطن أمك..

كنت أرى هذا أمرا بديهيا، وتخيلت أن الجنين يضحك عليهم في غياهب رحم أمه، وأنا في غياهب هذا الوطن كنت أرى العبارة التي يردّدها معلم التاريخ أيضا لا طائل منها، فهو شعور بالفطرة، فكان عندما يكررها كأنه يزرع في نفوسنا الريبة.
كانت الصدمة الأولى عندما أنهينا الدراسة ـ حسب رأينا ـ كنت أشعر أنني نزلت من رحمها في التو، فقد كان يقال لنا أيضا: (إن المدرسة هي الأم الثانية...) كأن وعيي المتواضع يدفعني كي أصرخ، وأقول: آ..آ..أمي الثانية.. وإذا كان لابد لي من توأم فهي صاحبة المعطف الأحمر، وإن كان على أمي الثانية أن ترضعني، فقد أرضعتني طبشورا أبيض، وكنا في البداية نحب بياضه، لاشتياقنا كثيرا إلى الحليب، ثم أحببت اللون الأحمر عندما خفق قلبي خفقته التي لم أترجمها ترجمة صحيحة في البداية، هكذا كنا نشعر بأن أمنا الثانية لا قدرة لديها لتسكتنا، حين تلفظنا وترمي بنا في حجر الحياة. لقد خربت البطالة عقولنا وإرادتنا، مسختنا أمام أوليائنا، وقد زعمنا ذات مراهقة أننا سنهول الدنيا، وتورطت حين وعدت أخي الصغير بلعب جميلة، تراني لا زلت أنا بحاجة إلى لعبة، لقد عرفت كيف البطالة تجعل من الرجل طفلا لا يعي شيئا، حتى أني تعجبت وهمست لصاحبي:ـ .. كأن هناك أم ثالثة.. ألا تشعر ونحن نتجرع مرارة هذا الملل أننا في رحم آخر..؟ ترى متى تتمخضنا الحياة، كي نولَد موظَّفين في أي مؤسسة.

ضحك صاحب اللون الأخضر:
ـ إياك أن تقول لي أن ذاك الأصلع، صاحب البطن البارزة سيصبح أمي الثالثة..؟!
قلت له:
ـ نعم.. ألم تلاحظ أن له أثداء أيضا..؟!
ـ صحيح.. لقد رأيت ذلك، ولكنني أخشى أن يضعني في حجره، أنا أفضل أن أبقى حبيس هذا الرحم، ولا أذهب إلى ذلك الأصلع صاحب البطن البارزة..!!
كان رأيي من رأيه.. واكتفينا بأمهاتنا الأوائل، ورحنا نبحث عن توائمنا من أمنا الثانية. اقتنعنا بهذا فقط، لأننا يئسنا من الحصول على وظائف.
الفطْفاطْ يمر بمحاذاة أقدامنا، ونحن نستند بأكتافنا على الحائط.. كأنه يزدري بنا.. كان يتعمد أن يضحك ضحكة بصوت مرتفع، يلتفت ناحيتنا، وهو يشد المقود بيد، ويمسح على رأسه بيده الأخرى، كان يقصد ما يعبر عنه، كأنه يقول:
ـ ها أنا كما ترونني، وقد كفرت بالألوان جميعا..!
ولا يزال فطْفاطا، فقد قارب أن يدوس طفلا، وهو يلتفت نحونا ليعبر ما أراد أن يعبر عنه..!
بدت لنا الأيام متشابهة، ولم نعد نميز يوم السبت من يوم الجمعة
ولا أي فصل نحن فيه. حين تأملت الشفق الأحمر قلت لصاحبي:
ـ لقد بدأ موسم لوني..
ولم أكن فرحا أن أراه في هذه الصورة، كأنه كان نذر شؤم على الناس.. شعرت بحرج كبير، عندما سمعت شيخا يقول:
ـ هذا العام الذي احمرت فيه السماء.. الله يْحفظْ ويسْتر منه..!
هذا حظي، فكلما يطفو لوني لأستبشر به يتشاءم منه الناس..:
ـ تعس ذلك الشيخ فقد صدق فيما قاله..

كثرت الجرائم والسرقة في الشوارع، والأسواق الأسبوعية، وخلفَ خلفٌ نحيف سريع، لا تدري كيف ينهب ضحيته، وكان يُحكى أن الكثيرين فقدوا جيوبهم بما تحمل من دراهم، وبعضهم فتحت بطونهم، ربما كانوا يقصدون جيوبهم، هكذا يعترفون أمام المحاكم، ولا يؤرقهم أي ذنب لأنهم يعتبرون أنفسهم مخطئين فقط، لأن السرقة أباحها آباؤهم بأمثلة شعبية خطيرة، وقد سمعت بأم أذني رجلا يحكي في الجماعة:

ـ جيب وليدك سارق، ولا تجيبوا خاوي..
وسمعت أيضا رجلا يعِظُ ابنه، وينصحه أن يبحث عن عمل، كان يصرخ في وجهه:
ـ يا وليدي ما لْحقْتشْ(98).. لازم تْعاونّي.. جيبْها ولو كان تسْرقْها.!

كنا نحن نتأمل ونسمع الحكايات، ونتفاجأ من حين لآخر بمرفهين جدد، لا يدري أحد مصدر رفاهيتهم، وكأنه قد صار كل الشعب فطْفاطا، سمير قنيْزيزة لأول مرة يمر راجلا، لقد مر بالقرب منا، وداعبه صاحب اللون الأخضر، راح يتلمس بدلته الأنيقة، ويمسح على ربطة عنقه، فقال كأنه يقنعنا أن موضوع اللباس شيء سهل، وأن به نستطيع أن نتمكن من أشياء نراها صعبة، كالدخول لأي إدارة بسهول، والتغلغل في أعماق مصالحها، وكانت هذه مشكلة نعاني منها كثيرا في غزواتنا للبحث عن وظيفة، فلأن أثوابنا يبدو عليها قدم فاحش، لا نستطيع تجاوز البواب.. قال لنا وقد أبدى لقطة من لقطاته المعهودة:

ـ .. هفْ تعيشْ..!

قال هذا ومضى يلوي مؤخرته، كأنه قد احترف ذلك الموضوع.. واستغربنا أن تصبح له كل هذه الثروة، بمجرد ما يكسبه من تلك الحرفة القبيحة.. لأن أباه حين علم أنه غير صالح للدراسة، رماه في الشارع.. قال له:

ـ اشْقى كما شقيت أنا..!!

فقد أدرك أنه يستنزف ثروته، وكانت ثروة غير معلومة المصدر أيضا، وكان سمير قنيْزيزة، حين يعيب عليه الناس عادته السيئة يقول لهم:

ـ ما أبدعت هذا من نفسي، ولكن وجدت أبي يفعل ذلك، ولهذا لن أخطئ خطأ أبي، ولن أتزوج حتى تنقرض هذه العادة.

وكنا نرى فيه بصيصا من التعقل.. لكن صاحبي المتدين كان لا يتحمله كثيرا، كان يصرخ في وجهه، ويمسح على ما نبت في وجهه من شعر قليل:

اذهب أيها الفاسق.. ولا تسلم علينا مرة أخرى..!

وكنا نراه مخطئا.. نقول لو أنه أخذه برفق، ونصحه ودعاه إلى حسن السيرة بالتي هي أحسن، لكسب من نصيحته ثوابا وإن لم يستجب، لكنه كان شديدا فيما يراه أنه هو الحق.

أنا لم أكن أطمح في رفاهية فاحشة.. فقط أريد أن أعيش، وأنا شاب أتمتع بدم ساخن، وإرادة يافعة مزود بثقافة لا بأس بها، وقد كبرت في قريتي مع الحجرة والشجرة، وأذكر أنها قد اقتحمت فمي خمسون ذبابة أثناء تحية العلم، وعضّيت على لساني كثيرا من المرات، وأنا آكل وأحفظالأناشيد.. كل هذا لم يفدني بشيء حين قذفت بي أمي الثانية إلى حياة عملية كاذبة. ذات غضب عندما اشتعلت النار استبشرت خيرا.. وقلت:

ـ ها لوني استعاد أيامه المزدهرة وماضيه المقدس.

غير أنني شعرت بهلع كبير عندما اكتسح لوني كل شيء، 5 أكتوبر 1988م تاريخ عرفت فيه أن لوني عندما يتوحش يأكل الأخضر واليابس، المسؤول الأصلع صاحب البطن البارزة، كان يابسا أيضا، ورغم هذا لم تطله النار، عندما تذكرنا ما سمعنا منه، وماذا كان يقصد بالأوراق الأخرى، الأوراق التي قال جهرة:

 ـ أننا لا نستطيع أن نكتبها ضمن الوثائق الرسمية في الإعلان..
 زأرت كما فعل المتنبي:
ـ (الحجرة والعجلات تعرفني
والكبريت، والبنزين، والنار.)!

لم يرتسم في ذهني إلا ذاك الأصلع صاحب البطن البارزة، لأني كنت أظن أنه هو الدولة، التي سمعت عنها في نشرة الأخبار، هممت أن أشارك في إضرام النار، ولكن آيات من القرآن حفظتها، وبعض الأناشيد غلبت على ذلك الحقد، الذي أكنه لذلك الأصلع الحقير، وذلك الملتحي الأكرش.. دخلت سوق الفلاح، وكانت النار تأكل كل شيء على الرفوف، أكلت حتى الأسعار التي كتبت بخط براق على لوحات صغيرة مزخرفة.. الفقراء كانوا يفتكون المواد المفيدة من النار قالوا:

ـ نحن أولى بها من النار..!!

أن أرى النار تأكل كل شيء.. هذا أمر مألوف في نظري، فقد أكلت قلبي بجميع شرايينه قبل ذلك، ولا يزال اللون الأحمر يوحي لي بشيء وأنا في خضم اللهب. اقتربت من جناح الأقمشة، فانتشلت لفَّة قماش رٌسمت عليها ورود حمراء كثيرة.. قلت:ـ هذه النار التي أُضرمت بالزيت والسكر، لا يجب أن تأكل وردتي الحمراء، سآخذها إلى أمي تفصل منها فستانا، وتخيط لي وسادة وستارا للنافذة الوحيدة، حتى أستطيع أن أرى وردتي الحمراء في كل اتجاه..

وعندما هربت بلفَّة القماش إلى الخارج، استرجعت العجوز أنفاسها، وقالت لي:

ـ أنزلني هنا يا وليدي الله يْحفظك..!!

تراني أنقذت ـ دون قصد ـ عجوزا طاعنة كادت تحترق. عندما علمتْ أنها حية، وأنها لم تصب بأي أذى راحت تقبلني، وكأنها تود أن تأكلني.. تركتها وعلمت أن لوني يمكن أن يكون شبحا أيضا.!!

ـ هذا العام شين..!

هذه العبارة لا تكاد تستريح منها أفواه الشيوخ والعجائز، ترى على وجوههم سمات التيه والضياع، وعندما تسألهم عن أحوالهم يقولون:

ـ لا بأس.. الحمد لله..

أما الشباب فكلما يُسأل أحدهم، يرفع حاجبه ويغير من شكل شفتيه، كأن قلبه يعتصر، يريد أن يقول شيئا ولا يستطيع.. فلا تسمع منه إلا كلمة راني(99) digoùté ـ م

لكن نماذج كثيرة من المجتمع زادت غنى ورفاهية، ومنهم الحاج روينب الذي كان في قُبّة صاحب الإنشاد يختص بذبح الماعز، مقابل رأس كل ذبيحة، يُحكى أنه كان يشوي الملفوف للمجاهدين، وللجنود الفرنسيين على حد سواء، ولم يكن يقصد خدمة معينة، بل كان يفعل هذا كي يؤمن على نفسه، حتى لا يتعرض لسوء من طرف أحد الأطراف، حيث يوفر جوا آمنا يستطيع فيه أن يجمع الأموال! ويُحكى أيضا أنه كان يشير للجنود الفرنسيين على المتعاونين لصالح المجاهدين، وفي ذات الوقت يشير للمجاهدين على المتعاونين لصالح الجيش الفرنسي! كان يعتبر ذلك ذكاء خارقا، فيقول في كل جماعة يحضرها:

ـ كل واحد نَعْطُوهْ قُوسْطُوهْ (100)..

فصار فيما بعد يتقاضى راتبا مقابل تعاونه مع المجاهدين، وفي نفس الوقت يتقاضى راتبا مقابل تعاونه مع الجيش الفرنسي، وبكل تبجح يعتبرها حقوقا مشروعة، فكان من يعرف ماضيه يقول له بسخرية:

ـ لو كان عرفنا جهاد الملفوف يعمل هاك لجاهدنا كلنا هذا الجهاد.
ـ لأنك ذلك الوقت لم تكن تعي قيمة الملفوف كما ينبغي، كان يعرف قيمته الذين غزو هذه الأرض، ومن رفضوا هذا الغزو.
فيسأله من كان يقابله:
ـ وماذا كنت تفعل أنت؟
ـ أنا كنت أُملْفِفُ للجميع.. بائع.. بائع الملفوف.. علاه نحوس نفهم.
فضحك السائل ومن كان بجانبه:
ـ حتى حماري الأبتر كان يركبه الجميع!
فيغضب الحاج روينب، ويرفع عكازه إلى السماء يريد أن يضربه، فيمسكه أحد الواقفين:
ـ يا الحاج ألعن الشيطان..

لكن الحاج روينب لم يلعن الشيطان، ويبدو أنه لن يلعنه أبدا! فهو لا يزال مستمرا في نذالته إلى هذه اللحظة، مثله مثل الفطفاط، لكن هو بخبرة أكبر، فقد بدأ هذه المهمة منذ عقود من الزمن.

الحاج روينب فعلا لم يلعن الشيطان، لأنه زمن المأساة الوطنية نشط بشكل أكثر دناءة من السابق، حيث ظل يعطي أخبارا مظللة ومغلطة لقوات الأمن، أغلبها وشايات مغرضة وراءها مصالح ذاتية، ومكاسب شخصية، ومكائد بأعدائه ومن لا يرغب فيهم، أو لا يرغبون فيه من أصحابه وأقربائه وجيرانه. قيل أن أحد ضحاياه كان قد خطب ابنته ولم يزوجه إياها، وآخر ادّعى ملكية الأرض التي قال الحاج روينب أنه ورثها من العرش، رغم أن جيرانه ممن يسكنون على حدود هذه الأرض شهدوا بغير ذلك، وآخر ضحاياه هذا الذي يستهزئ به مرارا، ويطعن في نضاله، فيقول:

ـ أنت بائع الملفوف، وبائع المجاهدين والأبطال..!!

أشار عليه الحاج روينب لدى كلى الطرفين، لدى الجماعات الإرهابية على أنه متعاون مع الدولة. وأشار عليه أيضا لدى قوات الأمن على أنه يقدم الأكل ويوفر المبيت للإرهابيين..!

الحاج روينب لم يلعن الشيطان إلى هذه اللحظة، لأنه ادعى أيضا أنه ضحية من ضحايا الإرهاب، وقدم ملفا يقول فيه أن الإرهاب هدموا بيته وسرقوا متاعه، والجميع يعرف أن الكوخ تهاوى تلقائيا بفعل العوامل الطبيعية، لأنه كان قديما جدا.! أما الملف الثاني فقد أصر أن ابنته اختطفها الإرهابيون، رغم أن أحد جيرانه أبلغه أنه رآها في بيوت الدعارة، بل زاده ذلك إصرارا، وقبع في مركز الشرطة يؤكد لهم أنها مخطوفة، ومن جهة ثانية يرسل عجوزا كي تفاوض ابنته، وتقنعها بالعودة، ويعدها أن لا يمسها بسوء، لأن الشرطة أخذت منه صورتها وبعض المعلومات الروتينية، وطلبت منه أن يحضرها إلى المركز متى وجدها حية أو ميتة، أو يبلغهم بأي مكان يراها فيه. الحاج روينب لم يلعن الشيطان، ويذهب كي يخبر الشرطة بما أخبره به جاره، وأكدته العجوز التي أرسلها إلى بيت الدعارة، الحاج روينب كان يطمع في شيئين، أولهما المبلغ الذي يمكن أن يقبضه كتعويض، وثانيهما التستر على الفضيحة التي ستلحق به وسط الجيران والمعارف، كان يريد أن يستمر ابن أخيه في طلبها للزواج، لأن الاغتصاب ذريعة كبيرة بخلاف ذهابها إلى بيوت الدعارة طواعية وبمحض إرادتها.

ـ اللعنة على الحاج روينب فقد تأتّى له كل ذلك.

كثيرون هم هؤلاء الذين استثمروا الوضع، أمثال الحاج روينب، وسمير قنيْزيزة، وخاصة ذلك الفطْفاطْ الذي كنا نرى على وجهه كل ملامح السعادة والابتهاج، لم نكن ندري ما الذي أعجبه من هذه الحقبة من الزمن، رغم أن أغلبية الناس متشائمة.. وقد فتحت السجون على آخرها، وصار السجناء أكثر من الطلقاء، الفطْفاطْ انتعش من هذه الحقبة، وزاد مالا وثروة، وقد أيقنت أنه صار كالخفاش ينشط بالليل والنهار، ولا يهمه أكان يتحدث مع خفاش أم فأر، يبدو لك أحيانا متدينا بل متشددا، وأحيانا أخرى يبدو لك رجل قانون مشحون بروح وطنية عالية، وكان ينتفع من أولئك وهؤلاء، تراه في الصف الأول بثوبه الأبيض يدحرج السبحة، يحرك شفتين تبدو عليهما زرقة الخبث، لأنه في يوم آخر تراه في الحانة، يمسك الزجاجة كما ينبغي، ويسب سبا لم يأت به أحد من قبل، صار بألوان وجهه الكثيرة صاحبا للجميع.. الصالح والطالح، خلاف السعدي الزُّهدي، فهو لم يكن صاحبا إلا للصالحين والطيبين، ولا يريد منهم إلا قهيوة بالحليب، وأحيانا شمّة مدقوقة حارة، لكن الفطْفاطْ اكتسب من هذه العلاقات المتداخلة ثروة طائلة، في الوقت الذي كانت فيه الناس تسجن وتموت، وكان بعضهم من أعز أصحابه وجيرانه، حسب ما كنا نسمع..!!

كان الفطفاط يظهر بشكل عادي في الشارع، وأحيانا كثيرة لا أحد يعلم أين يختفي، كان سلوكه مشبوه محفوف بالريبة، أحيانا يقول لنا التدخين حرام، وأحيانا نراه يدخن، وكما نراه يحتك بالتيارات المتطرفة، نراه أيضا يختلط بأفراد الشرطة، يمدحهم ويثني عليهم، وفي أوساط الشباب المتدينين يقول عنهم أنهم خبثاء، فاسقين ويحاربون الدين، كان يتداخل مع كثير من النماذج البشرية، حتى المشايخ وأصحاب الطرق، وخدام القبب في البوادي، تراه يأكل ويشرب، ثم نسمعه يلعنهم ويسبهم، ويقول لنا هؤلاء مشعوذون ومبتدعون في الدين، ويظل يحذر الشباب منهم، كان أمره عجيبا ولا يستطيع أحد أن يتبين لصالح من هو ينشط. كانت كل جهة تعتقد أنه معها، لكن كنا نعرفه جيدا، فمنذ طفولته عرف بهذا السلوك، وظل على هذه السيرة حتى التقينا به في المدرسة، وفي المقهى فيما بعد. كان يسير مع أي ريح، ولا يتحرك مجانا، فقد كان يستثمر كل حركة، وكل جلسة، وكل كلمة، وكل وشاية أو دعاية، لا يهمه من يموت بسببها أو يسجن، الذي يهمه سوى بطنه وما يضعه في جيبه، وبعد ذلك صارت له ثروة عظيمة، وزاد من قدرات نفاقه وحيل التواءاته، وأساليب مكره وخداعه حتى ينمي ويزيد من ثروته أكثر، وعندما يخلو بنفسه يضحك على الجميع، يحكى أن الجماعة المسلحة بنت له بيتا على نفقتها، وكانت تستغله للمبيت غرض الاستعداد لتنفيذ عملياتها، لكنه لم يكن يخبر الشرطة بهذه الإقامة، لأنه يريد أن يرثها، عندما يُقضى نهائيا على الجماعة التي شيدت له هذا السكن، وكان يخبرهم بتواجد الجماعات في أي مكان آخر، وفي نفس الوقت يخبر الجماعات بأي استعداد ترتبه قوات الأمن ضدها، حتى مشايخ الطرق كان يفزعهم حينا، ويبشرهم بالأمان حينا آخر، وكان يقبض المكافأة من كل طرف يوهمه أنه قدم لهم خدمة، حتى انتبهت إليه كل الأطراف فصاروا يبحثون عنه في كل مكان. الجماعات عرفت حقيقته عندما كلفت من يتجسس عليه ويرصد تحركاته فتبينت أنه هو من أخبر الشرطة بآخر خطة. وكشفت الشرطة أمره حين استعار سيارة أحد الشرطة لأجل غرض إنساني، ثم ظهر أنه اقتناها أحد الجماعات المسلحة ليموه بها في المدينة، صارت كل الأطراف تبحث عنه، صار يشبه الوطواط يظهر فجأة ثم يختفي بشكل رهيب.

أنا لا زلت بطالا.. ولا أعلم شيئا عن لوني.. النملة خير مني، فقد وجدت مكانها في الصف، فهي تعرف من أين هي قادمة، وإلى أي جهة تتجه، وتعرف بالضبط ما هو مطلوب منها كواجب نملي مقدس، منذ عهد سليمان عليه السلام.. وتلك الذبابة أيضا خير مني، فقد وجدت نفسها بين سرب الذباب، وبالتأكيد تعرف مكان رزقها، ولم أقتلها حين حطت على أنفي، فصوبت نظري بصعوبة نحوها، كان على ما ظهر لدي أنه ذكر ذباب، وكان على موعد مع ذبابة.. لم يكن مرتبكا، ولا خجولا مثلي، عندما حضرت لديه اقترب برأسه نحو رأسها، أقسم كأنه يحدثها، أو كأنه يشم رائحة رائعة كانت قد اقتنتها من أفخر مزبلة تحسبا للقائه..! كانت ذبابة جميلة فعلا، رأيته وقد لفها بجناحيه، كانت رغبتهما متبادلة، حتى هي هوت بجناحيها إلى أسفل بطنها،كي يستطيع أن يحتضنها، ويحيط بها فلا يترك منها شيئا، وعندما أشار حرماني إشارة حمراء كتلك التي تحدث للسيارة عندما ينفذ وقودها، تفقدت حولي فلم أجد من أحتضن، حسدا نويت قتل الذبابة وزوجها، أو طردهما من فوق أنفي على الأقل دفاعا عن حرمة وجهي. لكني عدلت عن قتلهما، واكتفيت بطردهما، حتى يكملان متعتهما بعيدا عن ذكورتي المحترقة من فرط الحرمان، عندما رفعت يدي نحوهما فتحا أجنحتهما وطارا متلاصقين.! تمثل لي ذكر الذباب كأنه التفت إلي، حرك مؤخرته فوقها وقال لي:

ـ أنا أوفر حظا منك.. أنا أملك الأرض والفضاء، لقد وسعني حتى أنفك، لكأنك حسدتني وطردتني متذرعا بالنظافة، ألا تعرف أن الحسد من الشيطان أيضا، ما ضرك لو أنك تركتني أستنفذ شهوتي فوق أنفك، فأنت تتوضأ خمس مرات في اليوم.. مُتْ بغيظك أنا لست في حاجة إلى شقة كي ألتقي بلوني، بل لست في حاجة حتى إلى أنفك.. أنا عارف من بكري بلّي العرب ما عندهمش النيف(101) بصح يحبو يزيْرو(102).!

رأيته كأنه ازداد غضبا، وهو ماض إلى الأمام رفع صوته أكثر:
ـ لو أشأ رجعت إليك ليلا وأنت نائم، ودخلت بذبابتي في عقر (....!).
كأنه قد أضحك زوجته الذبابة، وكأني بها قد جذبته.. قالت له:
ـ دعنا منه إنه إنسان محروم حسود، ولا هي مسألة نظافة ولا أي شيء.. أنا أعرف هذه الأشكال.!!
ـ اللعنة على الذباب..

فتحت رحى يدي كأني أريد أن أصفق، ثم جريت خلفهما لأهدر شهوتهما، وأدوسهما تحت قدمي، لكنهما نفذا من فتحة الباب.. تراجعت إلى الوراء حين اصطدم رأسي بحافته العريضة..!!

عرت كأنهما يضحكان علي. ولولا أنه قد يُشك في أمري بأني قد أصبت بالجنون، لواصلت جريي وراءهما في الشارعفلا أعود حتى أقتلهما.

ـ اللعنة على هذا الذباب جاء من أمكنة أخرى، يريد أن يتشفّى بنا، وربما هو يرتب لمواضيع شتى، وقد لا يهدأ له بال حتى يعود ليحط فوق أنوفنا، وربما سيتحالف مع البعوض والصراصير، وقد تتوفر لديه حماية بشكل ما، لأن المصالح لا يدري أحد كيف ترسم طرقها ومعابرها.. ولا فرق بين استعمال ذبابة بكل ما تطرح من قذارة، وبين نحلة بكل ما تحمل من عسل وشفاء، لأن الذي يطمح في الثروة والشهرة والشهوة، لا يهمه كيف العبور، ولا كيف هي الطريق ولا ما هي الوسيلة.

ربما الذباب أيضا تعولمت في رأيه الفضلات، ولذلك صار يقتحم صحوننا دون حياء ولا خوف..!

اللعنة على صيف هذا العام كأننا لا نترقب إلا أخبارا سيئة. لم نعد نلتقي نحن الثلاثة في مقهى الفرارة، ولا في أي مقهى آخر.. بعد مدة اتفقنا أن نلتقي عند حائط أسود شائك لبيت مهجور، تهاوى جانبه الشرقي، كان لرجل مات أثناء الثورة، بعضهم قال أنه ذهب مع فرنسا وهي منسحبة، وآخرون قالوا ربما يكون قد فُقد، أو أصيب بمرض.. كأن يكون فقد الذاكرة مثلا.. كثرت الروايات، ولم يستطع أحد أن يقترب منه خوفا من أن يظهر صاحبه فجأة، المهم الذي يشهده الكل، ويستغربه الجميع أن هذا البيت اقتحمه المجاهد الحاج روينب، حين أتى بثلاثة بلهاء شهدوا أن:

ـ هذا السكن لصاحبه هذا الرجل الفاضل الكريم، قد افتكه منه أحد المحتلين، ولأنه لم يسلمه له طواعية أدخله السجن..

ثم بصموا بأصابعهم أو ببطونهم لا أحد يدري، قد يكون لقنهم هذه الشهادة، لأن شهود آخرين من الشيوخ الكبار الذين حضروا الثورة، قالوا أنه لم يدخل السجن ولا هو جاهد، حتى أن أحدا سأله:

ـ في أي منطقة كنت تنشط.؟

فتلكع في الإجابة وتردد كثيرا، ثم تمادى في التفكير، ولم يعد السائل في حاجة إلى إجابته فانصرف، لأنه اعتبر هذه الحالة التي طرأت عليه إجابة كافية..

كان كل بيت يحمل حكاية عجيبة، إلا البيوت القليلة التي بنيت حديثا، كان المشهد يبدو مضحكا، والحاج روينب وأشباهه مجتمعون لأحياء ذكريات النضال، كان الحاج روينب رائدهم حتى (في ثورة البناء والتشييد)، والذين جاهدوا قابعون في بيوتهم، يُذكّرون بعضهم صباح مساء أن لا تفسٌد نيتهم الأولى، وأن يفرقوا بين جهاد الدنيا وجهاد الآخرة. جدي قال لهم:

ـ (إذا اختلطت الأديان.. أحرز دينك..!!)

وقال لهم أيضا:

ـ هذه اليد الباقية لن تشفع لها اليد التي بُترت في المعركة إن هي امتدت إليهم تتسول.!!

وظل يقول هذا حتى مات مشتاقا لشبْعة(103) في بطنه! كان يلقبه الأهالي والجيران بمقْطوع اليدْ..!، بقاء جدي في البيت كان في مصلحة الحاج روينب، لأنه يعلم يقينا أن صاحب البيت استشهد في المعركة.. قال لنا:

ـ .. ثم أخذوا زوجته.. عذبوها وفعلوا بها أشياء كثيرة، ثم أطلقوا سراحها مهشمة منهكة، ولم تقاوم مرضها فماتت بعد أيام قلية، لكنها تركت طفلا رضيعا عند أختها، وقد تخلت عنه هي الأخرى عندما تقدم أحد للزواج منها، تزوجها وطار بها إلى فرنسا، وبقي الطفل في كفالة جده، وعندما مات جده، لم يعد للطفل من يكفله فبقي جوالا بين الجيران، يرؤفون ويعطفون عليه، حتى شب ولم يعد يدخل بيت أحد، صار ينام في حمام المزلوطين(104)، يقتني ثمن المبيت مما يبعه من بيض.

وهو يروي لنا حكايته أشار ناحيته، حتى ظن الولد أن جدي يناديه فجاء نحونا، وكان على صدره طاولة محمولة، فيها بيض مسلوق، وحتى يغطي جدي الموضوع اشترى منه بيضة ولم يقل له شيئا. فاندفعت أنا نحوه:

ـ أنت إذن صاحب اللون الأسود..؟
رفع رأسه.. وعندما تبين ملامحي قال لي:
ـ نعم أنا صاحب اللون الأسود..
فاستغربت قليلا وجذبته من ثيابه، وابتعدت به قليلا عن مجلس جدي:
ـ هل تحب هذا الجدار..؟!
فاكتأب ونظر إلي كالمطعون، كنت أظنه سيضحك:
ـ هل رأيت شخصا يحب جدارا؟ أعرف أن لونك أحمر، إذن فأنت أيضا تحب جدار عمّي سْعِِيد الجزار..!
في الحقيقة رأفت لحاله كثيرا، ولو أن المسألة صعبت علي كثيرا، تساءلت عن الفتاة التي يمكن أن تظل تلبس هذا اللون، مع أن البنات في هذا الوقت لهن رغبة أن يترددن على الألبسة الملونة، كموضة عرفتها المرحلة..:
ـ لا بد أن حبيبتك حزينة دائما..؟
أخرج رأسه من الحزام الذي شد به طاولة البيض، وضعها على الأرض.. تقدم مني وراح يشير إلى ثوبه وحذائه..:
ـ شخص بهذا المظهر وهذا الوسخ لا يمكن أن يحب.
ثم أخذ يصرخ:
ـ أنا أريد أن آكل، أريد أن ألبس.. أن أفرح.. أن أضحك..
وتمادى في الصراخ، حتى رحت أهدئه فلم أستطع، لولا أن جدي أشار إلي أن أجيء صوبه.. تركته يعيد حزام طاولة البيض بعصبية، فكأنه يدك رقبته في فتحة حبل المشنقة.. يفعل هذا ويتمتم:
ـ خْصْني قا الحُب.. هَهْ.. هَهْ.. هَهْ.. هَهْ..!!

الحائط لا يزال أسود، عرفنا فيما بعد لماذا هذا الذي يريد أن يكون رابعنا أحب هذا اللون، وأراد أن يضيفه إلى ألواننا فرفضنا نحن، لأننا لا نسمح أن نخرج عن التعداد التقليدي لألوان الرايات، هذا من جهة، ومن جهة لم نستأنس بلونه بصراحة لأنه يرمزإلى الحزن والشؤم. مصادفة فقط وقفنا عند لونه، ولهذا كان لا يتردد كثيرا عن مقهى الفرارة قديما. منذ مدة كان يمر بمحاذاتنا مرورا عاديا، ولم نكن ننتبه إليه كثيرا، أنا شخصيا عندما عرفت في المقهى أنه يحب اللون الأسود، رحت أتحاشاه.. لكن بعدما عرفت حكايته من جدي، توفرت لدي رغبة في التقرب منه، وأن أحاول إقناعه بأن الحياة مليئة بالألوان الزاهية الجميلة. أو أحاول أن أفلسف الحكم فأضيف إلى الراية هذا اللون، لأني أخشى أن يعارضنا بلونه الذي لا يصلح لأي غد مشرق.

صاحب اللون الأخضر كان حزينا هذا المساء، إنه يقارب على البكاء، يتأمل الحائط وقد التحم وجهه به تقريبا.. قال:

ـ من اليوم سألتحق بصاحب اللون الأسود، أسير معه ولن أفارقه أبدا..

رفع رأسه يائسا متشائما:

ـ أزيحوا لوني من رايتكم، فلوني لم يعد أخضر، ولا أعتقد أنه سيصير أزرق ولا أصفر، ولا أي لون آخر غير اللون الأسود، سأتآلف مع ذلك الحزين ونتخذ لدولتنا راية سوداء.

لقد عرفنا منه بصعوبة أن صاحبة القميص الأخضر تزوجت منذ أسبوع فارط.. قال:

ـ لقد عرفت هذا من أحد جيرانها، وتأكدت من ذلك عندما رأيتها تسير رفقته، وضعها في المقعد الخلفي داخل السيارة كأنها لا تعنيه، عندما التفتت نحوي مرتين، عرفت أنها تزوجته دون رغبتها، كان صغير السن ذميمالوجه لكنه مرفه جدا.. لا يمكن أن يكون إلا بن مجاهد، أو بن أحد الذين تركتهم فرنسا، فهي لا تستطيع أن تأخذ كل أحبابها.!!

كان يقص علينا الحكاية، وكنت أنا أضع يدي على قلبي، خوفا من أن يتكرر هذا المصير ويعصف بلوني. وفعل مثل ذلك صاحب اللون الأبيض، وشاطرناه حزنه، والحقيقة ركبنا هول كبير، واعتقدنا أن عاصفة هوجاء سوف تأتي على كل الألوان هذا العام...

ـ اللعنة على هذا الحائط الأسود، يبدو أنه سيضمنا إليه جميعا..

موسم لا يتزوج فيه إلا الأغنياء والأغبياء، كان زواج البنت يشبه الموت، فالفتاة الصغيرة التي كانت تطوف بين الجيران والدكاكين، تنفخ علكتها وهي تقفز على الحُبّيلة(105)، لا يكاد أحد يصدق بعد خميس وجمعة أنها لا تزال حية، وإن ظهرت في مرة أو مرتين في العام، لا يستطيع أحد أن يتبينها من الأخريات، وقد انضمت في ريعان طفولتها إلى المُتَقَنْبِِزات فتبدو لك الألوان متشابهة كلها. كنا قلقين كثيرا ونحن نتكئ على هذا الحائطالشائك الأسود، وكلما مر بنا عرس ذهبنا كي نستفسر الأمر، ونطمئن على ألواننا، وخشية أن أكون بشير شر لصاحبي، تجنبت أن أخبره أن صاحبة المنديل الأبيض قد تزوجت هي الأخرى، وتركته يعرف ذلك بنفسه، تراه تبين ذلك بعد أيام قليلة، فقد ندر ظهوره.. زرته في بيته مرات عديدة، فأخبرني أبوه أنه لن يخرج أبدا.. ومن شدة قلقي على مصير لوني، اعتزلت ذلك الحائط المشؤوم، تأكدت أن لوني بخير، عندما زارتها أختي، وجاءت تقص على أمي كيف ذهبت وكيف عادت، لأنها بعد أن ضربها أبي أوصتها أمي أن لا تخفي عليها شيئا.

لزمت الشارع الذي يربط بين بيتي وبيتها، كي أشبع من النظر إليها، وأُخزِّن في ذاكرتي أكثر قدر ممكن من ملامحها، قدر يمكن أن ينعشني أياما كثيرة، تحسبا لما ما يمكن أن يحدث، لقد شعرت أن ذاكرتي صارت تشبه صندوق أمي، كأني صرت أقول مثل ما تقول، عندما أتربص أسترق النظر، أتأمل في معطفها، وشعرها، وعينيها، وجميع حركاتها، حين تسير، وحين تحرك يديها، حين تعطس، وحين تسعل، حين تتثاءب، وحين تجلس، وحين تقوم، وكنت أسخَّر كل تركيزي، وأحرص أن لا أرمش عيني عندما تضحك، كانت ضحكتها كأنها أول ربيع يطلع به الكون. أُخَّزن ما أستطيع، وما لا أستطيع، لا أترك نفسا مما يخرج من فمها، كنت أشعر كأنه هو الأكسجين، كنت أتنفس، وكأن القيامة ستقوم عندما تغيب، أظل أسارع لتخرين كل شيء، أخزَّن وأقول كما كانت تقول أمي:

ـ الدنيا ما فِيهَاشْ الأمان..!

تارة أكره وجودي في ذات الشارع، لأني لا أرغب أن تراني عاطلا، فربما عندما تفتقدني تعتقد أنني أشتغل وأكدح، أبدو كأي شاب لا يبدو أن لديه وقتا كثيرا أو أنه يملك كل الوقت.

توفرت صاحبة المعطف الأحمر على كل الصفات، وأحرز جسدها على كل المفاتن، لقد تأهلت لتكون امرأة متكاملة في نظر كل من تقع عينه عليها. هكذا رأيت أنا أيضا عندما زارت أختي آخر مرة، رغم أنني كنت سعيدا جدا بهذه الزيارة، إلا أنني فضلت هذه المرة أن لا تكرر هذا، خفت أن تحلو في عين أحد المرفهين فيأخذها مني. لأول مرة أحملق في وجه لوني، اعتبرت ذلك شجاعة فائقة، دفعني إليها حزن صاحبيّ عندما فقدا لونيهما..:

ـ اللعنة على خجلي بل اللعنة على فقري..

كان علي أن أتحدث، أن أقول شيئا على الأقل، شعرت أختي بالخجل، وظنت أنني أتنصت لما تقولان.. لكنها في المساء ضحكت، وتأكدت أنني لست من كان يخبر أبي بخروجها، تأكدتْ من ذلك عندما عدت في المساء، وفي يدي رسالة مميزة بداخلها بطاقة بريدية، قد رُسم عليها قلبان بلون أحمر، وقد التصقا ببعضهما جمع بينهما سهم راح يقطر دما، وقد وضعت أمامهما أفقيا وردة حمراء بلون معطفها، كنت اشتريت بطاقتين بنفس الموضوع، لأن صاحب المكتبة أخبرني أنه قد تبقى لديه اثنتان فقط، واحدة احتفظت بها لنفسي، والأخرى وضعتها في الغلاف، وبيدي المختلجة سلمتها لأختي كي تأخذها إلى لوني.. إلى صديقتها.. إلى صاحبة المعطف الأحمر. لم تكن لدي خبرة في التعبير فكأني أشعر أن المهمة قد تكفلت بها البطاقة. إلى هذه اللحظة التي أتوسل فيها لآخر شعرة أن لا تبْيَض.. لم أعرف ردها!! تهربتُ لوقت كبير مما استنتجته بحكم واقع الحال، تعبت كثيرا ولم أعد أمر بذلك الشارع.:

ـ يجب أن أكون عاقلا..

لم أحرص أن أعرف الرد من أختي، لأني أعرف أنها حساسة جدا، ولذلك لا أريد أن أضطرها لتفصح عن ردّ تراه جارحا، ومؤلما بالنسبة إلي..:

ـ يجب أن أكون عاقلا..

كنت كل مرة أقول لنفسي هذا، ولعبت الصلاة دورا في هدوئي وانضباطي، لأنه كان من المفروض أن أجن أو أموت وربما أقتُل..!!

الشفق محمر هذا المساء، أخي الصغير يصرخ بكل ما أوتي غضبه، لأن سيارته الحمراء رفسها رب البيت، عندما دخل على غير ما يرام، خرجت وإذا بصاحب الكرة الحمراء يبكي بكاء مريرا، لأن الشيخ جارنا عينين بالالة انقض على الكرة ومزّقها، حين ادعى أنها أصابته في رأسه، كل شيء ينذر بحدوث شيء خطير هذا المساء..!

تزوجت صاحبة المعطف الأحمر، وأنتكس آخر لون من رايتنا الجميلة، عدت إلى تلك البطاقة واحترت في أمرها، هل أمزقها أم أتركها، فقد أجد الحاجة للتذكر؟!! أخيرا مزقتها لأني قررت أن أمحو ذلك اللون من ذاكرتي، لكنني لم أستطع، وكأن بالفعل قد ربط ذلك السهم قلبي بقلبها، لكن قلبها الآن في يد شخص آخر.. كان من الضروري أن أكون عاقلا..!!:

ـ اللعنة على ذلك السهم، واللعنة على من رسم تلك البطاقة، وهو يدري أن الزواج لا يعني القلوب المتلاصقة!

لقد رسخت في ذاكرتي كالتاريخ.. كالمعْلم الضخم الذي لا ينحني، ولا يتهاوى أمام العواصف والأمطار، كنت أشعر أن هذا الحب مبدأ من المبادئ، وأن التنازل عنه عيب في شخصيتي، وعلة في إخلاصي، غير أنني أحرص أن أنفخ في عزيمتي، حتى لا أبدو مسكينا أرجو عطفها، فهي من حقها أن تحب من تشاء، ولكن ليس من حقها أن تشعر أنني محروم منها، فتبدي نحوي أي شفقة أو رأفة، لأن من حقي أن أشعر بأنني كبرت بهذا الحب، ولا فضل لها في ذلك، لأن الله هو الذي خلقها جميلة هكذا، كغروب الشمس أو شروقها، أو كأي منظر جميل في الطبيعة، فهل يشفق علي ـ مثلا ـ ذلك المنظر الذي أحببته حتى النخاع ذات جولة غرب المدينة، كان منظرا جميلا.. ساقية تسللت بين جبلين، وقد حفر ماؤها تحت النخلة، فميلها نحوه دون أن يسقطها، وكأن عناصر الطبيعة محتفلة في تناسق مبهر، والقصب جعله طوله ينبت داخل الماء، كي يفسح الأرض للأعشاب القصيرة. فهل يشفق ذلك المنظر علي، أو أشفق عليه، وقد جَنّ على كل منا الليل في المكان الذي هو فيه، يكفي أننا في الوجود جميعنا، هي لم تكن مخيرة أن تُخلق هكذا، كما ذلك المنظر لم يكن مخيرا أن يُخلق في الصورة التي هو عليها، ولذلك اعتبرت أن حبي الكبير عنصر من عناصر الطبيعة الثابتة، إذن هي أيضا عنصر من هذه العناصر، ولا حاجة لي بقلب يشفق ولطالما أردته يحب.

استمريت أحب النار، واستمر كل واحد منا يحب لونه، وصار ذلك الحائط الأسود هو مكاننا، وملتقانا صباحا مساء، ولم يعد يهمنا هل أطلنا البقاء تحته أم لا، وأحيانا يداهمنا الليل ونحن نتسامر تحت رايتنا السوداء. شحبت وجوهنا نحن الأربعة من أثر السهر والتدخين، لم نكن نخفي على بعضنا أننا نضمر كبتا جنسيا عظيما، فالأخلاق التي اكتسبناها من المدرسة منعتنا من التمتع، ر غم أن الشارع يشهد انفتاحا لا نظير له لحرية المتعة، كنا نشعر أننا صائمين، ونظل ننتظر متى يصدح آذان الإفطار، كانت الفتيات كأشجار الفاكهة، عناقيد ثمارها تتدلّى أمام أعيننا ولا نستطيع أن نفعل شيئا. السن يتقدم بنا، والحرمان يزداد، والكبت يتراكم، والشارع يزداد انفتاحا، ولا تزال أخلاقنا تمنعنا، وربما ليست الأخلاق، بل النظرة الأولى التي فتحنا فيها أعيننا على الجنس الآخر، كنت كل مرة أحاول أن أجرب كيف أستهلك تلك الأنوثة المبعثرة في الشوارع، غير أنني لم أقدر، وظلت تلك المشاعر لصيقة بي:

ـ اللعنة على المشاعر، والشعر، والألوان..

شاطرت صاحب اللون الأسود رأيه، عندما كان يضرب الحائط ويسب كل شيء.

لم أكن أدري أن تلك الزغاريد التي تنطلق من بيتنا كانت تعنيني، ولست أدري لماذا ينظر الجلساء إلي عندما دخلت، أبي جاء نحوي وألبسني برنسا أبيض، وراح يمسك من بعض الحاضرين أشياء، ويخفيها في جيبه، ربما كانت هدايا نقدية بمناسبة العرس.. مسكني ابن عمي، وأخذني إلى جهة أخرى.. قال لي:

ـ لا يجوز أن تجتمع في مكان يحضر فيه أبوك مع الكبار في يوم عرسك.!!

 لقد علمت في التو أنه عرسي، وكنت مع رأي من كان يقودني، كان يمسكني من يدي وأنا أسير كالأبله..:

ـ صحيح.. نعم هذا لا يجوز..!!
ـ لقد قال أبوك لأمك: إن لم نزوجه سيجن لا محالة. ولما صارت حالتك مثيرة إلى هذا الحد، ذاع الخبر حتى وصل إلينا، تراه وصل إلى كل بيوت الجيران والأقارب.

دخلت بها.. أو دخلت هي بي، أو لم يدخل أحد بأحد أصلا، فربما كانت مخطوفة هي الأخرى.. لا أحد يدري، ما أذكره أنها كانت ترتدي فستانا بلون أزرق بحري، وظلت تعتاد لبسه فيما بعد، وأنها كانت أنثى من طراز أول، فعندما رأتني خجولا متواريا، كشفت عن كل مفاتنها، وأشارت بإصبعها إلى موضع لم أره من قبل.. وقالت:

ـ إذا لم تفعل ما يفعله أي رجل بعروسه ليلة الدخلة، فسأفضحك وأُضحك الناس من حولك، وأطلب منك الطلاق في ظلام هذا الليل الدامس، وسأفشي للجميع أنك لست رجلا.. ما فيكش!

تفقدت عضوي التناسلي فلم أكد أجده، غير أنه قام تحت وقع الوعيد اللطيف والتهديد الأنثوي، يبدو أنه حي يرزق ولا بأس عليه، كان يمدد عنقه بشراهة، كثعلب قام بعد سبات طويل وقد ظلمته أرنب حين اقتحمت جحره طواعية. لم يكن التمرين صعبا، حين كانت العواطف غير مشروطة في الموضوع، أنا الآن على فراش لون غريب لا علاقة لي به، قلت أنغمس في اللذة لعل الألوان تتراءى في نظري متساوية.. أو ربما يستهويني اللون الأزرق البحري، فأستغني عن اللون الأحمر وأشفى من مرضي.

الحقيقة زدت لهفة واشتياقا إلى لوني، كأني أضفت له أشياء سرية اكتشفتها حديثا، وكلما أضع تحتي هذا اللون الدخيل على حاسيسي،أو يصعد هو فوقي.. أقول:

ـ آه لو كان لوني الأحمر..!

ولا تكتمل شهوتي حتى أغمض عيني، أتخيله لوني الذي لم يقدره الله لي.. أو هكذا أملت عليّ نفسي. قلت:

ـ ربما أنجبني أبي هكذا، فكانت أمي بمثابة الشكل الافتراضي، كأن الرجل يتوحم أيضا، حين يتخيل أثناء القذف لونا اشتهاه ولم يحصل عليه.. فيورث حرمانه لأولاده..

لا تضحكوا.. تخيلت لو حملت هذه المخلوقة بنتا بمعطف أحمر، لأني من بداية الاشتعال حتى الانطفاء، استحضرت صاحبة المعطف الأحمر، وكأنها هي التي أشعلتني ثم أطفأتني، وطبعا كان ذلك لمصلحة هذا اللون الدخيل، لأنني استمريت أفعل هذا بنجاح جنسي لا نظير له، وكأني أبحت لها في سريرتي أن تفعل مثلي، فربما كانت هي أيضا لونا لشخص آخر، فالعملية تشبه السطو، خوفي من أن يكون المجتمع كله قد تكاثر بهذه الطريقة.. قد أُنجب أنا أيضا بهذا الالتحام الافتراضي.!

مضى عام دون أن أرى أصحابي، لقد اشتقت لهم كثيرا، ولا أعرف أي طريق سلكوه في هذه الحياة، الحياة التي بدت متوحشة جدا، على خلاف ما كنا نتخيل أيام الدراسة، حقا فكرت جادا أن ألاقيهم بأية وسيلة..

عندما رحت أتفقد الأمكنة، وجدت مقهى الفرارة قد تغيرت ملامحها كثيرا، لكن الذي جعلني أجثو على ركبتي حين أخبرني أحد أن محَّاد الصغير قد مات.. مات محَّاد الصغير، وماتت معه الفرارة، واختفى معه صّهْداري(106) الكرّوش، وانجلت بعد رحيله رائحة الصنوبر، كأن المقاعد كلها حزينة، حين فقدت اكتظاظ الزبائن وتراكمت فوق بعضها..!

عمي بوعزَّاره لم يعد يستوعب شيئا، حين تكاثرت حوله الدكاكين، وفاضت بسلع كثيرة متنوعة الألوان والأشكال، قيل بأن الشيخ الذي كان يجلب له اليقطين من المزرعة المجاورة قد مات. وبذلك انتقص الدكان من أهم مادة كان يبدو بها المحل من الخارج أنه بالفعل دكان، لم يعد شكله يصلح أن يكون كذلك، مقارنة مع الواجهات الحديثة، فقد صار يشبه الخم حين أصلحت البلدية من شأن الطريق أمامه، وزادت من ارتفاعها وفقا للدراسة، فأفسدت مدخله، وجعلته يشبه ثقب مغارة مهجورة، فصار الداخل إليه ينزل بواسطة سلم إسمنتي على عكس الجيران، وصارت اليد الخضراء التي رسمها ذلك الخطاط لا يزيد ارتفاعها عن الأرض إلا بمسافة ثلاثة أذرع، ولم يعد على رفوفه البالية إلا الشربة الرقيقة، فكان عمي بوعزَّاره كلما ينزل إلى دكانه أو يصعد منه، ينغمس في سب البلدية، وينعتها بأقبح الأوصاف.. فيخرج جاره، يقف على أعلى درجة من سلم عتبة مدخله من الخارج.. يقف وقفة متباهية:

ـ يا سي بوعزّاره أنْت اللّي غالطْ.. ما درْتشْ حسابك من بكْري(107).!
ـ اللعنة عليهم، واشْ من حسابْ انْديرو.. راهمْ ردْموني(108)..!

عمي بوعزّاره لم يعد يبيع ولا يشتري، فقط صار كل مرة يجلس على عتبة المدخل من الداخل، يدلي رجليه، ويعطي ظهره للمشاة في الشارع، ويظل يسب البلدية:

ـ يا ربّي جيبْلهمْ ضربة ياربّي..
ويظل يندب وجهه، كأن القيامة قد قامت عليه..! وكلما يسأله أحد عن شيء.. يقول:
ـ ما كانْش.. كاين الشُّرْبة الرقيقة.!
ـ كاين الكاشير..؟
ـ لا ما كانش.. كاين الشربة الرقيقة.!
ـ كاين الفرماج..؟
ـ لا ما كانش.. كاين الشربة الرقيقة.

وظل يقول هذا لكل سائل، حتى لقبه الأطفال بالشربة الرقيقة، وصار ينزعج منها كثيرا، أحد الأطفال وأظنه ذاك الذي أطعمه بوعزّاره ذات يوم حلوة الريح، هو نفسه قال عند أذنه:

ـ الشربة الرقيقة.!!

قال هذا بصوت عال ثم هرب، فقام عمي بوعزّاره، وثار خلفة ثورة عاطلة، ورمى وراءه عصاه التي اعوجت من طول الأمد، وكاد الولد الشقي أن يفر بها، لولا أن جاره صرخ وجلب له العصا، وظل الأطفال كلما اتسع لهم الوقت، جاءوا كي يثيرونه ليجري وراءهم، بل صار عمي بوعزّاره لعبة مفضلة للأطفال، حتى جعلوه يكره العطل المدرسية.!

لم يرق لي التجوال في هذا المكان لما يحمل من مآثر محزنة. عدت أدراجي لآخر مرة، وتمنيت لو أنهم يعودون، كي يجتمعون عند الحائط الأسود، لأنه لم يعد أسود حين لبس الرخام وتطاول في السماء، تجاوز كل مباني الجيران، حتى وصل إلى الطابق الثالث.. محلات تجارية في الأسفل، أما الطابقان العلويان فقد اتخذهما الحاج روينب فندقا ضخما، صاحب اللون الأسود قال لي عندما التقيته صدفة:

ـ إنه يطردني كلما وجدني أبيع البيض قرب المحلات..
ورأيته مرة يصرخ في وجهه:
ـ هيا اذهب إلى الجحيم، لم يعد هنا من هو في حاجة إلى بيضك..!
فانسحب من المكان، وأقبل نحوي بأثواب رثة، ووجه أسود حزين.. وراح يرشدني إلى المكان الذي اعتادوا عليه.. قال:
ـ لقد ضاقت بنا الأمكنة، فصرنا نلتقي خارج المدينة.. ليسا بعيدا من هنا..
وأشار بيده..

ـ منذ شهر لم نعد نلتقي نهار أبدا، إذا أردت أن تزورنا فتعالى إلينا ليلا في حديقة الحرية.

أن أذهب ليلا إلى حديقة الحرية فهذه مشكلة كبيرة..! فأنا متزوجوصارت لي بنت صغيرة، وعلي أن أظهر بمظهر المسؤول والمربي، وأن أتحلى بالانضباط والهدوء، وستصير في المستقبل لونا لشخص آخر، كنت دائما أوصي نفسي أن لا أفعل مثل ما كان يفعل أبي.. أقول:

ـ ... أنا رجل متعلم.. هذا عيْبْ كْبيرْ..!!

قررت أن لا أذهب إلى حديقة الحرية، وكبحت نفسي عن رغبتها في نبش الماضي بالبحث عن أصحابي، وأقنعتها أن اللون الأزرق البحري هو اللون الذي اختاره الله لي، ويجب أن أكون عاقلا ومؤمنا بالمكتوب.!، استمريت على هذا الحال طيلة خمس سنوات، منذ سنتين أخيرتين منها حصلت على وظيفة متواضعة، أهم ما أضافته إلي هذه الوظيفة، هو أنني صرت كذاك الذي يخرج باكرا ثم يعود في المساء مرهقا، فيسند أطفاله على ركبتيه، فيتلمسون جيوبه لعله أتى إليهم ببعض الحلوى، كم تمنيت أن أصير كذلك، كم تمنيت أيضا أن يسأل عني أحد وأنا غائب، فتقول له ابنتي:

ـ إن أبي في العمل..

كأني كنت أرى كل هذا هو المقابل الذي أتقاضاه، ولم أكن مولعا بالنقود كثيرا، ولهذا عرفت أن جهة معينة على عمد صنعت ذلك الضغط بما يشبه القانون الدولي، كي تصنع هذه النفس البائسة، تصهرها بالحرمان، والجوع، والعطش حتى تستغلها عندما تلين، وتكتفي في الأخير بما تقدم إليها، وتمضي هي تراكم خلفها ثروات طائلة.

لم أعد أمتلك وقتا كثيرا.. ابنتي قالت لي ذات إياب:
ـ إن أشخاصا سألوا عنك..
كنت أظنهم أصحابي القدامى، غير أنني استغربت ذلك لما مر من زمن طويل، اعتقدت أنهم زملائي الجدد الذين عرفتهم من خلال الوظيفة، غلبت على ظني وقلت:
ـ ربما بعض الجيران، قد يكونون في حاجة إلى شيء ما.

السكن الذي استأجرته من أحد الخواص لم يكن فسيحا. كان في القديم مستودعا، ثم قسمه صاحبه إلى غرفتين وفناء صغير، كنت أظن أن مالكه رجل، لكن تبين فيما بعد أنه لامرأة جميلة الصورة قبيحة الملافظ، كانت قد شيدته بما جمعته من مال في بيوت الدعارة، وجعلت من ذلك الشيخ الذي تحدث معي في شأن الكراء غطاء لها، حتى لا ينزعج منها الجيران فيطردونها. حتى الشيخ يعرف هذه الحقيقة فرضي بها، حين لم يكن يجد أين يأكل وينام.. تلك المرأة الخبيثة أتعبتني كثيرا:

ـ اللعنة عليها.. كانت لونا جذابا لكل النفوس المنتصبة.. ولست أدري لماذا أهتم أنا بكلامها القبيح فينفرني منها..!

جاءتنا ذات يوم، كنت متكئا أستريح من فرط العمل، دخلت تحمل في يدها ضفدعة، وكانت مشحونة جدا:

ـ لقد وجدت هذه الضفدعة داخل صندوق عداد الكهرباء، وقد أخذتها وقرأتها عند انعمْ سيدي، وقالْ لِّي راهُمْ دَايْرِينْ لَكْ السحر في هذه الضفدعة، راهم حابَّينَكْ تسمْحي في الدار.!!

لم يعجبني الوضع، تخلّيت عن ثمن شهر كراء متقدم، وغادرت هذا الجحر الفاسد إلى سكن أكثر منه راحة بقليل، رغم أن الراتب لم يعد يوفي بكل متطلبات الحياة.. زاد أفراد أسرتي، ولذلك أدمنت العمليات الحسابية، وضحيت بمصروف جيبي لصالح المقتنيات الضرورية، وقد ظهر ضيق العيش على رثاثة ملابسي ونحالة جسمي واندهاش نفسي. أتعبتني عبارة سمعتها ابنتي من ابنة صاحب السكن، قالت لها في الشارع:

ـ إن السكن لنا وليس لكم راكمْ ساكْنين عنْدنا..!
وأدهشتني حين سألتني:
ـ أبي لماذا ليس لدينا سكن كما كل هؤلاء..؟!!

تناسيت سؤالها، لأن تفكيري ليس لديه إجابة تقنعها في الوقت الحالي. اللون الأزرق البحري بعد أن امتلكني حين ملأ حجري بالألوان الصغيرة، صار لا يتوانى أن يبدي تضمره أمام ضعف الدخل المادي، وكأن الأمور بيدي، فقلت آن أن أصرخ، وأعبر عن ربوبيتي كما كان يوصيني أبي حتى لا تُهزم شخصيتي، ويكتسحني هذا اللون فيطيح بكبريائي.. الصراخ سهل، ومن أبسط الأشياء أن يمحص المرء في خصمه فيحصي عيوبه، كي يوظفها في أي حرب محتملة، ونسيت أن أفعل ذلك.. كنت كأنني أريد أن أتبع خطة أبي. لكنني فضلت الصمت حتى لا أفضي على البيت جوا يكرهه أولادي، كما كنت أنا أكرهه حينما كنت صغيرا، لقد قررت ألاّ يعيد التاريخ المغبر سيرته الفقيرة الجائعة، فأنا لست كأبي أنا رب أسرة متعلم ومثقف، وكنت كل مرة اذكر نفسي حتى لا يموت الهدوء، وتنقرض الحكايات والأحاجي مرة ثانية،صبرت حتى أحافظ على استمرار وتواصل قداسة الأسرة، كأمة صغيرة كنت أعتبر أنني أنا ربها شرعا وقانونا، لكنني غيرت في نمط وموضوعية هذه الربوبية، فأضفت لها الجانب الذي لم يوفره أبي، فقد كان يمارس علينا ربوبية مبتورة وناقصة، أضفت لها العواطف، وأرغمت نفسي على حب اللون الأزرق البحري، لأني إنسان يؤمن بالمكتوب، ولست كأبي الذي كان يسب اليوم الذي تزوج فيه بأمي، ولأننا لم نلاحظ أبي يتأملها يوما، لم يكن لأمي أي لون مشهود، أما أنا فقد نظرت إليها، وحدّت لونها حتى صار يعرفه أولادي..فهذا أيسر ما أستطيع أن أفعله، وهو لا يتطلب مالا ولاجاها ولا وثائق، لكنها لم تستطع صبرا، لم تكن تعبر عن رفضها وعدم رغبتها فيْ، ولم تلمح إليّ يوما أنني سطوت عليها لأحرمها من لونها، فقد كانت هي أيضا إنسانة تؤمن بالمكتوب، وقد اقتنعت بي لونا قدره لها الله، وأظنها قد حدّدته بحكم ما كنت أتردد على لبسه، وبالتأكيد يكون لونا بنيا فاتحا.. أحيانا كثيرة ألاحظها تتأمله، فكأنها تضيفه بعسر إلى دمها، وكنت أنا أفعل مثل ذلك، كان هذا يظهر بجلاء في الفراش.! غير أنها أحيانا تفسد علي متعة الغوص في زرقتها البحرية، حين أجدها تمارس عقلية الطفل الذي لا يقبل مصروفا ناقصا، أو حبة حلوى واحدة، لأنها تعرف مسبقا أن النهار طويل، ويتطلب أكثر من ذلك، وتجهل أن هناك آلة سياسية اقتصادية قررت أن أفواهنا لا تسع إلا حبة واحدة، كي تستمر القرارات وتستمر الأفواه مفتوحة، حتى تظل الدولة دولة، ويظل المواطن مواطنا، فكأنها تروضه على الحرمان، حتى يستعد لأي أزمة تندُر فيها الحلوى، ولا يفعل كأي طفل مدلل، يغضب ويقبل على تحطيم الأواني والمواعين.. قلت في نفسي:

ـ ها قد اقتنعت أنا.. فأين رب هذه الدولة كي يجيء ويقنع زوجتي.!؟

كنت في حاجة للبقاء في الشارع أكبر وقت ممكن لأتحاشى الصدام، ومع ذلك تتوفر لدي رغبة ملحة للعودة مسرعا إلى البيت، حتى يفرح أولادي بمجرد قدومي، وأفرح بهم وأقبلهم واحدا واحد، ثم ألاعبهم بالكرة التي رماها صاحب البيت عندما احترق جانبها، غير أنه قد نفر منها ابني، ورماها حين أخبره ابن صاحب البيت قال له:

ـ هذه الكرة كانت لي، ورميتها عندما احترق جانبها، قال لنا أبي: لا يجب أن تبقى هذه الكرة داخل البيت فهي بشير شؤم حين نراها كل صباح..!!

كان على حق.. فقد كانت تشبه وجه بشر محترق.!

هذا الصباح جمعة.. كان علي أن أتجنب هيجان اللون الأزرق البحري ما استطعت، فلا رغبة لدي في أن يتعود أبنائي الصراخ في البيت، خرجت إلى الشارع لا أدري إلى أي مكان أتجه.. رحت أردد ما كان يقوله بن الملوح، وهو يطوي الصحاري، لكني أنا الآن أطوي الشوارع والطرقات المسفلتة:

ـ (يقال ليلى بالعراق مريضة
فيا ليتني كنت الطبيب المداوي).

لم أُشف حتى رأيتها قد تخلت عن المعطف الأحمر، رأيتها قد أدخلت يدها من الفتحة التي شكلها وهو يضع يده في جيبه. كانت تجذبه نحوها حتى رشق مرفقه في خصرها وكانت تضحك. فضحكت أنا على حالي، وكتمت ما كنت أردّد حين علمت أنها ليست مريضة، بل كانت بصحة جيدة وسعادة لا توصف. ولأنني لم أتعلم يوما كيف يمكن أن أكره، فقد سعدت كثيرا حين رأيت ذلك التلاحم، ولأول مرة يختلط على نفسي موقفان، فقد رقرقت عيناي بالدموع، وارتسمت على شفتي بسمة، فصرت كأنني أبكي وأبتسم في آن واحد، ابتسمت لأني علمت أن ليلى بخير، وأنها لم تكن مخطوفة ولا هي مكرهة، بل أخذت لونا يبدو أنها تحبه كثيرا، وبكيت لأن روحي كانت تعاني مخاضا عسيرا، كنت أنسلخ من شيء ما، أو كأن هذا الشيء قد امتخض في صدري وهم بالنزول، فهو يجرف دما غزيرا.. كتمت ألمي ووجعي، ومسحت دموعي غير أنني أبقيت على ابتسامة كانت على شفتي، ابتسامة تشبه عصفورة هلوعة خائفة، لم تأمن المكان الذي حطت فيه فأبقيتها مكرهة، لأنني لا أحب أن يشفق علي أحد.

هممت أن أعود إلى البيت، وفي الطريق تمنيت أن أكون طبيبا لنفسي، فليلى لم تعد في حاجة إلي عندما ظفرت بمداويها. قلت يجب أن أختار لنفسي لونا آخر، وأكتفي بالتي تزوجتها أو تزوجتني لا أحد يدري، ونشكل معا راية بلون رزقتها البحرية. لم أستطع أن أقاوم قرار أبي، وربما حدث لها مثل ذلك، أو هذا ما أُوهم به نفسي دائما..

شعرت بانتكاسة شديدة في نفسي، وعدلت عن الذهاب إلى البيت، لقد أظلم الكون في عيني، وجدت أنه من الضروري أن أذهب إلى حديقة الحرية..

قررت أن لا أجلس في البداية.. كنت صامتا.. أسير في اتجاهات مختلفة، لا أكاد أقطع مسافة مترين أو ثلاث، حتى أعود فاقطع مثلها في الاتجاه الآخر وهكذا.. كأن حاجات كثيرة تتغلغل في أعماقي، ولا أدري بما أبدأ، أحيانا أتعجل خطواتي، وسرعان ما أفتر، وأعود ثانية في الاتجاه المعاكس ذابلا، ربضت مرهقا متعبا دون أن أنوي الجلوس أو المغادرة.. قررت الجلوس، لأنني كنت دائما أفشل في إقناع زوجتي بأسباب عودتي الخائبة، لا تريد أن تتنازل عن طلب المزيد من المقتنيات، بالتأكيد هي تفرح دائما بخيبتي المتكررة، وفي ظل حرية المرأة والخطاب الجديد.. على أن المرأة قوية، وتستطيع.. وتستطيع.. ربما تريد أن تتوفر لديها حجة كي تخرج وتثبت أنها كذلك.. يبدو أنها اقتنعت أن الرجل لا يملك القدرة للحصول على ما يريد، في هذه اللحظة تذكرت ذلك الأصلع صاحب الكرش البارزة، وتذكرت أيضا المكتب المجاور، حين انبعثت منه ضحكات تشبه مجلسا من مجالس قريش قبل الفتوحات.

كان من الممكن أن أكون سعيدا، لو أني من البداية فهمت لغز الحكاية.

وأنا في حديقة الحرية أجلس على الكرسي الرخامي، الذي قيل بأنه كلف البلدية أموالا طائلة، لست أدري لماذا ذهب فكري بعيدا، وامتنع أن يتمتع بالعشب الذي لم يثن اخضراره تعاقب الفصول، كان علي أن أعوّده على شيء من المكر، حتى أنقّب عما تخفي تلك السراويل المحشوة باللحم الأنثوي الحي، وينعم بتلك الرائحة المنبعثة منهن، فقد كن كأنهن أغصان نعناع، لم أكن جريئا في هز رأسي، وانغمست في غياهب فكرة أخرى، رحت أتأمل أثر الكعوب العالية، وقد وجدتها تترك ثقوبا كثيرة جدا، تخيلت أن الأرض من كثرة هذه الدغدغة قد مسخت، صارت ذكرا لكثرة ما كانت ترى وتفحص ما عجز عن تفحصه الحيطيست(109). الأرض تولدت لديها رغبة غريبة، صارت لا تحتمل الآثار الخشنة، التي تدعي الرجولة في رواحها ومجيئها،تركت الكرسي فقد ظننت أنه سيكلفني ضريبة، فأنا لا أتوفر على شياكة تتناسب مع شكله الفني، قمت ولم أكثر اللوم على الأرض، تأوهتُ وضربتُ بيدي على ركبتي، كالعجوز الهرمة العاجزة:

ـ كيف للأرض أن لا تسلك سياسة الانفتاح، وهي ترى كل شيء مفتوحا فوقها..!!؟

عندما مزقت الكعوب العالية رحم الأرض، مسكت السماء مطرها، حتى السعدي الزُّهدي قالها.. قال:

ـ لا سحاب هذا العام..!!
كأنه كان يقرأ كف الكون..

نفضت القشّابية من الخلف، فتلطخت يدي بما طرحه أحد المجانين على ذلك الكرسي الرخامي، مشكلة كبيرة.. ماذا سأقول لزوجتي، فهل بعد أن أيقنت أني لا أقدر على توفير المزيد من احتياجات البيت، تتهمني هذه المرة أنني لا أعرف كيف أقْعد.! لم أكن هكذا من قبل، كانت معنوياتي مرتفعة جدا في القديم، كنت أقول دائما:

ـ أنا رجل صاحب إرادة وعزيمة، وأصلّي وأخاف الله، ولا يمكن لأي امرأة أن تختلف معي، أو تقهرني، أو ربما تذيب شخصيتي فأصير طحان كما كان أبي يصف بعض الرجال من الجيران، وآخرين من الأقارب.

اعتقدت أني أنا مشروع الرجل النادر.. الرجل الذي تبحث عنه المرأة، وينقب عنه الوطن.. الراتب الذي تقاضيته الشهر الفارط، لم يكف لشراء علبة مسحوق الصابون، أمام تكاليف كراء السكن وفاتورة الكهرباء، إضافة إلى المواد الغذائية الضرورية الأخرى. على القائمة التي كنت أنظر إليها في الدكان خلسة، شطبت من واحد حتى خمسة، وقد نفذ كل ما في جيبي، لكن لم أشطب على مسحوق الصابون، وربع كيلو غرام من لحم الشاة الطاعن سنها، لأن زوجتي كانت حامل وقد تشهت اللحم، في آخر القائمة كان الرقم ثمانية، وهي قطعة شكولاطة البقرة، التي كانت تحبها ابنتي، تأكلها ثم تقص البقرة المرسومة وتفصلها عن الغلاف بطريقة غير منتظمة، وتلصقها مقلوبة على الجدار.. لقد لصقت منذ أنجبتها بقرتين فقط، وعمرها الآن ست سنوات، بمعنى أنني اشتريت لها خلال اثنين وسبعين شهرا قطعتين فقط، أحبتها لأنها لم تذق غيرها! وكانت غير محظوظة هذه المرة أيضا.. المشكلة التي تواجهني الآن هي أني لا أملك ثمن مسحوق الصابون أمام ما ابتليت به في حديقة الحرية:

ـ اللعنة على هذا الكرسي الرخامي... وعلى حديقة الحرية.. وعلى هذا المجنون الخبيث، وعلى الكعوب العالية، وعلى حرية المرأة، وعلى الخيال الذي جعلني لا أفحص المكان قبل أن أجلس.

عندما أدركت أنني مقبل لا محالة على الصراخ والعويل، انسلَّيْت ذليلا كالسلحفاة من أعماق قشّابيتي، كورتها ورميتها خلف الشجرة، ثم ادعيت أمام زوجتي أنني صدقتها على أحد المجانين.. قلت لها بأسلوب حزين مشفق لعلّي أؤثّر فيها فتتركني وشأني:

ـ لقد وجدته عاريا يرتعش من شدة البرد..!!
لوت شفتيها ونظرت إلي من تحت إلى فوق:
ـ على ما يبدو لي إنك أنت المجنون، وليس هو.. هفّكْ(110) مهْبول ودايرْ روحَكْ راجلْ..!

قالت هذا بمزاح وهي تبتسم، ثم غضبت لأنني لم أتمكن من شراء مسحوق الصابون.. قلت هذا أفضل من أن أعود إليها فائحا نتنا، ولو فعلت ذلك ربما كانت تترك البيت وتخرج، ثم تقول لأهلها أن الرجل صار كالأطفال الصغار يستريح على ثوبه، خصوصا وأن الراتب تأخر كثيرا هذه المرة.!!

ـ غريبة.. حتى المجانين يخططون..!!

قلت هذا عندما رأيت في الصباح ذلك المجنون يرتدي قشّابيتي يتَقَوْعرُ (111) بها بين المجانين، وقد أشهر دبره من تحتها كي يستريح على كرسي رخامي آخر، ربما كان يريد هذه المرة سروالا أو معطفا، كنت أظن أن العقلاء فقط من يضعون الغراء لصيد الفئران، ضحكت وأنا أتأمل المجنون اللعين، كيف يفعل فعلته أمام الناس ولا يبالي، ثم يظفر في النهاية بما يريد، عندما رأيته يلبسها زْكارة(112) بلا مْزية في الدنيا، ولا ثواب في الآخرة.. ضحكت كثيرا من هذه السخرية.. قلت:

ـ ربما هذا ما تفعله الدول المهيمنة بالدول الفقيرة تحت جنون الحروب. والتدخلات المباشرة لإفساد الأمكنة الجميلة، كي يحلو لهم اللبس والتمدد والاستراحة في كل مكان.!!

هي لعبة إذن بين العقلاء جدا، والمجانين العراة في فكرهم ومواقفهم، لكنني كنت استغرب لماذا لهم الغلبة في قراراتهم دائما، مع أن العقلاء أغلبية..؟! ضحكت ورفعت قهقهتي قليلا:

ـ هذه هزيمة القرن وأنا الذي اكتشفتها..!

ورحت أضحك أكثر، حتى انتبه إلي المجنون، وخشي أن أكون قد جننت أنا الآخر، خاف أن يضيق المكان بكثرة المجانين، رأيته قد غضب كثيرا، فهو لا يستفيد إلا من العقلاء، ولا فائدة في رأيه من كثرة المجانين، كان يرى ذلك نموا ديموغرفيا مجنونا، ذكرني بأمريكا في محاربتها لمن تعتبرهم مجانين، لأنها تود أن تبقى وحدها مجنونة، وتصنع عقلاء على النمط الذي يكرس جنونها..!!

مجنون آخر قادم نحوي.. كأنه ليس مجنونا، ربما قد يكون فارا هو الآخر من طلبات البيت المستمرة، قبل أن يصل إلى حيث أجلس ظننته مجنونا، تراه ضحية من ضحايا حرية المرأة، جاء يبحث عن متنفس مثلي.. وضع يده على كتفي ولم تكن خشنة، ولا هي متسخة كما هي أيادي المجانين، ولذلك استأنست به، ولم يضايقني بحديثه.. قال لي:

ـ يبدو أنك لا تعرف الفرق بين استراحة المجانين، واستراحة العقلاء.. ولا تفرق أيضا بين كيف يمكن أن تستريح دولة مصابة بإسهال تكنولوجي.. مثخنة متخمة من فرط الرفاهية على دولة ميتة، لا تجد قوت يومها، الصورة يا صديقي كاريكاتورية فعليك أن تجتهد كي تتخيلها معي، عليك أن تتخيل كيف يقف طائر البلْشون على ظهر فرس النهر، لاحظ كيف يقتات من أسنانها، ومما يلتصق في أذنيها ومؤخرتها، عندا تتأكد من اكتمال ملامح الصورةتمعنها جيدا.. هكذا ترى حال العالم.!! ولكن العصفور خير من هذه الأمة الطفيلية، فهو يستطيع أن يطير، عندما تقدم فرس النهر على التمرغ، لكن الأمة التي أعنيها يتمرغ فوقها كل ضخم، فيحدث فيها دمارا، وخرابا دون أن يبالي، كما يفعل هؤلاء المجانين بحديقة الحرية بالضبط..!!

التمست في شخصه الهدوء، وسلامة الفكر، وسعة الخيال، قلت لا يجب أن يكون هذا الرجل مجنونا.. تفقدت المكان، وجلست بجانبه استرخى ناحيتي، وانفتحت شراهته للكلام أكثر:

ـ يجب عليك يا سيدي أن تفقه فروقا كثيرة، كالفرق بين دخان الحرب ودخان الشواء، والفرق بين حرية المتزوجة وحرية العازبة، والفرق بين حرية الشبعان وحرية الجائع، كذلك يجب أن تعلم الفرق بين حرية المتدين وحرية العاصي، والفرق بين حرية الصبي الصغير وحرية الشيخ الكبير.. وهناك مواضيع كثيرة عليك أن تعرفها، وتتبين الفروق بينها جميعا، حتى تستطيع أن تختار حرية على مقاسك، وتجعل كل هؤلاء يحتارون في موقعك ولكن أحذر أن تصاب بالجنون.

قلت له:
ـ ولماذا لم تجن أنت وقد عرفت كل هذه الفروق.!؟
قال لي:
ـ لأنني مزود بكثير من الخبث، وأنت مزود بكثير من الطيبة والمثالية، أ رأيت الفرق بيني وبينك؟ إنك ستستخلص في النهاية أن عجلة الكون تدور وفق هذه الفروق..
ـ كالفرق بين الرجل والمرأة مثلا..؟
ـ إنك بدأت بداية موفقة، وقوة هذا المثال تشير أنك ستصبح عالما مثلي، ولكن ينقصك الكثير من الخبث كي يستمر عقلك سليما.
ـ أشر علي كيف أصير خبيثا..

ـ لا يجب أن تجادل المرأة في إشكالية المساواة، فهذه مضيعة للوقت، قل في خطابك: إن المرأة مظلومة، مقهورة، تسيطر عليها ثقافة ذكورية غاشمة.. وأجعل كأنك تريد أن تجهش في البكاء، وعندما تزحف إليك تريد أن تستنجد بك، قل لها ببساطة: إنك تساوينني، وأظن أنك تفوقينني بكثير، وبسرعة ادعي أن ثعبانا خلفها، وادعي أنك خفت أكثر منها، وعندما تتلاحم الأجساد الخائفة انتقص منها ما تشاء، وأضف إلى رجولتك ما تريد، ثم صهر زوائدك في نواقصها، ودعها تصهر زوائدها في نواقصك، فإذا نجحت في ذلك، حق لك أن تفخر بأنك صرت رجلا سياسيا عظيما، وستكتسب قاعدة نسائية عريضة، وستحظى بتقدير كبير، لأنك استطعت أن تفرق بين المساواة كخطاب، وإيمانك بضرورة وجود الفرق كي يستمر تفاعل المواضيع المختلفة، هنا يمكنك أن تحلم بأن تصير حاكما للعالم، لأنك بهذا المستوى أثبت أنك فيلسوف تستثمر القضية ونقيضها، كالمقاومة والإرهاب مثلا..

ـ لقد احترت في أمرك..!! من أين لك كل هذا العلم..؟

ـ أتريدني أن أصير مجنونا أو إرهابيا..؟ قلت لك من البداية هذا خبث وليس علم..!! إني أتوقع أن يختارني هذا الخبيث الذي يحكم العالم كي أصبح أبرز المعارضين، ثم يدعمني حتى أطيح بأي نظام لا يعرف كيف يستفيد من القضية ونقيضها، كقضية التعايش واستحالته في الشرق الأوسط.

ـ ألا تخشى على مكانتك عند الخبيث الكبير وأنت تفشي كل هذه الأسرار؟.

ـ سأخبرك بمفاجأة سيباركها كل الخبثاء، لأنها تعمل على توفير الكثير من الوقت للمزيد من بناء العديد من القرى الاستيطانية. إني أحضر مشروع تشكيل لجنة خبيثة، تشمل عددا منتفخا من خارج الجزيرة + أي عدد من الأعراب المخذولين المفلسين المولعين بالسلطة،هذه اللجنة تبحث في ماذا يحمل الأطفال المنتفضين، هل هي حجرة عادية أم هو شيء سحري، وطبعا سأخفي تحت حافظة المكتب مشروع قرار ينص أن هؤلاء الأطفال إرهابيون، يحملون شيئا غير مألوف في تقاليد الحروب، فقد تكون حجرة ملغمة بمادة سحرية، أو أنهم يستعينون بالغيب كي تصبح هذه الحجرة سلاحا خرافيا، لا تستوعبه العقول البشرية. وستبحث هذه اللجنة في ذات الوقت، هل ما يدوس به اليهودي المزارع والحقول دبابة حربية، أم هي جرارات تحفر كي تخبئ حبات القمح لتغدو سنابل للجياع، وسنؤكد في تقاريرنا أن هذه الدبابة أخف من الفراشة على الزهور وحقول الفواكه.

ـ ولكن لماذا أي عدد + أي عدد؟
ـ لأن العرب اعتادوا الخوف من المعادلات التي يتفاعل بها الكون، حين أدركوا أنهم رقم لا يصلح أن يُضاف إلى أي تجمع سياسي يدير العالم.

اقتنعت بل أيقنت أن المتكلم، قد بلغ درجة عظيمة من الخبث، وعندما رآني باهتا محملقا اقترب مني.. حملق في وجهي، ومسح على رأسي:

ـ هذا ولا تظن أنني أخبرتك بكل ما عندي..!!

لقد روعني هذا المخلوق العجيب، لقد أدركت أن السياسة في كل شيء، علمت أنني كنت أقمع الأولاد عندما يطلبون المزيد من الخبر، لأنني رحت في التو أبحث في الفروق، وأول ما بدأت به هو الفرق بين وزن الوجبة التي تقررها المنظمة العالمية للتغذية، والوزن الفعلي للرغيف الموضوع الآن على رف مخبزة الحاج روينب، بل رحت استغرب ما هو ذلك الدهن البراق، الذي وضعه على سطح الرغيف ذي الطول المغري والوزن الكاذب. فأخفوا به اللون الأصلي الذي تهفو إليه رغبتنا الحقيقية، كي ننال الشّبْعة الكامنة في تعبنا وجوعنا، لقد جعلنا بريق هذا الخبز كما لو أننا نلهو بأي شيء، ولا أحد يدري متى يشبع شبعته الأولى، لقد تهت أفكر في الفرق بين خبز اليوم، والرغيف المستدير الذي كانت جدتي تحمله بعناء، عندما تريد أن تقْلبه إلى الجهة الأخرى، وهو في طابونة الطين، وكان جدي يكيلها شبرين.. يقول:

ـ شبر مقابل تعبي من الإبكار إلى الضحى، وشبر مقابل تعبي منالضحى إلى الزوال..

يأكلها كلها إلا ما يرميه إلى القط، أو الجرو المخلص في النباح، وجده الكلب الذي تقاعد، ولم يعد يجري وراء كل سيارة غريبة تمر بالطريق المحاذي.! رحت أفكر أيضا في الفرق بين دجاج الماضي ودجاج هذه الأيام، لماذا هذا الدجاج يشبه بيضه، فكأن الدجاجة بيضة من بيضة، نسخة واحدة تتكرر وتتعاقب، من أين كانت تأتي الألوان في دجاج الماضي..؟!! هل حدث للعرب مثل ما حدث للدجاج، فصار كله بلون واحد وسلوك واحد، يظل يأكل ليلا نهارا ولا ينام أبدا، ولا يستطيع أن يرى حركة العالم إلا في الظلام..:

ـ اللعنة على الكهرباء والتطعيم، اللعنة أيضا على المعلبات، تحي الشخشوخة(113) الحامضة التي كان لا يفرغ منها مطبخ جدّتي...

التفت إليه وقد انتابني غضب:
ـ لقد شعرت بالدوران، وأقارب أن أشك في كل شيء..
ولم ينته الرجل من الكلام في فلسفة الفروق، فراح يسألني ثانية:
ـ أتعرف الفرق بين الشك واليقين..؟
ـ مما لا يقبل الشك أنك تريد أن تجنني..!!

ـ ومما يحتمل اليقين أنك لن تصاب بأي أذى، لأن كل المجانين الذين تراهم حولك فقدوا عقولهم من فرط الصمت، أمَا وقد تماثلت للكلام فإنه لا بأس عليك، وخوفا من أن يتهمونك بالأصولية على ذكر الشّخْشُوخة الحامضة فإنه يلزمك الآن شيء من الخبث. لا تحاول أن تقنعني أن القشّابية التي يلبسها ذلك المجنون ليست لك، أم تريدني أن أقص عليك الحكاية.؟

ـ بالمناسبة هل يجوز لي الآن أن أنويها في سبيل الله..؟

ـ كان يمكن هذا قبل أن يوقعك في فخه، وإلا كانت العراق أيضا في سبيل الديمقراطية والحرية، كلهم رموها في أحضان جنون أمريكا خوفا من زوجاتهم، لاحظ بالمناسبة الفرق بين لون بيت الولايات المتحدة، ولون بيت الأمة المتفرقة، ولاحظ أيضا الفرق بين العولمة والفتوحات..

لقد خيم الظلام والتوت المجانين، ونامت تحت جذوع الأشجار، وقامت بدورها الكلاب تستعد للتنقيب عما تحتويه الأكياس السوداء. وتفرك كل القمامات.. تشبع ثم تشرع في التناكح، سلوك لا يختلف كثيرا عن الإنسان، ولو أنك سألت كلبا ومكنه الله من النطق لأقر بذلك.. عندما شعرت أني صرت أهذي قررت أن أنصرف..عالم الفروق لم يكن يرغب في انصرافي فنادى ورائي:

ـ لا تنسى أن تبحث عن الفرق بين النهار والليل، ستجد فروقا كثيرة أمامك في الطريق وفي البيت، لا تنس أيضا أننا سنلتقي غدا في هذا المكان.

ما شدَّني في هذا الإنسان، هو وجود الكثير من الفروق بيني وبينه،وأهم فرق هو أنني كغيري من البُلهاء، لا طموح لدي وانحصرت أحلامنا في التطلع إلى شبْعة العمر، أما هو فله طموحات كثيرة، وأنه على ما يبدو يعمل على نشر ثقافة الخبث، وكي يوازي بين نسبة الجنون ونسبة الخبث، راح يوفر أمكنة، وخطابات، ومصالح مشتركة في الدولة التي ينشدها، دولة يعزل فيها العقلاء جدا، فهم الذين ينزعجون من المجانين والخبثاء كلما يتوحدون في سلوكهم، وحركاتهم ونزواتهم، فالعقلاء جدا يثيرون قلاقل كثيرة في العالم، مثلما يحدث في الشرق الأوسط، حيث أن الفلسطينيين متمسكين كثيرا بالتاريخ، والمقدسات، وهذا ما يشطّب عليه قانون كتلة الخبثاء والمجانين.. لقد تكلمت كثيرا، ولم أكد أخرج بعد من باحة حديقة الحرية.:

ـ آه.. لقد انفلق رأسي..

رفعت صوتي قليلا.. المجنون الذي استولى على قشّابيتي، كان ينام عند جذع الشجرة، قد أبدى انزعاجا شديدا، قام وكاد يضربني.. فاستغربت كثيرا.. قلت:

ـ كيف للمجانين أن ينزعجوا وهم المزعجون أصلا.!!

كأنه ليس مجنونا بوقفته تلك، وهامته التي رفعها داخل قشّابيتي وهو يقول:

ـ نحّيت لكْ القشّابية، ولُو كانْ ما تْرُوحشْ تبعّدْني أنْزيد انّحْلكْ السروال..!!

ولأنني خشيت أن أدخل على لوني الأزرق البحري مرة ثانية بدون سروال.. انسحبت، وعاد فالتوى من جديد داخل القشّابية، رأيته يسحب قدميه إلى داخلها يشبه السلحفاة، ورأيت زجاجة خمر خضراء فارغة مرمية بجانبه، وأخرى فيها ما يقارب النصف، يلفها بجريدة لا يظهر إلا فمها.. ثم نادى عالم الفروق من ورائي، وكان على مسافة معتبرة بيني وبينه:

ـ اذهب وعندما تصل إلى بيتك فتغطس في النوم، ستحلم بفرق عظيم بيني وبينك، ستتذكر أنك نائم وأنا مستيقظ، هذا إذا استطعت أن تنام من كثرة الفوارق في البيت..

كنت فعلا قد شعرت بالصداع، أدركت أنني أخذت نفسا من سيجارة غريبة كانت في يده.. سرت ولا أزال أسمعه ينادي:

ـ احذر وأنت تدعي أنك مستيقظ أن تتوه، لا تنسى أن هناك فروقا كثيرة بين الطرق..

بعد أن عبرت أكثر من طريق تهت فعلا..!! اعتقدت أن كل الطرق تؤدي إلى البيت، كما كانت في القديم تؤدي إلى روما، نسيت أن الخرائط صارت على وجه الماء كبقع الزيت، تأخذ أشكالا جديدة كلما تحركت زعانف الخبث.

لم أستطع الوصول إلى البيت، ولكنني تمكنت من العودة إلى صاحبي، ربما عدت بفعل ذلك الجذب، الذي نتج بفعل ذلك النفس الذي أخذته من السيجارة. تملكني خوف شديد، حين شعرت أنني أصبحت كلبا، وقد رسخت في دمي هذه النكهة الخبيثة. كنت قادما إليه، وأنا أسير صوبه لست أدري لماذا غير مكانه، فحذرته أن يكون قد جلس على (...!!)، فضحك:

ـ أنت تحذرني من هذا، وأنا الذي أزعم أنني أعلمك فقه لفروق.؟ إني قررت الجلوس، حتى وضعت دراسة دقيقة لمعرفة الفرق بين مقعد وآخر، فوجدت أن بينها فروق طفيفة، رغم العادة السيئة من بعض مَن تعتقد أنهم مجانين، وجدت أن الشيء الذي أفقدك القشّابية أهون بكثير مما يوضع على كرسي السلطة. لأن الأول لا يكلف إلا قشّابية، أو علبة مسحوق صابون، والآخر قد يكلف ثورة كبيرة، لاحظ الفرق بين جنون الزعامة وجنون من يتمرد عن الزعامة.!!

الحديقة يتكاثر فيها العقلاء كل يوم، تراهم في النهار ينتشرون رواحا ومجيئا، لكن يختفون في المساء كي يفسحون ذلك الحشيش الدائم لأناس كالأشباح، بشر من نوع آخر تماما، يبيتون سهارى.. تنفذ من أفواههم وأنوفهم أعمدة دخان ليس كأي دخان، حسب ما شعرت به، استغربت كيف تلك الأشجار لم تمت ولا تزال تفشي ربيعها في موعده.!

لا أزال أحتفظ في عقلي برمق من الوعي، لأني تذكرت أني تركت زوجتي وأولادي، ولست أدري ألديهم ما يأكلون أم لا.؟ وقد يجعلهم الوضع الأمني يعتقدون أني اختطفت أو اعتقلت، أو طلعت إلى الجبل، وقد لاحظوا توتر أعصابي في المرة الأخيرة، بالضبط عندما قرأت في الجريدة أنه قد ارتفع ثمن البترول في السوق الدولية، ومع هذا لم ينخفض سعر رغيف الخبز عند مخبزة الحاج روينب، التي تعرض خبزها ساخنا كل صباح. لقد سمعني الحاج روينب أقول هذا، هذا اللعين قد يُدلي بشهادته أمام زوجتي والجيران، عندما ينتشر خبر غيابي المفاجئ، بالتأكيد يقول في المحضر أنه رآني على غير ما يرام.. منفعل، وأنني كنت أمتص السيجارة بعصبية شديدة، وأنني كنت أحمل تحت إبطي قفة فيها خنجر، وبالطبع سيقول في النهاية:ـ ... ولم أره من حينها.

الشرطة قد تكون طلبت من زوجتي الصورة، ومعلومات متعلقة بسني وشكلي، وقد تكون طلبت منها أن يبلغوا المركز في حالة عودتي..أما ذلك الفطْفاطْ فقد يكون أضاف أشياء أخرى أكثر خطورة طمعا في المكافأة.

الساعة تشير الآن إلى بداية صباح جديد وبعض الدقائق، وأنا لا زلت تائها عن أهلي وأولادي، ولازلت أسامر صاحبي في حديقة الحرية، المكان الذي اتسع لنزوات كثيرة، حتى النساء حضرن هناك.. فالظلام الدامس والأشجار الكثيفة الملتفة، كل هذا كاف للتخفي غرض الممارسة الجنسية، واجتماع الألوان التائهة عن بعضها. الدخان الغريب الكثيف جعلني أشعر بدوران، صرت كأني أرى العلم ظلاما والجهل نورا، وكأن هؤلاء أسرة واحدة، وكأن الأشجار مثقلة بثمار عجيبة، وكأن الكون بقمره ونجومه غرفة واحدة، غرفة جمعت هؤلاء الاخوة بعد هجر مرير وفراق مضن.

لقد تذكرت أول لقاء لآدم وحواء، كلونين رسميين أراد الله أن تنحدر منهما كل الألوان. ولذلك غدت سنة الله أن يحاول الابن كيف يكون أكثر دقة من أبيه لأن المسألة تزداد صعوبة كلما تكاثرت الألوان، حتى لا نتوه عن الأرض فلا تجد من يعمرها، أو تختلط علينا الألوان فنتكاثر بنمط فوضوي، فيصاب البشر بمثل ما أصيبت الأبقار من جنون، وعلى حسب ما أرى في حديقة الحرية فقد حدث بالفعل، فقد مر بجانبي مجنون يحمل أقمشة بألوان كثيرة، وكان يجري ويصرخ وكأنه يغني:

ـ (كل واحد عندو لونو
وانايا لوني وين..؟!!
وانايا لوني وين.. وانايا لوني وين.. وانايا لوني وين.. وانايا لوني وين..).

وكان يكرر هذا ويلتفت يمينا وشمالا.

الشيء الذي تسرب إلى دمي، وجعلني أنسلخ عن حيائي وحشمتي، دفعنيألاّ أكتفي بلون واحد كما كنت في السابق، كأنني صرت بألف قلب، وألف نفس، وألف روح.. كأنني أط..ـيـ..ر، بل كأنه مباح لي كل شيء، كأن وحيا يأمرني أن أقتل نفسي أو غيري على حد سواء، كأنه سيان عندي أكنت عاريا أم لابسا، ضاحكا أم باكيا، في بيتي أم خارجه، في حديقة الحرية أم في زنزانة ضيقة، لقد أهدر هذا الدخان كل مبادئي وقيمي، كل أحاسيسي ومشاعري، كأن جلدي تحول إلى مطاط، ودمي إلى شراب، وكأن قلبي بابا يدقه شخص متوحش، وأنا أشهر خنجري لأفتح وأرى من الطارق، لقد شعرت بزعزعة عظيمة في كياني، كأني قد خلقت خلقا آخر ولكنه سيئ جدا هذه المرة.. كأن من ورائه مسا شيطانيا خبيثا.

كنت منجذبا.. يبهرني التلاصق، ويأخذ بلبابي التأوه المنبعث من بين الأشجار، وكأنه عالم آخر ينفر من الرسميات والأفرشة، ويرفض الوثائق والطقوس، بعد أن فرغ صاحبي من سيجارته، ضربني بدعابة على كتفي، وأمرني أن أغلق فمي وأستمع إليه:
ـ لاحظ الفرق بين مبيتك في البيت، وبين مبيتك في هذه الحديقة الهادئة، خذ راحتك يا صديقي لتكتشف ما يخبؤه الظلام، يبدو أنك كائن ضوئي، لاحظ الفرق بين الكائنات الضوئية والكائنات الليلية، لاحظ إنهم بكلابهم، وقططهم، ومجانينهم، وربما حتى حشراتهم من ديدان، وعناكب، وبعوض.. كلهم متساوون ومتراصون بشكل فعلي، خلاف ما يدعي أصحاب الصف الأول، فهؤلاء عندما تتباعد أقدامهم يعودون كي يتنازعون عن الملك ويكذبون في بيعهم وشرائهم.

أنا لازلت تائها عن أهلي وأولادي، أنا الآن في مدينة ليلية لا تظهر في النهار، بشر لا يتكاثرون إلا في الظلام كالقطط والكلاب والخفافيش. عفوا أيتها المخلوقات الليلية، أغضبني الإنسان الذي لم يعد يحترم قوانين الحياة، ويرغب أن يكون فضوليا، يضايق الأشياء في السماء والأرض والمستنقعات.. الكثير من الكائنات انقرضت، ربما انتحرت حين منعها هذا التجمع البشري وانتشاره الفوضوي ليلا نهارا.

الكائنات التي انقرضت أو انتحرت لا أحد يدري، هي الكائنات التي تستحي فقط، فلماذا لم ينقرض الخنزير مثلا، وكائنات أخرى استمرت تتمسك بحقها في استثمار شهواتها للإنجاب والتكاثر، بدليل أني رأيت قطا امتطى قطة، بعد أن استمر يموء حولها حتى صار كالرضيع الجائع، وكذلك فعل كلب شرس بكلبة هرمة لم تبد أي مقاومة، كان يحدث هذا على مقربة مني، وعندما طردهما أحدنا ذهبا متلاصقين، أحد الخنازير القدامى الذين اكتسبوا خبرة كبيرة من طول إقامتهم في هذه الحديقة. كان يتأمل تناكح الكلبين بانبهار، وكان بوسطه يبدي حركة ما، كأنه قد تخيل نفسه ذلك الكلب، جذبني من كتفي، وهو لا يزال يصد بوجهه ناحية الكلب:

ـ لاحظ الفرق بين ما يفعله هذا الكلب بكلبته، وما يفعله الرجل بصاحبته، لاحظ أنه يمسكها مسكا مخلصا، كأنه لا يكتفي بالشكل كي يتصورها كلبة أخرى فقدها، أو حرم منها كما يفعل البشر.. أنظر.. أنظر والله إنه يلتهمها التهاما، أنظر شفتيه إنهما تختلجان، ولسانه يقطر باللعاب يبلل قفاها، لو كانت امرأة لخافت أن تصيبها الجراثيم من لعاب زوجها.

هذا المتكلم أشاد به عالم الفروق، وهمس لي بصوت خافت قال لي:

ـ هذا من المعجبين بثقافتي، غير أنه ذهب إلى أبعد مستويات الخبث.!

هذا التلميذ النجيب تمادىفي شرح الموضوع، الذي قال عنه أنه قضية كبيرة، عندما حاول أن يسكته عالم الفروق، صرخ صرخة كبيرة:

ـ دعني أرجوك كي أبيِّن الفرق بين زوجتي وهذه الكلبة اللعوب.

وهو يملأ الكأس بما تبقى في القارورة.. كان ينفضها نفضا من شدة الغيظ، وأصر أن ينتظر القطرة الأخيرة، وهي تنقطع ببطء عن فم الزجاجة، كان يتبعها بعينيه، وهي تهوي كي تنضم إلى ما احتوته الكأس، الكأس لم يكن فيها إلا شيء قليل جدا، وضعها بين سبابته وإبهامه، وهو يرفعها إلى فوق حتى يطل على أسفلها قال لي:

ـ هذا هو الصّحْ..!
شربها جرعة واحدة، ثم الْتفت:
ـ أنا لعابي فيه جراثيم..؟ هل أنا أتغذى على الجيفة كهذا الكلب..؟ اللعنة عليها..!!
ثم راح يصرخ:

ـ هذه الكلبة أخلص من المرأة التي تخلت عني، ثم حاكمتني وكلفتني كثيرا، حين اتهمتني بالعجز وعدم القدرة، ثم صدقها القاضي، لقد نفرت مني عندما اكتشفت أن أسناني اصطناعية، ماذا تريد بأسناني، هل تريدني أن أمزق لحمها، انظروا إلى هذا الكلب، هل استعمل أسنانه وأنيابه، أم استعمل شفتيه.؟!! ربما كانت تريد أن تتحول إلى كائنة ليلية هي الأخرى، تريد أن تحظى بكلب فحل كهذا.. أنا شعرت من البداية أنها مولعة بشهوة الكلاب، فالشهوة الآدمية لذة قديمة منقرضة.!

ثم قام قياما معوجا، وراح يخطب بوقفة مائلة مضطربة:

ـ بل يمكن أن تكون قد تحولت الآن إلى خنزيرة، وتولدت لديها رغبة أن تَلْبد تحت كل الخنازير، ها قد صرت خنزيرا، ترى في أي شعبة أجدها أو في أي واد ألتقيها..؟ سأفتح قارورة خمر أخرى حتى لاأعود إلى آدميتي، فأتذكريوم خفق قلبي لها، فَقسمت بيني وبينها التفاحة، وقلت لها (..إني أحبك) كما أخطأت سابقا، كنت أحسبها لوني، فابتسمت هي الأخرى ووافقت كانت قد أخطأت حسها، وظنت أني لونها..!!

ثم كأنه شعر بصداع من شدة الصراخ، فهوى من وقفته وسقط على العشب، أما أنا فلا زلت تائها عن أهلي وأولادي، وشعرت بالهلع عندما تحول الرجل إلى خنزير، فقلت ماذا لو هاج الآن، ورآني أني في مستوى أقل بكثير، فأنا لا زلت في أول تجربة، لا أعدو قطا هزيلا، لقد أحاطت بي الخنازير، وبدأ الصراخ والهدير، عالم الفروق بعد أن تمتع بما كان يقوله تلميذه النجيب، قال لي:

ـ أنظر إنه يرتعش.. إنه لا يجرؤ أن يفعل شيئا، ولو أن من يقصدها حضرت لديه لذابت قواه، ونخرت عزيمته، ولجذبته من أذنه، وساقته كما تساق النعجة المهينة... بل ربما التحف بفستان العاهرة التي تجالسه اللحظة، بالمناسبة ستلاحظ حينها الفرق بين الرجل والرُّوَيْجل (114).. الذي لا يقدر قيمة الألوان.

ـ الآن عرفت الفرق بين حرية العازبة وحرية المتزوجة، حرية العازبة في رفض الرجال الذين يتقدون إليها، وحريتها في اختيار الرُّوَيْجل، حتى تستطيع أن تلعب تحته، كلما رغبت أن تتحول إلى خنزيره، وربما حولته باختياره إلى خنزير لا يغار عليها..

مسح على كتفي، ثم ركع ليطل على شفتي، وأنا أثري نظرية من نظرياته السابقة:

ـ شكرا يا صديقي.. أنا مطمئن بعد مداخلتك القيمة هذه، أبشرك لقد اجتزت مرحلة جبارة كي تصير عالما مثلي، لقد شعرت الآن أن ثقافتي تنتشر تدريجيا، لتصل إلى الشريحة الاجتماعية الواسعة التي تكاد أن تجن من فرط صمتها.. ولكن ينقصك بعض التركيز.. خذ نفسا من هذه السيجارة، حتى تستطيع أن تستوعب الواقع كما يجب، فلا تخطئ مرة أخرى في حق هؤلاء، الذين أباحوا لك ليلهم وأسرارهم، وأفسحوا لك حديقة تتسع إلى مساحة حرية نعتقدها نحن، وليس كم يعتقدها أولئك الصامتون، خذ نفسا كي تتدرج، وتعرف إلى أي مدى يمكن أن تأخذ حقك من الحرية، ولأن المخلوقات الضوئية لا تستوعب هذه الدروس، اخترنا أن نمارس حريتنا في الليل، من الآن يا صديقي لا علاقة لك بالشمس والضوء، لا تخشى شيئا سيبدو لك الظلام نورا، عندما تصل إلى درجة اليقين أن النهار للأغنياء والأغبياء.

ذاك الطويل المتصفْصِفْ الذي كان يدرسنا سابقا علم النفس، تبين أنه لا يعلم أين ينبض قلبه بين ركام غرائزه، لأني وجدته في حديقة الحرية، وعندما سألت عالم الفروق عنه، أخبرني أنه من المعمرين القدامى لهذه الحديقة، قال لي:

ـ لو كنت من روّاد هذا المكان لكنت من المجتهدين زمن الدراسة.
 لكن تنبأت من البداية بأن الموضوع فيه (إنّ)!! ولم تكن لدي رغبة في هذا النوع من الاجتهاد.. انصرفت عنه لأني خشيت أن يقنعني أنها ليست لدي شخصية، وأنا في رحم هذه الحديقة، ولا أزال أبتسم عندما يفرح الوطن..! رفضت درسه، واكتفيت بما يقوله عالم الفروق، الذي لم يعودني بهذا الصمت المفجع، وكأنه لم يعد يعلم شيئا، عندما التفت إليه ضحك:

ـ كنت أتأمل الفرق بينك وبين ذاك المتصفْصِفْ، الذي كاد يقنع الشجرة المجاورة أنها لا تزال قصيرة، مع أننا جميعا لا نصل عندما نقف إلى نصف طولها.

قلت أعرفهما ببعضهما، حتى أمزج علم النفس بعلم الفروق، نظرت إلى معلمي السابق وقد رقرقت عيناه وبرزتا، كأنهما توشكان على السقوط، لا تشدهما إلا زجاجتا النظارة.. أردت أن أضع يدي على كتفه فلم أجده، ووجدت مرفقه، ورغم أنه كان ضعف طولي إلا أنه لان في يدي، وصار طفلا وديعا، أو ربما وهو في نشوته تلك قد تذكر أباه، فاستغرب عالم الفروق لمن انتسب بطوله هذا، لأنه قال لي وهو يمسكني مسك المتعطش للحنان:

ـ لقد ذكرتني بأبي..!!

فأدركت ساعتها لماذا أصر ذات درس، أن الطفل ليست لديه شخصية وهو في بطن أمه. عالم الفروق كاد يميتني من فرط الضحك، فعندما تجاوز كل النفوس، ليس بعلمه ولكن بطوله قال لي:

ـ هذا من المفروض أن يكون عالم فلك، وليس عالم نفس لقرب رأسه من السماء.

الطويل المتصفْصِفْ اعترف أثناء حديثه المبعثر المنتشر، أنه كان يحب، راح يذكر بعض الأزهار، فعرفت أن لونه بنفسجي، وألح أن أضيف لونه إلى الراية فرفضت، لأني لم أر هذا اللون من بين ألوان رايات العالم. في البداية ضغطت عليه قلت حتى يعترف أن للطفل شخصي وهو في بطن أمه، فلم يعترف، لكنه ضحك ووضع يده على كتفي:

ـ إنك لم تفهم الدرس ذلك الوقت، فأنا لم أكن أقصد الأم الأولى وإنما قصدت الأم الثانية، وإلا فماذا تفعل هنا في حديقة الحرية لو كانت لديك شخصية حين كنت في رحمها.؟

ولأنني كنت على نيتي ذلك الوقت، لم أفهم هذا.. أدركت ذلك فيما بعد.. تصالحت معه، ولأن لونه خليط بين لوني ولون أكرهه، ويكرهه جدي ويكرهه المجاهدون، رحت أصر على إبعاد هذا اللون عن الراية المقدسة.

رفعت رأسي فوجدت ما فهمت أنه ضباب كان دخانا، وأنني قد أخذت أنفاسا كثيرة بمجرد تواجدي في المكان، لأني اعتقدت من كثرة المدمنين أن الأوكسجين قد نفذ، قلت ما ضرني الآن أن آخذ نفسا، تراه لا يغير من الوضع شيئا، ولكي يقطع هذا النفس دابر التفكير في رأسي، فأنا لا أزال أفكر في شراء ما لم تكفه الدراهم في بقية قائمة حاجيات البيت، اقتربت من لفة الحشيش التي كانت بين إصبعيه، فعلتها ومضيت في سلسلة من السعال، ورحت ألوي رأسي يمينا وشمالا.. القفة الفارغة سقطت من تحت إبطي، فتناولها أحد المَزْطُولين المزلوطين واتخذها فراشا، وعلى قدر لهفته لها تخيلت أني قدمت له خدمة عظيمة، ورأيت القفة كأنها قد اتسعت إلى مساحة زربية أمي التي فقدتها.. عالم الفروق حين رأى كأن حلقي قد انسد من شحنة النَّفس الذي أخذته، أمهلني قليلا حتى أبلع ريقي.. ثم سألني:

ـ كيف ترى العالم الآن..؟

ـ إني أشعر كأن عقلي يمضغ شيئا غريبا، كأن فقاعات تتصاعد أعلى رأسي، إني أرى الملائكة ترقص من حولي، كأني أُبْعث إلى الجنة.. زدني نفسا أيها السخي..!!

أخذت نفسا أطول.. لم أسعل هذه المرة، وشعرت أن لا حاجة للملابس التي أرتديها، وجدت أنه من النفاق أن نخفي شيئا يتوفر عند الجميع، وأنا أنزع أثوابي، شعرت كأني كنت عاريا وأنا الآن ألبس، وشعرت أيضا كأني قد ولدت من أم عجيبة لها أثداء كثيرة.. كل ثدي ينضح بشراب من نوع مختلف، وأنا أتغنج من أي ثدي أرضع، ثدي الحليب، أم ثدي العسل، أم ثدي الكوكاكولا..؟!

عندما انسلخت من آدميتي، رحت أصرخ كأني قد بلغت يقين الحياة:

ـ لقد صرت خنزيرا.. لقد صرت خنزيرا..!!

ثم تقدمت إلى الأمام لعلّي أجلب خنزيرة كي أتمتع قليلا.ا. وأنا في أوج نشوتي، رأيت الخنزيرات جئن صوبي وهن تتصارع للظفر بي، لأني خنزير جديد، ولم تبرك تحتي خنزيرة من قبل، ففازت بي جروة.. سبقتهن جميعا، لأنها لا تزال بصحة وعافية، كانت خنزيرة صغيرة جميلة.. احتفلت بميلادي كل الخنازير.. ثم رحت أصرخ:

ـ ربما كانت زوجتي خنزيرة أيضا، ولذلك صعب تفاهمي معها، وكانت دائما ترفض رجولتي المعبأة بالفكر، والحيرة، والهموم، ولأنني كنت لاعبْها عاقلْ بزّاف..! كانت تشك في قدرتي ورغبتي، عندما أمنعها من الخروج وأغلق النافذة، ثم أخرج.. ترى إلى أي مكان كانت تذهب من ورائي..؟

ضحك أحدهم:

ـ ربما كانت تأتي إلى هنا قبل أن تتعرف علينا أنت، وقد تكون ذهبت إلى حديقة أخرى عندما رأت أنه لا يجوز أن تجتمع بها في هذا المكان..!!

ـ أنت غبي تنفي ما تريد أن تثبته، فبهذا الكلام كأنك تؤكد أنها ليست خنزيرة، فالخنازير لا تفكر هكذا.!!

ثم رحت أقهقه.. أناديها بصوت مرتفع:

ـ تعالي يا خنزيرتي.. تعالي لأعرفك على أصدقائي الخنازير..!!

أحاطت تلك الخنزيرة الجروة ذراعيها حول وسطي، وجذبتني نحوها، وقد عضت على شفتيها، وكان الخنزير الذي وشم اسمها على ظهر يده ينظر ويضحك، ولا شيء تحرك في داخله.. الخنزيرة الصغيرة لاعبتني، وعندما توهجت جذوتها، كأن ضبابا ينقشع من أمام عيني وعينيها، لقد اكتشفتْ أني لبستُ ثوب التخنزر حديثا، يبدو أنها حديثة العهد بالتخنزر مثلي، وكأني بها قد حزنت لأجلي حين تخنزرت(115)، وقد رأت أني لا أستحق هذا المسخ، ووجدت نفسي حزينا أنا الآخر.. صراحة حزنت كثيرا لفتاة جميلة كهذه أن تصبح خنزيرة، أخبرتني عندما سألتها عن الدافع الذي اضطرها:

ـ لقد كان زوجي لا ينام معي في فراش واحد، كان في البداية يتذرع بالوضوء والطهارة، ثم اكتشفت أنه لا يصلح إلا للوضوء، أو ربما هو متوضئ بالفطرة، فلا شهوة تضطره إلى الوضوء من الأساس.

نصحتها أن تنفصل عنه وتقترن برجل آخر، لا يتوضأ إلا إذا اقتضت الحاجة، شعرت أن النصيحة قد أثمرت فيها، فقالت:

ـ لقد جئت لإنقاذ ذاك الذي أحبني وأحببته، ولكني جئت بعد فوات الأوان.. لقد تخنزر، وما اندفعت إليك إلا لأرى ماذا سيفعل، ولكنه يراني الآن في حضنك ولا يزال يضحك كما ترى.!!

قلت لها:
ـ ابحثي عن غيره.. لا تيأسي.
لكنها وضعت رأسها على صدري، وبشيء من البكاء والغنج:
ـ وأين أجد هذا الرجل..؟!
ـ إن كنت تقصدينني، فأنا لا أفلح إلا في إنفاق هذا المخزون العظيم من الشهوة، الثروة العربية الوحيدة التي لا تطالها الضرائب، ولا تحاصرها الأمم التي لا أعرف لأي غرض اتحدت، ولا تمتد إليها عيون الحساد، ولا يشك فيها مجلس الأمن الدولي أنها أسلحة دمار شامل.
ثم التفت إلى الجهة الأخرى، وجعلت كأني أكلم نفسي:
ـ أنا لا أزال تائها عن أهلي، ولا زلت عاجزا عن توفير شهوة الأكل، والملبس، لي ولأولادي.. وهذه هي المشكلة التي دفعتني إلى المجيء إلى هنا..
عاودتْ فجذبت وسطي:
ـ تزوجني ولا أكلت، ولا لبست..!
ـ ماذا حدث لعقلك، هل رأيت الخنازير تتزوج..؟!!

رغم أني التمست إنسانيتها فيما تقول، إلا أنني كنت حذرا، وإذا كانت هي قد اتخذتني لونا لها، فقلبي لم يكن لديه أي استعداد لهذا الموضوع بل صار مغفلا أبلها، إنه صار قلب خنزير، والخنازير لا ألوان لها، فقلبي لم يعد خفقه مفيدا، إلا عندما أريد أن أتأكد من أنني لا أزال حيا، حينها أضع يدي على صدري، بالضبطفي الموضع الذي تعود أن يخفق فيه، وأحيانا أخطئ فأضع يدي على يميني، فيهزني رعب وأخال نفسي قد متّ، قلت لها ذلك ولم أكذب عليها، ورغم أنها لعوب، وأني انغمست في لونها دون أن أقرأه، فأنا مصر أن لا أنافق، فقد كان الأزرق البحري أكثر وقعا على نفسي، وعرفت أني قرأته قراءة دقيقة، قبل أن أدخل به، ورغم أنني تخنزرت إلا أن لونها الأزرق البحري لا يزال يهمس في رأسي، ويلمز في نفسي، ويوخز جسدي وخزا لذيذا، لولا أن ضنك العيش أضعفَ من شراهتها الأولى.. رحت أحكي لها عن زوجتي قلت لها:

ـ إذا كان لا يزال في قلبي خفق يصلح للحب، فمن الأولى أن أطوعه كي يروم اللون الأزرق البحري الذي أنجبت معه ألوان صغيرة، ورغم أن التي أكلمها خنزيرة، إلا أنها أبدت احتراما كبيرا لارتباطي باللون الأزرق البحري.. قالت لي:

ـ زوجتك أعرفها.. وهي ليست خنزيرة كما قلت سابقا، هي امرأة طيبة جدا، لكن لديها رغبة كي تعينك قليلا، مشكلتك أنك أنُوف أكثر من اللاّزم، وتعتقد أن المرأة لا تخرج إلا لتتخنزر.

ـ ولماذا تخنزرت أنت إذن..؟
ـ أنا لم أفعل ذلك بحثا عن الأكل أو الملبس، فعلت هذا بحثا عن (....)، لا تجعلني أضعفُ أكثر من هذا، فليس من السهل على المرأة أن تبوح بأسرارها، وتفضي بجوعها وعطشها للرجل، خصوصا ما يتعلق بنزواتها.

لقد رثيت لحالها كثيرا، فقد كان الآباء (يُعطُون) بناتهم لرجال غرباء عليهن، هكذا تسمع أي أب يقول، عندما يسأله أحد عن ابنته.. يقول:

ـ أعطيتها لابن فلان..

وكأن لا هي ولا بن فلان هذا لهما دخل في الموضوع، فالقضية تعني فلان وفلان من الأولياء، كأنهما يتبادلان فردتي حذاء، أو كأنهما يتبادلان متاع بيت داخلي.. ولهذا يتخنزر الشاب، ويظل يبحث عن الفتاة التي تخنزرت هي الأخرى، يبحثان عن بعضهما، كأن التخنزر عملية انتحارية أمام عنف الأولياء، فالرغبة شيء مؤجل، وأحيانا كثيرة شيء مرفوض أمام القرار الذي يتخذه الأولياء..

الخنزيرة الصغيرة نامت على ركبتي، وتأكدت أني لا زلت تائها عن أهلي وأولادي، الساعة الآن تشير إلى الثانية صباحا، انتابتني يقظة ملغمة بهلوسة غريبة، أزحت الخنزيرة الصغيرة قليلا، وضعت رأسها فوق ركبة من العشب الطبيعي، وأخفيت حقيبتها الصغيرة تحت إبطها، ولشدة تعطشها للنوم لم تستيقظ، أما أنا فقد شددت رحالي ـ أو ما ظننت أنها رحال ـ إلى أهلي، اقتحمت اللون الأزرق البحري بشهية خرافية، كانت شفتاي مزرقتين، وعيناي أقرب إلى النوم منهما إلى اليقظة، أو أقرب إلى اليقظة منهما إلى النوم، لم أكن أدري..شيء غريب يدور في رأسي، لا هو بنعاس يمهد لنوم عميق، ولا هي استيقاظه تدفع للنشاط والعمل، كنت أراها صحوة ملغمة ترفرف بجناحين حريريين، كي تحط على ربوة بلا أفق ولا شمس، أو تطل على هاوية بلا قاع ولا أساس.. ساعتها كنت في لحظة اكتشاف مكوناتي الحقيقية، ولأنقب عن روحي الجميلة التي غزا فضاءها الظلام الدامس، ولطخت رهافتها الأحاسيس الهابطة، ورمّلت مشاعرها أقدام الخنازير في حديقة الحرية:

ـ هل أنا تائه الآن عن أهلي وأولادي..؟

قلت (لا)، فأنا لأول مرة أكتشف أهلي، حتى أولادي وهم نيام كنت أراهم ملائكة صغارا، كأنها تنبت على جوانبهم أجنحة ذهبية. هويت فوق لوني الأزرق البحري ولم أخش أحدا من أولادي. ولما فتح لوني الأزرق البحري فمه متأوها، لم أضع يدي على فمه كما كنت أفعل في السابق..!! بل غصت في دفئه وشربت من عسله حتى ارتويت، ثم تجولت بشفتي عبر كل أنحاء بياضه، وبعد ذلك غصت بلساني في كل مداخله ومضيقاته، ولأول مرة لم أغمض عيني، ولم يفعل هو مثل ذلك.. بل كان يحملق في وجهي كما لو أنني دخلت به في التو.. قلت:

 ـ ماذا لو كانت في هذه اللحظة ترتدي معطفا أحمر..!؟

لقد قررت أن أشتري لها معطفا أحمر، كي تصلح أن تكون بديلة مناسبة. الأولاد استيقظوا، وبالتأكيد قد اكتفوا بفرحتهم إثر عودتي، ثم هووا برؤوسهم نحو وسائدهم، عرفوا كل شيء لكنهم لعْبُوها ما همْ فاهْمينوالو..! كما كان يفعل اخوتي مع أبي وأمي داخل تلك الغرفة الوحيدة.

في الصباح لأول مرة، أخرج عن نسق ذلك النظام المستمر، كنت أبدو سابقا مستعدا منذ شروق الشمس، كما لو أنني في الكشافة، ولأول مرة أيضا أشعر أنني زعيم كبير، فلا أحد يستعجلني للخروج، ولا أحد أخاف منه أو أستحي، انطلاقا من أبي إلى الكبار من أقاربي وجيراني، عندما وقفت عند الباب الرسمي لدخول العمل، شعرت أنني ضخم جدا، وأن المدخل لا يسعني، كنت على غير العادة، دخلت متأخرا.. شعرت أنني لست في حاجة إلى شكر المدير وثنائه، كان يفعل هذا كلما أدخل مبكرا قبل هذا المجيء المتعنتر..!! لأول مرة يتأكد زملائي أني لست من كان يخبر المدير بالمتأخرين. لقد أحاط بي كل المشاغبين احتفالا بتمردي، وعجرفتي، كانت عيناي ذابلتين، واستقامتي منهكة كثيرا، كأني أحمل أثقالا فوق ظهري.. انحنى نحوي أخبثهم:

ـ كأنك مريض أو عليك حكم..؟!
ضحكت، ورفعت رأسي:
ـ بل علي أحكام كثيرة..!!
ثم التفت إلى الجهة الأخرى، حيث تجلس ثلاث فتيات، وضعت يدي بين فخذي وقلت أواصل حديثي:
ـ بل مستعد لأحكام أخرى، وإن اقتضى الأمر فأنا مستعد حتى لحكم الإعدام، وليس لمجرد حكم الاغتسال..!!
البنات ضحكن.. لست أدري هل فهمن ما أقصد فأعجبهن الموضوع،أم ضحكن كي تجعلنني أشعر أن هن غير آبهات بي، وسيان كان هذا الظن أم ذاك، فكليهما مثير ومستفز بالنسبة إلي.
ذلك الخبيث دفعني دفعة شديدة، وقال لي وهو ينظر إليهن:
ـ أنت خنزير..

كان يريد أن يسيء إلي، وجهل أنه قد وصفني الوصف الذي أرغب أن أجيء به، ولأنني أعلم أنه لم يفعل هذا بدافع النهي عن المنكر، ولكنه كان يستعطف سكرتيرة المدير، فقد استمر ينظر إليها من بعيد طيلة ثلاث سنوات، دون أن يملك جرأة كي يكلمها، تراني أعطيته فرصة ثمينة كي يعبر لها أنه مؤدب ويحترم المرأة، لكنني كنت أعلم أن هذه الفتاة لا تعيره أي اهتمام.. قلت له:

ـ سيثبت لك الخنزير أنك بقرة، وأن الشيء الذي تنوي الحصول عليه، لن يتأتى لك بهذه الطريقة التي أهنتني بها.

أشرت لتلك الفتاة أن تأتي، وقد رأيتها أكثرهن انفعالا بما كنت أقول، لم تتردد لحظة.. أتت وهي تضحك بكل ملامحها، انزويت بها في الجهة المقابلة، ورحت أحكي لها ما فعلت مع لوني الأزرق البحري قلت لها:

ـ .... كأنني تزوجت البارحة فقط.!

اشتهت الموضوع، وأخذت تطلب مني المزيد من الحكي، وبعد لحظات مر بمجلسنا المدير ولم يقل شيئا، لأنني لم أكن أعجبه في الماضي.. كان يعتبرني معقدا، وقد تكون عندي مشكلة ضد المرأة، غير أن المدير رجع بثلاث خطوات إلى الوراء، وقال لي:

ـ عندما تنهي حديثك مع زميلتك، تعالى إلي في المكتب..!
كان في الماضي يشير إشارة تثير الرعب، يقول لي:
ـ قم واتبعني إلى المكتب..!

وكنت أذهب إليه وأنا أرتعش، لكن هذه المرة أخذت راحتي كاملة، ثم ذهبت إليه مرتخي العضلات، غير آبه لما يريدني من أجله، دخلت فوجدته ينتظرني على غير عادته، فقد تحاشى أن يجلس خلف المكتب، وتنازل عن اللقطات التي كان يبديها، ليعبر أنه مدير حتى يربكني، ويضعف من شخصيتي، لكن هذه المرة جلس يقابلني، لا تفصلني عنه سوى مائدة صنعت قاعدتها من الخشب، ووضعت فوقها مساحة زجاجية، عليها مزهرية استطالت من عمقها أزهار بلاستيكية، قام ليشير إلي بالجلوس، وهو يفتح الثلاجة خلفه، رأيت ورقة وردية ملفوفة على نمط السيجارة، وُضعت داخل الأزهار، تناولتها حين ضننت أنها مهملة، وربما وضعت بعفوية في هذا المكان، فتحتها في الوقت الذي كان يناولني مشروبا باردا، وضعه بين يدي وهو يضحك:

ـ يعجبني الرّاجل الفحْشوشْ..! هكذا دلّل روحك، وأضحك.. الدنيا فانية، والدجاج يموت..!

في الحقيقة احترت فيما أقول، لأنني رأيت أنه خنزير هو الآخر، بل خنزير محترف، تدل على ذلك صلعته، وبطنه البارزة، والكلمات التي استعملها، وأهمها ما هو مكتوب في الرسالة التي وجدتها، كان قد كتبها بخط يده إلى الفتاة التي التحقت بالوظيفة حديثا، كان يظن أنها أخذتها، حين طلب منها أن توضب له المكتب، وربما أبت أو لم تنتبه إليها. أتيت على آخر ما كان في القارورة.. طلب مني أن أزيد فامتنعت، أخرج علبة السجائر.. أظهر منها سيجارة، وتقدم بها ناحية شفتي كي آخذها، وضعتها بين شفتي، ثم أشعل عود الكبريت بطريقة دبلوماسية فائقة. مكوثي معه طويلا جعل السكرتيرة تتحجج بشيء ما وتدخل المكتب.. قرأت في ملامحها أنها تريد أن تعلم ما يدور بيني وبين المدير، فقلت في نفسي:

ـ ماذا كانت ستفعل هذه المخلوقة لو كنت امرأة..؟!!
لقد غارت عليه مني.. شعرت أنها تريده، لكن هو قالها لي بالحرف الواحد:
ـ راني ما نيشْ طايقْ(116) انشُوفْ(117) الفيْقُوره (118) انْتاعْها..

وقد رأيته اشمأز عندما دخلتْ، وأمرها بعنف أن تضع ما في يدها وتخرج، عندما كانت تفتح الباب كي تختفي، رأيتها قد لوت شفتيها حتى تخفي حرجها.. لأنها لم تكن تعرف أنه سيفعل بها هكذا أمامي، ولطالما تباهت أمام الموظفين أنها على ما يرام مع المدير!.

المدير كان يظن أنها قد أخبرتني بعلاقتها به، أما هي فقد ظنت أنه يريد أن يعاقبني عندما وجدني معها، لكن لا يبدو على وجه المدير أي غضب، كان يبتسم ويقول:

ـ أعرف أنك رجل مؤدب، ولا أعتقد أنك ستصدق هذه الكلبة إن هي أخبرتك بشيء ما، ربما ستكذب علي لأنها طلبتني للزواج ولم أقبل.

لأول مرة أكتشف هذه الحقيقة، ولأول مرة أيضا يقبع أمامي المدير ضعيفا، أما هي فقد ظلت لوقت طويل تتباهى أمام الموظفين أنها تتمتع بنفوذ كبير عند المدير. وكانت تستعمل هذه السلطة ضد زميلاتها الموظفات، المدير مدد ذراعه وتناول الورقة التي وضعتْها على المكتب، نظر فيها قليلا ثم سلمها إلي وقال:

ـ إن أردت أن تأخذها فخذها..

كان يجب أن آخذها.. أريد من ورائها شيئا، وللمدير هدف من وراء ذلك بطبيعة الحال، الورقة كانت تحمل أسماء المتأخرين لهذا الصباح، كان اسمي ضمنهم لأول مرة!.

ـ سيدي المدير لم أكن لأصدقها، لولا أنني رأيت مرات عديدة ما كان يحدث بينك وبينها.. كان عليك عندما تود أن تأخذ راحتك معها أن تغلق ذلك الثقب..!

وأشرت إلى الباب..

عندما اندفع صوبي مفزوعا، فتحت يدي في وجهه:

ـ تأكدْ أنه لم يلاحظك أحد غيري، فقد كنت أمنعهم ولم يأت صوب الباب أحد إلا أنا واثنان لا أفصح لك عن اسميهما، لا تهتم هما رهن إشارتي.

اطمأن وعاد إلى مكانه فجلس.. وأصر أن يضيف لي مشروبا، لكن من نوع آخر هذه المرة.. قال لي:

ـ هذه رُونْجِينَا (119) لا يشربها إلا المقرّبون..

تناولتها وامتصصتها، كما يمتص الرضيع ثدي أمه في حداثة مولده، لأن الرُّونْجينَا نادرة وثمنها باهظ تلك الأيام، في الحقيقة قد كذبت عليه، فالسكرتيرة لم تخبرني بشيء، ولا أنا لاحظته لا من خلال الثقب ولا من أي جهة أخرى، وضعت القارورة على المائدة، وكنت حريصا أن لا تضعف شخصيتي أمام هذا الأصلع ذي البطن البارزة، فتحت عيني جيدا، ولم أكن أشعر ساعتها أنني لا أزال خنزيرا، بل تمنيت أن أظل على عهدي، لأن الموضوع صار له علاقة بالشخصية، والكرامة، والمروءة، كان كل شيء مستيقظ في داخلي، تأكدت من ذلك عندما فتحت الرسالة الوردية المعطرة وقرأتها على مسمعه، فاخذ يختلج ومدد يده مرتعشة كي يتناولها:

ـ أعطني إياها أرجوك، وأطلب أي ترقية تريدها.!
طلبت ترقيتي إلى منصب رئاسة مصلحة، واشترطت عليه أن أُبقي الرسالة عندي.. قلت له:
ـ حتى أضمن أنك لن تتعرض إلى إيذائي.
وأعطيته الأمان أني لن أكشف عنها لأحد.. كأننا قد وضعنا ميثاقا بيننا.

خلال الأسبوع الأول قرر تعيني رئيس مصلحة، لكنني لم أنس ذلك الدنيء الذي أهانني، كي يستميل السكرتيرة على حسابي، ونويت توظيف تلك الورقة، كي أنال من تلك السكرتيرة أولا، وثانيا كي أطيح بذلك الذي يعتقد أنه رومبو(120)، لمجرد أنه دعا المدير ذات ليلة لتناول العشاء، جلست بينهم، ولم يكن يبدو علي أي خوف من المدير، وفي صمت رحت أفكر في هدف المدير من تسليمي الورقة، رأيت أنه يريد أن يثير البلبلة ضد السكرتيرة، ويتسبب في كراهية كل الموظفين والعمال لها، وبالتالي يحصل على ثلاث مكاسب، أولهما التخلص منها، وثانيهما إرضاء الموظفين والعمال بطردها، أو على الأقل عزلها عن أمانة المكتب، وثالثهما كي يفسح المكان لتلك الصغيرة، التي التحقت بالوظيفة مؤخرا لأجل هذا الغرض سلمني الورقة. عولت أن أبدأ بتنفيذ ما كنت متأكدا أنه دهاء، لأبرهن لذاك الذي يرغب في السكرتيرة، ويظل يحاول أن يقترب منها ليكلمها، وعندما لم يستطع راح يمنع الموظفين من الكلام مع الموظفات بحجة النهي عن المنكر، أردت أن أبرهن أنه بقرة كما وعدته، ذهبت إلى مكتبي الجديد، ولم يكن بعيدا عن تجمع الموظفين والموظفات بما فيهن السكرتيرة، أخرجت الورقة من جيبي وفتحتها أمام عينيها، فاندفعتْ إلي بشكل رهيب، وطلبت مني أن أخفيها، فاشترطتُ عليها أني سأفعل ذلك، وسوف أتكتم عما أخبرني به المدير، وما كان يحدث بينهما في المكتب قلت لها:

ـ سأمزق الورقة ولن أبوح بشيء لأحد إن أنت قبّلتني أمام ذاك الذي أهانني، وأحط من قيمتي أمام الجميع حين وصفني بأنني خنزير.

كنت أعلم أنه يحبها.. وكان الجميع يعلم ذلك، لكن لا يعلم أحد ما كان يفعله بها المدير في مكتبه، أكدت لها أن المدير أخبرني بكل شيء.

ـ والدليل أنه سلمني هذه الورقة، الورقة التي كنت تسلمين له مثلها كل يوم، وتعتبرين ذلك سرا بينك وبينه.

اتهمتني أنني أخذتها بدون إذنه، بمعنى أنني سرقتها، فأشرت عليها أن تذهب إلى المدير ليخبرها أنه قدمها لي بيده.. عندما ذهبت إليه، قال لها:

ـ إني لم أعد أثق فيك، سلمته تلك القائمة ليحقق فيما إذا كنت صادقة أم لا..!!

بُهتتْ..! ورجعت ملتهبة تكاد تنفجر. سحبتني من قميصي، وأخذتني إلى مكتبي، وطلبت مني أن أحضر صاحبي حتى يرى، وعندما حضر قبّلتني قبلة كانت تريد أن تغيض بها المدير في الحقيقة، لأنها على يقين أن هذا السخيف سوف ينقل إليه ما رأى غيظا فيها بالطبع، وكما هو متوقع بالضبط، فقد ذهب يهرول معتقدا أنه ذاهب صوب المدير بصيد ثمين، لكننا جميعا سعنا المدير يطرده من المكتب:

ـ هيا أخرج يا واحد الكلب..
التفتُّ إليه:
ـ ها قد صرت كلبا وبقرة في آن واحد، تستطيع أن تخور وتنبح حسب الحاجة.

فاندهش وخرج مسرعا، وهو يلعن كل النساء..!! البنات كن يتجسسن خلف الباب، فانكشف أمر السكرتيرة للجميع، ورحت أعرض القائمة على كل الموظفين والعمال، وحدثت البلبلة التي كان ينتظرها المدير وفصلها عن العمل، قال لنا في خطاب حام:

ـ أنا حريص على سمعة المؤسسة من أي فتنة، وحريص أيضا على إبعاد كل من يكون سببا في إثارة الخلافات بيني وبين الموظفين المخلصين.!

أكثرنا تغيبا وتأخرا، كان أول المبادرين بالتصفيق، ثم تبعته كل الأيادي هتافا وتصفيقا. أما أنا فقد هويت برأسي نحو المكتب، ومسكت ضحكتي، وأنا أنظر إليه وهو يخطب قلت في قرارة نفسي:

ـ طبْ.. طبْ..!!

المدير صار بلا سكرتيره، صار كمن طُلّقت زوجته أو ماتت.. صار أرملا، وبدأ من صباح الغد يراود تلك التي لا تزال فرحة بما نبت على صدرها. هذه الفتاة جارتي، التحقت حديثا بالوظيفة، لها اخوة اثنان أكبر منها، أحدهما وضع طلبا لأجل هذه الوظيفة منذ ما يزيد عن أربع سنوات، ولم يُستجب لطلبه، وكان في نظر أبيه ولدا غبيا وأبلها، لأنه لا يحسن تدبير شؤونه، مقارنة مع أخته التي التحقت بالوظيفة من أول طلب لها، ودفعت أمها وأباها لقرض المواد الغذائية من الدكان المجاور، وكان يملأ الرفوف بما لذ وطاب من الخضر والفواكه، والمعلبات المستوردة المختلفة، حتى صاحب الدكان الخبيث قبل هذا لينال حظا أوفر من تلك التي تمر أمامه زاهية بما نبت على صدرها، كانت أم عيشة عندما تذهب لصاحب الدكان لحاجة ما تقول بتفاخر كبير:

ـ كي تجي بنتي عيشة راها تمد لك الدراهم..
وكان يرد عليها بشهوة حامية:
ـ ما تحطّي في بالك والو يا الحاجة، الّلي تخصك راها عندي.. في الصباح.. في المساء.. في الليل، وإذا وجدتي باب الدكان مغلقا فادفعيه.. الدكان دكانك.!
خبيث صاحب الدكان، يضربها في الماء.! كان يدّعي أنه جار ويعرف الواجب، مع أن ابن الحاجة جاءه ذات عوز يريد علبة حليب، فحلف في وجهه بصرامة كبيرة:
ـ والله ما تدّيها(121)..!

وبالمناسبة كتب على لوح صغير مربع بخط جميل (ممنوع الكريدي(122) خصوصا جيراني الأعزّاء..!!) كتب وعلق اللوح خلفه، حتى يتراءى للجميع واضحا. أخوها الأكبر كان ينزعج، ويموت من الغيظ عندما يسمع أمه تعوي عواء الذئبة المكسورة:

ـ يا عيْشة راني شاهْية البنان..!!

أخوها الأكبر اختفى تماما، لا أحد يدري أين ذهب، ثم ظهر فجأة بمظهر جديد، كان ملتحيا، يضع طاقية بيضاء على رأسه، وقصر سرواله من الأسفل، وهجر البيت تماما، بقي لوقت قصير يمكث عند خاله، ولأن خاله رجل له التواءات أخلاقية كثيرة، كانت سببا في حصوله على ثروة كبيرة، خصوصا تلك الاحتكاكات المشبوهة بالنساء، هذا كله جعله لا يرغب في زيارته بهذا المظهر، وكان على عمد يُظهر اشمئزازه منه بوضوح، وظل يفعل هذا كلما دخل، حتى جعله يهجر البيت ولا يعود إليه أبدا، حتى هو اكتشف فيما بعد أن بيت خاله بؤرة للجهل والكفر والفسق.. وأخيرا عرف أنه يقتات من مال حرام. ثم بدا عليه تشدد معين، وغلب عليه الصمت والانعزال حتى اختفى تماما.

المدير ظل طويلا يطارد هذه الجدية الصغير، وأصر أن يحولها إلى خنزيرة، حتى هي نجحت في استغلال إلحاحه، حتى عيّنها سكرتيرة خاصة، وأودعها كل أسراره، ولأنه يبالغ كثيرا في دق الجرس عندما يريدها، وكنا نحن نستغرب ونضحك، اشترى لها هاتفا نقالا علق على إحدى جوانبه قلبا أحمر يشع مع كل اتصال، وأشار عليها أن تترك الهاتف في وضعية الاهتزاز فقط، المدير ذئب كبيرفعل هذا حتى يتوهم الموظفون أنها تذهب إليه من تلقاء نفسها، حتى هي خبيثة وداهية، فقد أتت بكل الموظفات، وأشهدتهن أنه هو الذي يلح في طلبها، وكانت ـ طبعا ـ من جهة أخرى تعبر لهن أنها استطاعت أن توقعه في حبالها، لأن كلهن كن تتمنين هذه المكانة، أمها في البيت توصيها أن لا تتحدث، وأن لان تفشي هذه النعمة الوافرة لأحد.. تقول لها حين تراها تبالغ في شراء الذهب والفساتين:

ـ يا ابنتي راني خايْفَه عليك من العين والحسد..!!

مدير المؤسسة كأنه قد شب من جديد، نزع النظارة وسبغ شعره بالحجرة السوداء وغير من تسريحته، صار يقلد الموظفين الشباب في لبسهم، هذهالصغيرة الوافدة حديثا، تسبّبت في وجود حالة من التوتر بين الموظفات، وصارت حديثهن في صباح والمساء، أما نحن الرجال فقد اتفقنا أن لا نتدخل في هذا الموضوع، ولا في أي موضوع آخر خوفا على خبز أولادنا.. وأوصيت كل الموظفين أن لا يتدخلوا، ونصحتهم أن نستثمر القصة لمصالحنا، وأخبرتهم بالرسالة الوردية التي لا تزال في حوزتي، وكشفت عنها حتى للسكرتيرة الجديدة، وطلبت منها أن تخدمنا، مقابل أني لا أقول شيئا لأبيها، ولا لأخيها عن موضوع هذه الرسالة الغرامية، التي وعدها فيها المدير أن يجعلها سكرتيرة خاصة، إن هي وافقت على ما هو مكتوب في السطر الخامس، ورحت أشير لها بإصبعي على تلك الكلمة التي قالت عنها أنها حساسة جدا.

المدير لم يعد يخشاني أبدا، ولم يعد يعتبر أنني أملك أسرارا عنه، فقد أغلق كل الثقوب، وعاد من جديد يصرخ في الاجتماع يحثنا عن العمل والانضباط، أما أنا فقد تركته على راحته، ما دمت قد استعطت أن أطوع السكرتيرة الجديدة لصالحنا.

عدت منتصف النهار.. دخلت البيت.. الآن أنا لست تائها عن أهلي ولا عن أولادي، أما هي فكأنها قد اكتشفتني لأول وهلة، كانت نشوة تغمرها، كأنما قد أصيبت بمس، تفقدت آدميتي فوجدتها بخير، لمست آدميتها فوجدتها كذلك، ووجدت رغبة غير مألوفة في النظر إليها، لأنها لم تكن على عادتها وهي تنظر إلي.. لا تزال تنظر إلي.. شعرت أنها تكاد تنجح في استقطاب رغبتي، كأنها غاصت في ذاكرتها وابتسمت.. ولا تزال تنظر إلي.. كانت ابتسامتها جميلة جدا، ولم أغض طرفي عنها كأني لا أراها، ولم ألبسها في خيالي المعطف الأحمر كما كنت أفعل سابقا! كأني بها تريد أن أجيئها كما جئت البارحة، وعندما انصرف الأولاد، قالت بشراهة كبيرة لم يسبق أن حدثتني بها:

ـ آه لو أنك تأتي فراشك بالشراهة التي أتيت بها البارحة.. (.. ولا أكلت، ولا شربت، ولا لبست..!!).

 كأنما قد اكتشفتني فأرادت أن تتخذني لونا رسميا، كما نوت أن تفعل تلك الخنزيرة في حديقة الحرية، فقد قالت نفس الكلام، لكن ضميري منعني من أن أتوق إلى تلك الخنزيرة، رغم أن هناك شفقة تنتابني اتجاهها، عاودت النظر إلى اللون الأزرق البحري، واستغربت أنها لم تغضب على بقائي خارج البيت حتى ذلك الوقت، لكنني فرحت كثيرا حين أدركتها قبل أن تتخنزر هي الأخرى. أكلت بعض الخبز، وتركتها بفستانها الأزرق البحري، وتركت شفتيها كأنهما شواطئ تذبح الرمل، وكنت رملها وأنا أرتدي قميصي البني، ورغم أن الفصل صيف، وعادة في مثل هذه الحرارة يعز على المصطافين مغادرة البحر، إلا أنني كتمت حرارتي وخرجت، وقبل أن أغادر خفت أن تتخنزر من ورائي، التفت إليها وقد رأيتها طريحة الفراش، تتوجع بعكس وجع الولادة.. غمزت.. وابتسمت، وعضّيت على شفتي وأشرت لها بيدي:

ـ من بعد..!

في المساء شعرت أنني منجذب نحو تيارين، كأني صرت شخصين في جسد واحد، شخص يتوق أن يتوه.. أن يتعلم المزيد من الفروق.. أن يصير خنزيرا مرة أخرى، وفي النهاية لا تهمه المواضيع التي بينها فروق، ولا الموضوعات المتساوية..

شخص آخر له رغبة أن يعود إلى البيت، فقد كنت أشعر أن لونا مهما يتوق إلي وينتظرني، وفي غمرة الارتباك تناولني عالم الفروق من يدي:

ـ لاحظ الفرق بين أن يكون المرء يعرف جيدا ماذا يريد أن يفعل، وبين أن يكون مرتبكا لا يعرف أي اتجاه يسلك..!!

وهو يضع يده يصافحني كأنه قد أوصلني بتيار جارف، كنت أسير وكأنني قد زدت في السرعة، وفي مخيلتي تلك الصحوة الملغمة التي لم استطع تقييمها بعد، ثم امتدت على مستوى أعصابي رجّة غريبة، ورعشة غمرت كل أطرافي، أحسست كأنني أقف على رؤوس أصابعي.. صرت كأنني فراشة خرجتْ في التو من شرنقتها، صاحبي لست أدري كيف علم أنني مُرفّهٌ هذا المساء؟ ربما كان يتبعني وأنا اسحب راتبي في الصباح.!! كان من المفروض أن أعود إلى البيت بما تيسر من مطالب، حتى أنني وضعت مسحوق الصابون على رأسقائمة الاحتياجات، فعلت ذلك حتى لا تنفذ النقود قبل أن أصل إليه كما كان يحدث لي في السابق. القائمة في يدي وبقايا ضمير تؤنبني على الرغبة في العودة إلى البيت، لكن كان هناك صخب يحيط بي، وزغاريد، وطبول، كأن تشويش عنيف يحجب عني ضرورة التفكير، يأمرني بالذهاب إلى حديقة الحرية، عالم الفروق عندما خطف من يدي القائمة، لم يقرأ إلا ما كتب في أولها.. فضحك وقال:

ـ امشي يا صاحبي.. الخنزير ليس في حاجة إلى صابون، ولا إلى عطر، معيشته غير مكلفة، لا تتطلب ولي أمر ولا مهر، ولا طقوس كي يلتقي بأي خنزيرة يشاء، ما رأيك أن أجعلك تبيت الليلة مع تلك التي ترتدي المعطف الأحمر، فرِحت أول الأمر، كنت أظنه يقصد اللون الغابر في الذاكرة، كدت أطير من الفرحة، ولكنني تبينت أنه يقصد نسخة أخرى كانت تسير في الجهة الأخرى ونحن في الطريق:

ـ اللعنة علي.. يبدو أنني سأتوه عن أهلي وأولادي مرة أخرى، ولأول مرة عرفت أن إبليس فنان في صناعة المواقف، وترتيب مواعيد المعاصي..!! تلذذت الصورة ورأيت أنها قريبة من الأصل، أو هكذا خُيِّل إلي، لأن في باطني لا تزال تعيش تلك الحرقة، انتظرتها قليلا وقد حاولت أن أبدو شجاعا، ولم يبدُ علي أي ارتباك أو خجل كما كنت أعاني من قبل، قال لي عالم الفروق:
ـ أكشف لها بعض ما تحمل من نقود وسترى..!!

أخرجت بعض الأوراق النقدية، لم أكن قد حددت عددها، عندما رأتها ضحكت وتريثت، أردت أن أكلمها فمنعني عالم الفروق قال لي:

ـ دعها تمضي أنا أعرف إلى أين هي تتجه.
قلت في نفسي:
ـ لو أنها ارتدت معطفا بلون أخر، ما كنت لأسير في أعقابها، وأتوه عن أهلي وأولادي..
وأنا أسيرٌ وراءها، كانت مؤخرتها تشبه كومة نار تدفعها الريح، لا ندري إلى أين.
ـ اللعنة علي، يبدو أنني بالتأكيد سأتوه عن أهلي وأولادي..!
عالم الفروق راح يوصيني ونحن نسير في الطريق:
ـ ما تخافشْ.. كن رجلا، وحمّرْ لي وجْهي.. هذه ليلتك!
ففتح بهذه العبارة سجلي الذي دفنت فيه رفات الماضي، وأول ما طفح من ذاكرتي أغنية أم كلثوم:
ـ (هذه ليلتي..
وحلم أيـ.......ـاميْ..).

لكنه ذكرني أن المسألة ليست مسألة قلب وعواطف، ولا هي موضوع شعر، وعشق وهيام.. وذكريات.. قال لي:

ـ أُنْقُبْ واهْرب..! إنها لا تستحق إلا ورقة بخمس مائة دينار، دسّها في جيب صدرها وانتهى الأمر، وإن أردت أن تعاود فاتصل بي.. وهكذا.!!

عندما رأى الارتباك قد سيطر علي، وقد اقتربنا من حيث دخلت نظر إلي:

ـ كأني بك لا تزال تحمل أحاسيس آدمية قديمة، سوف تتخلص من كل هذا عندما تتخنزر بعد قليل، حتى هي سوف تهدأ تحتك كالخنزيرة..

أردت أن أعود فمسكني من قميصي وجذبني إليه، ثم همس في أذني:

ـ قلت لك عندما تصبح خنزيرا ستدوس على قلبك وأحاسيسك، وستضع تحت قدمك كل القيم التي تجعلك تخجل وتستحي..

ثم أشار إلى وسطها:

ـ أتريد أن تتخلى عن هذه النعمة..؟

ولأول مرة رحت أتأمل اللون الأحمر من جهة جديدة، جهة لم أتأملها من قبل، لكأن النار تلفح من كل جانب..! لقد تذكرت صاحبة المعطف الأحمر.. الصورة الأصل، وندمت كثيرا أنني لم ألتق بعالم الفروق في ذاك الزمن الأول، كي يعلمني هذه الشجاعة... يبدو أنني تهت عن أهلي وأولادي، وخفت هذه المرة أن أتوه إلى الأبد.. اشترينا عصيرا، وفاكهة، وعلب سجائر.. كنت أنا من دفع أثمان كل هذا، حين أقنعني.. قال لي:

ـ عيْب ندْخل وأيدينا فارغة..!!

أخاف حينا.. وحينا آخر أشعر أنني ذاهب إلى طبيب ماهر، سيهدئ رعشتي.. يشفي محنتي.. ويُسكّن كل أوجاعي القديمة والجديدة، وزاد ذلك المعطف الأحمر اشتعالا في نفسي، فأيقظ ذاكرتي، وتذكرت النار التي خمدت منذ سنوات، اكتشفت أنني مشتاق كثيرا إلى لوني، لقد تذكرت الفرارة والسعدي الزُّهدي، والوردة الحمراء التي نسجتها أمي على مساحة الزربية.. كنت أظن أن ما شعرت به بين قلبي وكبدي ألما نتيجة مرض ما، ولكنه كان غيض حرمان نائم..!!:

ـ اللعنة على هذه الذاكرة التي باركها إبليس..!!

انفتح باب الشقة الذي طرقه عالم الفروق، فبان المعطف الأحمر، امرأة فوق رمشها العلوي بياض، وتحت السفلي اخضرار فاتح، فلا تكاد ترى عندما تغمض عينيها إلا خطا أسود، فلا تتبين هل هي تفتح عينيها أم تغلقهما، غمزت فكأنما قد أعدمت المسافة بين السماء والأرض، كأن الكون قد اندثر بغمزة واحدة، كانت تمضغ علكة، وترشق سيجارة في انحدار شاهق على صدرها، وبريق بألوان كثيرة يلمع كلما حركت نهديها، فكانت السيجارة كأنها صاروخ يتأهب للإقلاع، كي يحط في فضاء مبطن من الداخل بعلكة دائمة السكر، يلوكها بياض عجيب، ولسان يجوب نواحي فمها، كمهرة لعوب يجمع العلكة كومة واحدة، وبألوهية تكورها وتنفخ فيها، فتبعث في رحمها هواء أنثويا، وظلت تنفخ فيها حتى صارت على وشك الولادة، وعندما اقتربت مني أكثر، رأيتها قد ربطت انتفاخ العلكة بشفتين كأنهما عقدة صمّمت من مرجان أحمر، كانت الولادة جميلة جدا، وكان المولود ريقا من فمها، حينما تطاير وأصاب وجهي، رحت أمتصه وألحسه، إلا ما لم يستطع لساني إليه سبيلا، وأباحت لي فيما بعد أن أشربه من منبعه، ودون أن يدري أحدنا تحولت العلكة إلى فمي، وحملت ثانية، ثم ولدت بين فمي وفمها، وامتزج التوأمان، وتعانق المهران.. لسناني ولسانها، ثم أخذت العلكة تروح وتغدو بين فمي وفمها، ولا تزال عيني مرشوقة في جيب صدرها تنتظر إقلاع السيجارة، وبعد أن كان صدرها محطة إقلاع، هويت لأكون قائد هذا الصاروخ، فحملته بشفتي وأبطأت قليلا، حتى هي وضعت كفيها فوقي، فصار رأسي في حفنتها وراحت تضغط عليه كأنها تزيدني طاقة كي تؤمن وصولي في رحلة حلوة، ولا يزال لسانها يزيد العلكة استواء، كي تخفف من وطأ هبوط السيجارة، وتجعل الزائر يلتصق ولا يغادر أبدا.. دنوت منها.. وراح فمي يرتجف، لأنه أصيب من نار شفتيها، حين أصرت أن تأخذها بفمها من فمي.. أخذتها بمهارة فائقة، أشعلتها فكأنه قد اشتعل الكون من حولها، اقتربت بفمي من شفتيها، وأخذت بشفتي السيجارة، وأمام صهد شفتيها، رحت أمتص السيجارة وهي مقلوبة ولم أبال.!! جذبتني:

ـ أي متعة تريد متعة الحمير، أم متعة الخنازير..؟!

طأطأت رأسي كتلميذ لم يراجع دروسه جيدا، ورحت أبحث عن مخرج، وكأنني يقينا قد تهت عن أهلي وأولادي، لأنها بهذا السؤال أخرجتني من خيال ممتع، فلم أكن أتجاذب العلكة والسيجارة مع هذه الخنزيرة، وإنما كنت أفعل هذا مع صاحبة المعطف الأحمر، النسخة الأصلية:

ـ في الحقيقة كنت محروما وأنا آدمي، ومباشرة تريدينني أن أتخنزر.. أنا في هذه الوهلة لا أشعر إلا بأنني حمار..

ما كان ليحدث لي كل هذا، لو أنها كانت ترتدي معطفا بلون آخر غير اللون الأحمر. ضحك صاحبي ووضع يده على كتفي، ثم التفت إليها:

ـ متعة الحمير صعبة على صاحبي.. متعيه متعة الكلاب أولا..!!
عندما رأت جيبي منتفخا ارتمت على صدري:

ـ أنا لست آدمية أيضا، ولا حمارة، ولا أنا خنزيرة أيضا.. أنا كلبة مثلك، وأريدك أن تكون كلبا فحلا..!!

وراحت تمسح بيدها على صدري، وتغوص بأظافرها الحمراء في شعر صدري، وهي تنبح نباحا رقيقا، وبلعاب يسيل راحت تلحس رقبتي في دعابة مثيرة، وعندما تعبت من النباح، راحت ناحية قدمي، وأخذت تعض على أصابعي وأنا طريحا على قفاي، وهي فوقي تقف على يديها وركبتيها، كانت بالفعل كلبة، وكانت تلهث كأنها لم تأكل ولم تشرب منذ أمد بعيد، كنت مستلقيا بين ذراعيها وركبتيها، وجاءت تحبو وهي تجر طرف لسانها على محيط شفتيها، وكانت نهداء بحسب ما كان يلامس بطني، ها قد وصلت إلى صدري، وضغطت بما يحمل صدرها، يشهد على ذلك شعرها الطويل الكثيف، الذي غمرني ثم انقسم إلى اثنين، وهو ينحدر ناحية السرير يمينا ويسارا، أحدث قشعريرة هزت كل أنحاء شهوتي. حين كان شعرها الهفهاف منسدلا.. منحدرا على جوانبي، شعرت أن جسدي أرض فحّمها عطش السنين، وأني هذه اللحظات أعيش استسقاء نادرا، وكانت سبلات شعرها بخفتها ونعومتها ثم انسيابها تشبه الماء العذب الرحيم. هوت علي فأهملتُ توهج المصباح فوقها.. لم أكن استوعب شيئا، حتى أنني شعرت بشرخ كبير أصاب رأسي، فقد وجدت نفسي شاخصا في حمر المعطف المعلق خلفها، رأيته ثوبا ميتا فاقدا لروحه ومعانيه. اكتسحتني وعكة جنسية خطيرة.. ولم أكد أعي أن ما يتحرك فوقي، أهي امرأة أم كلبة؟! لولا أنها نبحت نبحة احتجاج:

ـ ما بال هذا الكلب لا ينبح.. هل هو أخرس، أم لم تعجبه الكلبة التي تعضه في كل مكان..؟

علمت أنها تقصدني، وخشيت من صاحبي، ومما يمكن أن يقوله علي، فاستعدت عافيتي حين خفت على رجولتي لدى هذه الكلبة، وفي رأي صاحبي الذي راهن علي، حين قال لي ونحن قادمان إلى هنا (حمّر لي وجهي..) فرحت أنبح وألحس شفتيها فرقبتها، حتى وصلت إلى صدرها، فجذبتُ رافع نهديها بأسناني، ورميته على الأرض، فتلاطم صدرها كالرمل وغمرني، وعندما وَأَدْتُ وجهي وكل غرائزي، أشفقت على أولئك الذين يتوهون في الصحاري فيموتون تيها وعطشا، لكن تيهي لذيذ، وعطشي ارتواء، واختناقي تنفس، فكأني أضيف عمرا فوق عمري، لأنني كلما توغلت استأنست ماء، وزرعا، وفاكهة مما أشتهي..!

كنت أحاول أن أجتهد في إبراز ما أستطيعه من حراك وجذب، لأني كنت أخشى أن أفشل في هذا الامتحان، فلا ترشحني إلى متعة الخنازير، أردت أن أبرهن لها أن هذاالتمرين سهل جدا، مع أنه كلفني في النهاية مبلغا معتبرا، ولم أصل إلى منتهى اللون، لأنني سقطت في النار، ولم أبتل بعد كما حدث لي في الرؤية. بشرتني حين انقلبت عليها بأنني تجاوزت المرحلة بسرعة فائقة، كان ذلك عندما انحدرت بلساني نحو فخذيها، حينها أوقفتني.. قالت لي وهي تضع كفها على جبهتي تدفعني إلى الوراء:

ـ خلاص.. راك رجعت حمار..!

قالت هذا لأن صاحبي لا يزال يشرف على الامتحان، ولم تكن لديها رغبة بأن يحضر ما تبقّى. قامت وراحت تلبس أثوابها، ووعدتني بذلك.. قالت لي:

ـ أصبر حتى نتخنزر..!!

وقد رأيت عالم الفروق قد غمز لها، وأشار عليها أن تؤجل ذلك، كان يود أن يبقيني متوهجا حتى لا أنصرف مبكرا..!!

رحت أحدث نفسي:

ـ ترى ماذا ستكلفني متعة الخنازير..؟!!

خرجت هي برشاقة كبيرة كأنها لم تفعل شيئا، أما أنا فقد أخفيت اعوجاجي باستقامة كاذبة..!!

بدأت الحمير الراغبة في التخنزر تتوافد على البيت، كانت معنوياتهم مرتفعة جدا، يبدو أن جيوبهم منتفخة مثل جيبي.. ضحكت والتفت ناحية عالم الفروق:

ـ هذا المكان محترم خير من حديقة الحرية..!!

فرد عالمالفروق:

ـ لا تقل محترم، فمثل هذه المصطلحات لا يجب أن تذكر هنا، ولا تقلل من شأن ذلك المكان، فهو ضروري عندما تكون جيوبنا خاوية. فالجلسة في هذا البيت مكلفة يا صديقي، وعليك أن تهتم بجيوبك قبل أن تتخنزر، فمن المؤكد أن إقامتنا ستطول في هذا البيت المفتوح لكل الحيوانات.. أتعرف الفرق بين القط، والكلب، والحمار، والخنزير.؟

ـ أعرف الفرق بين الكلب والحمار والخنزير، ولكن أين هو القط من هؤلاء حتى أعرف ما يختلف به عنهم.؟

ـ أنسيت مكانتك يا صديقي..؟ الحمير هم نحن إلى أن يحين موعد التخنزر، أما القط فهو ذاك الذي يملأ الكؤوس، وهو مأجور على ذلك، وسيظل قطا هكذا، ولن تسمح له صاحبة البيت بأن يصير على الأقل جروا، حتى هو من مصلحته أن يظل قطا حتى يستطيع أن يعيش. كان في القديم حمارا، ولكنه أفلس وعجز أن يتحول إلى خنزير، ولم يعد يملك ما يكفيه من مال كي يحافظ على مكانته ككلب على الأقل، وظل يتناقص حتى صار قطا كما ترى.. تستطيع أن تشير له بالاقتراب، ثم تأمره بأي شيء.. تستطيع أن تشتمه أو تسبه، بل بإمكانك أن تهينه.. إن شئت امتطيه ستجده مطيعا مسخرا كما لو أنه خلق لهذا الغرض.

وضع عالم الفروق سيجارة الحشيش عند أنفي، ولم تكن مشتعلة قال لي:

ـ كل ذلك لأجل هذا..!!

اندفعت بشفتي نحو السيجارة فجذبها عني قال لي:

ـ لم يحن موعدها بعد، فالليل لا يزال طويلا، والنوافذ لا تزال مفتوحة والجلسة لم تكتمل بعد.

لقد بقينا طويلا ننتظر اكتمال العدد، لقد قاربت أن أصير خنزيرا، بدليل أنني نسيت ما يرمي إليه المعطف الأحمر، وبقيت أنتظر الوقت المناسب للوصول إلى حمرة أخرى في مكان أعمق.

التلميذ النجيب الذي تأثر كثيرا بثقافة عالم الفروق، عندما وضع رجله على رجله الأخرى، بدت الجوارب الخضراء، فرفعت رأسي نحوه ونظرت إليه مدققا:

ـ كان عليك أن تغير هذه الجوارب فهي قديمة جدا.

فغضب غضبا شديدا:

ـ ما دخلك أنت في جواربي..!!

في الحقيقة شككت في شيء ما، أردت أن استدرجه كي أكتشف أنه الشخص الذي في مخيلتي، لكنه كان يحجم كل مرة عن الحديث..

المرأة صاحبة البيت كانت شفتاها متفحمتين، تبدو عليهما زرقة غير عادية، لأن بشرتها بيضاء، ولثة فمها أخفتها بلون السواك البني، ما جعل أسنانها تظهر شديدة البياض، وقد كست أحد قواطعها بالذهب الخالص، ولهذا كانت شرهة للضحك كثيرا.. تأتي إلينا حينا، وحينا آخر تذهب ناحية المطبخ.. كانت تعد شيئا ما.. لحظات وسمعنا نقرا خفيفا سريعا متتابعا على الباب، كأن صاحبه يخاف أن يزيد في صوت نقر الباب، فيُسمع من حوله الجيران، الشخص أو ما سماه عالم الفروق بالقط، كان متأهبا ويجلس بجانب الباب، ولذلك تمكن من فتحه بسرعة ولم يكلفه كثيرا من الوقت والعناء، وربما هي حرفته منذ القديم حتى اكتسب خبرة كبيرة، ولاحظت أن تلك الجلسة التي يجلسها بتأهب، كانت تعليمة من تعليمات الباترونه. فتح الباب فدخلت امرأة في سن الثلاثين تقريبا، كانت تمسك بيدها طفلا صغيرا، فهرع إليها صاحب الجوارب الخضراء يجري صوبها، وقد وضع رأسه بين أحضانها، وكأنه طفل أصغر من ذاك الذي يتبعها، أو بمعنى أدق أكثر حاجة منه إلى الحنان، عندما أسدلت المرأة لحافها إلى الأسفل، رأيته يحك وجهه على صدرها، الآن اكتملت لي الصورة وظهرت جلية واضحة، بل تأكدت إلى حد اليقين من هوية هذا الرجل ومن يكون بالضبط، لأنها كانت ترتدي بودي أخضر، كان يبدو على الرجل حرمان إلى حد الجنون، أبعد رأسه عن صدرها، ووضع وجهه مقابل وجهها بمسافة قريبة جدا، وراح يدنو حتى لامس أنفه أنفها وضحكا معا..! ثم قال لها وكأنه يود أن يبكي:

ـ لست أدري ماذا سأفعل لو أنك أتيت بدون هذا البودي(123)..!
وأردف يصف حرارة اللقاء ولهفة التعانق:
ـ يا ويلي.. ويلي أنا كي نشوف هذا البودي نْوَلّي(124) يْهودي(125)..!
وعندما التفت إلي فجأة وجدني أهز رأسي مستغربا، ومنبهرا في آن واحد..! قال لي وهو يضحك سعيدا:
ـ لقد حضر لوني، فابحث أنت عن لونك.!!

احترت في الأمر.. هل من المفيد أن يعرفني كما عرفته أنا، أم أترك الموضوع غامضا تحسبا للعواقب..؟ فربما يخطر ببالي أن أنصرف من غير عودة، أو ربما ستحدث أي جريمة في هذا المكان، فلماذا أكشف قديمي معه، ثم أنا من البداية لم أكن راضيا بتزييف لوني، وأهبه إلى أي امرأة عابرة، ثم راودتني فكرة.. ضربت جبهتي برحى يدي، وكأنني قد وجدتها:

ـ ما دام الموضوع هكذا فلماذا لا أعود إلى زوجتي، وأشتري لها معطفا أحمر، وأرمي بزرقتها البحرية خارج روحي، من يدري فربما تصير لوني الذي فقدته..!

لكن في التو تملكني ذلك الجذب الآخر، وكأنني رفضت المسألة وأردت أن أبقيها على لونها، لأني وجدت نفسي تحت جذب اللون الذي هي عليه. ولكن لا يزال اللون الأحمر يمثل الجذب الأكبر، بما يحمل من ماض وذكريات، بل بما راكمه في نفسي من عطش وحرمان.

جلس الرجل ولونه العاهر في الجهة المقابلة، ونادى الساقي:
ـ تعالى يا صاحب اللون الأسود..
ـ اللعنة علي لماذا لم أنتبه، وهو يرتدي قشِّابية سوداء، ولاتزال ملامحه حزينة إلى الآن.. ذلك القط هو صاحب اللون الأسود إذن..؟

ثم أخذني التفكير في مصير صاحب اللون الأبيض، لم يبق إلا هو كي تكتمل الراية في هذا المكان، لكنني انزعجت كثيرا وتذوقت مرارة ما، لأن المكان قذر جدا، وأن المجتمع الذي تمنيت أن ترفرف فوقه هذه الراية، ليس هذا المجتمع الممسوخ الذي تحول بإرادته إلى خنازير.

صاحب اللون الأبيض لن يأتي إلى هذا المكان، لأنني كما عهدته متدينا، ويكره هذه المواقع وهذا الشذوذ والتمرد.

صاحب اللون الأسود لا يزال يلزم مكانه بجانب الباب، يفتح للوافدين من حين لآخر..

دخل ثلاثة رجال وثلاث نساء، ولا أحد من هؤلاء من بينهم من أنتظره، أولئك الستة دخلوا متخنزرين، ولذلك انبطحوا فوق بعضهم، وتعالى الأنين والشخير والخوار، لا تكاد تتبن الذكر من الأنثى، النساء اللائى دخلن كن يلبسن جلابيب بيض، خيطت بطريقة معروفة وكانت متشابهة، وعندما وُضعت كلها في مكان واحد انتشر البياض، وغلب على جميع الألوان، فتذكرت عندما اتهمت صاحب اللون الأبيض، وعارضته لأنه أراد أن يطغى بلونه ويكتسح ألواننا، وها لونه قد اكتسح بالفعل المكان، عندما رأتني من كانت تجلس بجواري أتأمل تلك الجلابيب، وكانت الوحيدةالتي جاءت دون لحاف أبيض.

قلت لها حين أيقظتني من غيبوبة الغوص في الماضي:

ـ أنت لا تفهمين شيئا، فلو أنك خرجت بلحاف كهذا ما كنا التقينا!.
قالت:

ـ هذه أول مرة أرتدي فيها هذا المعطف الأحمر.. مكتوب ربّي..!

تى ألتقي بك..

فضحكت وقلت في نفسي:

ـ إذا كان الذي جمعني بهذه العاهرة هو المكتوب، فما الذي فرق بيني وبين من ألهمتني هذا اللون، حتى صار كالمرض في نخاعي.؟!

عندما أطلت الحديث مع نفسي، سألتني عن سر ما أقول فسألتها:

ـ ما دامت هذه أخلاقكن، فلماذا ترتدين هذه الجلابيب البيض وتشوهن أمهاتكن والكثيرات من العفيفات؟.

فأخذت تشرح كيف الفتيات يجبن الشوارع، دون أن ينتبه إليهن آباؤهن واخوتهن:

ـ آباؤنا واخوتنا الذين يدّعون الرُّجْله(126) في البيوت، يقعدون لنا أمام الأبواب يمنعوننا من الخروج، وعندما يغيبون عن البيت نتنكر في أزياء كثيرة وألوان متعدّدة، فربما الواحدة منا تمر بجانب أخيها أو أبيها، وهي تضحكوتسخر منه، ولا يكاد يتبينها من النقاب أو بوعْوِينه.

فسألتها:

ـ وما قصة خروجك دون لحاف؟.

ـ عندما يئست من بقائي في البيت، أقنعت أبي أن إحدى المؤسسات استدعتني لأجل الوظيفة، اشمأز أخي وبدت على وجهه انتكاسة، لأنه لا يحب أن أبدو في نظر والدي أكثر حظا منه، أمي حضرت الكعْبوشْ(127) ووزعته على الجيران وعمال النظافة عندما حضروا صدفة لتنظيف الشارع، فرحت أمي كثيرا، وقد بالغت في تحضير كمية كبيرة من أكلة الكعْبوشْ، قالت: ها همْ جاءوا أُمّاليهْ!، وكانت تقصد عمال النظافة، واعتبرتْه أمي معروفا مقبولا..! وظنوا جميعا أنني خرجت لاستلام الوظيفة، ولا أحد يعلم أني خرجت كي أتخنزر.

صاحب اللون الأخضر في غمرة كبيرة من اللهو، ولا يكاد يترك صاحب اللون الأسود يستريح، كان يكثف عليه الطلبات بشكل رهيب، مرة كي يملأ له الكأس، ومرة كي يشعل له السيجارة، ومرة أخرى كي يمسح سطح المائدة، لم يكن يقصد إذلاله، على قدر ما كان يريد أن يعبر أمام لونه أنه شخصية كبيرة.!! أما أنا فقد كنت أشفق عليه، رغم أن نظرات الجميع تعتقد أنني قليل تجربة، أذكر أنه كان يقترب مني كثيرا ويقول لي:

ـ هل تحتاج إلى شيء..؟
فأقول له:
ـ لا.. شكرا.
وقلت في نفسي:
ـ اللّي فيه تكْفيهْ..!!
لكنه كان يبدو حزينا محبطا، كلما أُرجعه خائبا فلا أطلب منه أي خدمة.! كان لا يعجبه الأمر، جاء صوبي عالم الفروق، ويبدو أنه أكثر مني شفقة عليه.. قال لي:
ـ إن لم تلح بالطلبات على صاحب اللون الأسود، وتجعله عنصرا مهما في هذه الجلسة، فإن صاحبة البيت ستعتقد أنها ليست في حاجة إليه، وبالتالي ستطرده وليس له مكان غير هذا.
فأيقنت أنني حديث التجربة فعلا، كما كانت نظراتهم تميّز بالضبط.!!
ـ اللعنة علي كدت أتسبب في طرده..

ومباشرة رفعت يدي، وأشرت إليه أن يتقدم، حتى قبل أن أحدد ماذا أريد منه بالضبط..!! تردّدت قليلا، ثم طلبت منه إعادة ترتيب الموضوعات على سطح الطاولة، ثم أمرته بإبعاد قارورة الخمر.. قلت له:

ـ لم تعد هناك ضرورة لوجودها..

فابتهج كثيرا لأن القارورة لا يزال في قاعها مقدار مضمضة.. حملهاوذهب بها ناحية المطبخ، أبطأ قليلا.. بالتأكيد راح يمتصها قطرة.. قطرة.!! ربما كان يريد من وراء مص ما تبقى في كل قارورة تفرغ أن يصير جحشا.! فحثالة الخمر جعلته يبدو نشطا وحيويا، حتى أنه هوى ومسح القهوة التي دفقها ذاك الذي أفرط في الشرب، فعل هذا دون أن يأمره أحد، وهو يقف على أطرافه الثلاث، مرر المنشفة على بقع القهوة، فرأيته وهو يفعل ذلك مرتديا قشابيته السوداءكأنه جحش بالفعل، أكّدت ذلك صاحبة البيت، حين مرت بجانبه، وقد ركبت فوقه بدعابة كبيرة، وراحت تحرك قدميها فوقه وهي تضحك، وقد تصرف هو كما يتصرف الجحش بالضبط، كأنه يريد أن يرضيها، ولذلك لم يغضب ذاك الحمار، ولم يعتبر أنها قد خانته، حتى ذلك الجحش كان يدرك حدوده كما ينبغي، فهو لا يريد أن يجني على نفسه وهو يعلم جيدا أنه ليس في مستوى هذا الانقلاب. ضحكت من كانت بجانبي، وقالت لها:

ـ هذا الجحش عاثر.. لا أظنه سيوصلك إلى غايتك..!!

ثم قامت وجاءت، انحنت خلفي كأنها تود أن تمتطيني، طلبت مني أن أهوي بظهري قليلا، لكنني رفضت.. أبيت أن أتساوى مع ذلك الجحش، ولو أنني من ناحية أخرى أشفق عليه، خاصة أنني علمت حقيقة ماضيه. رفضت لأني لم أضمن كيف تترجم الحمير والخنازير موقفي، وربما يعتبرونني ضعيف شخصية، فينظرون إلي كما كانوا ينظرون إلى صاحب اللون الأسود، قلت إن فعلت ذلك فربما سيحتقرني أحدهم، وربما يأمرني بأن أقدم له خدمة ما، كأن أملأ له الكأس، أو أشعل له سيجارة مثلا، لا تزال آدميتي مستيقظة.. فاطمأنيت بعد هذا التمرين على سلامة شخصيتي، خصوصا أن التي أمرتني أن أهوي بظهري ترتدي معطفا بلون حياتي.

صاحب اللون الأخضر يريد أن يدركني، عندما لاحظ أني أحاول أن استخرج أدواتي الآدمية، كالخوف على إنسانيتي من المسخ، أو كأني أريد أن أثور فأسترجع هيبتي، المهم لاحظ أنني أتفقد شيئا منقوصا من ذاتي ولا يريدني أن أفعل هذا. قال لي:

ـ أتريد أن تجن..؟ أم تريد أن تمارس شهوة مفتونة بالمبادئ والقيم، إننا لا نستطيع أن نبلغ منتهى غرائزنا، وأنت تضفي على المجلس صبغة من الاحترام والوقار.

ـ ألم تر أنها تريد أن تمسخني إلى جحش؟.

ـ كن حمارا قويا، فالمشوار الذي عولت عليه هذه المتوهجة طويل جدا، فهي لم تسافر منذ وقت طويل، ويبدو أنها مشتاقة للركوب كثيرا. ثق بنفسك يا صديقي، ولن يضرك شيء إن هويت بظهرك أم استقمت به، كيف يمكنك أن تتخنزر وأنت مهزوز الثقة بنفسك هكذا..؟

ثم تركني وذهب إلى لونه، ولم يغفل عني فقد كان يلاحظني، وكنت أنا الوحيد الذي يكلم مجاورته بكلمات خافتة. لم تعجبه هذه الطريقة، وقد اعتبرها غير لائقة، فثار وجاء صوبي من جديد، فوجدني أكلمها عن الحب، والشعر، والعصافير، والربيع، والورد.. وأن السماء صافية.. كان استهزاؤه بي واضحا جدا.. قال لي:

ـ لا ينقص إلا أن تقف فوق هذه المائدة، وتقرأ على مسامعنا شعرا..
ثم نظر في وجهي:
ـ ... الشعر والمعطف الأحمر..! أشعر كأنني أعرفك، أو أعرف شخصا يشبهك..؟!
ثم قالها بصراحة بعد أن ثمل، قال وهو يحملق في عيني:
ـ كن حمارا أو أخرج..!!
ربما يكون قد تعرف علي، وأحجم أن يخبرني، أنا كنت أفضل أن لا يتعرف علي.

عندما انتشر الحمير عبر الغرف، والزوايا، والمخابئ، كنت أشعر بشيء من الآدمية، ولازلت مصرا أن لا ألطخ لوني الذي رأيت به الحياة أول مرة، ولا يزال يلبد في جرحي، يلبس أثوابي أكثر من أني ألبسها أنا..هكذا كنت أشعر، وكنت لا أزال أخاف أن يحيد أو يبلى، دفنته في أعماقي، ونثرت فوقه الورد، ورشّيت فوقه الطيب والريحان، وكتبت على شاهد الذاكرة كل قصائد قيس ابن الملوح، فعلت بالضبطكما يفعلون فوق قبر فقيد راحل، لكن بالتأكيد هناك ضغط على مستوى نبضي يدفعني إلى الّلون الأزرق البحري، اللون الذي اختاره الله لي، ولم أحظ به بسابق خطة، بل كنت على موعد به خارج إرادتي وتخميني.. يكاد رأسي يتفجر!!

مسكت يد من كانت تجاورني، وكانت تزينها بالحناء:

ـ ترى يموت لوني في محطة البدء، كي يحي بهذه الحناء التي باركها الشيطان..؟ هل مت أنا كما مات لوني؟ أم حييت في هذه الليلة التي تهت فيها عن أهلي وأولادي..؟

المؤكد أنني تهت عن أهلي وأولادي، وقد صرت وحدي مع لون أربكني طيلة عقد من الزمن، لكن لست أدري لماذا لا يزال يربكني، وقد تأكدت أن ذاك الغني الغبي هتك بكارة عمري، ثم طار ولا أعلم أين حطّ بها. لكنني أعرف أين يحط لوني الأزرق البحري، جروة الخنازير لا زلت أمسك يدها ورغم ذلك أهملتها تماما.

ـ اللعنة على هذا المعطف الأحمر، هو الذي صعب علي عمليه التخنزر، وفتح على مخيلتي ذاكرة الماضي.

كان من المفروض أن أكون بين أهلي وأولادي، أو أكون خنزيرا مثاليا، فيفخر بي عالم الفروق، كما أوصاني قبل أن ندخل إلى هنا.. حين قال لي:

ـ حمّرْ لي وجْهي.. ما تْخافشْ..!!

لحسن حظي أن عالم الفروق منزوي في ناحية معينة، وإلا كان قد سبني ولعنني لأنني كذبت عليه حين ضربت على صدري وقلت له:

ـ خاطِيكْ(128)..!؟

لم تنتصب نفسي حتى الآن.. بل نسيت تماما كل أعضائي التناسلية، لم يعد في مخيلتي سوى المعطف الأحمر، والنار، ومقهى الفرارة، وديوان مجنون ليلى، حبَستْ روحي لصيقة بهذه الذكريات، رغم ما أسمع من تأوهات، وشهيق يدل أن أشياء لها علاقة بالشهوة تحدث من حولي، فزادني ذلك توقا للون الأزرق البحري.

المرأة التي خلت بي لا تزال تتهجّى بأظافرها الحمراء شعر صدري، أما الآخرون فقد توزّعوا كلهم عبر الغرف، لقد خلى المكان لنا وحدنا، ولا يزال الموضوع كأنه لا يعنيني.. لا أزال باردا، ولا أكاد أسيطر على ذاكرتي، خيالي يتملص كي يتذكر الماضي.. مقهى محَّاد الصغير، والنار، والدخان، والبخار، والسعدي الزُّهدي، والطاولة التي اعتدناها واعتادتنا، ثم المصير الذي آلت إليه كل الألوان، ثم ها نحن نلهي أنفسنا بألوان مزيفة، كما تلهي الأمطفلها حين يفقد لعبته المفضلة.. كنت أخال تأوهات اللذة صراخا، ولم أنس أن الله قد رزقني لعبة نادرة لعبة بزرقة البحر، وقد صرخت كأنني كنت أغرق فيها.

المرأة التي بجانبي حرمتُها حتى من النظر في وجهها، فقد التصقت عيناي بالمعطف الأحمر، لا تكاد تفارقه أو تنزل عنه، عندما هزّته وغيرت موضعه، كأنها قد أفسحت المكان للّون الأزرق البحري، لأن خيالي في التو انتقل إليها، فقد تركتها تنتظرني على مضض.. شعرت أني أبطأتُ كثيرا. أما هذه التي تنتظرني متى أشهر جسدي كي أرحل بها إلى عالم بعيد عن الآدمية، فلم يكن لونها يمثل أي شيء في نفسي بعد أن نزعت المعطف. غضبتْ وكادت تنصرف فمسكتها من ذراعها وأقعدتها، فراحت ترنو إلي، ولا تدري ماذا أنا فاعل بها، لقد احتارت في أمري، ولم تر في ملامحي أي مؤشر يوحي لها بأنني سأصير خنزيرا، فألبي لها رغبتها التي تحدّت أباها وأخويها كي تصل إليها. عندما أخرجت بعض الأوراق النقدية، انشرحت من جديد، قلت لها:

ـ أريد أن اشتري منك ذلك المعطف الأحمر فما رأيك..؟
لقد احتارت في أمري..
ـ سأشتريه بضعف ما كنت أنوي أن أعطيه لك مقابل (.....!!).
ـ ولكن ماذا أقول لأبي وأمي عندما أعود بدونه.؟
ضحكت أنا ضحكة غير جنسية، ولا هي عاطفية:
ـ ولماذا لم تتساءلي كيف تعودين إليهما دون شرف..؟!
غضبت المسكينة غضبا شديدا، وارتدت معطفها، وهمت بالخروج.. كانت مرتبكة جدا:
ـ أعتقد أني لم أجتمع بك هنا كي تكلمني عن الشرف، أو لنتحدث في البيع والشراء..!!

عندما أرادت أن تغادر مسكتها من طرف المعطف، وكأنني قد مسكت بسلك كهربائي، لم يكن تواصلي إلا باللون وتخيلتها هي، وعندما نظرت إلى وجهها، وجدتها نسخة بعيدة جدا عن الأصل، أمرتها بالجلوس، ولم أكف عن النظر إلى المعطف، وكان خيالي يسبح في ظلام دامس، يحاول استحضار الموضوع الحقيقي، أرادت أن تنزع المعطف فصرخت في وجهها:

ـ لا.. لا أريد أن أرى لوني معلقا على جدار، أريد أن أراه يتحرك ويتنفس..!!

لقد شعرت هي بالقلق، وسمع صاحب اللون الأخضر الصرخة وهو في الحجرة المجاورة، فجاءنا من جديد وقال لي، وأظنه قد عرفني:

ـ إذا وجد المرء لونه، فلا يجب أن يجهر به، فربما لم يعد اللون له وحده.. لا تنسى أننا في مجتمع خنازير، وليس للغيرة مكانا بيننا، كما لا أحب أن يكتشف أحد أنك إنسان في هذا المكان.. أم تريد أن تجن..؟ إذا كنت مصرا أن تستعمل الأدوات الآدمية، وتتكلم عن الحب، والشعر فأخرج فورا، فهذا المكان لا يجب أن تخفق فيه القلوب، أو تشتغل فيه العقول، أكبت كل هذا، ويجب أن تجد الفرق بين الخيال والواقع، كما علّمك عالم الفروق.

ثم رجع إلى غرفته غاضبا، وصرت أنا كالطفل الذي لم يستوعب الدرس، ولا يزال قلبي لصيقا بلون المعطف الأحمر، بل كدت أحب هذه المخلوقة فتراجعت، لأني اكتشفت أن لها قدرة عظيمة كي تتحول إلى مخلوقات كثيرة، تبدأها من القطة حتى تصير خنزيرة.. كانت مستعدةللمسخ في أي لحظة، لا يهمها شيء إلا ما تقبض في يدها من مال، اعتبرت هذا إطاحة بلوني، وتلطيخ لطفولة جميلة لا تزال تحي بين جنبي:

ـ اللعنة على هذا اللون الذي بات يتوهني عن أهلي وأولادي كل مرة..!!

هكذا غصت في غياهب نفسي.. لوني الأزرق البحري يتحرك في كياني، يمنحني قوة خارقة كي لا أنغمس في لون لا يحبه روحي.
ـ ويلي لقد أقبل عالم الفروق ناحيتي..

تكلم عند أذني بصوت خافت..:

ـ إذا أردت أن تنصرف فلا تنسى أن تترك ثمن إقامتنا، لعلمك أنني أخطأت حين أتيت بك إلى هنا، كان علي أن أمدك بما فيه الكفاية من دروس، قبل أن أقحمك على هذا المكان..

ثم راح يضحك، ويستهزئ بي من جديد:

ـ أتذكر حين ضربت على صدرك، وقلت لي: خاطِيكْ!!

كان يقول هذا بشفاه معوجة، فضحكت من كانت بجواري، لم أكن أدري من هذه التي تضحك علي، أهي صاحبة المعطف الأحمر النسخة الأولى أم النسخة الثانية، أم هي كلبة أم حمارة أم خنزيرة..؟ المهم لم أحتمل هذا الموقف، ولا يزال بيني وبينها لون حياتي، ولذلك كتمت غيظي، ولم أبد أي رد فعل.. طلبت منها أن تنزع المعطف..! ففرحتْ كثيرا.. وابتهجت، وبدأت شفتاها تقطر شهوة، وبدا جسدها كأنه يفور من الرغبة، وأخذت تنسلخ من معطفها، وعندما تجردت من كل أثوابها، وضعتُ لوني تحت إبطي وقلت لها:

ـ ما هو ثمن هذا المعطف.. سأعطيك ضعف ثمنه..؟

شعرتْ بالخجل.. في البداية أرادت أن تثور لأنوثتها، ولأنها فعلا خنزيرة غطت جسدها بلحاف أبيض، وأخذت تلوك ظفر خنصرها وكان طويلا جدا، وحركت رأسها يمينا وشمالا، فكأنها تستبدل شهوة بشهوة، امتصت شهوتها الأولى، وطفحت على ملامحها شهوة المال، وهي سر رحلتها ومجيئها إلى هذا المكان.. حين ابتعدت عني قليلا، لم أعد أراها امرأة، ولا حمارة، ولا خنزيرة، بل رأيتها تاجرة محنكة، تعرف كيف تستثمر الفرص والصفقات..:

ـ هذا المعطف اشتريته بمائة ألف دينار، وهو مفقود في الأسواق، الذي استورده من خارج البلد، جاء بثلاثة معاطف فقط، وهذا آخر معطف احتفظت به إلى الآن.. فإن بعته لك بالتأكيد لن أجد مثله، وأمي تحب كثيرا أن تراني أرتديه، ولا تنسى أنه هو سر تكالب الحمير والخنازير علي، فأنظر إذا أخذته ماذا سأفقد، وتخيل كيف سأقنع أمي حين أعود إليها بدونه...

عرفت حين تكلمت كل هذا الكلام عن معطفها، أنها تريد أكثر من ضعف ثمنه. دفعت لها الثمن الذي طلبته، ولم تتركني حتى بحت لها بسر حكايتي مع اللون والمعطف، حتى أنا حرصتُ أن أخبرها بذلك، حتى لا تظن أنني لست رجلا، ولا شهوة لدي، وهي تنظر إلي شعرت أنها احترمت ذكرياتي كثيرا، ثم أطرقت في الأرض، كأني بها قد حنت للون فقدته هي الأخرى..!

عالم الفروق كأنه تحسس خروجي فجاء مسرعا:

ـ إلى أين أنت ذاهب ونحن لم نتخزر بعد..؟
ـ لقد كلفني لوني مالا كثيرا، وإني ذاهب لإرواء حرماني في بيتي مع من اللون الذي اجتباه الله لي..

أعطيته ما يمكن أن يدفعه مقابل الإقامة، وذهبت صوب الباب، وأنا أضع يدي على المزلاج كي أغادر، انفتح الباب بقوة شديدة.. دخل أربعة رجال، أولهم حين أغلق الباب، ووقف أمامه بدا كأنه قائدهم، كان يلبس قشّابية بيضاء، وقف هو عند الباب وأشهر الثلاثة خناجرهم، وكانت عيونهم حمراء تكاد تقطر دما، التفتوا إلى كل اتجاه، ثم توزعوا عبر الغرف، أما صاحب القشّابية البيضاء فقد راح ينتشل جلابيب النساء، التي وجدها متراكمة فوق السرير، وصار كأنه يخطب:

ـ لقد أفسدتم كل الأشياء الجميلة، دنستم حتى هذا اللون البريء الذي يرمز إلى الطهر والعفاف والسلام، اللعنة عليكم جميعا أيتها الخنازير..

ثم سل خنجره وشدني من قفاي، فقلت له وأنا أرتعش:

ـ إذا كنت تبحث عن الخنازير فهي في الداخل..
ـ وماذا تفعل أنت هنا..؟
ـ والله العظيم لقد رفضت أن أتخنزر، وكما ترى فقد أنقذت لوني من الدنس، وكنت أنوي على الفور مغادرة المكان.

التمس صدقي عندما رأى المعطف الأحمر تحت إبطي، ثم طرق في وجهي فكأنه قد عرفني أو كأنني قد عرفته.. لأن القشّابية التي كان يرتديها هي تلك التي أهديتها له، ولأجل هذا أفسح لي الطريق وتركني أمضي.. الآن أنا لست تائها عن أهلي ولا عن أولادي، ولم تلتبس أمامي الطرق، بل رأيتها كلها تؤدي إلى بيتي، حتى التي كانت تؤدي إلى مكان آخر..!

 دخلت الليلة ولم أكن مستعدا كي أغمض عيني، ورأيت اللون الأزرق البحري الذي ينتظرني كان يترقب دخولي، لكنني وأنا ألبسها المعطف الأحمر، كنت أشعر وكأنني أضع لونا على لون آخر، كأنني أمد يدي لأزيف الكون، لأصنع حياة على مقاسي، بل كأنني أعاكس الغيب، وأْصر أن تجري الرياح بما تشتهي سفني، عندما فرحت بالمعطف وأخذت تدور أمامي، صرت كأنني أراها بقلبين، قلب مريض يئن يرى صورة مشوشة، غائبة الملامح غابرة السمات، يخفق خفقا ذابلا كأنه يؤول إلى الموت أكثر مما يستعد للحياة، وقلب آخر حي له دفق خفق كأنه شلال عارم يتجاوز المعطف الأحمر، كأنه يوقّع حسا جميلا حاضرا لا علاقة له بالماضي والذكريات، ولا يمت بصلة إلى مقهى محاد الصغير، ولا إلى الفرارة، ولا إلى صاحب الجميع السعدي الزهدي، ولا هو لون له رغبة أن ينضم إلى ألوان أخرى كي يشكل راية، ولا هو يتوق إلى التخنزر، لون هادئ يتقن أنوثته، له رغبة أن يصير وحده دولة، دولة مفطورة على رفض المعارضة، ولو أنني أخبرتها أن هذا اللون الأحمر أحبه، لأنني أحببت امرأة كانت تتردد عليه لأحرقت المعطف، ثم غضبت في بيت أبيها، لكنها لا تزال تجهل علاقتي بهذا اللون، ولهذا رأيتها تتعامل مع المعطف ببراءة وعفوية، كانت تلبسه وتدور زاهية فرحة بما اشتريت لها، غير أنها رفعت رأسها نحوي، وكأنها تريد أن تغوص بعينيها عبر عيني إلى قلبي.. وضعت يدها على صدري، وهي تعزف الشعيرات بأناملها ابتسمت..:

ـ لو أني أعرف أنك تنوي أن تشتري لي معطفا كهذا، لفضلت أن تشتريه بلون أزرق بحري، لأني ميالة منذ صغري إلى هذا اللون.

وهي تقول لي هذا الكلام كأنها تطعنني، فقد حاك في نفسي أنه لابد وأن يكون وراء هذا اللون محروم كأنا، وبالتأكيد أكون قد سطوت عليه، كما سطا علي من أخذ مني لوني الأحمر، حتى كدت أسألها ما لون صاحبك، وتراجعت لأني اعتبرت ذلك فسادا للمشاعر، واخترت أن يستمر كل واحد منا يعالج نفسه سرا، حتى يوقع الله بيننا أمرا فنصير ألوانا لبعضنا.

 وأنا أتحسس أناملها على صدري، شعرت كأنها وصلت بالفعل إلى قلبي، وشعرت في ذات اللحظة أنه يمكن أن يحب المرء أكثر من لون، وأننا نظلم الألوان حين نحصر الحياة في لون واحد.. وفي دامس الليل امتزجنا، فأضفنا إلى لوحة الكون لونا خارقا.

في الصباح خرجت صفحات الوضع الأمني في الجرائد، بعنوان كتب بخط أحمر عريض:

ـ (قوات الأمن تقتل إرهابيا في إحدى الشقق، وتعثر على امرأة ذبحت بعد أن جرّدت من ملابسها..!)

هذا هو حظي مع هذا اللون.! هويت برأسي نحو الجريدة المفتوحة، حتى أن صاحب الجريدة أبعد الصفحة قليلا عن وجهه، كي يشاركني القراءة.. لقد قرأت أن مجموعة مسلحة اقتحمت بيتا، ولم يسبب هذا الاقتحام إلا ضحية واحدة، وكانت امرأة جُردّت من جميع ملابسها ثم ذبحتذبحا شنيعا.. لأن الجماعة المسلحة فرت إثر إطلاق رصاص من طرف أحد أفراد الشرطة.. ابتعدت عن من كان يحمل الجريدة وأنا أرتجف.. تملكني رعب شديد حين تذكرت معطفها الذي أهديته إلى زوجتي، الآن فقط أدركت أنني سأتوه عن أهلي وأولادي إلى الأبد، لذلك كان لابد أن أواري ذلك اللون الذي أتعبني وأرهقني، علي أن اقتنع أن حظي سيئ جدا مع هذا اللون، وأنني لن أستطيع أن أحصل على لوني ولو على جسد امرأة أخرى:

ـ اللعنة على هذا الطفل الذي يظل يصرخ بين جنبي يريد لونه..!

رجعت إلى أهلي، وادعيت أنني اقتنعت مبكرا أن هذا اللون لا يناسبها، وأن اللون الأنسب هو اللون الأزرق البحري، وأقسمت لها أنني صرت أحب هذا اللون، أنا لا أكذب لقد أيقنت أنني استيقظت الآن، وعرفت الآن كيف يمكن أن تكون الصدمة علاجا شافيا لمرض عضال، تجذر وتغلغل في أعماق هذه النفس الضعيفة. ثم قلت لها بصراحة، ولست أدري أفهمت المعنى أم لم تفهمه، قلت لها وكأنني أخاطب طبيبا ماهرا:

ـ لقد كنت سببا كي لا أَقتُل ولا أُقتَل، فقد سمعت أن من الحب ما قتل، وحبك آمن أيتها اللّون المتسع كالسماء، المنبسط كالبحر..!

ثم قبلت رأسها ويدها، وبسرعة وضعت للمعطف الأحمر كي أخفيه جريدة بكل صفحاتها، وثلاثة أكياس بلاستكية سوداء، كنت حريصا جدا أن لا يظهر منه شيء، فالموضوع صار حساسا وخطيرا جدا، ولأول مرة أنتهج سلوك المجرمين في إخفاء بصماتهم وآثارهم، كنت مضطرا أن أتقمص شخصية أشهر سفاح في العالم، مع أنني على يقين ببراءتي، بل جبان وخجول لا أجرؤ حتى على ذبح نملة!.

لوني الأزرق البحري استغرب هذه الطريقة الدقيقة لإخفاء المعطف، وأنا لا أزال أتقمص شخصية أكبر سفاح في العالم قلت لها:

ـ إني أخاف الجيران وهم يشهرون عيونهم حسدا، وخصوصا ذلك الشيخ عينين بالَهْ، وذاك الشانبيط الأعور.. لذلك تجدينني أفعل هكذا.!

اللعنة على هذا اللون.. يبدو أنني سأتوه عن أهلي وأولادي إلى الأبد..! كنت أوصي نفسي وأنا أمشي أن أكون شجاعا، وأن أسير كأنني أعرف أي اتجاه أسلك، وكنت في ذات الوقت أدبر في داخلي أين أدس هذه المصيبة، كنت أشعر أنني مقبل كي أئد لوني، كما كانوا يفعلون في الجاهيلة، وبالفعل كان وجهي أصفر كئيبا، من كان يصدق أني سأقتل لوني وأدفنه بيدي، وأعتبره كأي تاريخ مهزوم، وربما سيتآكل شيئا فشيئا.. ثم يتهاوى ويندثر كأي آثار قديمة تقبع في مكان مهجور.عندما تذكرت ما أحمل في يدي تملكني الرعب، فرحت أوصي نفسي من جديد أن أكون شجاعا.. مسحت ما نفذ من جبيني من عرق:

ـ الحمد لله أنني لم أتخنزر ليلتها، والحمد لله أيضا أنني لم أتعصب للوني، كما فعل صاحب اللون الأبيض، وإلا كنت موعودا مثله بجنة زينها الشيطان وباركها إبليس..

شعرت بالرعب، وأخذت أعضائي ترتجف، عندما تذكرت أن المعطف الأحمر لا يزال في يدي.
ـ اللعنة علي.. يجب أن أسرع..
ترى أين أواريه.. قلت:
ـ لو أجد مكانا يشبه نفسي التي لا تظهر منها إلا الأشياء البريئة.!

صرت لا أأْتمن الأمكنة حتى ذاكرتي..! كنت أشعر كأنني أحمل رفات دينصور.!! وصلت إلى حديقة الحرية من الجهة الأخرى، لقد تجنبت المكان الذي عادة يتجمع فيه المتمردون عن القيم، فاكتشفت حرية بمعيار أقل في هذه الناحية، فتيات صغيرات توزعن عبر جذوع الأشجار، وكن يتمتعن متعة العصافير، اخترت جذعا غير محجوز، ووضعت الكيس بجانبي، ثم رحت أزيحه بيدي، ثم بقدمي حتى أبعدته عن مجلسي، ثم رأيته قد انحدر.. فتدحرج حتى سقط في حفرة قد يكون حفرها الأطفال، ثم انحدرت بجسدي نحوه، ورحت أدفع التراب بقدمي حتى غمرت الحفرة وردمت الكيس، فلم يعد يظهر منه شيء. بل حتى تراءى لي أن لا المعطف ولا اللّون لهما صلة بي، أو هكذا أمْلتْ علي نفسي..!!

وأنا أتكئ على مرفقي، كنت أبحث عن سبب يبرر مجيئي إلى هذا المكان، نظرت على يميني فرأيت عصفورة لم تكن تتميز بلون معين، وأخذت أُلبسها ألوان عديدة، فلم أجد لها لونا.. رحت أتأملها كثيرا، وأحيانا أشير لها بيدي.. كأنني أراودها متلهفا، ومن شدة خوفي كل شيء معطل في داخلي، فلا أرى إلا يدي تتحرك، لأني لا أزال أتقمص شخصية أكبر سفاح في العالم. الفتاة اليائسة لم تكن تنتظر أحدا ولهذا جاءت نحوي، كانت تريد أن تتعَصْفَر(129) ولا يهمها مع من، لم تكن صغيرة في السن كثيرا، حتى اعتقدت أن تأخرها في الزواج هو الذي جعلها تفعل هذا، لم تكن لديها خبرة كبيرة.. قالت:

ـ أنا حديثة العهد بهذا المكان..
ـ يبدو عليك هذا.. ألم تلاحظي أنني مثلك تماما..؟

ـ لقد قلت هذا منذ أن كنت تراودني من بعيد، لأني سمعت أن هذا المكان لا يأتيه أحد بمفرده، سواء أكان رجلا أو امرأة، فالرجل يراود المرأة في الشارع، وعندما تلين فتحدثه يتفقان على المجيء إلى هنا.. أنا لم يراودني أحد منذ زمن طويل..

كان يبدو ذلك جليا، لأنها كانت قبيحة جدا..! لقد اطمأنتْ وجلستْ، لكن لا أخفي فقد كان يملؤني رعب كبير، ولم تستغرب هي ذلك فقد اعتبرته من عدم التجربة.. وقد فرحتْ كثيرا، حين اعتقدتْ أنها كانت سباقة كي تجدني وتفوز بي، اعتبرتْ نفسها محظوظة.. لكن أنا اضطررت للتقرب منها ومغازلتها فقط للتمويه، فأنا لم أنس أنني أتقمص شخصية أكبر سفاح في العالم، وعندما أمضيت معها من الوقت، ما يجعل الآخرين يظنون أنني قدمت إلى هنا فقط لهذا الغرض. رحت ألتمس الأعذار حتى أتنصل منها وأنصرف.. لكنها مسكتني من قميصي، تريدني أن استمر معها.. فرحت أحسب بأصابعي وكنت أبالغ.. قلت لها:

ـ حتى الآن أنا عندي عشرون صديقة..
فقالت:
ـ ما عْليهشْ..!
قلت لها:
ـ أنا متزوج..
قالت:
ـ ما عْليهشْ..!!
ـ متزوج بأربعة..
ـ ما عْليهشْ..!!
ـ عندي مرض السيدا..!!
ـ ما عْليهشْ..!
ـ انظري خلفك.. الشرطة قادمة.

ولم أتمكن من التخلص منها إلا بسبب الشرطة، وقد حضرت الشرط بالفعل وطردت الجميع ولم تترك أحدا.

الآن شعرت بانفراج كبير وأمان بسعة الكون.. الآن شعرت أنني لن أتوه عن أهلي وأولادي.

ـ اللعنة على اللون الأحمر، واللعنة على النار، واللعنة على الزعامة..!!

اطمأن قلبي أكثر عندما تبينت أن صاحب اللون الأسود لم يذبحوه، حين اكتشفوا أنه مجرد قط، كان يبدو ذلك من قشّابيته السوداء الرثة الممزقة، وعلى شعره الأغبر، وأيقنت براءتي على أكمل وجه حين أخبرني أن كل الخنازير بخير. وقد أكد لي أن القتيل هو الفطفاط، قال لي:

ـ اكتشفنا ذلك عندما نزعوا اللثام من على وجهه، وقد وجدوا في جيبه كثيرا من الذهب، كان قد انتزعه من النساء اللواتي جئن إلى الشقة لغرض التخنزر..

وحتى أفصل نهائيا في موضوع اللون الأحمر، اشتريت لزوجتي معطفا لونه أزرق بحري، ولم أعد أبرح أهلي إلا قليلا.

اشتغلت بعد ذلك في بيع الخضار، عندما أغلقت المؤسسة أبوابها بسبب الإفلاس، أو بسبب شيء آخر لست أدري.

كبر ابني وابنتي.. هما الآن يدرسان في المرحلة الأخيرة من التعليم الابتدائي، اصطدمت بنفسي حين رأيت ابني، ولم يكن خجول كأنا، فقد كان شجاعا.. رأيته يتكلم مع زميلته وهما ينتظران بداية تحية إنزال العلم لنهاية الأسبوع. وعلى مقربة منهما رأيت ابنتي تقف مع زميلها، وكانا يتبادلان كتابين.. انتابتني نخوة كنخوة أبي فتذكرت ولدي، وتذكرت نفسي، رفعت رأسي أعلى مدخل المدرسة، فرأيت الراية ترفرف بكل ما أحببت أنا وصاحباي من ألوان، رحت أتأمل النجمة وهي ترقص مع الريح، والهلال يحويها من كل جانب، كأنه يحرسها حتى لا تسقط من سمائها، وقد غصت فتذكرت النار في مقهى الفرارة، فشعرت أن لوني ثابت بعيد عن كل دنس، وأنا أقف عند المدخل أنتظر ابني وابنتي، وقف بجانبي صاحب اللون الأبيض، وصاحب اللون الأخضر، استمرينا نتعانق حتى أعلن الجرس بداية الاستعداد لتحية العلم، فوقفت أنا وصاحبايّ صفا واحدا، وعندما نزلت الراية اندفعنا بعفوية مطلقة، ورحنا نقبلها ونحضنها، وكأننا عائدين من حرب ضروس.. كان الأطفال يتحركون ويثيرون تشويشا ما، وعندما رأوا الدموع تنهمر من عيوننا صمتوا جميعا، بل أكثرهم شاركونا بكاءنا، فشعرنا كأننا لأول مرة نكتشف دولتنا، فرحنا نحيّي رايتنا بقلوبنا وجوارحنا، وأدركنا أن هذه هي ألواننا الثابتة التي لا تقبل التزييف والتحريف.. ولا يستطيع أحد أن يسطو عليها، وعندما التفتنا نريد أن نغادر وجدنا عالم الفروق يبتسم:

ـ أتعرفون الفرق بين اللون الميت، واللون الحي الذي لا يمكن أن يموت..؟ ألوانكم حية ترزق.. أنتم الذين تهتم عنها، حين تعلقت قلوبكم بمواضيع تأخذ أشكالا كثيرة وتتلون من حين لآخر.!!

ولكي يعرفنا بنفسه، مسك محفظة لأحد الأطفال، اتخذها مقود سيارة وراح يدور حولنا:

ـ فرْ.. فرْ..رْ..رْ..رْ..

أخذ الأطفال يضحكون.. وغادرنا نحن المكان.. ذهبنا إلى مقهى الفرارة، أصر عالم الفروق أن يقدم لنا الفراير بنفسه كما كان يفعل أيام الدراسة.

المقهى لا تزال تحافظ على الكثير من ملامحها السالفة، فقط الذي أضيف بلاط من نوع القرانيتوا، وقد كُسيت واجهة الكُنتوار ببلاط السراميك الملون، ولم يكن من نوعية فاخرة، وقد زُيّنت من الداخل ببعض الأزهار البلاستيكية وبعض الصور، كان يظهر أن صاحب المقهى الجديد يريد أن ينافس المحلات الجديدة على يمينه ويساره، وربما هذه هي المحنة التي دفعته إلى هذا التكلف، ورغم ذلك لا تزال مكتظة، ولا تزال فرارتها تحتل الريادة، الطاولات لا تزال بالية تلمح أن أجيالا كثيرة مرت من هنا، أضيف لها بعض الكراسي البلاستيكية البيضاء أخذت شكلا فاخرا.. الاتكاء عليها مريحا جدا، بخلاف الكراسي القديمة التي كانت تختم على ظهورنا أشكالا مستطيلة لبدائيتها الفاضحة.

لم يعد يستهوينا الجلوس في الداخل، كما كنا نفعل قديما، فقد شعرنا أن العالم كله لنا بما فيه من ألوان، صار الجلوس في الخارج منعشا وجذابا، فالحديقة تلك قد تحمس لها ذات مرور بالمكان العقيد سي أحمد بن الشريف(130)، فجعل منها مرتعا للعصافير والفراشات، ولم تعد تبعث على التشاؤم، أو توحي بالرعب والأشباح، فقد غمرتها رائحة النعناع، واستدارت بها أغصان الورد، وعمتها أفراح لالَّه حليمة(131)، فرأينا أنه لا يمكن أن يكون عباد الشمس خيرا منا، حين يبكر كي يبحث عن النور والفرح.

عالم الفروق لا يزال يمدنا بما علمه الدهر ولقنته الجامعة، فوضع يده على كتفي:

ـ لاحظ الفرق بين منظر هذه الحديقة بالأمس ومنظرها الآن.. لاحظ أيضا بين أن نحدد الحرية في مجرد مكان، وبين أن تكون فضاء يسع كل الناس..

وأشار إلى أعلى المباني، فجعلت كأنني لأول مرة أكتشف المدينة، ورأيت لوني يعلو الكثير من المباني، فكأن الذي كان في نفسي هو نفسه الذي حاك بنفوسهم، فأشرنا بأصابعنا في لحظة واحدة، وكان كل واحد منا يريد أن يشير إلى لونه..!! فضحك عالم الفروق.

لحظات وقدم إلينا شخص من ناحية الحديقة، يلبس ثوبا جميلا، كان يسير نحونا، ويقول وهو يشير إلى الأزهار والاخضرار:

ـ الله يبارك.. الله يبارك..

ثم أخذ مكانه إلى جانبي.. وعلى عكسنا فقد تبينه عالم الفروق دون عناء، وعرفناه نحن أيضا حين سأله:

ـ أين قشّابيتك السوداء..؟

فأخبرنا أنه قد أحرقها في الجبل، وأخبرنا أيضا أن قَشَاشَيبَ بألوان كثيرة قد أُحرِقت، حين لم يعد أصحابها في حاجة إليها، وقد صارت المدينة حضنا دافئا للجميع..

ورحنا جميعا نضحك حين مر بجانبنا السعدي الزهدي، وقال لنا وقد فتح ذراعيه كأنه قد احتوانا جميعا:

ـ (أنتم جميعا أصْحابي..!!)

فطلبنا له قهوة بالحليب، وأشرنا له بالجلوس... وسرعان ما مرت شْريفه المخبولة وقد نحل جسمها كثيرا، وبعد أن كانت تصرخ كلما تمر بالمقهى، فقد هدأ صوتها.. صارت كأنها تهمس بكلمات خافتة:

ـ شفْتُو واشْ صار فينا..!؟

صَمَتْنا جميعا عندما اقتربت ناحيتنا، وجعلتْ كأنها تلقننا درسا:

ـ شوفوا بعضكم مليح وديروا اليد في اليد وما تخلوش الريح تدخل بيناتكم..!

سألها عالم الفروق.

ـ واش من ريح هذه..؟

فراحت تضحك بصوت عال:

ـ أنت عالم الفروق تسأل هذا السؤال..؟ هل تبدو في نظرك الرياح متشابهة.؟

ولأن عالم الفروق بدا لأول مرة أبلها، وأن شْريفه المخبولة تلقنه الفرق بين أنواع الرياح.. رحت أضحك، ثم غرقنا جميعا في ضحك لم يكدرْه حزن الماضي، ولميفسده بؤس الأيام الخالية، كنا نضحك جميعا.. أنا وصاحب اللون الأخضر، وصاحب اللون الأبيض، والسَّعدي الزهدي، وعالم الفروق القهوجي سابقا، وصاحب اللون الأسود قديما.. حتى شْريفه المخبولة، لأول مرة أراها تضحك من أعماق قلبها، وكأنها قد نسيت مصابها هي الأخرى بل كأنها لم تعد مجنونة!!.

لكنني أقارب أن أجن أنا..! حزن عظيم يخيم على نفسي، فلوني الأزرق البحري طريح الفراش، في البداية كنت أظنه وهن أصابها جراء مرض بسيط وستشفى، لكنها ظلت تتناقص تدريجيا، ولم تقم لها قائمة منذ أربعة أشهر، استسلمت للسرير بعد قيام وسقوط، كانت كغزالة أصابها سهم في بطنها، تقوم وتقعد.. تستند على الجدار وعلى الخزانة البالية.. ظلت هكذا حتى لم تعد لها قائمة تقوم. وكلفني الطبيب ألا أخبر أحدا بذلك المرض الخبيث، كنت أراه مرضا يشبه المعول، كان يحفرها من كل جانب، وينثر ريقه على بدنها كغول غاشم.

لوني الأزرق البحري لزم الفراش، ذابت ملامحه، وذبل لحمه وشحمه.. تهاوى هيكله.

لوني الأزرق البحري صرت أحمله على ذراعي كالصبي، صار مسجلا في دفاتر كل الأطباء والمستشفيات.. صاروا جميعا يعرفون اسمه وتاريخ ميلاده، لم يعد أحد يسألني عن ذلك.. بل عرفوا أنه لون أزرق بحري، الطبيب الذي لم أر وجهه طوال مدة المكوث في قاعة العمليات، عندما يرى على وجهي الكآبة يقول:

ـ لا تحزن فالسماء لا تموت..!

ولأن مناديلي صارت تنفذ بسرعة، صرت كالطفل أمسح دموعي برحي يدي، وما غزر منها أمسحه بكم قميصي، لكنني أتراجع وأبتسم ابتسامة حذرة عندما يكرر الطبيب الملثم:

ـ لا تحزن فالسماء لا تموت..!

تمازج لوني بلون المستشفى، كأن الجدران قد تضامنت معي وشاركتني حزني وألمي، لقد صار كل شيء أزرق بحري..

الجدران، السرير، مآزر الأطباء والممرضين، كأن كل شيء قائم على قدم وساق لإنعاش لوني المريض.

لوني الأزرق البحري الآن مريض، وقد أعي الحكماء وعجز دون شفائه الدواء، ولا يزال شِعرُ مجنون ليلى حديث نفسي:

ـ (يقال ليلى بالمستشفى مريضة * يا ليتني كنت الطبيب المداوي)

لوني الأزرق البحري تاه بين أروقة المستشفى، أقمت معه حتى صار لوني أنا الآخر أزرق بحري! وراحت نفسي تراودني أن أمد لوني ببعض الزرقة البحرية التي راح يفقدها من فرط الإعياء. كنت أرى الموضوع كما لو أنه حالة فقر دم. ويظل الطبيب الملثم في قاعة العمليات يكرر عند أذني، كلما وجدني قد أحاط بي الحزن:

ـ لا تحزن فالسماء لا تموت..!

في البيت كان عندي عكاز جميل، كنت اشتريته لأحمله كلما اقتضت الحاجة، كأن أخرج ليلاـ مثلا ـ حتى أخيف به من يحاول قطع طريقي، العكاز كان يقابلني معلقا على الجدار، وأنا أتكئ على السرير في الجهة المفضلة، كلما أعود من العمل متعبا، كانت أربعة أشياء مهمة تقابلني: لوني الأزرق البحري، وأولادي وهم يلعبون في ساحة صغيرة في قلب الغرفة الوحيدة، والعكاز الجميل المعلق على الجدار، ورابع الأشياء هو التلفاز، لكنني لا أبدي أي اهتمام به كما تعودت منذ صغري، فأنا مصر أن أحي الحياة الدقيقة التي تزخر بها الأسرة. غير أنني رأيت في منامي أن عكازي أخذ يبيض وينحلبشكل غريب، لقد هزل حتى صار كعود ثقاب، فمسكته بيدي ورحت أتساءل ما الذي أصابه، ولما كاد ينكسر بين أصابعي قمت على الفور، وذهبت به إلى صانع العصي، فضحك وأخبرني بدهشة يائسة أن هذا العكاز ميؤوس منه، ورجعت خيبتي تجرني.. دخلت الغرفة الوحيدة، وأرجعته مكانه قلت حتى ينتهي أمام عيني.

لما قصصت الرؤيا أمي أنكست رأسها وانقبضت، وقد اتضح في ملامحها شؤم ما رأيت في المنام، لكنها ضحكت علي وهي تحاول تفسيرها قالت:

ـ لا تهتم فهذا من همز الشياطين، فربما أفرطت في الأكل، ونمت دون وضوء.

حتى أنا كذبت عليها حين ادعيت أنني أفرطت في الأكل.. وأنني نمت دون وضوء، لأنني إذا قلت غير ذلك فلست أدري ماذا سيبدو عليها، فأنا لا أريدها أن تجزم بما دار في نفسها.. خرجت وكأنها أخبرتني أنني مقبل على مصيبة. وقفت إلى جانب السرير أين يقبع لوني في المستشفى، وحين وجدته قد تناقص كثيرا تمثل لي كأنه ذلك العكاز، طلبت منها أن أعود بها إلى البيت، فتوسلت لي أن أتركها في مكانها، قالت بأنين خافت وصوت منطفئ:

ـ دعني في مكاني حتى يقدر الله شيئا في أمري..

اللعنة على تلك الرؤيا المشؤومة، فكأنني لا أزال أصارع حلما مزعجا، وعندما جاء الطبيب ملثما كالعادة، وجدني أدس رأسي بين ركبتي، دق على رأسي فكأنه يدق بيتا مهجورا، لأنني أبطأت كثيرا بفتح انتباهي.. مسح على رأسي:

ـ لا تحزن فالسماء لا تموت..!!

لقد أحاط بي حزن عظيم، حتى صرت على موعد برؤيا مشؤومة مع كل غفوة أغفوها. فقد رأيت أنني أحمل لوني الأزرق البحري على ذراعي، وأنا أسير به في مكان موحش، والثلوج تتساقط بكثافة كبيرة، وقد حجب العيون عن رؤية الأشياء، لقد غطت الثلوج لوني الأزرق البحري، أحاط به من كل جانب حتى صار أبيض، وملأ رأسي وكتفي وظهري، وتراصت طبقات كثيفة فوق الأرض، حتى انغرزت قدماي ولم أعد أستطيع أن أخطو الخطوة، وأنا أقف لا أقوى على المسير ولا أنا أعرف أي اتجاه أسلك، وقد بدت كل الاتجاهات متشابهة، فلا غرب ولا شرق لهذا الكون الذي صار أبيض من الأفق إلى الأفق. وأحيانا أرفع رأسي وأمدد بصري لعلّي أتبين معلما معينا فلا أستطيع، وبدا اتجاه واحد على مدى استدارة رأسي، وهو هذا البياض الذي غشاني من كل جهة، رحلة بيضاء لا تنبؤ إلا بوصول أبيض..

في خضم البياض استيقظت يقظة عنيفة على وقع أنين لوني الأزرق البحري. جئت صوبها وأنا أرتعش، فوجدتها شاخصة ببصرها أعلى رأسي وكتفي، ثم نزلت ببصرها الذابل إلى مستوى صدري.. وبصوت ضئيل:

ـ ما الذي أخرجك في ليلة مثلجة كهذه؟!

ومدّت يدها.. أوصلتها إلى صدري بصعوبة، حتى أني ساعدتها حين دنوت منها، أخذت تمسح كأنها تريد أن تزيل الثلج الذي أصابني، أكدت لها أن لا ثلج يصب، وأن السماء صافية والجو دافئ، ففاق يقينها يقيني، واعتبرتني اضحك عليها، ولأنها مريضة جدا سكت ولم أجادلها، أشار لي بذلك من كان يقابلني..!! عندما لمست يدها وجدتها أبرد من الثلج، ولأول مرة أفقه معنى (لله في خلقه شؤون..) فكأننا نحن الاثنان كنا على نسق رؤيا واحدة، لقد ارتبكت كثيرا، لأني أدركت يقينا أن هذا ضرب من الغيب، وشعرت أن الله يمهد أحاسيسي لمجابهة أمر عظيم.

الآن رحت أتفقد لوني بدقة يحفها هلع كبير.. وجدت أطرافها على غير العادة، كانت باردة جدا: يداها.. وجهها.. نزلت إلى قدميها قد انتفختا واكتسحها برد عظيم، فشعرت وأنا أتلمسها كأنني بالفعل أحملها والثلوج تتساقط فوقنا بكثافة، استحضرت الرؤيا وأنا أصلح من شأن الأغطية البيضاء فوقها وتحتها. لم يعد لوني أزرق بحري، بل كأنه تمادى في البياض.. شعرت بدوران، ولم أتمالك هيكلي فهويت ساقطا حتى لطمني السرير وكان أبيض، حملوني.. طرحوني.. وضعوا تحت رأسي وسادة بيضاء، سوّوا وضعية أطرافي، ثم وضعوا فوقي غطاء أبيض، وغطست مغمى علي، لحظات واستيقظت على برد تلك الرؤيا الخبيثة:

ـ الثلج.. الثلج..!!
ـ إنك ساخن جدا.. لماذا تتعب نفسك هكذا؟ قلت لا تحزن فالبحر لا يموت..!

لوني برد أكثر وغاص في غياهب البياض. تمالكت مشاعري، وأضفت فوقه غطاءا قطنيا سميكا، ثم وقفت كأنني أحمله في هيج عاصفة ثلجية، ولا أعرف أين أتجه، الطبيب الملثم في قاعة العمليات يضع يده على كتفي:

ـ لا تحزن يا صديقي فالسماء لا تموت..!
ـ إنه لم يعد سماء أيها الطبيب، لقد صار قطبا جليديا هجرته الشمس منذ أمد طويل..!

لا يزال يحملق في وجهي كأنه ينظر بعمق أكثر.. يهز حاجبيه كما يفعل الحكماء، وكأن نظرته تشبه شخصا أعرفه! ولا يزال يكرر عند أذني:

ـ قلت لك تحزن.. فالسماء لا تموت.!
فغضبت غضب مجنون عنيف.. ورحت أصرخ في الرواق:
ـ ولكني أرى سمائي تموت.. ولكني أرى سمائي تموت..
فأحاط بي أقاربي وبعض الممرضين، وسلكوا بي رواقا آخر..
وكلما أقص الرؤيا على أمي.. ككل مرة:
ـ ربما...
فأكمل بدلها العبارة المعتادة:
ـ نعم ربما قد أفرطت في الأكل، ونمت دون وضوء..

أمي متناقضة في ملاحظاتها، فهي تتأمل وجهي دائما، وتكتشف أنني لم آكل منذ مدة من فرط السهر والتعب. وحين أقص عليها الرؤيا، تقول لي ربما أفرطت في الأكل.!! ولكنني رأيتها تفرح كثيرا عندما تجد نفسها قد أقنعتني أن هذه الرؤيا لا تدعو للاهتمام والقلق. كانت لا تريدني أن أحزن.

لوني الأزرق البحري شخصت عيناه في سقف الغرفة، تلمسني لوني بيده وكانت باردة جدا، وبكلمات واضحة سمعتها بوضوح:

ـ أحكم روحك..!!
سكن لوني الأزرق برهة ثم أردف جملة أخرى، كانت أوضح جملة منذ لزم الفراش:
ـ رد بالك على الذراري.. تا الله فيهم.. ديرهم في عينك..!!

كأنها كانت تكلمني وهي في الغيب، أو كأنها فرصة منحها الله لها لتوصيني على نفسي وعلى أولادها.. أو بمعنى أدق كأن الذي رأيته أنا غيبوبة كان وفاة، وبعثت إلي لتوصيني الوصية الأخيرة.. لا أستطيع أن أصف شعوري وأنا أعيش هذه التجربة، كنت أشعر كأن بيني وبينها نافذة غيبية عجيبة، كانت تطل علي من الآخرة وأنا في الدنيا، لم يبق إلا رأسها تريد أن تخفيه بعد أن تتم الوصية، ليغلق الغيب هذه النافذة العجيبة إلى الأبد.

لوني الأزرق البحري راحت أنفاسه تتضاءل شيئا فشيئا، وأنا أنتظر لوني متى يأتيني من خلال النافذة العجيبة، أو يخفي رأسه ويمضي، أخذتني غفوة رغما عني.. كانت غفوة على غير العادة، وكأنها يد خضراء امتدت إلي من السماء، رفرفت فوقي وراحت تمسح على رأسي، وكأن من يتحدث في أذني بصوت ملائكي خارق للعادة. كأنها تفعل بي مثل ما نفعل بالأطفال، عندما نريد أن ننوّمهم بالحكايات الجميلة، لقد راحت تلك اليد الخضراء الملائكية تمسح على رأسي، حتى أخذت بلباب يقظتي، فتدحرج رأسي حتى رحت أهوي بجبهتي على حافة البطانية، لم تطل بي الغفوة طويلا.. غبت عن لوني وعن البياض مدة لا تزيد عن عشرة دقائق. غصت في نوم عميق، أشبه بالرحيل إلى مكان آخر، لم أكن نائما بالشعور الذي يألفه البشر، لكنها تلك اليد الخضراء راحت تمسح على رأسي، وتحكي بما يشبه الرؤيا، رؤيا استيقظت بعدها وأنا متأكد من الذي سيحصل للوني الأزرق البحري، فهذه اليد الخضراء الملائكية كأنها أخذتني إلى مهمة حتى أطلع على مصير لوني.

لقد رأيت أني وأولادي الثلاث نركب ناقة صبورة مأمورة للخير دائما. ورأيت هذه الناقة قد تعبت مما قطعته من مسافة، ولم تعد قادرة على السير، فتوقفت على حافة قرية هادئة، توقفت وكانت مرهقة تشعر بخلاف ما كنا نشعر نحن بأن الرحلة لم تبدأ بعد، وكأنها قد أنهت هي ما قدر الله لها من مسير.. توقفت عند بيت بنيت حديثا، توقفت وأبت أن تتقدم.. كنا نحن لا نزال على ظهرها ولا نفهم شيئا.. جاء شيخ مبارك بثوب أبيض ولحية بيضاء طويلة، تمثل لي كأن ملك رحيم، كأنه هو الثلج، جاء لينقذ لوني الأزرق البحري من الحرارة التي انتشرت بشكل غير عادي في البلاد. ثلج قدم كي يؤمن لوني الأزرق البحري في مكان بارد، بعد الحرارة اللاّذعة التي سكنت بطنه، الرجل الصالح الذي بدا كأنه ملك رحيم، قدم ناحيتنا ونحن على ظهر الناقة المرهقة، مدّ يده إلينا وأنزلنا الواحد بعد الآخر، ثم مشى بنا إلى الأمام وترك الناقة حبيسة لا تستطيع الحركة، كنت أنا أسير ورأسي منجذبة، كأني لا أريد أن أترك ناقتي في هذه القرية الهادئة التي لا أعرف سكانها، كأن قلبي لم يطمئن على وجودها هنا.. لا أزال أسير والشيخ الأبيض يشير إلي أن أنظر إلى الأمام، عندما رآني تعثرت ثلاث مرات، كنت أريد أن أستفسر الشيخ الأبيض على طبيعة المكان، وعن سلامة الناقة فيه حتى نعود، كنت أريده أن يأخذ الناقة معنا إذا كانت وجهتنا مكانا بعيدا، ولكن وقاره وهيبته وروحه الملائكية جعلتني أحجم عن السؤال. فصرت وأنا في الرؤيا كأنني على يقين أن هذا الرجل الأبيض المبارك قد رتب كل شيء، كأنني كنت متأكدا أنه لا يمكن أن يتهاون ويتواطأ، ويهمل ناقتي فيتركها في مكان غير آمن. وأنا لا أزال أسير ونظري منجذب نحو ناقتي، رأيتها قد جثمت ببطء شديد، وهي تلامس ببطنها الأرض كأنها لم تحط بدنها بإرادتها، وعج غبار كثير على جوانبها.. غبار كثيف غمر المكان حتى لم أعد أراها، ولا يزال الشيخ يمسكني من يدي يأخذني إلى مكان ما، وأنا أسير على أعقابه بدا لي كأنه رجل خارق، يختلف عن البشر الأرضيين، الذين لا يثبون.. يقصرون فلا يحسنون التقدير، أحسست أنني ذاهب إلى مكان مسلّم به، كأنني منجذب إلى قدر مفروض، كنت أسير أنا والأولاد خلف الشيخ الأبيض، وكأنه يريدنا أن نبدأ الرحلة من نقطة أخرى، وربما يأخذنا ليعيرنا ناقة أخرى حتى نعود، هكذا فهمت وأنا في الرؤيا.. عندما فتحت عيني، وجدت لوني الأزرق البحري.. زوجتي تتنفس أنفاسا ضئيلة فاشلة، كانت الساعة الثانية ونصف قبل الفجر بكثير، كانت شاخصة وكنت أتصرف في يدها بحرية، ولم تكن لديها أي مبادرة للحركة، أضع يديها كيفما أشاء، ولا تزال أطرافها باردة كأنها الثلج، في هذه اللحظة أحسست أنها تنهي رحلتها تدريجيا، وأيقنت أن الله سيقدر لها أن تستريح، كنت أقرأ القرآن عند أذنها وألقنها الشهادة، كانت إطلالة أخيرة من تلك النافذة الغيبية العجيبة:

ـ تا الله في الذراري(132).!
ـ الذراري راهم في عيني.
ـ ألبسني ثوبي الأبيض..
ـ لقد ألبستك ثوبك..

فرفعت يدها وأخذت تحرك أصابعها كأنها ترقص، كانت كأنها تحضُر عرسا لا أراه، والغريب أنها لم تكن تحب الرقص عندما كانت على قيد صحتها. أذكر أنها رقصت مرة واحدة في حركة لم تستمر أكثر من ثلاثين ثانية، كان ذلك في ليلة عرسها، عندما أقحمتْها البنات بقوة في مزاح ومرح وسط الضحك والزغاريد.

أنزلت يدها.. سكنت حتى لم أعد أراها تتنفس.. ها قد أخذت شيئا من الأكسجين.. أخذته بعسر كبير، قلت عند أذنها:

ـ قولي أشهد ألاّ إله إلاّ الله..

بصوت خافت متقطع لا يكاد يسمع، فلولا أنني أتتبع لسانها، ما سمعت أنها قد نطقت الشهادة كاملة. أخذت ثانية شيئا ضئيلا من الأوكسجين.. وفي الثالثة شحت الحياة فلم تمنحها شيئا.

أغلق القدر تلك النافذة الغيبية العجيبة، ومات لوني الأزرق البحري.. اللون الذي أحببته وعاشرته، اللون الذي تلونت به حياتي كلها دون أن أدري.

عندما رحت أبكي كالأطفال.. أحاطني الطبيب بذراعيه، وأشار إلى السماء:

ـ من قال لك أن السماء تموت..؟!

نظرت إليه، وعرفت في التو ماذا كان يقصد منذ أن بدأ يقول لي هذه العبارة، كأنه كان يعرف هذا المصير من البداية وفضل أن لا يخبرني.

كنت عندما يقال أن فلان مات، أشعر كأني حزنت، وأكتئب وأقول كما يقول الآخرون: (إنا لله وإنا إليه راجعون..) كان يتخلل نفسي وضع جديد، كنت أظن أن ذلك هو مطلق الحزن، عندما يسمع المرء خبر الموت.. حسبت أني أفقه معنى الموت، تراني أجهل كل تفاصيل هذه التجربة القاسية، بل لست على علم بالنواحي التي يمكن أن يكتسحها الظلام وتنتابها المرارة، عندما تقترب الموت فتقتحم لونا أحبه.. كنت لا أستوعب أي لون سيغدو به الكون، إذا تلاشى لون كان يلبسني وألبسه، أو عندما تلم مصيبة فتطيح بلون كان يشاركنني الحياة، ويقاسمني التنفس والخفقان، لم أكن أدري أن المرء سيصبح يتيما مشردا إذا هاجمت الفجيعة أهله وسكنه.

مات لوني الأزرق البحري.. الآن أنا لأول مرة أحزن بكل التفاصيل.. الآن أظلم الكون من حولي، إني أرى الحياة بما تشمل من حركة، وما تزخر من ألوانلونا أسودا، وإنني الآن قررت أن أهمل النهار كلما أحاول عدّ الزمن الآتي.

اكتشفت أن الموت من حيث العمق بحر أيضا، يشبه الحب تماما لكن بشعور مخالف، فأنا الآن حزين.. أغرق.. أغرق.. كما غرقت أول أمس في حبه، من الآن لن تفلح أجمل نكتة في العالم أن تضحكني، هذا خطئي، كنت أقولها دائما، أقول أنني لا أتهيأ إلا للمناسبات المفرحة، وأظل كذلك حتى تسقط على رأسي صاعقة لا أدري مكانها ولا موعدها.

مات لوني الأزرق البحري.. وسقطت الصاعقة، صاعقة أحرقت جسدي، وتغلغلت في أحشائي، وسكنت فؤادي، ولم تترك فيه موضع ابتهاج، الصورة التي أتخيلها الآن، هي تلك التي كنت أراها في مقهى محاد الصغير زمن نار الكروش، كان هذا في نهاية اليوم، بالضبط عندما يطفئ القهوجي القطعة الكبيرة من حطب الكروش، يصب فوقها النار حتى تنطفئ وتصبح شكلا أسود يسكن المدخنة، هذا ما أشعر به تماما كلما أضع يدي على صدري، كأنها قطعة خشب سوداء اكتظ بها قلبي، وانغرزت نتوءاتها على جداره من الداخل تكاد تثقبه وأنا أتوجع. وهذا بالضبط أيضا ما كان يعذبني أيام حطب الكروش والنار، ولذلك كنت أفضل أن أسبق بالخروج، قبل أن يقوم الزبائن من أمكنتهم، لأنني كنت أكره لحظة الانطفاء، وأكره من جهة أخرى ذلك الشكل الّلئيم، وإذا به قد لحق بي.. وها قد سكن جوفي.. كأني أخال دخانه يتصاعد ساخنا.

مات لوني الأزرق البحري، وصرت كتلة حزن تنتقل من مكان إلى مكان من غير غاية ولا هدف، كانت الأمكنة تملّني، وكنت أحس أنها تتنصل مني. الناس يشيرون إلي:

ـ يا ربي مسكين..!
ـ .. وين يروح ضروك.؟!
ـ لقد طُويت بيته وتشرد أولاده..!!

هم متأكدون أنهم يتكلمون بأصوات خافته لا تتجاوز آذانهم، حتى أنا كنت متأكدا من ذلك، لكنني اكتشفت أن المرء يسمع بعينه أيضا.

ولكي أفر مما يتحدثون فتحت ذاكرتي على آخرها، وبدأت من الأول.. تذكرت كل شيء، بدأت من المرحلة الابتدائية وصراعي مع اللون الأحمر، تذكرت مقهى الفرارة وألوان أصدقائي.. تذكرت حديقة الحرية، وعالم الفروق.. خرجت لأبحث عنه كي يحدثني عن الفرق بين الموت والحياة. أشاروا لي أنه ذاك الذي يقرأ الجريدة هناك، وأنا قادم نحوه كانت الجريدة بيني وبين وجهه، تفاجأت إلى حد الانبهار عندما وجدت أنه هو ذاك الطبيب الملثم في قاعة العمليات، التفت إلي وكان حزينا لأجلي جدا، طلبت منه أن يكلمني عن الفرق بين الموت والحياة، لكنه عندما تأمل وجهي وملامحي، رأى أنه من الأولى أن أبين أنا هذا الفرق، فرحت أشرح بما أوتيت من حزن وأسى.. ثم تنهد ووضع يده على كتفي:

ـ لا تحزن يا صديقي.. فالسماء لا تموت..!
ـ ولكنها ماتت...
ـ لونك لا يموت.. قد كان قلبه بسعة السماء.. لونك في الجنة، كان يقرأ القرآن، ويسبح ليلا نهارا.. وكان يحبك كثيرا.. كنت أعلم ذلك من البداية، ولكنني لم أخبرك فقد خشيت عليك من الصدمة، أو ربما يظهر عليك شيء، فتضر به لونك الأزرق البحري في أيامه الأخيرة.

وأنا أجلس في مقهى الفرارة، أهملت الطبيب عالم الفروق كما كنت أفعل في القديم، كان الجو باردا.. مطر غزير أظنه مختلطا بالثلج، بالضبط كما دخلت المقهى أول مرة، لكن الذي يختلف أنني رحت أتأمل نار الغاز الطبيعي، وكانت نارا بدون دخان، زرقاء بلون البحر.. غطست فيها بأعمق مما كنت أغطس في نار الكروش، لم ألبث حتى جاء صوبي السعدي الزهدي، وقد ظهر في ملامحه أنه تقدم في السن، وضع يده على كتفي كما كان يفعل:

ـ أنت صاحبي..!

 أمرت له بقهوة بالحليب، وحزن لأجلي كثيرا، ثم اقترب بوجهه من وجهي وكأنه يهمس لي:

ـ لماذا أنت ماض في الاحتراق هكذا، إني أراك ترحل من نار إلى نار.!

المقهى لا يزال يحتفظ بأغنية عبد الحليم حافظ:

ـ (نار يا حبيبي نار..
.. نار يا حبيبي نار..
نار.. نار.. نار.. نار.. نار..).

 السعدي الزهدي نصحني أن أستمر لونا باهتا، وقال لي:

ـ ابحث لك عن لون باهت حتى لا تحترق مرة ثالثة..!

وهو يحدثني يقنعني باللون الباهت، أقبل صوبنا شيخ كبير بلحية كثة بيضاء، يلبس ثوبا أبيض.. يبدو أنه شيخ مبارك، جلس إلى جانبي، قال لي:

ـ لقد جئت لأجلك حينما أخبروني أنك هنا، كان علي أن أعزيك في مصابك قبل أن أعود من حيث أتيت..

ثم راح يتحدث بالطريقة التي تعهدها الشيوخ بثقافتهم ومصطلحاتهم الخاصة:

ـ المرحومة يا وليدي عدّات(133) أيامها، وأكملتْ مشوارها، واليوم الباقية عليك، كون راجل وكمل المشوار وما تخلّيش(134) الحزن يقتلك.. وليداتك راهم محْتاجينك(135)..

السعدي الزهدي لا أحد يحاسبه على ضحكته البهلوانية تلك، فعلها ثم أشار إلى الشيخ والتفت إلي:

ـ هذا أيضا صاحبي..!

السعدي الزهدي قال هذا ولا يزال يضحك ضحكته تلك.. صمت برهة، ثم وضع يمينه على كتف الشيخ ويساره على كتفي:

ـ أنتم في زوج أصحابي بصّح ما تنساوناش(136) البربوشة(137) البيضاء..

لم نكن ندري ما يرمي إليه السعدي الزهدي، ولكن تعود الناس أنه ينطق أحيانا كثيرة بحكمة بالغة.

غادرت مقهى الفرارة إلى وجهة مظلمة، إلى تلك الغرفة الوحيدة.. أقبع فيها هنيهة وعندما تحاصرني الذكريات، ويقابلني لوني وهو يتحرك في أنحاء الغرفة أغادرها على الفور. صرت أهيم على وجهي حتى لم يعد لدي مكان يحلو فيه البقاء.. فما أجلس في مكان حتى أجده يخبئ بعض الماضي.. لقد تعبت كثيرا.. وتهاوت كل معنوياتي وقدراتي، وصرت لا أرى العالم إلا بعين الحزن والأسى، ولو أنني أتظاهر أمام الأولاد ـ عندما أزورهم عند جدتهم ـ ببعض ملامح السعادة والابتسام إلا أنها لحظات قليلة، فقد كنت أزورهم مرة واحدة كل جمعة، أجتمع بهم في الصباح ثم أغادر كطفل يائس فقدَ كل ألعابه في حرب أو كارثة. فرحت أمعن في الحياة وهي تتناولنا بين مواقفها المفرحة ومواقفها المحزنة، كأننا نصر على الفرح والابتسام، رغم ما تخبئه من مفاجآت لا تسرنا، شعرت كأن القلب فراشة تفرح حين تخرج من ظلام الشرنقة، ولكنها تجهل أنها ستموت حتما بنار تحبها. كأن الدنيا نكتة جميلة عندما نسمعها نضحك ثم نموت..! كأن الواحد منا طفل يحاول أن يبدو واقفا شجاعا بين الريح والمراجيح...!

الجلفة في 8 مارس 2007م
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ قهوة (مخلطة) أي لا تستعمل أثناء إعدادها المصفاة.
(2) ـ قدماء وسط المدينة.
(3) ـ يقصد بها عضلة الساق عندما تكون كبيرة ومفتولة.
(4) ـ ألياف رقيقة تصنع من العجين تستعمل في إعداد المرق.
(5) ـ أحجار زرقاء غازية تستعمل للإنارة قديما.
(6) ـ بمعنى يا أولاد.
(7) ـ فعل القراءة.
(8) ـ مثل شعبي.
(9) ـ عكس قهوة الفرارة.
(10) ـ طاولة طويلة متوسطة الارتفاع تثبت بين صاحب المحل والزبون، تعرض فوقها أنواع المشروبات والنقود ثمن ما شرب الزبون المغادر.
(11) ـ نو من أنواع التبغ.
(12) ـ كلمة فرنسية مركبة من chin و Béteومعناها الكلب الأبله.
(13) ـ نساء يأتين من أمكنة أخرى يقرأن الكف وسط المدينة.
(14) ـ من الضنى أي ولدت وأنجبت ولد حرام.
(15) ـ أي من أجلي.
(16) ـ بمعنى ما يخصهم.
(17) ـ الذي لا يتحكم في أهله.
(18) ـ من فعل الإشعال ويقصد بها اللهب الذي يعلو الحطب.
(19) ـ في اللغة الماء الساخن ومعناها الشعبي الشخص اللحوح المزعج الذي يصر على الشيء إصرارا قبيحا حتى يأخذه أو يفسده.
(20) ـ من الزهد ويكون أقرب إلى الجنون وهو حالة غير صحية تشبه الدروشة.
(21) ـ الشخص الذي يكرر الحركة الخفيفة الكثيرة ليتنقل من مكان إلى آخر.
(22) ـ أي دفع ثمنها.
(23) ـ بمعنى لم تتصف بأوصاف أبيك تحية لك.
(24) ـ البيت للشاعر
(25) ـ فعل الفرجة.
(26) ـ أي نصبح.
(27) ـ بمعنى الآن.
(28) ـ فعل أمر بمعنى أجلس.
(29) ـ من الهدير أن يتكلمون.
(30) ـ كلمة أجنبية معناها استغلال الآخر.
(31) ـ تريد أن ترميك.
(32) ـ مثل شعبي نقيضه الذي يفكر كثيرا يتعب.
(33) ـ كلمة أجنبية معناها السوق.
(34) ـ كلمة شعبية متداولة كثيرا معناها الجهاز الهضمي للشاة عندما يقطع إلى أجزاء.
(35) ـ العظام الكبيرة.
(36) ـ كلمة تستعملها العجائز كثيرا وهي مقدار نصف رطل من القطع المتنوعة للجهاز الهضمي تباع هكذا في سوق اللحم لعدم مقدرة الناس على شراء الجهاز كاملا.
(37) ـ المرحول هو ما حمل على ظهور الإبل والبغال والحمير في القافلة.
(38) ـ تدعي.
(39) ـ أي أحتك.
(40) ـ ليست.
(41) ـ شخصية تلفزيونية غربية اشتهرت في القديم.
(42) ـ نشاهد.
(43) ـ معروفة شعبيا بهذه التسمية ويقصد بها الغميضة.
(44) ـ شخصية تلفزيونية كوميدية غربية معروفة قديما.
(45) ـ حبيبات بيضاء وسوداء تتلاعب على الشاشة قبل البث.
(46) ـ لعبة شعبية معروفة.
(47) ـ تتمرد وتدعي عدم التفاهم.
(48) ـ هي وحدة موسيقية صحراوية: ياي.. ياي.. وهكذا.
(49) ـ قلادة تقليدية معطرة.
(50) ـ ينبوع ماء يقع على حاشية وادي ملاح وسمي الحي العريق باسمها عين السرار ويقصدون بها السر والصحة أي البركة الحقيقية.
(51) ـ المجنون.
(52) ـ من كلمة الإخوان أي الولاء والترابط.
(53) ـ بمعنى لا تدعي.
(54) ـ صوت الدجاجة عند العامة.
(55) ـ آلة النسيج.
(56) ـ أخذه.
(57) ـ كلمة أجنبية معناها يراودون البنات.
(58) ـ العرجاء.
(59) ـ ممارسة الجنس.
(60) ـ متسول.
(61) ـ بما عليها من لباس.
(62) ـ يقصد مؤخرته.
(63) ـ الجدار.
(64) ـ خيط الصوف.
(65) ـ أداة حديدية تشبه يد الإنسان لها أصابع حادة تتخلل الخيوط كي ترصها.
(66) ـ أكلة شعبية تصنع من الدقيقة والتمر والسمن والعسل.
(67) ـ أبيكم تقال هكذا للاستهزاء أي ما هو أبيكم ولا أي شيء وإنما يدعي فقط وإلا كان يوفر لكم كذا وكذا، تقال هكذا للاختصار.
(68) ـ جلباب تقليدي أبيض تلتف به المرأة لا تترك إلا عينا واحدة.
(69) ـ تبغ اشتهر به أحد من سكان مدينة واد سوف.
(70) ـ القنبلة ويقصد بها الفتاة الجميلة جدا لأنها تحاصر المرء فتوقع به كما تفعل القنبلة تماما.
(71) ـ راعي البقر مشتهرة بأمريكا.
(72) ـ بذلة صينية زرقاْ.
(73) ـ بمعنى صرت صنما.
(74) ـ يقصد طرْ من فعل طار.
(75) ـ أي طفل صغير جدا.
(76) ـ يشبه معناها معنى بوعوينة..
(77) ـ عندما يريدون أن يصفوا العينين الكبيرتين الجاحظتين.
(78) ـ المرأة العجوز الشريرة.
(79) ـ خشبتان تنصبان بشكل أفقي متواز تشدان خيوط النسيج من فوق ومن تحت.
(80) ـ نريد أن نتخلص.
(81) ـ الذي لا تتوفر فيه الرغبة الجنسية.
(82) ـ بمعنى رفع عنه القلم أي لم تعد الوثائق تثبت وجوده كمكلف ويقصدون أنه جن.
(83) ـ كأن عقله مكنة أو دارة كهربائية فانقطعت لشدة الحرارة ويقصدون بها أيضا الجنون.
(84) ـ الذوق.
(85) ـ يصفون بها الذي يبالغ في تحريك مؤخرته غرض الخيلاء.
(86) ـ أصلها لقمان ولكن غلبت على العامة نطقها دقمان، وفي الشمال ينطقونها دغمان.
(87) ـ أي يقود النساء للرجال والعكس.
(88) ـ الحي.
(89) ـ أي الذي تطاول كشجرة الصفصاف.
(90) ـ من كلمة الدهن.
(91) ـ كيس مصنوع من جلد الجدي توضع فيه الخميرة.
(92) ـ أي لا يزال يرضع من ثدي فرنسا.
(93) ـ المبالغة في فعل الفاحشة ويقصدون بها البذخ.
(94) ـ دست.
(95) ـ شعر الشارب.
(96) ـ تنطق بالسين مشدودة على النصب وهي الجماعة التيتقومبفعل لعبة الّسيق، وعددهم أربعة أما اللعبة فهي لعبة شعبية تلعب بست فلقات تصنع من القصب كل فلقة تأخذ لونها الطبيعي من جهة وتلون بلون مخالف من الجهة الأخرى، يشد اللاعب الست فلقات ثم يرميها إلى فوق قليلا ويدعها تسقط على الأرض ويتم الحساب من خلال تباين أوجه الفلقات.
(97) ـ بمعنى يشدون وثاق بغل وهي صيغة مبالغة يصفون بها الولد عندما يصبح رجلا.
(98) ـ بمعنى أن ما يتحصل عليه شهريا لا يكفي لتغطية حاجيات البيت والزوجة والأولاد.
(99) ـ ينطق في بدايتها حرف الميم بطريقة الإدغام ومعناها سائم من الحياة ومال منها وهي كلمة متداولة لدى العامة.
(100) ـ كلمة متداولة أيضا بمعنى يأخذ راحته في الحديث أو اختيار المكان أو الشيء أي يأخذ راحته تماما.
(101) ـ بمعنى لا أنفة لديهم.
(102) ـ يتشددون في المظهر في فقط.
(103) ـ من فعل شبعت.
(104) ـ حمام الفقراء الذين لا يملكون نقودا وهي من كلمة الزلط وهي عبارة تعني الفاقة.
(105) ـ لعبة القفز على الحبل.
(106) ـ هي النار عندما تصنع الصهد الكثير.
(107) ـ قديما.
(108) ـ من الردم.
(109) ـ مأخوذة من كلمة حائط وكأنها قد فرنست في النطق وهم أولئك الذين يطيلون بقاءهم تحت الحائط لأنهم لا يمارسون أي شغل.
(110) ـ رواغك.
(111) ـ كلمة متداولة شعبيا ومعناها يتباهى بشكل مبالغ فيه.
(112) ـ نكاية.
(113) ـ أكلة شعبية مشهورة جدا بين سكان الوسط الجزائري وتحضر من رقاق الخبز والمرق واللحم والخضار.
(114) ـ تصغير الرجل.
(115) ـ من كلمة خنزير.
(116) ـ غير قادر.
(117) ـ أرى.
(118) ـ أصلها فرنسية la figure ومعناها في المعنى العربي شكل الوجه.
(119) ـ كلمة فرنسية معناها عصير البرتقال وهي علامة مشهورة.
(120) ـ شخصية سينمائية مشهور والكلمة عنوان لفلم أمريكي مثير بطله:
(121) ـ تأخذها.
(122) ـ كلمة فرنسية متداولة معناها القرض.
(123) ـ قميص ضيق جدا يعصر صدر المرأة حتى تبدو كأنها لا تلبس شيئا.
(124) ـ أي أصبح.
(125) ـ يقصد أنه يصير لا يخاف من الله ولا يخجل الناس معناها هكذا في الثقافة الشعبية.
(126) ـ عندما يردون أن يبالغون في معنى الرجولة.
(127) ـ أكلة شعبية تتكون من طحين القمح الخشن قليلا والتمر والسمن يضاف له الزعتر لتحسين نكهته.
(128) ـ بمعنى لا تهتم.
(129) ـ من كلمة عصفورة بمعنى قررت أن لا تظل حبيسة القفص (البيت) وهي درجة أقل انحلالا من التخنزر بكثير.
(130) ـ أحد أعمدة الثورة الجزائرية وأحد مؤسسي هيئة الدرك الوطني الجزائري.
(131) ـ الأم الفاضلة للسيد العقيد سي أحمد بن الشريف.
(132) ـ الأولاد.
(133) ـ أي انقضت..
(134) ـ لا تدع.
(135) ـ في حاجة إليك.
(136) ـ لا تنسوا.
(137) ـ كلمة متداولة كثيرا عند العامة خصوصا الشيوخ والعجائز ويقصدون به الكسكسى أما ما يقصد ببيضاء أي بدون لحم.