تنشر (الكلمة) مجموعة قصصية كاملة للقاص المصري المتميز، يقدم عبرها وجوها متعددة لسوق الجمعة، وما يمور فيه من نماذج بشرية لا تقل تنوعا عن الأشياء المعروضة فيه للبيع، وكأنه ليس سوقاً للبضاعة بقدر ما هو سوق للبشر.

سوق الجمعة (مجموعة قصصية)

به ركن لبيع القلوب المحطمة وحكايات العاشقين

فؤاد قنديل

فى مديح الجمعة
منذ وعيت أعشق الجمعة وأنتظرها بشغف وأتمني لو أستطيع دفع الأيام نحوها، لأنها الحرية والانطلاق والوهج، وهي اللهو والفن والطعام، فكم أرجأت الوالدة أشهي المأكولات ليوم الجمعة حتى يتسع الوقت وتلقي من الجميع المساعدة، وبالذات الخبيز فى القرية، ولم أكن أكف فى صباي عن لعب مباريات الكرة طوال ساعات النهار من يوم الجمعة.

ولما كبرت تدخل الشباب والعنفوان فى نظرتي إليها.. فرأيتها أنثى بضة وجميلة.. مشرقة وناعسة الطرف ذات دلال.

الجمعة تاج على رأس أيام معتقة.. شجرة تحط عليها العصافير الباحثة عن الأغنيات والعبير وحنان الأمهات الوضيئ.. تتمتع بنهار رمضاني وليد ناعم الملمس حلو الابتسام.. جمالها يكمن فى أنها أقل الأيام ضجة وصراخا ونهبا وافتراسا.

ها هي الروائح تقفز إلى أنفي متعانقة.. روائح صابون الغسيل والاستحمام وروائح الطهو وروائح النعاس والفل، روائح الفطور والطيور التى مضت تحلق فى السماوات وتحط على الأرض دون أن تزعجها جلبة الخارجين.

الجمعة تفتح عينيها وتطل على الكون وتنتظر فى شوق آيات المحبة التى تتأهب لها منذ بداياتها الأولي مع مساء الخميس، الجمعة ذكر وأنثى فى جسد واحد.. ذكر بالليل وأنثى بالنهار.. الجمعة الذكر تسعي لوضع بذرة الخلق وترعاه بالحنين وصدق الشعور والوعد الجميل على الوفاء الدائم والحماية إلى أن يتحقق الأمل مع طلوع النهار.
والجمعة الأنثى هى الحضن الكبير.. تفرش فستانها المزين بالشمس والحب والرضا والالتئام والانسجام والطهر والقداسة.
الجمعة الأنثى المتلهفة لعناق البشر فى تجمع ودود ونبيل.. الجمعة الأنثى تلملم أطفالها من كل درب وتصحبهم إلى النزهة فى حدائق البهجة. حيث النعناع والحب.. النشوة والياسمين.. الحنان والقرنفل.. العطف والريحان.. المودة والسوسن.

الجمعة بذكورتها وأنوثتها لا تضيق بالحياة، بل هى بداية الدورة الجديدة للحياة بعد النصب والعرق والخمود.. الجمعة عرس وألق.. الجمعة بيضاء مشرقة خالية من غيم الضغينة.. عبيرها الفواح يتنقل برهافة بين الأجساد والقلوب والعيون، ويحط على الشعور وفى الشعور.

الجمعة هى اليوم الذى يعقب الخميس من أيام الأسبوع، والجمعة بهذه الإشارة ليست أكثر من محاولة لتجسيدها وتحديدها فى سياق زمني، لكنها فى الحقيقة ذات دلالة أكبر بكثير، إنها مركز لأطراف متعددة، وشمس تدور حولها كواكب، وبحيرة تصب فيها جداول وتخرج منها أنهار.

الجمعة تعني الجُمَّاع، أي تجميع المتفرق ولم المشتت والتقريب بين المتباعدين، وضم مختلف الأطراف، كما فعل "المصطفي صلي الله عليه وسلم" حين حسم مشكلة الحجر الأسعد بين المتنافسين، إذ وضعه فى ردائه واشترك الجميع فى حمله.

والجمعة إشارة إلى الجميع، الذين يشتركون وينعمون ويتبادلون ويتساوون فى كل شئ.. الجمعة إشارة إلى الجماعة. والجمعة تعني الجماعية والجمعية، أي الاحتشاد بالكل لعمل الخيرأو الدعوة للحق أو تأمل الجمال فى معرض، أو بذل الجهد الجامع للابتكار العلمي والأدبي، ويلزم لذلك فى بعض الأحيان "مجمع" والجمعة هى المجموع أي حاصل الجمع، ويعني فوق دلالاته الحسابية الآثار المترتبة على الجمع والتجمع، والجمعة إذن تعنى الملتقي.

الجمعة قد تعنى الألفة والمودة والتقارب، لأن التقارب اجتماع، والألفة من نتائج الاجتماع، والمودة تعقب الألفة.. والجمعة تعنى الجامعة، وقد كانت يوماً للعلم والدرس ولا تزال حيث الكل يومها للتعلم، فهى جامعة.. كما كانت فرصة لاستنفار قوى المقاومة والاتفاق على كلمة سواء.

الجمعة أيضاً جِماع بين الذكر والأنثى، أي الجمع بينهما بما يؤكد الأواصر وينتج الجموع.

ومنها سمي الجامع الذى يجتمع فيه الكل لصلاة الجمعة والعيدين وغيرها.

ومنها يقال الكلام الجامع أي قليل اللفظ كثير المعاني وهو الكامل فى موضوعه بحيث لا تنقصه إضافة.

ومنها العالم الجامع أي صاحب العلم الغزير فهو المرجع فى تخصصه.

ومنها أمر جامع أي أمر جلل وخطر يستأهل اجتماع الخلق للعلم به وبحث الرأي فيه.

وبعد:
ليس ذنبكم أني أعشق الجمعة حتى بعد أن همست لي على استحياء قائلة إنها لم تكن فى كل الأحوال بريئة.

.. أيتها الجمعة..
أشعر دائما أن بأعماقك لا تزال أسرار كثيرة، وإنك شعر ونثر، وإن فى روحك وحي محمد وفى عينيك وجه عيسي، وهذى القصص مثل القرابين أطرحها تحت أقدامك المقدسة، ففيها نفحات من دماء وأرواح بشر، تغلغل فيهم غرامك الذى لا تسمح أحوالهم بالتعبير عنه، وقد حاولت من جانبي، فتقبلي ما أهرقت على شرفك.. والإبداع أقدار ومقادير وأرزاق.
ف. ق

ثمر الجنة
سمعت عنه كثيرا فرأيت أن أزوره. أدور فيه وأغوص.. أتعرف وأسمع.. أسأل وأجمع.. أحلل كما تعودت أن أفعل مع كثير من التجمعات.. أثق أن المكان جاذب.. يقولون رواده فى اليوم الواحد يتجاوز عددهم نصف المليون من طبقات وشرائح مختلفة، خاصة المتوسطة والدنيا.. معظمهم من الموظفين والعمال والعاطلين.

بالإضافة إلى جاذبية المكان فهو لا شك عينة مثالية لقاع المجتمع.. لن يضطرك البحث لتعقبها فى الأحياء المتباعدة، فضلا عن تعذر السيطرة على الشخصيات المنطلقة فى الشوارع والحارات لجمع البيانات، ولزوجة الفضوليين وأنوفهم المزعجة.

هناك تلتقي وتعيش فئات تعرفها، وفئات غريبة عليك، لكنها جميعا دون شك لديها بعض الأسرار.. ولديها ثقافة القيعان والسراديب.. المختبئ والمتواري.. بعض ملامح الهاربين من ثأر أو سجن أو من فضيحة، أو من أعمال غير كريمة، فقد بلغني أن بعض البائعات كن ممن عملن سنوات كبنات ليل ثم تخلصن من أعباء هذه المهنة الرديئة التى لا يعيبها العار فقط والازدراء الاجتماعي، ولكن السخط الذى يأكل روح الممارسات أنفسهن بسبب اضطرارهن لاختيار هذا المصدر البشع للارتزاق، والسخط لأنها مهنة لا تخلو من الخطر فكم ماتت زميلات لهن ذبحاً أو خنقاً أو ضرباً.

هذه النماذج البشرية إذن أساس عملي، ولعلها تكون مادة جيدة تفيدني فى إعداد بحث رائع مطلوب أن أعده للترقي فى الجامعة، وأنا على ثقة من استثارة د. كيدمان الذى سيقفز فرحاً وحماسة، وسوف يطلب المزيد.. ليته يسعى لاختياري أستاذا فى أي جامعة أمريكية حتى لو تحت الأرض كما فعل مع د. يوسف النجار.

تغلغل فى أعماقي إحساس يقيني بأن هذه الزيارة سيكون لها جدواها بشكل يمكن أن يؤثر على مستقبلي العلمي.. المهم الرصد المتأني، وأهم منه الصبر فقد يضيق بي من أسألهم، يريد الزبائن أن يشتروا، ويريد الباعة أن يبيعوا لا أن يشاركوا فى الحوار.
لبست "كاجوال" واضطررت أن أتخلي عن البايب فسوف يثير التعليقات والشبهات.. وضعت على رأسي قبعة رياضية نبيتي توحي بالبساطة والشبابية من ناحية وتغطي دائرة الصلع التى تتسع يوماً بعد يوم.. خطفت نظارة الشمس وانطلقت وحدي دون أن أسرب خبراً حتى لأعز الأصدقاء.

استقبلتني الأصوات العالية والصخب.. ميكروفونات وصراخ.. معالم المشهد متراكمة ومتلاحمة.. بشراً وبضاعة.. المعروض فوق العربات والترابيزات مكدس ومهمل.. أكثره غير جيد.. بعض السلع صنعها أصحابها فيما يبدو تحت سلالم البيوت وفوق الأسطح أو فى الجراجات والخرائب.

فجأة صرخت سيدة كانت تسير إلى جواري بين أكداس اللحم المتلاطم:
ـ يا لهوي.. سرقوا البُكْ.
عندما رمتني بنظرة لافحة استولي الرعب علي.. تسللت بعيدا وتركتها تصرخ والبعض يسألها بلا جدوى ويواسيها، لكن الكل يمضي، فالطريق لا يحتمل الازدحام.. الباعة هم الذين صاحوا فى الناس كي يتحركوا.. لا يريدون وقف الحال.
ـ حصل خير يا جماعة.. ربنا يعوض عليكي يا ست.. وسَّع طريق.
مال بائع على آخر وقال:
ـ عارفينها الحركات دي.

انسحبت بعيدا عن المنطقة الملتبسة وإن انطبعت صورتها فى رأسي فربما يكون لها مكان فى الدراسة.

لمحت سيدات فوق الأسطح المجاورة يتناولن فطورهن ويثرثرن ويضحكن حتى تستلقي بعضهن.. كن يستمتعن بالشمس الشتائية وأشعتها اللذيذة التى تدغدغ الأجساد.. بعضهن يفرطن البسلة ويلتهمن اليوسفي ويشربن الشاي فى وقت واحد.

يعلن أحد الباعة بأعلى صوت أن بضائعه مهربة من الجمارك ويرد عليه آخر بأن الملابس الفخمة التى يعرضها بملاليم مسروقة من شركة كذا ومحلات كذا ومول كذا.. وكلها أماكن مشهورة.. تستولي الدهشة علىّ بسبب هذه التصريحات الجريئة التى لا جزاء لها إلا السجن.

سيدة فى الركن تعد على وابور جاز الشاي والحلبة الحصى والقرفة لمن يريد، بينما رضيعها فى حجرها يقبض على ثديها الأبيض الممتلئ وقد خرج خصيصاً من مكمنه عبر فتحة مشقوقة من الرداء ليصب فى فم الرضيع ذي الوجه الأسمر ما يكفيه حتى يسكت. إلى جوارها عنزة تلتهم قشر اليوسفي ووراءها طفلة صغيرة نائمة ودافسة رأسها فى دفء وطراوة مؤخرة الأم، وإلى جوارها فيما يبدو أنه الزوج رجل أسمر نحيل وصامت مختص بالشيش والحجارة والمزاج بدا مشغولاً بتسليك الشيش بسيخ رفيع وطويل.

طبال يمسك بدف. ينقر عليه بحرفية كخلفية موسيقية لنداء بائع الملابس القديمة:

ـ الجينز بعشرين وتعالي شوف.. غريبة ياولاد.. الجينز بعشرين وتعالي بص.. إلبس واتهنا بعشرين..أبو مية بعشرين.

فجأة وبالغريزة أسرعت فتواريت وراء بائع ضخم يقف أمام بضائعه من المكانس مختلفة الأنواع.. لمحت سيدة تشبه تماماً زوجتي السابقة التى لم تبق على ذمتي إلا عدة أشهر.. لم تختلف كثيراً عن التى سبقتها ولم تبق معي غير عام بحجة إنها لاحظت أن طباعي لا تتفق مع طباعها، واعترفت إنها قاومت الإنجاب منى منذ أول يوم لأنها لمست مبكرا صعوبة الاستمرار.

أشحت بوجهي بعيداً حتى لا تتعرف علىّ، ولو تعرفت لن تعبأ.. تتمتع طول عمرها بغطرسة فارغة.. لا ليست هى.. هيا.. السوق لا يسمح بمزيد من التذكر.

وجوه الباعة معرض مثير من الملامح، كأن سوق الجمعة ليس سوقاً للبضاعة بقدر ما هو سوق للبشر.. بائعة شابة يبدو إنها عروسة جديدة خرجت للسوق بعد أيام قليلة.. كفوفها محنية ووجهها مرسوم بدقة بالذات الحواجب وشعر البشرة يبدو منتوفاً منذ أيام فالوجه الأبيض ناعم تماماً والكحل بزيادة، والطرحة ملفوفة بإحكام، الغوايش تبرق على الساعدين المكشوفين، لعلهما يستدرجان بنضارتهما بعض الزبائن.. حالتها المتوهجة والمختلفة تدل على أنها جاءت إلى السوق بعد أن استحمت واستمتعت بحمامها.. نفسي فى زوجة مثلها.. مطيعة وبلا شخصية.. لا عمل لها إلا إجابة مطالبي دون كلمة إلا عندما أسمح لها.. مشكلة المرأة المتعلمة إنها صاحبة رأي وهذا يدفعها للمقاومة والعناد، ورأيك فى العادة لا يعجبها. إلى جوار العروسة رجل جهم الملامح، بوجهه أخدود عظيم يشق الجانب الأيسر بالطول من السوالف حتى الذقن فى شكل قوس.. كيف قبلته زوجاً؟!.. ما زالت العائلات تمارس ضغوطاً على البنات خشية العنوسة.. لابد أن تكون هناك صيغة لوقف هذه الضغوط والملاحقة.. لابد أن التعليم سيفيد.. خسارة بنت كهذه مثل فلقة القمر تتزوج من متشرد وبلطجي بحجة أنه حماية لها من المجتمع. "ضل رجل ولا ضل حيطة".. فى حالة كهذه ظل الحائط أفضل كثيراً.

اجتذب نظري رجل بدا كأنه يلبس قناعاً.. معالم وجهه كأنها ليست من صنع الله.. الأنف كبير والفم واسع والعيون صغيرة تركب فوقها الحواجب الغليظة.. الأذنان كبيران.. الأغرب أن البشرة ملساء تماماً كأنها من البلاستيك، لا ندوب فيها ولا أثر لشعر فى الذقن أو الصدغين، بينما هناك شارب كثيف.. شعره غليظ كأنه سلك.. رسم كاريكاتوري أو شخصية كارتونية من إبداع رسام فاشل.. أما الأصوات فتخرج من فمه بكل الطبقات والنغمات، وبعضها كأنها لحيوانات تتكلم فى فيلم.

كيدمان سوف يبهره البحث.. كم هو مشتاق دائما لمعرفة ما يجرى خلف الكواليس المصرية!.. قال كثيراً إنه على ثقة: إن الأبحاث حول الشخصية المصرية ربما تستغرق عشرات السنين على يد مئات الباحثين، لأن مصر بلد العجائب والغرائب وليس هناك سياق واحد ينتظمها أو يحدد ردود أفعالها فى أي زمن.. ابتعد الآن يا كيدمان.

مال فتي وقرص جارته الشابة فى أعلى فخذها. ابتسمت بغضب مزيف وضربت يده بشدة رقيقة.. عاود القرص واللمس والتحسيس إلى أن قفزت مبتعدة تنادي على كوز العسل الذى لا تهتم ببيعه.. تابعت البشر من الزبائن الذين يقلبون فى المعالق والسكاكين والأجهزة القديمة والملابس والتوابل وأدوات الزينة والملاءات والنجف والأحذية والنظارات حتى بلغت منطقة فسيحة لكنها محتشدة بالبشر. أسلمت نفسي لأمواجهم التى تدفعني من الخلف بإصرار ناعم.. كم كبير من أحواض سمك الزينة.. الأسماك لا تكف عن الركض والحركة والصعود والهبوط والمروق بين غيرها فى مرونة وبراءة.. العيون أغلبها جاحظة.. حدقاتها تدور وتبحث وتحدق والأفواه تلتقط الطعام الذى لا أكاد أراه.. حديقة رائعة من الأسماك مختلفة الأشكال والأحجام والأنواع والألوان.. الألوان بالذات معرض فاتن للتناسق والتناغم والتصميم بما يؤكد إن الأسماك المصدر الأول لمصممي الأزياء على الأقل فيما يختص باختيار الألوان وهارمونية نغماتها.

عدد كبير، ربما بالمئات يلتف حول الأحواض ويحدق فى الأسماك.. لا يكتفي بالمشاهدة.. أغلبهم يسأل ويختار ويشتري.. لم أكن أتصور أن هناك من يهتم بهذه الأسماك إلا علية القوم والأثرياء.. لكن شباباً كثيرين يشيرون إلى أسماك معينة ويشترون.. يسرع الباعة فى تعبئتها فى أكياس بلاستيك شفافة وملئها إلى المنتصف بماء دافئ.. حدثوني عن السمك وجماله وأنواعه وتكاثره.. كانوا يتحدثون بشغف وسعادة.. الوجوه مشرقة والعيون تلمع.. والكلمات تتزاحم وتتقافز فوق الألسنة بما يدل على إنها بالنسبة لهم.. أعز الهوايات.

قال لي أحدهم وقد لمس رغبتي فى السؤال:
ـ هذه السمكة إنجل وتلك البرتقالية فانتيل، والصغيرة السوداء كوي.
أسأله عن سمكة غريبة لها كيسان كبيران كبالونتين على جانبي عينيها.
ـ إنها دابل أيز.

أسأل عن طعام الأسماك وحياتها فى الماء.. يتدفق الجميع ويتنافسون فى الرد موضحين إنها تجرى فى الأحواض وتلعب وتحب وتمارس الجنس وتحمل وتفقس البيض.. الأحواض لها مواتير ومواسير بالكهرباء لتوفير الأكسوجين وتجديد المياه، ولتجعلها فى درجة حرارة معينة صالحة لحياة الأسماك.

معلومات كثيرة تتوالي عن الغذاء والجماع والقبل وتجهيز المياه والنظافة.. قال الكثيرون إنهم يجلسون أمام الأحواض بالساعات دون ملل.. عالم جميل يصرفنا عن عالم آخر يمتلئ بالقبح والضجيج.. عالم مريح للنفس. يغسل الهموم. يجعلك متفائلا وهادئاً ومستعداً للتسامح والتماس الأعذار لمن يخطئون.. إنه العالم الذى يرسم الطريق للحب.

ابتسمت، فقد كان كلاماً رومانسيا بشكل مبالغ فيه وربما غير حقيقي.. لكن الذى قاله هم الزبائن وليس الباعة.. عندما تحولت لأزن ما يجري وقعت عيني عليها.. تسمرت.. فتاة بسيطة.. عيناها جميلتان واسعتان وخصلة من شعرها تتدلي على جبينها.. ملامحها دقيقة ومنمنمة غير أن شفتيها ممتلئتان حمراوان لم يخلقاً إلا للقبل الطويلة العميقة حيث ينهل العاشق من الرحيق المعتق ويسقي عمره وحياته وقلبه المتعطش.. تسمرت.

تقف خلف عمارة صغيرة من أحواض السمك.. انهمكت فى استخراج سمكات صغيرة صفراء من أحد الأحواض بشبكة فى حجم مغرفة.. تضع السمك فى كيس شفاف من البلاستيك به ماء دافئ.. صدر ممتلئ وخصر نحيل وشعر كثيف وطويل يتدلي حتى آخر سلسلة ظهرها، تتفجر بالصحة والشباب.. ترد على كل من يسأل بابتسامة.. لا تضيق بكثرة الأسئلة.. ثقافة سمكية متدفقة وبساطة مع خفة وحركة.. لمحتني مع أني كنت أقف خارج مدار زبائنها وأحواضها.. أمسكتني متلبساً بنظراتي المتفحصة.. تزن وتتأمل وتدهش.. أدركت أنني لا أريد سمكاً وليس لدي حوض.

لا أظن أنها وحدها بين كل هذه الأحواض وفى مواجهة الزبائن.. حضر فى الحال أخوها حاملاً قبابا خشبية (فرونتورا) تماثل الوجهات العليا للمعابد الإغريقية والرومانية. رأيت مثلها فوق بعض الأحواض.. أضافت جمالاً للحوض الزجاجي.. وضع حمله على جنب ووقف أمام عمارة أخرى من أحواض السمك.. ظهره فى ظهر الفتاة تاركاً ممراً ضيقاً للمشترين.. تحدث إلى عجوز يجذب الأنفاس من الشيشة.. هو لا شك أبوه.

هذا هو اللون الذى أبحث عنه من الزوجات. هذا الجسم وهذا السن وهذا الوجه وهذا الذكاء وهذه البساطة وهذا الجمال.. كانت السابقات من عائلات معروفة وثرية، حتى من خطبتها وتخلصت منى قبل الزواج كن جميعاً يحملن فى أعماق قلوبهن شعورا بعدم الرضا الكامل من الزيجة كأني عار.. قالت التى خطبتها بوضوح سافل: العزوبية ولا الجوازة العرة.. كدت أخنقها إذ أنا من أنا.. أستاذ جامعة يجلس أمامي الآلاف من الطلاب، منهم عشرات الطالبات يتمنين فقط أن ألقي عليهن نظرة. من السهل جدا أن يصيب الغرور النساء. وكثيراً ما تتسبب فى ذلك معاكسات الشباب الطائش فى الشارع، تلك المعاكسات التى لا غرض لها غير التسلية والتخلص من الملل، فتتصور بعض البنات أنهن حزن الجمال ومن حقهن أن يتدللن لمجرد أن ولدا قال لهن وهو غافل: خف يا جميل علينا أو ارحمنا من عينيك القتالة.

قررت أن أتزوجها.. قطة أليفة لذيذة وناعمة.. لن أشبع من التهامها ولن تكون مزعجة. لطمني اعتقاد بأن الشاب ربما كان زوجها.. دنوت منها محاولاً البحث عن دبلة فى أحد أصابعها.. لم أجد شيئا.. لمحتني من جديد.. الذكية بنت الذكية رمقتني بنظرة كأنها تسألني:

ـ ما حكايتك؟
ظللت واقفاً أتظاهر بالتحديق فى السمك حتى خفّت الرَّجْل قليلاً واختفي أخوها.. دنوت فجأة، وقلت لها:
ـ أنا أستاذ جامعة وإنتِ عجبتيني.. ممكن تتجوزيني.
كنت أحسب أنها ستتهاوى من طولها أو تسقط الشبكة من يدها.. نظرت إلىّ بغير رضا وقاستني من أعلى لأسفل مرتين، ثم عادت لخدمة عشاق السمك. كان المفروض أن تهتم بمن طلب شراء البلطية.

أعرف أني أحمق.. ليس كل الوقت بالطبع.. وما كان يجب أن أتسرع بالعرض، لكن الاستجابة غريبة.. موقف محير لا يدل على أدني الاهتمام.. ألست لُقْطة.. عريس به كل المواصفات الجذابة لفتاة بائعة وربما بائسة.

عدت أسألها:
ـ إيه رأيك يا بنت الناس؟
 قالت بحياد قاطع بطعم الرفض: أنت كبير
ـ أربعين سنة.
ـ وأنا 18.
ـ لا أنت واحد وعشرين.
ابتسمت وقالت وهى تضرب صدري بيدها المبتلة:
ـ يخرب بيتك، والنبي صح.
فرحت للدعابة التى طلعت علىَّ من وجه زادته الابتسامة جمالاً.
ـ إيه رأيك؟
ـ بتشتغل إيه.
ـ أستاذ جامعة.. دكتور.
ـ بس أنت متجوز.
ـ كنت.
ـ عندك أولاد.
ـ ولا ريحتهم.
انشقت الأرض وظهر أخوها فجأة، يطلق من عينيه الشرر.
ـ فيه إيه يا أفندي.
لا أدري لماذا اضطربت جدا وكادت أوراقي ونظارتي تسقط منى كأني كنت أسرق.. قلت له وأنا أحاول التماسك:
ـ إيه مالك يا أخينا.. بسأل عن السمك.
ضحكت البنت وقالت:
ـ سمك!.. بيقول عايز يتجوزني.
هممت أن أفرح لقولها حتى ندخل فى الموضوع مباشرة، لولا اشتعال وجهه وبسرعة كانت المطواة فى الجو ومعها عيناي، ثم التقطها واقترب منى.. دس أنفه فى عيني.
ـ بتكذب من أولها.
ـ أنا كنت.
ـ ح نفوتها لك المرة دي.. أبويا عندك.
التقطت أخيراً أنفاسي بعد أن كنت قد أوشكت على الانهيار رُعباً.. سحبت كرسياً وجلست جنب العجوز.. مد لي بوز الشيشة.. رفضت ونقلت له على عجل رغبتي دون لف أو دوران.. وافق.. لم يتكلم فى أي جهاز أو مهر أو فرش وملابس وشبكة.. قال بحدة:
ـ حسك عينك تزعلها.. ثمر الجنة عندي بالدنيا.
لم أفهم: يعني إيه ثمر الجنة؟
ـ ثمر الجنة بنتي..
ـ اسمها ثمر الجنة؟! الله
سرحت استطعم الاسم وأدهش لدهاء المصريين الذين يجملون حياتهم بالأسماء ويتخلصون من الفقر والنكد ببعض الزينة البسيطة.. لكزني العجوز فى كتفي قائلا:
ـ لو اشتكت منك يوم مش ح تكفيني عيلتك.. إحنا فاتحين مع السجن أبونيه.
ـ فى عينيَّه يا عم الحاج.

تزوجنا بعد أسبوعين.. تمرغت فى العسل غير عابئ بالجامعة والأبحاث والترقية وكيدمان وقلت بمنتهى الجسارة.. طظ فى أمريكا واللي يتشدد لها.. كنت مشغولا بقاع المجتمع اللذيذ.. جننت بالجسد المشتعل، وعندما أتداعى وتنفك كل مفاصلي أتأمل الوجه الجميل.

أكثر من مرة قلت: عبقري اللي سماكي ثمر الجنة اسم على مسمى
بعد شهور سألتني.. بمناسبة تكرار مدحى لها ولاسمها.

قالت: يعنى أنا لي قيمة عندك؟
قلت: طبعاً.. بس سامحيني لأني بشخر وأنا نايم.. تصوري مرة سمعت نفسي وأنا بشخر.
قالت فى شبه صفعة: مش مهم الشخير.. المهم الكذب
تجاهلت كلامها لأن الأمر لا يخلو أحياناً من تغيير معلومة أو اثنين.. مما يزعج البعض، وأري أن الموضوع لا يستحق.
قلت: سامحيني، لأني مش فاضي أفسحك.
قالت: مش مهم الفسحة.. المهم المحاصرة والمراقبة.. أنت تسأل عنى الخدامين والبواب والجيران، غير اتصالاتك بالتليفون الأرضي والمحمول، غير أسئلة كتيرة غرضك تمسك تصرفات أو كلام تحسبه علىّ.. أنت شخص شكاك وما عندكش ثقة بنفسك.
أفزعني الهجوم المتواصل.
قلت من قلبي: غيرة وحب.
قالت: اللي ما يشوفش من الغربال يبقى أعمى.
سألتها: ليه تقولي كده؟
قالت: لإنك بتشك عمَّال على بطال.

بعد ستة أشهر أخذت ذهبها فقط وتركت البيت.. لم أصدق.. زلزلني ما وعيته بعد وقت. مؤكد غواها أحد.. حبيب أو أخ.. لم أقصر معها لحظة.. لم أغضبها كما طالبني أبوها.. وفرت لها حياة لا تتوفر لأميرة. المرأة كائن غريب.. مجنون ومعقد متعذر إرضاؤه.. لا.. لن أتركها أبدا سأستعيدها مهما كلفني ذلك، وسوف أسكنها فى سجن محاط بالسلاسل والحراس.. هذه الجوهرة الثمينة والنمرة الشرسة لابد من أحاطتها بما يحميها من نفسها ومن اللصوص.

مضيت إلى منزلها وهو مقبرة فى الإمام الشافعي.. سألت أمها عنها.
قالت: فى السوق.. أنصحك ما تروحش.
لم أهتم بالتهديد.. سأجرها حتما إلى بيتها.. لا أقبل أن تقف زوجتي فى السوق لتتلقي النظرات والكلمات الخارجة.
ـ إنت سبت البيت ليه؟
لم تلتفت إلىّ، وقالت فى ازدراء:
ـ بيت.. كل اللي عندك أقل من ثمن شبشبي ده.
تمالكت أعصابي المتوترة المستعدة لكل شئ حتى ارتكاب جريمة أو على الأقل فضيحة.. لم أمنع نظري أن يهبط إلى الشبشب الممزق والملوث بالوحل.
قلت ببرود مصطنع:
ـ طب إنت هنا ليه؟
ـ أخويا ضرب واحد ودخل السجن
ـ إمتي؟
ـ أول امبارح
ـ لو سمحت تعالي معايا.

فجأة تألمت من وخز السكين فى بطني.. كانت قد اختطفتها دون أن أدري من أين، فقد كانت يدها فارغة.. أكلت أسنانها وهى تقول:

ـ إيه رأيك؟.. فات وقت الكلام.. إنت قشرة.. عارف يعنى إيه قشرة؟
كلامها صفعات متلاحقة.. لم تترك لي فرصة لأي كلمة مهذبة.. لمت نفسي بشدة لأني سمحت لها بإهانتي أمام الناس والسمك.. قررت أن أتركها الآن والعودة مرة أخرى.. لعل وعسي..أنا قشرة!.. يا نهار أسود.. كلمة واحدة مهذبة، لكنها قاتلة وماحقة. قشرة تعنى مجرد شكل لا علاقة له بباطن سئ، وتعني رجل فالصو.. كله مزيف.
اشتقت إليها فقد كانت بالفطرة تعرف كيف تصنع البهجة وتغرقني فى السعادة.. ذهبت إليها فتركتني بين الناس بلا كلمة وأنا مجرد شحاذ يقف بباب السلطانة والجميع يدهش لحالي.. كنت أتسول نظراتها.. قلت لوالدها:
ـ خد كل ما أملك وأعد زوجتي إلىَّ.
سحب الأنفاس من الشيشة بمزاج ونفخها لأعلى، ثم قال:
ـ أهي عندك تفاهم معها.
أحببت السمك ذلك الكائن الوديع بلا ادعاء.. الماهر بلا جبروت.. حاولت أن أعرف أسراره وأهواءه وأمانيه.. سلمت له نفسي كي يهديني بصبره وتغاضيه عن أدران الوجود.. قررت أن أعوم كما يعوم السمك فى الحوض.. طلبت منها أن تعلمني.. علمتني وقضيت شهوراً معها أمام السمك، السمك الذى استحوذ على.. أبيعه لمن يريد وأدله على طرق خدمته ورعايته ليكون بهجة دائمة له.
أذهب إلى الجامعة يومي الثلاثاء والأربعاء والمركز الأمريكي للدراسات مع كيدمان يوم الخميس، أما ثمر الجنة فأنا معها يومي الجمعة والأحد أخدم السمك وأحبابه، إلى أن رضيت وقبلت العودة إلى البيت، والأيام موزعة كما هي.
وكما علمتني السمك.. علمتني الحياة.. وعلمتني احترامها.
لم أسأل عن الذهب، لكن أباها قال مرة:
ـ الذهب أخرج أخوها من السجن.
أصبحت أومن ـ على عكس ما كنت أومن من قبل.. بأن الحب أهم من الذهب.. وثمر الجنة أهم من الحياة.

الجمعة..
الأنثى ذات العيون المكحلة بالكبرياء
والمتعة الساهرة على الخلق ما بين الوسادة والصلاة..
تمسد شعرها الذى حنته بالطيب والحكمة.

يمامة خضراء بكعب محني
لست أدري على وجه الدقة السر فى أني أحببت اليمام أكثر من الحمام، ربما بسبب صوتها الرخيم، وربما بسبب ندرتها وربما بسبب شعوري إنها مسكينة وهيابة تتجنب الزحام والعنف والصخب.. وربما لأني فى الوقت ذاته أشعر بأنها تتمتع بدرجة كبيرة من الاعتزاز بالنفس كالهدهد.. لكن اليمامة تعتز بتواضع، وتسمو فى أدب وانزواء، أما الهدهد فلديه إحساس زائد بالأهمية، وانتباه حاد للفارق بينه وبين الكائنات الأخرى ويسمح لنفسه بالتعالي، وأحسب أنه محق.

اليمامة فى الأغلب ترفض النزول إلى الأرض والتسكع تحت أقدام المارة أو ركوب البهائم كما يفعل الحمام، وهى تحرص على تجنب عالم المدن المزعجة.. فمن اليسير أن يتعكر مزاجها، ولها نظرة خاصة فى الأماكن التى يمكن أن تعشش فيها والبيئات التى ترتادها.

تلقيت طعنة وأنا فى نحو الثامنة عندما رأيت بعيني شابا يسقط ببندقيته يمامة من فوق شجرة، وما كان هذا إحساسي عندما اصطاد هو أو غيره العصافير والحمام والبط.. تطور الأمر بشكل صارخ عندما أصر ثري من أثرياء وكالة البلح على دعوتنا بمناسبة خطبتي لابنته لتناول العشاء فى بيته.

أقام الرجل وليمة كبيرة فوجئت بحجمها فى شقة تحتل دورا كاملا من عمارته، تبلغ مساحتها نحو ثلاثمائة متر، كلها عبارة عن مساحة مفتوحة بلا حوائط، وشعرت كأني فى ملعب للكرة، يبدو أنه خصصها كمضيفة بخلاف سكنه فى شقة تعلوها بالمساحة ذاتها.

كنا نحو عشرين فردا من الأسرتين.. طعام وفير بشكل مبالغ فيه، مثل الذهب الذى يتدلي من رقاب زوجتيه وبناته السبع ويلتف أساور وثعابين على أذرعهن بما يصدم العيون وهو يومض متكورا ومتكتلا فى أصابع أبنائه الخمسة، وتصورت أن هناك أساور وثعابين وعقارب تلتف حول خصور الزوجات والبنات وأفخاذهن وسيقانهن.

كان فرحا بوجودنا، حاول أن يعبر عن ذلك بكل وسيلة، وعندما قال لوالدي:
ـ على شرفك يا حاج إبراهيم ذبحنا خمسين زوج يمام.
أسرعت أقول:
ـ تقصد "حمام"
فانبري فخورا:
ـ لا يا أستاذ.. الحمام شئ عادى، ويلزم أن نذبح لكم..

لم أنتظر لأسمع بقية كلامه اللزج.. اندفعت إلى الخارج تاركا كل شئ، وتسببت فى مشكلة، وحرج بالغ للجميع.. لا يهم.

غضب والدي وقاطعني أسبوعاً لأنه صاحب فكرة الزواج من ابنة هذا الأب القاتل، رغم أن ابنته جميلة وسمينة وطيبة وجاهلة..

ضبت الأسرة كلها بسبب التصرف الأرعن على حد قولهم حتى أخوتي الأصغر.. خامرني بعد أيام شعور عابر بأني بالغت وأعطيت التصرف العادي أكبر من حجمه.

منذ أيام حدثني صديق أنه رأي فى سوق الجمعة يماماً كثيراً وحماماً وعصافير. تحمست لفكرة زيارة السوق لرؤية اليمام والتخفيف عنه بعد مجزرة التاجر السفاح.

أزحت من أجندتي كل انشغالاتي ومضيت إلى هناك.. كان يوما غائماً وغامضاً.. لكني أكملت طريقي نحو اليمام الذى كنت أربط بينه وبين فاتن حمامة فى شبابها الوديع الذى تجلي فى "صراع فى الوادي" و"سيدة القصر" و"نهر الحب" و"أيامنا الحلوة" و"الباب المفتوح" و"الطريق المسدود" وغيرها كثير غمرتنا به تلك اليمامة.. وكان طبيعياً أن أتحدث عنها إذا لزم الأمر باسم فاتن يمامة.. عزمت أن أنتهز الفرصة وأكتب عن ذلك الكائن الرقيق موضوعا للجريدة.

اليوم ومنذ استيقظت فى الصباح أشعر باختناق لا أعرف سببه ناديت السيدة عائشة التى أسكن بجوارها، وأحس دائما عبير وجودها، وألمس بعض نفحات حضورها النبيل علينا وعلى سكان الحي. بركاتك يا ستنا.. تنهدت وغادرت الفراش.. درت فى الشقة فلم أجد أحداً من العائلة.

تذكرت أن أمي وأخوتي ذهبوا مبكرين لزيارة جدتي فى "تلا" وأعلنتهم فى المساء بعدم رغبتي فى الذهاب معهم.. اعترضت أمي، لكنها اقتنعت لما أنبأتها بقدوم الدورة الشهرية وغالبا ما تهزم جسمي.. البيت يبدو موحشا وسخيفا.. ربما كان هذا هو السبب فيما أحسه.

دخلت كل موضع علَّنى أجد ما يلهيني لأخرج من حالتي.. كان كل شئ بدون الأسرة باردا ومملا، مع أني تصورت قبل أن يغادروا أن الوحدة متعة.. العادة بقدر ما هى مريحة لأنها تنظم السلوك والحياة، إلا أنها فجأة تصبح عبئا ثقيلا إذا انكسرت لأي سبب.

فنجان القهوة لم يؤثر فى نفس ضجرة وعقل مشوش بالرغبات والحواجز والاختيارات المعوقة.. بركاتك يا ستنا.

رن التليفون.. عرفت صوت المتحدث الذى لا يتعب.. يلح من جديد كي أوافق عليه زوجا وقد بلغ الخمسين ومتزوج ولديه خمسة من الأولاد.. لمجرد أنه غني يتصور أن بإمكانه أن يشتريني وسوف يسيل لعابي، وهو مثل أبيه محمد جرجس بائع الروبابيكيا الذى ظل يطارد صاحب العمارة التى نقيم فيها حتى اشتراها منه بأكثر من ثمنها ليكون إلى جوار السيدة..

ها هو ابنه يمارس هوايته بلا يأس. لو كان أبي حيا لرده بكلمات لاذعة مع أول محاولة، ومع الثانية يهشم رأسه بعصاته الغليظة.. كان على أبي أن ينتظر قليلا حتى يخلصنا من أمثال هؤلاء الطامعين فى كل شئ.. يتصور ابن محمد جرجس إننا لقمة سهلة.. المال يعمي صاحبه.

وقفت طويلا أمام المرآة.. أخذت أتزين بدون مناسبة فوجئت أن شكلي يمضي فى عكس اتجاه حالتي النفسية.. داخلني رضا عن عيوني الواسعة ورموشي الطويلةوخدودي الوردية.. مشطت شعري.. كان سلسا على غير العادة.. لا يعارض المشط عندما يدفعه فى أي اتجاه.. بدا أطول من كل يوم مع أنه فى الأصل قصير.. قفزت فجأة فكرة الخروج.. وتاقت نفسي أن أرتدي التايير الأخضر الذى اشتريته خصيصا منذ شهر لحضور حفل خطوبة زميلتي، ولم ألبسه لأن العريس تراجع.. أنا واثقة أن أمه هى السبب.

لبست التايير ونزلت إلى الشارع.. تنفست الهواء الطازج بعمق.. بدأت نفحات الست تتخللني. أنا الآن أفضل قليلا.. سوف أتمشي إلى سوق الجمعة الذى لا يبعد غير محطتين أتوبيس.. أتسلي بالمعروضات والأسعار.

ما أن وصلت إلى سوق الجمعة، حتى وقعت عيناي على فتاة رائعة القوام فى اللبس "المحزق" كانت تسبقني بخطوات.. ساقاها بيضاوان بضتان.. تايير أخضر زرعي يلف الجسد الممشوق ويظهر مفاتنه. جاكت التايير نصف كم. الذراعان يتدليان ككوزين من عسل والشعر الكستنائي يلامس الكتفين، خصلات قليلة منه شقراء.. ردفاها ممتلئان قليلا.. تبدو طراوتهما فى هزات متوافقة.. تومض بغير بريق.. قدماها فى صندل مكون من شرائط جلدية صفراء وخضراء، يبدو من الخلف كعباها البرتقاليان بالحناء.. لوحة آسرة متحركة ربما تلهيني حتى أعثر على اليمام.. المشهد كله يتميز بالإيقاع الزماني والمكاني.. الجمالي والحسي.. التاريخ متواطئ مع الجغرافيا لسلب العالم راحته واستقراره.

هذه هى الصورة من الخلف، فماذا عن الصورة من الأمام؟

تجاربي السابقة تقفز إلى رأسي لتنبهني إلى تقبل الصدمة، فالوجه سيكون وجه عنزة أو خنزير بري، وفى أحسن الحالات مس بيجي سيدة عرائس والت ديزني. سبقتها بعشرين خطوة ثم عدت لأكون فى مواجهتها حسما للأمر، فلا أحتمل الجمال الخلفي بقبح أمامي.. العدالة والرحمة تقضيان ـ دون تدخل فى عمل الله ـ أن تتماثل الصفات.

الغريب أني وجدت فى المواجهة لوحة من الجمال والجاذبية رغم أن الفم واسع قليلا والأنف طويل قليلا والذقن مدببة، لكن الشفاه دسمة تحمل دعوة ملحة للقبل.. العينان نصف الوجه تؤطرهما رموش طويلة.. بدا تصميم التايير أقل من عادي والقماش رخيص.. لكن البنت فاتنة، والفتنة أشد من القتل.

أخذت موقعي فى الخلف مرغما، لأن المقدمة لا تسمح إلا بالعبور فقط قادما من الاتجاه المعاكس، وإذا رغبت فى استمرار مواجهتها فعلىَّ أن أسير بظهري فى يوم الحشر هذا، والمهمة مستحيلة، وعلى فرض حدوثها لعدة أمتار، فسوف أخرج من السوق إلى المستشفي بعد علقة تاريخية يشارك فيها الجميع وإذا تعرف علىَّ أحد من القراء أو الزملاء فسوف تنشرها الصحف.

لا تروقني حركات هذا الشاب. فهمته من اللحظة الأولي.. إن قل حياءه سيكون نهاره أسود من قرن الخروب.. أقنعت نفسي بعدم التعجل لكني أعرف أمثاله.. الصندل جاهز فى رجلي.

توقفت أمام بائع ملابس داخلية.. وقف.. يبدو أن اللحظة المناسبة قاربت لأجعله يفيق.. مددت يدي وأمسكت بكلوت بمبي، دائرة على حروفه كلفة حمراء.. فحصت قماشه بين السبابة والإبهام.. لاحظت أنه ابتعد.. لم تعجبني القماشة اللامعة. كله بوليستر. أمسكت "كلوت" أخر عبارة عن شبكة مع ثلاث وردات حمراء.. واحدة فى كل جانب وفى أسفله وردة كبيرة.. جديد ولكنه لم يعجبني. سألت البائع عن كلوتات قطن.. هز رأسه يمينا ويسارا وبدا كالمخدر.. لا يكاد يري من شقوق عينيه. تحركت فى اتجاه الأحزمة الرجالي والحريمي عند البائع التالي.. كان من يتبعني على بعد ثلاث عربات.. تجاهلته.

ابتعدت عن العربة التى كانت تبيع كلوتات النساء.. سبقتها، حياء من ناحية، ولكي أتمكن من مطالعة الوجه والبشرة الملساء.. الرميل الأخضر خفيف جدا فوق الرموش.. إذا رفعت ستائر رموشها بدت عيونها الجميلة، أهكذا تفعل العيون الجميلة لتحيل عادية الملامح إلى ساحرة.. إن العيون التى فى طرفها حور.. قتلننا ثم لم يحيين قتلانا.

أيها الشاعر مع احترامي لحضرتك أنت لم تر عيون يمامتي.. وقفت قليلا عند بائع الأحزمة.. حومت نظراتها على بضاعته فى لحظة وانتقلت إلى بائع جوارب النساء وملابسهن، وتحولت على عجل بعد لمحة عابرة إلى الملاءات ومفارش الأسرة.. كانت تحمل على ساعدها الأيسر حقيبة من الجلد البني المحروق، تلتف حولها شرائط صفراء. اجتذبني الطاووس الذى كان يستقر فوق فردة ثديها الأيسر.. لم يمنع المنديل الأصفر المعلق برقبتها والمتجمع فى فيونكا على جنب مع تمتع الصدر بحريته.. التايير مفتوح من أعلى قليلا بحيث يسمح للثديين أن يتنفسا ويسمح لنظرات العابرين أن تطل على الهضاب المرمرية ذات اللون الأبيض المحمر الذى يستطيع أن يكوي وأن يلدغ، وقد يحدث للبعض دواراً مؤقتا.. لمحتني فكشرت.

جذبتني أطقم الصيني للسفرة والشاي والكاكاو.. سألت عن الأسعار.. واضح الفارق بين أسعار السوق وأسعار وسط البلد، أرخص بكثير أسعار السوق حتى من العتبة وشارع عبد العزيز، وأذواق جميلة وخامات ممتازة يمكن مهربة حقيقي حسب أقوالهم.. تفحصت جيدا أطقم المعالق الصيني والفرنسي والبلجيكي.. سوف أدعو أمي لمشاهدة كل هذه المعروضات.. غريبة.. لقد كنت هنا منذ عدة أشهر ولم يكن السوق بمثل هذا الزحام.. المجنون لا يتركني لحظة.. لا داعي للشدة معه، لكن لابد من زجره بالنظرات لأن المسألة زادت عن حدها.

وقفت عند عربة التماثيل البرونز والسبح والعقود الكهرمان والمباخر والصواني النحاس. سألت عن الأسعار. فكرت أشتري هدية لرئيستي فى العمل. لعلها تزيد حوافزي. خمسون جنيها عمياء ماذا تفعل مع الغلاء؟.. اشتريت لها صينية نحاس منقوشة بالأرابيسك شغل خان الخليلي.. أين ذهب بائع لعب الأطفال.. ها هو اشتريت دبا.. الولد ما زال يحاصرني بعينيه.. المسألة باخت.

وقفت أمام بائع السكاكين.. كانت مرصوصة بشكل مرعب كل أحجام السكاكين على اختلاف أصنافها وخاماتها، فى المنتصف عدة سواطير.. لماذا تتأملها؟.. التفتت إلىَّ.. وصلتني الرسالة. لكنى ابتسمت.. هَّمت بالتحرك.. قلت أكبح متابعتها قليلاً حتى لا تتبرم وتسئ الظن.. ركزت فى السكاكين.. فى لحظة عابرة، لاحظت أن السواطير المسنونة تحلم ربما للمرة العاشرة برقبة بقرة سمينة، تتمشي على لحمها المكتنز وتغوص، وعندما ارتطمت بعظمة ارتفعت إلى أعلى وهبطت بعزم سلاحها ففصلت تماما وبلا رجعة الرأس عن البدن.

ارتعدت من حلم السواطير وتفكيري العبثي.. تحركت دون وعي وفوجئت بأني أوشك على الالتصاق بها.. هبت فىَّ بغضب مكتوم:

ـ وبعدها معك.. صبري نفد

كان فى صوتها بحة خشنة لكنها أسرتني وتمنيت أن أستمع إليها باستمرار.. لست أدري لماذا لم أنزعج من غضبتها؟.. أحسست أنها تحافظ على الشكل فقط، وأنها فى الحقيقة ليست غاضبة.

عند التماثيل حيث كانت نفرتيتي وحتشبسوت ورمسيس واخناتون وقفت تتأمل فينوس وتمثالها البرونزي.. ما زالت كما كانت منذ آلاف السنين تقف مقطوعة الذراعين. عباءتها توشك أن تنزلق عن الجسد المحموم بوهج الشهوة الصاهل بشوق الانتظار.. هل ثمة علاقة بين ذراعيها الغائبين وحلمها بدفء التحقق الإنساني.. أحسبها تجاوزت محنتها التى فقدت معها الذراعين، ومازالت تشعر وتثق أنها لم تفقد شيئا، وملكاتها ومواهبها لازالت متمتعة بالطاقة الساحرة.. عادت تصب علىَّ نظراتها الساخطة، وتقيسني من أعلى إلى أسفل فى احتقار مشكوك فى جديته.

اجتذبني المعروض من الملابس والأحذية.. سألت عن الأسعار. مفاجأة بدون شك.. اشتريت بلوزة بناتي لأختي جيهان وقميصا مشجرا لأخي الصغير أسامة وبوتا أسود.. الماكر أصبح فى مواجهتي تماما.. وقف يفحص بربع عين وقليل من الاهتمام ربطات العنق والجوارب والمناديل.. يحسب علىَّ كل نظرة. أشعرني بالارتباك.. الغريب إنه يبدو مهذباً ولا يرتكب ما لا يليق.. لا يلعب بحواجبه ولا يغمز بعينيه، لا يعطي مواعيد بيديه ولا يقترب أكثر من اللازم.. لا يحدق فى جسمي بشهوانية.. عندي إحساس إنه لا يتسلى. أعرف ذلك من عيون الشباب أكثر من أي مصدر آخر.. عيناه غير فاجرتين، والأغرب أنى لاحظت فيهما مع الحياء حنانا وطيبة، لكنه يربكني ويشتت فكري. انشغل لحظة بإشعال سيجارة.. قميصه البني جميل. وشعره الأسود الناعم يعجبني.. أسنانه بيضاء ناصعة ومرصوصة مثل حبات الذرة فى الكوز.. لا يزيد سنه عن ستة وعشرين سنة.. لم أعرف حكايته حتى الآن وماذا يريد منى؟.. هذه المطاردة ليست مجانية.. يكفي ما اشتريته، سأكمل حتى بائعي أسماك الزينة وأرتد عائدة، قد تحدث مشاكل لست مستعدة لها.

اشتريت ولاعة مطلية بالذهب وربطتي عنق وأربعة جوارب، أما هى فقد اشترت قصافة أظافر وبنس للشعر وتوك بلاستيك ملونة مرصوص عليها أرانب صغيرة وجراء وقلوب بيضاء مطعونة بسهام حمراء، واشترت "بوتا" أسود يغطى حتى ما تحت الركبة، واشترت كوفية "كاروهات" أخضر فى أصفر كي تتناسب مع فستانها.

لمحتني فابتسمت.. أخيرا ابتسمت وتخلصت من الاحتقار والنظرات الغاضبة والعبوس.

فجأة وبدون أي مقدمات، ورغم الشمس المشرقة التى تفرش الدفء على الجميع. توترت السماء وتقلبت أمعاؤها وارتجت ثم انهمر المطر.

ـ عيب عليكي يا مطرة والشمس طالعة.

هكذا كنا نقول ونحن أطفال عن مثل هذه الحالة الدرامية اللذيذة..

فى ثواني كان كل شئ فى السوق ما عدا البشر طبعا مغطي بمفارش عريضة من البلاستيك السميك الشفاف، وخرجت على عجل بعض الشماسي من أغمادها فى آلية لافتة. انطلق الزبائن يركضون فى كل اتجاه. ارتبكت الأقدام وارتطمت الأجساد وصرخت النساء صرخات صغيرة مفزعة ومصدومة، لكن الباعة سرعان ما ضحكوا وتبادلوا النكات والسجائر، وعلى وشيش بوابير الجاز وهمس النار الزرقاء للبوتاجازات الصغيرة التى يسمونها "بومبة" وضعت سخانات الشاي والينسون والقرفة.
فجأة أحسست بلسعة برد كأن الكهرباء انقطعت عن الدفاية، وتساقطت بعض قطرات المطر.. اضطربت.. هل ستمطر كثيرا؟.. مستحيل.. رفعت رأسي إلى السماء.. لاحظت أن السماء التى فوقنا فقط يغطيها سحاب أسود ثقيل.. وعن بعد تبدو السماء صافية، والشمس ساطعة ونور النهار يغمر الدنيا.. ستكون ورطة إذا أمطرت بكثافة.. ها هى بالفعل تمطر بشدة.. أصابتني حالة مفاجئة من الغضب بسبب جنون الطبيعة.. كيف أعود الآن بهذه الأحمال والسيارات بعيدة والأرض ستغرق وتمتلئ بالأوحال.. فوجئت بالشاب الهيمان يدنو منى ويقول فى لهفة:

ـ ممكن أشيل معاكي؟
أحتاج فعلا الآن من يحمل عنى هذه المشتريات وأركض سريعاً عائدة. الموقف سيسوء أكثر.. أود أن أسبه لتطاوله.. كشرت فقط فى وجهه.. كان جريئا ولكني كنت فى أمس الحاجة إلى العون.. قلت له فى برود:
ـ مفيش داعي.. ما أنت شايل.
قال برقة: ـ أرجوكِ
مددت يدي بكيسين كبيرين.. عندئذ قال:
ـ يالا نجري لغاية العربية.
تسمرت فى الأرض واضعة كيسا فوق رأسي.. قال:
ـ مفيش فرصة.. أرجوكِ

مددت يدي إليها وحملت عنها أكثر ما معها وهى مستسلمة رغم العناد والمكابرة.. عيناها فى عيني كأنها تختبر درجة صدقي ومدي إمكانية الوثوق بي.. قلبي يرقص بين ضلوعي فرحاً بالطبيعة التى تؤازرني.. لم يذهب هباء حبي للمطر منذ الطفولة.. الناس عنا مشغولة.. الدنيا حط عليها جمال غريب ونادر.. تقدمتها فتبعتني حتى أول السوق.. كانت سيارتي الصغيرة هناك مغسولة ومتأهبة لي وللضيفة الجميلة.

المطر الذى بدأ شرسا عازما على إغراق الأرض بدأ يخف ويصفي باقي الأوعية فى أناة.. وعندما دخلنا السيارة كان تقريبا قد توقف بعد أن قام بدوره فى مكافأتي على صبري وتمام رحلتي التى نفذتها بإخلاص فى مرافقة يمامتي الخضراء ذات الكعب المحني.. والتي تقبع فى وداعة رائعة فى سيارتي المتواضعة.

أنا أكثر منه جنوناً. بل أنا المجنونة التى استسلمت له وقد نزع بكل بساطة أسلحتي، وحمل عنى بعض ما أحمل وسبقني إلى سيارته. الأغرب أني أسرعت فى أعقابه كأنه أخي أو زوجي ونسيت أنه شخص غريب. لا. لم أكن أجري لأنه أخذ عني الهدايا، لكني كنت أهرب من المطر والورطة والحيرة. كنت مضطربة.. فماذا لو رآني أحد أقاربي وأنا مجرورة إلى هذا الشاب الغريب؟.. ماذا يمكن أن يقول؟.. عزمت ألا أدخل السيارة.. سأرفض بشدة. أي سيارة أجرة يمكن أن تقلني إلى البيت. نعم. فتح لي الباب وقال: تفضلي.. سيارة بيضاء. كانت تبتسم وتمد لي يديها، والباب إلى نهايته مفتوح وبدا الكرسي مريحاً ودافئاً.. طفلة صغيرة تتدلي من المرآة الأمامية.

بمنتهي الرقة قال: ـ أرجوكِ

فكك كل أعصابي وأسال إرادتي.. قضى تماماً على قراري بعدم الركوب معه.. يارب ما كل هذا السحر فى كلمة: أرجوكِ!! وما كل هذا الحنان فى الطريقة التى نطق بها الحروف.. هذه الدنيا التى لا تساوي عند الله جناح بعوضة، تساوي أغلي كنوز الأرض إذا كان رجالها بهذه الرقة.

كانت كلمة "أرجوكِ" وهى تتهادي وتنحني وتتلوي خارجة من فمه كأنها معطف من الفرو أرتديه فى عز الشتاء، وكانت سريرا من الحرير أتمرغ عليه فى عز الصيف.

أغمضت عيني لحظات حتى أختبئ من نفسي اللوامة.. قررت أن أصبر حتى ألملم شتاتي المبعثر فى كل اتجاه، ثم أذهب بمنتهي الحسم.

كنت قد عزمت أن أتحدث إليها قليلا ونحن جالسين فى سيارة متوقفة لكي أعرفها بنفسي وأسألها عن نفسها، لكني خشيت أن تكتشف انقشاع الغمام وتوقف المطر، فأدرت السيارة وانطلقت، ثم أخذت نفساً عميقاً لأفرغ روحي وأمهدها لمرحلة تالية.. أخذت تسوي شعرها وتنفض حبات المطر البللورية عن رأسها وصدرها.

ناولتها جاكتا صيفيا كان على الكنبه الخلفية، طلبت منها أن ترتديه.. رفضت.. قلت لها: أرجوكِ

نظرت إلىَّ بدهشة ورضا.. ثم مدت يدها فى تردد وأخذت الجاكت.. ساعدتها على ارتدائه.. سألتها بعد لحظات:

ـ إنت دفيانة؟.

هزت رأسها وتنهدت وهى لا تزال منكمشة.. مضينا نتبادل الحديث الذى يزرع حديقة كاملة بالسعادة، وسطحا عامرا باليمام.. ما أجمل تلك اليمامة التى أهدتها إلىَّ العناية الإلهية!.

عندما حط فوق كتفي جاكتا خفيفا ذا لون غريب نسبيا إذ صممه فنان مجنون ألقي بفرشاته لطشات صفراء بلا ملامح محددة على أرضية بنية، قال لي: إنت دفيانة.

لم أجد الكلمات.. فى الحقيقة وجدتها، لكنني لم أستطع النطق بها. اختفي صوتي وتعثرت حنجرتي وشعرت بالظمأ. هززت رأسي شاردة.. كان الماكر قد قضي علىَّ.. لكني تذكرت السيدة عائشة.. جارتي الملهمة.. قلت فى أعماقي وأنا أشعر بالنشوة: بركاتك يا ستنا.

انتظرناك بلهفة أيتها الأنثى الخارجة من الغابة فى ثوب سماوي أبيض
تتدلي منه عناقيد الفل ومواعيد النماء والجمال واليقين.
فى يديك البخور الذى يطرد اللعنات، وقد شكًّلْتهِ من شبق الجبال العذراء، وتمتمات الضمائر العاشقة لأقمار العفة.

زنجباري
لم تندمل جروحه، وكيف تندمل وهى عميقة ودماؤها لازالت ساخنة رغم مرور الشهور؟!.. هل تندمل بمجرد إلقاء القبض على مرتكبي الجريمة؟.

كانت لها صورة كبيرة معه وهما يقفان إلى جانب المسلة المصرية ووراءهما البيت الأبيض فى واشنطن، معلقة فى البهو الكبير فوق بايوه يعلوه شمعدانات نحاسيان وساعة.. هدية "سناء" إليه فى عيد ميلاده.

بعد الحادث المفجع أخرج صورا كثيرة لها وكبرها وغطي بها الجدران.. تملأ روحه وقلبه وعقله، ويجب أن تملأ الفضاء والهواء وتتجلي أمام عينيه فى كل مشهد، يجب أن تلون ببسمتها المشرقة كل الأركان وتشغل بحضورها النسيمي كل المسافات.يتساءل صباحا ومساء.. فى منزله وفى المكتب.. كيف يعوض غيابها؟.. كيف يستعيدها؟ بل كيف يحييها من جديد؟.. يقول: لست بحاجة إلى أن أتذكر بأن من ذهب لا يعود، لكنها يجب أن تعود وتبقي طوال حياتي على الأقل لتؤنسني بروحها الأثيرية وشعورها الملائكي.

كل أحاديثه يوجهها إلى نفسه وأحيانا إلى الله، وأكثرها إلى وداد.. سلحفاة اشتراها لها من الهند. عندما داعبتها ولمست درقتها بأناملها الرقيقة لم يفكر لحظة، اشتراها من الهندي الضئيل الذى كان يقعد أمام قفة بها عدد كبير من السلاحف وفوقها كلب صغير.. تهلل وجهها.. حملتها إلى فمها وقبلت خطمها الصغير.. توجست السلحفاة وتراجع الرأس إلى الكهف.. حاولت سحب يديها وقدميها، لكنها عادت فأخرجت رأسها وقبلت سناء..

سألته: لماذا يضع الرجل الكلب مع السلاحف هل ستهرب؟ وتضحك بصفاء غريب.. وقف يحدق فى صورتها وهى أمام جامع أيا صوفيا فى اسطنبول، ثم تحول إلى صورتها أمام كنيسة نوتردام بباريس قبل أن يذهبا إلى متحف اللوفر مشيا على الأقدام.. انتقل إلى صورتها وهى فى ميدان سان مارك بفينيسيا.. سالت دموعه، ويحدث هذا كثيرا.. كان الحمام كله تقريبا قد اتجه نحوها وإحدى السيدات فى الصورة تحدث جارتها عن الحمام الذى تجمع حول سناء دون الآخرين وطلع على كتفيها ورأسها، وتوزع على يديها وحاول تسلق فستانها الموف.

تذكر كيف رعت والدته إبان مرضها الأخير، وأصرت على أن تطعمها وتسقيها بنفسها وتسندها لتمشي بدلا عن الممرضة، مؤكدة أن المشي له فوائد لا تحصي حتى لمن لا يقدر عليه، واختارت لها عددا من اسطوانات الموسيقي العالمية والأغاني المصرية الشجية.. كانت تقول:

ـ الحياة تهاجم بضراوة وعلينا أن نقاومها بالموسيقي والفنون.

المرور على صورها، برنامجه اليومي الذى يشفيه بعذاب التذكر ولو مؤقتا.. يرفض أي محاولة لمقارنة سناء بإنسانة أخرى حتى أمه.. مقارنة بالقطع ظالمة للآخرين.. المقارنة لا تكون إلا بين أنداد أو نظائر.

لأن الله لم يمن عليهما بالإنجاب أسست جمعية لرعاية أطفال الشوارع والأيتام، واجتذبت إليها الفنانين ورجال الأعمال وصديقاتها زوجات السفراء المصريين والعرب والأجانب..مئات الصور تحتفظ بها فى دولابها مع هؤلاء الأطفال.

عاد فجأة من مدريد وعلم إنها بالجمعية فقرر أن يزورها.. طلب من سكرتيرتها ألا تخبرها بحضوره. مضي إليها حيث كانت تسرح شعر طفلة وتعمل لها الضفائر كما طلبت، ثم تحولت إلى طفل آخر لتساعده على إعادة ارتداء قميصه الذى تبادلت أزراره مواقعها.. اكتشفت وجوده فحيته وحياها.. ابتسمت وهى تقول:

ـ سأفرغ لك حالا بعد توزيع وجبة الإفطار.

متعجبا رآها وهى تعلمهم الطريقة الصحيحة لتناول الطعام وتشرح لبعضهم كيف يمسك الملعقة والشوكة، وأهمية مضغ الطعام، وأكدت على ضرورة البدء باسم الله والختام بحمد الله وشكره.

جلس على الكرسي الهزاز فى مكتبه.. تعود أن يقرأ عليه، ويفكر فيها وهو مستسلم لهزات الكرسي البسيطة التى تذكره بأول مرة تعلم فيها قراءة القرآن فى كتاب الشيخ قطب فى مدينة بسيون. كان الشيخ يهتز عند القراءة فقلده متصورا أن القراءة لا تصلح بدون الهز، ولما فهم بعد ذلك ألاّ رابط بينهما كانت قد أصبحت شبه عادة، ليس مع القراءة ولكن مع الكرسي، حيث تحقق له متعة الاهتزاز الذى تسترخي معه الأعصاب.

مضى يفكر فيها حتى تمتمت دموعه فشعر بالراحة عندما توازنت بأعماقه حالة الحزن مع حالة الرضا.. تهبط السماء إلى روحه وتربت عليها وتهمس لها بضرورة قبول مشيئة الرب التى نسجت خريطة الأعمار على نحو يتعذر على عقول البشر إدراكه، وقد خلق الله الإيمان لتجاوز المسافة بين البشري والإلهي.

فى أعمق أعماقه يردد دائما:

ـ اللهم لا اعتراض.. لكن ليس كل فرد يستحق أن يغادر أحبابه وأن يحرموا منه، وأنت من خلقت بشرا ملائكة، كانوا هم القادرين على أن يجعلوا الحياة جديرة بأن نحياها.

تكررت تلك المشاهد كما تتكرر الأيام أحيانا حتى أذعن للقضاء، وإن لم يستطع كبح نفسه عن صب فادح اللعنات على الذين اختطفوا السعادة من حياته، ولو اختطفوا حياته كان أفضل من تركه كخرقة ممزقة ومهانة بالت عليها كل الحيوانات وعاشت فى العراء أتعس الليالي.

بعد أن غابا عن القاهرة ستة أشهر كاملة فى كوالا لمبور عادا فى إحدى الليالي بشكل فجائي وبلا سابق إعداد. طلبته أخته فى أمر عاجل ولم تفلح التليفونات فى علاج الموقف المتصدع.. كان الخلاف شديدا بينها وبين زوجها ولم يبق إلا الاتفاق على شكل النهاية.. ترك سناء وأسرع إليهما يحاول إطفاء النيران المندلعة بضراوة بسبب اكتشافها زواجه من أخرى.

فى نحو الثانية عشرة اتصلت سناء بزوجها لتطمئن. تحدثت إلى وردة أخته وزوجها فى محاولة للتقريب واعتذرت لما تعانيه من إجهاد شديد وبوادر أنفلونزا اضطرت معها لابتلاع كم من المضادات الحيوية. أسرَّ إليها زوجها بأن المصيبة مضاعفة لأن "سمير" الذى سعي لتعيينه بوزارة الخارجية ضرب المحظورات وتجاوز الخطوط الحمراء فهو دائم السهر مع أصدقائه وسكير.
تناولت ملعقة عسل نحل وأطفأت الأنوار ودخلت الفراش وسرعان ما ابتلعها النوم الذى لبي دعوة الإجهاد والمرض والسفر الطويل والمضادات الحيوية.

فى الواحدة تقريبا دخل ثلاثة لصوص الفيلا مرتدين الأقنعة. مضوا ينقلون إلى سيارتهم نصف النقل مطفأة الأنوار كل ما غلا ثمنه وخف وزنه حتى امتلأت السيارة، وانتقلوا إلى حجرة النوم حيث توقعوا وجود المجوهرات وسرعان ما عثروا عليها، ولم يتمكنوا من فتح الخزانة أو حملها فاكتفوا بما جمعوه، لكنهم فوجئوا بمن يهتف بصوت متحشرج:

ـ سناء.. سناء.

فى ركن من البهو الصغير بين الحمام وحجرة النوم كان الببغاء ينادي صاحبته، وقد أدرك الخطر بعد أن داهمته غفوة. مضى يصرخ ويرتطم بشدة فى جدران قفصه حتى اندفع إليه أحد اللصوص فحمل القفص وأسرع إلى العربة عله يسكت، لكنه واصل صراخه إلى أن غادر الفيلا.

كان اللص الثالث بالحمام قد سمع حركة بغرفة النوم فأطل برأسه ورأي امرأة فى ثوب شفاف يخدرها النعاس، تسأل وهى لا تكاد تصلب طولها.

ـ هل عدت يا مراد؟

أسرع اللص بضربها بتمثال فينوس ضربة ثقيلة على رأسها واندفع خارجا ليلحق بالسيارة التى انطلقت على عجل تشق طريقها فى ظلام المنطقة الهادئة.

لم تمر دقائق حتى وصل مراد.. راعه ما وقعت عليه عيناه.. كل الغالي ذهب. اللوحات العالمية التى زينت الجدران.. التحف الثمينة.. الفيلا تبدو كالدجاجة المخلية.. جدران وأثاث بارد وعندما لمح جسد سناء على الأرض وهزها أدرك أن الخراب اكتمل.. جلس على الأرض من هول الذهول. كانت أمام عينيه جثة هامدة كقطة دهستها سيارة نقل. الجسم طري ودافئ.. ارتجف. فقد القدرة على التصرف. لم يعثر على أي أثر للحياة فى الجسد المسجى بإهمال. رأسه على وشك الانفجار. أحس بالتداعي. تماسك أخيرا واستدعى الخفير العجوز، واستسلم لسلسلة الاتصالات والدهشات وحمي الفجيعة.

قبل أن يمر شهر كانت الشرطة قد قبضت على اللصوص القتلة عن طريق باعة الذهب ببني سويف.

توقف تقريباً عن الكلام. انتهي الكلام لما غادرت الدنيا سناء.. توقف تقريبا عن الطعام.. ليس لأي طعام مذاق مهما كان شهيا.. المذاق الحلو اللذيذ مصدره سناء.. النزهات والتصوير لمن؟.. الهدايا الجميلة لمن؟.. الحب والفرح والحنان لمن؟.. بل لمن العمل والمناصب والسفر؟ وهذه الفيلا لمن؟.. وفيلا الإسكندرية وأرض البدرشين.. لمن إلا لها.. لابد أن يبقي كل شئ لها حتى بعد الغياب الأبدي.

جاءه الخفير يوما يقول:
ـ لقد رأيت كثيرا من تحف الفيلا المسروقة معروضة فى سوق الجمعة.. كنت وأخي بالأمس هناك ليشتري لابنته ما يلزم جهازها.. فرأيتها.
أصغي مراد وعلَّق بغير اكتراث:
ـ مثلها كثير فى كل مكان
كاد الخفير يقسم، لكنه بكل حماس قال:
ـ لا يا باشا.. الفيل الذى يركبه الطفل والقرد ليس فى كل مكان.. النافورة وسمكها المرمر.. سامحني يا باشا.. أنا لا أفهم فى هذه التحف، لكني متأكد.
ـ شكرا..

قام فتمشي فى الحديقة الفسيحة ليبعد عن ذهنه كلام الرجل الطيب. صحيح أنه يود لو عادت الفيلا كما كانت، لكنه يشك فى أن هذه التحف معروضة فى الأسواق، كما أنه لا يعرف ما هذا السوق الذى حدثه عنه.. ثم يعود ليتبع منطقاً آخر يقضي بأن تكون الفيلا مجرد جدران صماء.. مكان أجرد لا أثر فيه لأي جمال أو تسلية أو سلوان. يجب أن يكون الإهمال والخواء حالها بعد سناء.

فى ركن من الحديقة، كان الزير قائما فى موضعه يشكو الظمأ، وإلى جواره صينية القلل التى كانت تتأكد من امتلائها بالماء المكلل بالورد والمستكة أو يزينها غصن صغير من نعناع أو ريحان، خطاً بضع خطوات حتى الفرن البلدي الذى كانت زوجة الخفير تخبز فيه الفطائر والبتاو، وتسوى فيه أبرمة الأرز المعمر والبطاطس باللحم الضانى وتشوى البطاطا وأكواز الذرة.. لم تكن سناء تستغني عن الجو الريفي الحميم، وهى صاحبة فكرة إحضار نورج من البلد، وها هو يقبع فى الركن الغربي منعزلا تحت خميلة عنب ظليلة وحوله بضعة كراسي من خشب الشجر دون تهذيب. لمس مراد كل شئ وحدَّق فيه، وسأله عن سناء حتى انهمر وراء الأسئلة نهر الدموع..

قرر أن يقوم بالمغامرة.. لبس بدلة بسيطة دون رابطة عنق ونظارة شمسية سميكة، مضي مع السائق والخفير إلى السوق.. صدمه مشهد الساحات المفتوحة، لا توجد محلات أو مباني أو شوارع وأرصفة وعلامات إرشادية وجراج للسيارات.. كان كل شئ فوق كل شئ وعلى الأرض وتحت الأعين وفى متناول الأيدي. انزعج.. كاد يرجع من حيث جاء لكنه شعر بقوة تجذبه ليتأكد من أن هذا المكان العجيب يمكن أن يجد فيه تحفه التى يعتز بها ويفرح بها بيته، وقد جمعها من معظم دول العالم، ولم يبخل عليها مهما بلغ ثمنها.

فوجئ بالجماهير الغفيرة، ولم يتحمل فكرة المشي وسط العربات المتلاصقة والزحام الكثيف وكثير من البسطاء والفقراء وربما الجوعي واللصوص والدهماء.. الأبدان تحتك وتتخبط بقصد وبغير قصد.

كانت المفاجأة الأولى مزلزلة، فقد عثر عند بائع تماثيل فرعونية، حجر ورخام وعملات ورقية ومعدنية على بعض النياشين والأوسمة الخاصة به وقد نال أربعة منها فى مصر وثمانية فى الخارج، ووجد سيفاً أهداه إليه الملك فيصل لدى بائع السكاكين والمدى والخناجر، ووجد بروازا كبيرا بداخله آية قرآنية محفورة على الخشب ومطعمة بالصدف ورقائق الفضة، كان قد أهداها إليه فنان تركي فى أنقرة لا يمكن نسيانه بعد أن ساعده فى إعادة زوجته المصرية إليه.

عثر على علبة سجائره الفضية المنقوش عليها اسمه، وكانت هدية من السيدة مارجريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا ردا على هديته إليها.. أزعجته كثيرا النداءات العالية والصادمة من الباعة.

ـ الحقوا.. البضاعة دى مهربة ونبيعها بتراب الفلوس.
ـ الحقوا البضاعة المهربة.. الحقوا الغالي بتراب الفلوس.
ـ بسبعة ونص.. صاحب البضاعة اتجنن.. قالنا بيعوا بسبعة ونص.. الحق بسبعةونص.. اتجنن خلاص اتجنن.. سبعة ونص.

لم يتصور أن يكون هناك مطرب شعبي يحمل الدف وينقر عليه منشدا المواويل ومشيدا بالبضائع التى يبيعها صاحب الشادر.
حاول أن ينتزع من شخصيته تاريخه ومنصبه وعائلته ومركزه الاجتماعي وحساسيته تجاه كل ما هو شعبي.. عليه أن يمضي
بحثاً عن ثروته وأن ينهي المهمة بأقل خسائر ممكنة.. لم يستطع أن يمنع نفسه من تصور إمكانية تعلق بعض البراغيث والقمل فى ملابسه، ليس مستبعدا لأن هذه الحشرات لا تكف عن الطيران والقفز وهى بالتأكيد ذكية.. سوف تشم رائحة عطره الفرنسي، بل ستشم رائحة الصابون الأسباني الذى لا يستعمل غيره.. يجب أن يتكيف لمدة ساعة تظل ذكراها محفورة فى تاريخه حتى بعد أن يموت.. الخفير الذى كان يشتري ما يأمره به سعادة السفير ويحمله إلى السيارة ويعود مسرعا، أشار له على الفيل الذى يركبه الطفل والقرد وكذلك النافورة المرمرية.. دفع المطلوب وحملها إلى السيارة، وفى غيابه عثر مراد على علبة شيكولاته مطلية بماء الذهب أهدتها إليه بناظير بوتو عندما كان سفيرا فى باكستان وكان ضيفا عليها فى بيتها الذى أنشأته على جبل خارج إسلام أباد.

انتهت المفاجآت بعثوره على طقم الشمعدان الخاص به كاملا مع الساعة، وكان قد ألغي فكرة شرائه فهو مجرد شبيه مكرر، يوجد لدى كل الناس ولم تعد له مكانة مرموقة كما كان، لكنه ألقي نظرة عابرة عليه من الخلف إرضاء للفضول فعثر على حرفي s.m.. سناء ومراد فأشار إلى الخفير كي يشتريه، وسبقه محاولا الفرار من المكان الذى لا يذكر إنه رأى مثله، مع أنه كان وسناء يخوضان فى الكواليس والأحياء الشعبية فى البلاد التى عمل بها أو زارها معها سائحين.

تذكر أن سناء كانت تحب الببغاوات. سأل عن ركنها. قيل له إنها مع العصافير.. متثاقلا مضي إليها وهو يشعر أنه يسد خانة.. وجد أنواعا عديدة من العصافير.. الكوكتيل الأصفر بعرف للخلف، والكوكتيل الرمادي والفيشر والاسترالي وأنواعاً أخرى كثيرة ألقت فى روعه محبتها، منذ سنوات كانت سناء قد اقتنتها، لكنها صدمت بموت الكثير منها فتوقفت عن حبها وتدريجيا نسيتها.

حاول الباعة إغراءه بشرائها بسبب تأثيرها فى البيت والونس الذى تشيعه ولجمالها والتسلي بالنظر إليها.. ومنحهم جميعا أذنا غير واعية ولا مبالية، وسأل من جديد عن الببغاوات، قيل له من النادر بيعها فى السوق لأنها تحتاج إلى خبرة خاصة، وزبونها فى العادة لا يأتي إلى السوق وإنما يذهب مباشرة إلى محلات وسط البلد فى الشواربي وسليمان وقصر العيني.

دنا منه ولد صغير وقال:
ـ يا بيه.. يا بيه.. فيه بغبغان فى آخر الشارع ده بعد العصافير.. بس هات جنيه.
قال فى سره وهو يمنح الطفل ما طلب مع ابتسامة.
ـ لا بأس من نظرة.

وجده عجوزا ضامرا. رمادي ورأسه فضية. نحيل شعر الرقبة مغبر الملامح كأنه خارج لتوه من تحت الأنقاض. سأل البائع عن سنه.. قال:

ـ سنتين.
ـ أظنه أكبر.
ـ لا يا بيه.
ـ ثمنه؟
ـ ده زنجباري يا بيه.. أحسن نوع فى البغبغانات.
ـ ثمنه؟
ـ أنا اشتريته من سفير المغرب وكان شاريه من جنوب أفريقيا.. لكن هوه أصلا من زنجبار.
كاد يفر من البائع بسبب الثرثرة والكذب.. تذكر أن البائع السنغافوري ذي السَّنَّة الواحدة.. قال: إن أفضل البغبغانات من زنجبار لكنه لا يريد أن يشترى من هذا البائع المستفز.. سناء تدعوه للشراء.
قال بضيق شديد: ما ثمنه؟
ـ علشان خاطرك ميتين.
ـ اتفضل.
ـ إيه ده.. خمسين.. لا يمكن.
ـ بلاش
ـ خليهم سبعين.. إحنا لنا فى الزبون نظرة.
ـ امسك.. هات البغبغان.
ـ اتفضل يا بيه.

حمل مراد القفص نادما.. لماذا يشتريه؟ يحتاج إلى رعاية وأنا لن أنفعه، وهو عجوز أيضا وجربان ويبدو غبياً، ويمكن أن يفقد البصر قريباً.. شكله غير مشجع بالمرة.. ربما تحبه سناء.

استقل السيارة وهو يفكر فى هذا المكان الغريب وهذا التجمع الرهيب لكل ما سقط من القاهرة أو انتزع منها.. ومع ذلك فكل شئ فى السوق مناسب لبعضه.. البضاعة والناس.

دخل الفيلا تاركا السائق مع الخفير والخادم ينقلون ما تم شراؤه.. تنفس برضا وقد غلبه إحساس بأن سناء سوف ترتاح قليلا فى قبرها، صحيح أن اللوحات العالمية وأهم التحف لم يستردها، والشرطة وعدته لكن البعض وصل، ودون أن يعي وجد نفسه يقول بصوت مسموع:

ـ ها قد عاد جزء من ممتلكاتك يا..
قبل أن يكمل عبارته.. صرخ الببغاء
ـ سناء.. سناء
أفاق مراد وانهمرت دموعه فجأة.. ارتجف.. لم يجد الفرصة كي يدهش مما جري.. أخرج الببغاء وقبله.. طلب له طعاما عاجلا وعاد فقبله، ثم بكي من جديد وهو يقول:
ـ مِشْيت يا صاحبي.. مشيت الغالية..
حبس دموعه وقال:
ـ مبسوطة يا سناء.. مبسوطة يا حبيبة قلب مراد
عاد الببغاء يصرخ ويقفز:
ـ سناء.. سناء

حبيبتى
هل تعلمين لماذا أحببتك؟
لأنك مثل يوم الجمعة
ثديا حنان وسرير دافئ
وشرفة تفوح بعبير الحدائق
وحين يتمدد قلبك على صدري
انسي الشوارع الحافية والمدن المثقلة بالخوف
عندئذ أرمي الشمس وراء ظهرك
وأتخلص من الأفكار الخشبية
وأسحب وجهك نحوي
لأتامل عينيك وأصلي.. متجاهلا تأوهات الأواني الفارغة

محمد جرجس
من حسن حظ باعة السوق وزبائنه من أحباب الخواجة وزملائه وعارفي فضله، أن ملاك الموت اختار ليقبض روحه يوماً غير يومي الجمعة والأحد حتى تتاح الفرصة لتوديعه، فسار خلف جثمانه من البيت حتى المسجد لصلاة الظهر عليه عدة آلاف، يتقدمهم أبناؤه الثلاثة والعشرون وأحفاده الثلاثون غير واحد وثلاثين من البنات والحفيدات، كن بين النساء الحزانى الباكيات على رحيل عميد العائلة، وقد ارتدين بالكامل من قمة الرءوس حتى الكعوب كل ما هو أسود فاحم قادر على تفجير الحزن ودفق الدموع.

مضى الموكب المكتئب تشمل أغلب المشاركين فيه حالة من الذهول ليس بسبب صدمة رحيله فكل من عليها فان، ولكن بسبب صدمة بقائه حتى الثمانين مجهول الهوية.. الرءوس المنكسة والغارقة فى الصمت كانت تمور بالأسئلة، والمناسبة لا تعين على أي إجابة، ولا فتح أي موضوع، فالكل حاول قمع ما يدهشه، ولم ينشغل بالموت كما هو الهدف من السير خلف الجثمان.. لقد جاء الجميع لتوديع الخواجة زميلهم فى السوق، ولكنهم ـ من كثرة الأسماء المتضاربة والمتعددة ـ لا يدركون على وجه اليقين من هو الراحل الذى يتمدد فى التابوت، وبعضهم سلَّم أمره إلى الله آملا أن يحتسب حضوره خيراً ربما يثاب عليه، أيا كان الذى ودع الحياة أو ودعته.

عن هذا الموكب غابت أهم شخصية عرفها كل من شارك فى الجنازة ومن لم يشارك.. تطايرت أسئلة وارتطمت بأسئلة أخرى، وصادفت الأسئلة تكهنات لإجابات عشوائية مجهولة، وانطلقت الظنون والأوهام تبحث وتفتش عن الحقائق التى كثيراً ما اجتذبتها وبددتها غابة هائلة من الشائعات والمبالغات، والهدف الأساسي منها التسلي بالحكايات والسَّيَر (بالمفهوم الشعبي.. أي أخبار الناس) لمحاولة خلق عالم وهمي كبير مواز للعالم الذى خلقه الله.. عالم ربما كان قطنياً هائشاً أو غزل بناتياً منفوشاً.. عالماً إسفنجياً يقبل أن يستوعب الجديد وأن يمتص ويكبر.. يمتص ويكبر، عالم يتمدد ويشمل الفراغ والليالي الباردة والفقر الشامل.

غابت عن هذا الموكب أهم شخصية هى الأحق بكل كلمة، يمكن أن تتضمنها السطور التالية.. إنه محمد جرجس الذى مر اسمه بالعديد من المراحل.. تغير معها حسب الظروف والملابسات.

فقد كان محمد موسي لعدة سنوات ثم محمد جرجس لعدد آخر من السنين، ثم محمود راضي لسنوات كثيرة، ثم الخواجة، والحكاية بأكملها بناها القدر والإرادة البشرية ـ التى يمكن أن تلعب دورا مهما أحياناً ـ على حادثة جرت فى إحدى قرى سوهاج قبل ستين عاماً (تزيد هذه المدة حسب موعد النشر) وكانت تقريبا بعد ذيوع خبر انكسار هتلر.

قتل واحد من عائلة الشهايبة خصمه من عائلة الجهاينة، وعلى الفور أسرع الجهاينة بكافة رجالها ودون دعوة يجتمعون لبحث الأمر الصادمدون حزن أو بكاء، ولكن بحسم لتحديد المطلوب قتله من الشهايبة، وتقرر أن يكون عبد الإلاه جرجس الشهايبي، شقيق محمد الذى تحمله الأعناق والرءوس المتسائلة الآن، لتضع نهاية لقصة طويلة، وربما لا تضع هذه النهاية، لأن الموت كما هو معروف نهاية الجسد وليس نهاية الكلام والحكايات المتجددة النابعة من الشخص ذاته.

وفى يوم العيد استعد رجل الجهاينة بسلاحه مدعوماً بدعوات أهله رجالاً ونساء أن يوفقه الله لاختطاف روح عبد الإلاه لبدء فيضان الحزن الذى يليق بمن رحل، فالأسرة يجب أن تحزن عليه، لكن الوقت الآن وقت عمل وتتمني ألا تتعطل كثيراً إجابة السؤال المعلق بالروح والعمر والكرامة.. الحياة ذاتها تبقي معلقة بلا أي طعم ولا لذة إلا إذا هدأ القلب بالثأر، وبدأ الحزن الذى هو فرح، حيث تختلط الدموع بالطبول وتعرف العيون مكاحل النوم، وبالحزن يرقص القلب، وتستحق الرءوس أن ترتفع نحو الشمس.

وصلت إخبارية من فرق الاستطلاع أن عبد الإلاه سيركب المعدية بعد العصر ويعبر النيل إلى الضفة الأخرى لزيارة أهل خطيبته، وسوف يحرص على التخفي والصمت وتبديل الجلباب والطاقية والكوفية التى اعتاد أن يرتديها أغلب السنة الأخيرة.
قبل أن تغادر المعدية الضفة الشرقية للنيل بزمان، كان خصمه قد اعتلى شجرة تركب الضفة الأخرى.. كمن بين دغل من الأغصان وبعيني صقر مسح أرض الضفة الشرقية وأوشك أن يحصي نملها.

تحركت المعدية محملة بعدد كبير من الركاب وتمكن منذ اللحظة الأولى من التقاط هدفه والتركيز عليه، لكنه كان مستثارا جداً بسبب الزحام والاختلاط والتكدس الذى قد يعوق المهمة، ومع ذلك أدرك أن الظروف لن تكون مهيأة بهذه الصورة المثالية مرة أخرى، وعليه أن ينجز مهمته المصيرية اليوم.. بل الساعة..

تاريخ عائلته كله يتحدد اليوم.. بل الساعة.

خاضت المعدية فى الماء ومعها قلبه وعيونه.. يمسح كفه فى ملابسه كل دقيقة من العرق السيال ويرطب حلقه الجاف، وفى منتصف النهر تقريباً لاحظ اهتزاز المعدية وميلها المتصل على كل جانب بالتبادل، ثم شرعت تهبط فى هدوء وسلاسة إلى أعماق النهر العجوز، والبندقية ترتعش وعيون صاحبها تكاد تخرج من محاجرها دهشة وغيظا، حتى لقد أخذ يضرب الأغصان ويمزق الأوراق ويخبط رأسه فى البندقية كأن عائلته قد غرقت مع المعدية المجنونة.

اشتعل الصراخ فى البرين وتحول العيد الكبير إلى مأتم كبير، ولم تحزن الشهايبة فقط، ولكن الجهاينة أصحاب الثأر حزنوا أيضا.. أهل عبد الإلاه أحزنهم رحيل ولدهم الغالي، والجهاينة أتعسهم إفلاته من الموت الذى كانوا يعدونه.. ساءهم جدا أن القدر يلعب ضدهم وقد تسبب فى إرجاء فرحة الحزن.

فى الليلة ذاتها اجتمع الجهاينة واختاروا بدل الفاقد الذى يليق أن يكون هدف ثأرهم.. محمد جرجس.. علم الشهايبة عن طريق فرق الاستطلاع أن الخصوم استقروا على محمد فأمره كبار العائلة بالهرب.. واستقبلته القاهرة بوصفها الملاذ والمهرب حتى أصبحت مثل المعدية.

جد جده أيضاً كان اسمه محمد، ولما كان فى سن الطفولة أحب جاره جرجس، وتصادقاً وتلازما فى كل شئ، ولم يفترقا يوما، حتى أن والد جرجس عندما أصر على أن يصطحب ابنه ليعمل فى معصرة الزيت، طلب من أبيه أن يعمل معه محمد. وافق الأب متري، ومضت الشهور فى صالح محمد الذى أخلص للعمل وأحبه.. يبذل الجهد والوقت ويحرص على مال المقدس متري بعينيه، وعندما كانت الشهايبة يطلبون من محمد التوقف عن العمل عندى متري ومشاركتهم فى زراعة الأرض يرفض متري ويزور العائلة راجيا السماح لمحمد بالبقاء فى المعصرة، فلم يعد يأتمن أحداً غيره ولا حتى ولده جرجس، كما أن "محمد" يفيد فى بقاء جرجس والتزامه، إلى أن فوجئ الأب بالتيفود يفترس ولده ويتمكن منه إلى أن اختطفه الموت بصورة فاجعة.. زاد تمسك متري بمحمد بوصفه بديلا عن الراحل، وكلما سأله صديق عن ولده جرجس، أشار على محمد.

ـ هذا هو ولدي

وإذا تشكك البعض، فإنه يقول إن محمد بالنسبة له هو جرجس وأعز منه، وهكذا اشتهر الجد بأن اسمه محمد جرجس حتى غدا اسمه الرسمي ولم تكن أيامها أوراق أو سجلات.وزاد متري بأن كتب فى وصيته قبل موته لمحمد جزءا من التركة.

نزل محمد الجيزة وهو عازم على مخالفة توصيات أهله الذين نصحوه بالذهاب إلى أحد أقاربه لأنه فى ظنهم سبيل النجاة.. قرر أن يواجه الحياة وحده.. فالله وكيله.. تصور أن الحياة بدونهم لن تكون صعبة مادام يعتمد على نفسه بعد الله، وتداول فى رأسه أيسر المهن التى تليق به كشخص بلا خبرة وانتهي إلى أنه مرغماً سيسير على درب الصعايدة الذين حطوا الرحال فى مجال المعمار.. سار على قدميه يجوس خلال الأحياء حتى عثر بعمارة تحت التأسيس.. طلب العمل ووافق ريس العمال.. سأله عن اسمه، قال: محمود راضي.. كان قد جهز نفسه للسؤال من بدري.. حط كيسه فى ركن وظل يعمل معهم إلى أن طلب منه صاحب العمارة أن يبقي لها حارساً، وهكذا أغلق صفحة الارتحال من عمل إلى عمل، واستقر به الحال فى عمل ثابت ومأوي.

كلما سار محمد أو جلس فى مكان عثر على شئ مهمل.. قلم. زرار. شبشب. خبز. زمارة. ملعقة أو سكينة. مسمار. حلق فالصو أو ترباس. شنكل شباك. مسطرة..شاله وحطه فى شوال.. كان قد شغله كلام الناس فى طريق السفر إلى الجيزة، وإبان عمله فى المعمار.. حفر فى رأسه الكلام وقضي الليالي يجتره ويعيد مضغه ويفرزه.. سمع من يتحدث عن الأيام الرديئة وفهم من الكبار إن الرديئة هى الناس وليست الأيام، والناس هى التى تصنع الأيام وتلونها حسب مزاجها ومصالحها. وقال الناصحون:

ـ خد من الفجل الورق ومن اللحم المرق ومن الحَّمام العرق.. يعنى لا تبدد وقتك فيما لا جدوى منه واستفد من كل شئ.. ولما قالوا.. الدنيا إن جت باض الحمام على الوتد وإن ولَّت قطعت السلاسل.. وقالوا.. قيراط حظ ولا فدان شطارة.. لم يعجبه الكلام، ليس لأنه خطأ، لكنه قال كما قال أيضاً من فهموا الحياة: إن هذا خارج عمل الإنسان، حتى الحظ ذاته لا يزور غافل ولا يتعامل مع كسلان، لكنه استراح لكلام واحد واعر قال: الأمانة لما اتجوزت العرق خلفت البركة، وقال الرجل ذات نفسه: الِعري يعلَّم الغزْل وقال أيضاً: شعرة من هنا وشعرة من هناك يعملوا دقن، والقرش الأبيض ينفع فى اليوم الأسود.

لفتت نظره فكرة الكراكيب. ينحني ويلتقط كل شئ متروك فى العمارة أو فى الشارع... اضطر للسير شبه محني عيناه تحدق فى الأرض التى تحتضن كل شئ ساقط أو منسي. وتدربت كل حواسه على الجمع والالتقاط حتى سمع بأذنه من يهمس لجاره وجاره يهمس له:

ـ واضح إنه هربان من سجن أو فضيحة.
ـ شكله سُهُن ومش سهل.
ـ كل راس مطاطية تحتها ألف بلية.
ـ ازاي نعرف سره؟
ـ ده بير.. كل كلامه.. ربنا يهدي الحال.. الحمد لله.. نعمة.
ـ سيبه.. ح يقع لوحده.

جمع المسامير والأكواب. الشباشب والكراسي المحطمة. الأكر والخرق. الأساور الألمونيوم والملابس الممزقة. زجاجات الخمر والخرز. الكراريس والكتب.. نساير الخشب والأسلاك. الإبر والبكر والأحبال والمراكيب.. لما انسدت عليه غرفته الضيقة أجر لها دكان، وصاحب كل من يفهم فى إصلاحها حتى ترجع سليمة وتشتغل ويعرضها للبيع ولو بنصف الثمن.. راجت المهنة وصبت فى حجره فلوس ياما.

اشتري عربة بيد وشغَّل عليها فتى فى الثامنة عشرة، يطوف الأحياء ينادي على الروبابكيا، ونصحه ألاَّ يدفع غير صنف القرش والمليم.

قصقص الخرق إلى شرائط وغسلها جيداً ثم مضي يربطها فى بعضها البعض وسلمها لصاحب النول عمل منها سجادة، ومن فروة الخرفان غزل صوف وسلمه لصاحب النول عمله ثلاثة أكلمة، وأصبح مع الوقت كل شغل النول لمحمود.

آمن بأن كل شئ فى الدنيا صالح يتمد فى عمره وتتجدد عافيته.

ـ المطلوب منك يا شاطر كما قال من سبقونا.. لبسَّ الأسمر أحمر واضحك عليه.

جرب هذا مع كراريس التلامذة، فنصفها لم يمس.. جمعه ووضعه بين أغلفة ولصق الورق بالصمغ والدبوس، سرعان ما ظهرت له زباين.. وكل شئ لازم يكون له زبون.

آن الأوان يترك البوابة ويستأجر مخزناً كبيراً يستأهل ويلم.. عثر على بغيته فى بدروم عمارة. أقام فيه غرفة له بالخشب وباقي المساحة للكراكيب. دعا من لهم خبرة فى الإصلاح.. يمرون عليها فى وقت الفراغ ويصلحون حالها.. العطلان فى أيديهم أصبح يشتغل ويدور، والممزق خيطوه ولمعوه وصار يبرق.

فى البداية كان مجيء الصنايعية للمشاهدة والفرز وعمل لبعض الوقت، ومع كثرة المعروض احتاجهم ليعملوا لديه اليوم بطوله، وبعضهم استعصي عليه التفرغ.

اشتري عربات جديدة وشغَّل عليها الشباب. يلفوا فى الأحياء ويجمعوا الروبابكيا بتراب الفلوس حتى بلغوا من العدد خمسين، بعضهم تجر عرباتهم الكبيرة حمير.. أصل كل السنين ما تمر تزيد الفلوس فى أيادي الناس ويهون عليهم أن يتخلصوا مما يملكون، بعد أن كان رميها يتم بخلع الضرس.

أيام بعد أيام بانت النعمة عليه. لاحظ احترام الناس له وسعيهم للاقتراب منه.. يوسعون له الطريق إذا مر وناقص ينحنوا.. تذكر فى ألم من قال:

ـ الفقير لا يتهادي ولا يتنادي ولا يتسمع له فى الجمع شهادة.

حمد الله وقال: كله بأمره.. نصيبك المكتوب لك قبل الحظ والشطارة.. وفى السماء رزقكم وما توعدون.

طلب من خمسين آخرين أن يحملوا الجاهز الذى تم إصلاحه أن يتبعوه لبيعه فى سوق الجمعة.. أعلن اسمه الجديد.. الخواجة، بائع الأجهزة الكهربائية.. بعد سنتين أصبح الخمسون مائة، وبعد سنوات أصبح المائة ألف.

تزوج وأنجب من البنين تسعة وتزوج بثانية وثالثة ورابعة وانتشرت الأولاد فى الأرض..

مبكرا كان قد قرر ألا يراه أحد إلا سبعة هم من يتميزون بالخبرة والإخلاص، اختارهم من بين مائة تعرف عليهم ثم قطع علاقته بهم، لكنهم جميعاً فى المؤسسة الكبيرة التى تطعم على الأقل ألفي أسرة لا يسمعون عن محمد جرجس ولا يعرفونه، ويسمعون عن الخواجة ويعرفه البعض بوصفه كبيرهم وزميلهم فى السوق.

فرشته مخصصة للمكاوي والشفاطات. المناشير الكهربائية. والخلاطات. المسجلات والراديوهات. وماكينات الحلاقة ومواتير مياه الري ومياه الشرب والميكروويف والدفايات.. الغسالات والثلاجات والكتشن ماشين.. السخانات والأباجورات والسيشوار وكل ما تحركه الكهرباء.. وركن كبير لتجارة الأدوات الصحية الخارجة من العمارات المهدمة ترجعها المهارة جديدة وتلفت الأنظار.

قبله يقف صديق عزيز يبيع الساعات القديمة والحديثة من كل الماركات.. وبعده يقف صديق آخر يبيع أدوات الطلاء من الصنفرة وسكاكين المعجون والفرش من كل شكل ولون.

مائتا عربة تجمع الروبابيكا من القاهرة والجيزة غير ما يجمع من المدن الكبيرة والصغير ويلقي فى المخازن حيث يعمل عليها بدأب، ربما بالليل والنهار خبراء فى كل مجال يصلحون المكسور والعطلان.. يشرف عليهم جميعاً أبناؤه وأحفاده الذين آمنوا بفلسفته التى تقوم على وضع المليم على المليم يصبح بنكاً.. وسلم الخواجة السلطة لأولاده تدريجياً وأصبح فقط شيخ الباعة فى سوق الجمعة.

الخواجة لا يكف عن تأمل السوق
ذلك الجسد الجغرافي الضخم الذى يجمع ـ ولا يدرى أحد كيف ـ بين العشوائية والنظام.. يشبه كثيراً أمعاء البشر والحيوانات.. ستة أو سبعة شوارع عريضة يمتد كل منها نحو كيلو متر توازي الشارع الرئيسي الذى يتوسط كوبري السيدة عائشة الواصل بين الفسطاط والمقطم، تقطعها عشرات الشوارع مختلفة الطول والعرض والاستقامة، تتفرع منها أزقة وعطوف.. تدور حول بعض المباني وتلتف حول المقابر وتنحني تحت الكباري والجسور.. البضائع منتشرة فى كل مكان.. مفروشة على الأرض وعلى الترابيزات وعلى الحوامل، ومعلقة على الأسوار هناك مساحات تكفي حتى لو فى اتساع خرم الإبرة للبيع والشراء، والوقوف والمساومة وقياس الملابس والأحذية والمعاينة وشرب الشاي والحشيش والعناق والتحرش، والسرقة والحب والخطف والتعارف ولقاء الأحباب الذين فرقت بينهم السنين، وهناك فرصة كاملة أو ناقصة لكنها مرضية للمطاعم الصغيرة والمشروبات والخياطة وسن السكاكين والإصلاح بكل أنواعه، ومع البضائع يمكن أن تعرض الخراف والماعز والديوك والنعام والبط والإوز والدجاج والأعلاف، وأماكن فسيحة للحمام وسمك الزينة والعصافير والسلاحف والقطط ذات الحيثية والثعابين، ويسمح كذلك للخيول والبغال والحمير أن ترتاح وتأكل وتشرب وتسقط فضلاتها وأن تضاجع بعضها بعضاً، وقد يفعل البشر مثل ذلك أحياناً وبحسب الظروف والجسارة أو التربية والتعليم.

الشوارع تشبه مواسير هائلة مكونة من ثلاثة أضلاع.. جدارين وأرضية، أما الحائط الرابع فمفتوح لرقابة السماء أو عنايتها.. وجبل المقطم من الشرق راكب وحاضن وميَّال وكله حنية، رغم الجهامة.

الحركة فى السوق تتدفق بسخاء وحميمية. بعنف ولهفة.. فى عجلة أحياناً أو فى حذر.. البعض يرصد فى ترقب صابر والبعض ينقض. المساومات سيدة الحوار فى البدء والختام.. هى الحبل المشدود بين المشتري والبائع.. صراع وتأهب. الكل يتحرك فى دائرة أمل مرنة وتقدر الظروف ولا تسمح بالقفلة.

الخواجة لا يكف عن تأمل السوق وأحوال أهله
البائع يبالغ فى رفع السعر استعدادا لمرحلة التنازلات التى لابد قادمة.. المشترى يبالغ فى خفض السعر تحسباً لبعض الزيادة التى لن يقبل البائع إلا بالكثير منها.. الخبرات تتناطح والألفاظ الخشنة قد تساعد فى عقد الصفقات وربما تنجز المهمة كلمات رقيقة ومداعبات، وقد يمتد الخط على استقامته فيتم التعارف، وتتسرب بعض المعلومات، فيكتشف طرفا المقص ـ البائع والمشترى ـ إنهما من حي واحد، أو كانا كذلك يوماً، أو يعرفان معاً شخصاً شهيراً فى الحتة. بلطجي أو قهوجي أو خريج سجون، وربما كان الثلاثة فى عنبر واحد بالسجن فى عام بعينه، ولعلهما كانا ذات سنة أو سنتين معاً بالعراق وسكناً معا حى الأعظمية أو الناصرية أو كانا معا فى الرياض أو فى بنغازي.. وربما كانا بالجيش، وها هما يتذكران معا الصول مغاوري الذى نكَّل بهما وأذاقهما المر كاسات حتى يصبحا من حماة الوطن.. ورغم كل الحكايات أو المنازعات فالكل خارج رابح ومبتسم حاسس كأنه فى نزهة.

الخواجة لا يكف عن تأمل السوق وأحوال أهله
كيانات متداخلة وعصية على التوصيف، تتحرك وتتصادم فى السوق العجيبة التى يلتقي فيها كل ما خلقه الله، من بشر وحيوانات وكائنات برية وبحرية وجوية مع كل ما خلقه الإنسان من بضائع، يستحيل حصرها.. قال له البعض:

ـ لقد سافرنا إلى بلاد كثيرة فى العالم وزورنا أسواقاً هائلة، لكنها لم تكن بهذا التنوع ولم تجتمع كل هذه السلع والمخلوقات معاً. فإما السوق للسيارات القديمة أو للعدد أو للملابس، و هذا جميعه معاً، لكن ليس معها العصافير والسمك والحمام وغيرها، أما الأهم فهو السماحة والتقدير.

الكل يتدفق عبر الشوارع والأزقة المكدسة بأغلى المعروضات وأحقرها.. وليس كل من يجوس خلال السوق الشعبي الغول من الفقراء والبسطاء.. إنهم من طبقات وشرائح مختلفة، تتنوع بينهم الاهتمامات والهوايات والمصالح والحاجات.. قد يكون بينهم من جاء بحثاً عن مسمار صغير لطلمبة مياه يتوقف عليه ـ بسلامته ـ عملها فى ري مئات الأفدنة، وقد يأتي إليه من يطلب جهازاً كاملاً لابنته المخطوبة التى آن أن تدخل بيتها الجديد كعروسة، وفى السوق كل ما تحتاجه حتى ما يلزم لزوجها ليتمكن من تحقيق فخر رجولته، وقد تأتي سيدة لتبحث عن مكحلة من مكاحل المماليك أو هون نحاس، وقد يأتي الغاوي علَّه يجد ذكر حمام نمساوي مزين بتاج من الريش، أو يزور هاو السوق بحثاً عن سمكة زينة دبل آيز وعندئذ يشعر إنه امتلك الدنيا، والرغبات بالملايين وهى أكثر بكثير من أصحابها.

كل السوق أحب الخواجة لأنه رجل طيب ومستعد دائما لمساعدة من يحتاج، وفى الوقت ذاته قليل الكلام. كثير الفعل.. لا يؤذى أحدا ودائم الابتسام.. يلجأ إليه أهل السوق كثيراً للتوفيق بين المتنازعين، وكم أرسل المعونات فى السر لبيوت الباعة الذين قد يمرضون أو تقبض عليهم الشرطة لأي سبب وكم من الأسباب تصلح لذلك، وللأسر التى يموت أحد من ذويها أو من يسرق ماله أو من تفسد بضاعته.

ذهب الجميع إلى العنوان الذى يسمعون عنه لأول مرة. كان الكل يحسب أنه يقيم فى بيت كبيوتهم، ففوجئوا بأن جثمانه يخرج من فيلا فخمة أمامها عشرات السيارات الفارهة، وقد سد الشارع العريض عدد كبير من الرجال الذين يرتدون الأسود الفاخر والنظارات السوداء الثمينة.

عندما علم المعزون من رجال السوق أن العمارات الأربعة العالية كناطحات السحاب ملكه وأولاده.. أيقنوا أنهم جاءوا إلى ميت غير ميتهم، رجلهم كان مثلهم على فيض الكريم.. سألوا على استحياء من لا يعرفونهم فتأكد إنه الخواجة.. ميتهم، والتفوا بمن كانوا يكلفونهم بالأعمال ويحاسبونهم حساب الملكين، وعلموا إنهم مستخدمون لديه وقد كانوا يظنون أن رجال السوق بمن فيهم الخواجة تابعون لبعض هؤلاء السادة.. تبين لهم أن الخواجة اسمه الأصلي محمد جرجس القادم من سوهاج وهو المسجي الآن فى الخشبة المحمول على الأعناق إلى القبر حيث الاستراحة المؤقتة تمهيدا للسكني فى دار الحق الأبدية، أيا كان نوعها حيث يتم التوزيع طبقاً لحسابات البصير العليم والغفور الرحيم.

ها هم يحملون جثمان الرجل الذى يفتح نصف بيوت رجال السوق ونسائه ويطعم ما لا يقل عن عشرة آلاف فرد وسيظل يطعمهم حتى بعد رحيله.. لم يكونوا يعلمون، وكيف لهم أن يعلموا وقد تم بناء هذه المؤسسة بشكل محكم وعمل متواصل، وكل من أدارها كان مثله قليل الكلام.. آن أن يرحل فهذا حال الدنيا ولكل أجل كتاب.. يرحل دون أن يعلم أن من بين من يعملون لديه رجال من بلدته وبعضهم من أقربائه، بل لم يعلم وهم لم يعلموا أن بعض من عملوا فى السوق وتحت مظلته من طالبي دمه، وعذَّبهم طويلاً السؤال عنه، وظل السؤال يعلو كل يوم حتى فاق برج القاهرة، وغاص فى الأرض والقلوب النازفة حتى من أهله إلى أعمق الأعماق، لكنه الوحيد فى العالم ـ طبعاً بعد الله ـ الذى يعرف أن حماية حياته وسره واستمراره لا يكفلها إلا هذا البناء المحكم.. البناء المسميَّ.. محمد موسي جرجس الشهايبي الشهير بالخواجة والذى كان مؤقتاً يحمل اسم محمود راضي، ونقل ميراثه الفكري والمادي والعملي والإنساني إلى أولاده.. فهل مازالت هناك أي كلمة من سطور الثأر يمكن أن يقرأها أحد فى كتاب العائلة، ويتسلل نهر الدم إلى الأبناء و الأحفاد، وهل يطول أحفاد الأحفاد.. أم تراه جف مثل كثير من الأنهار؟!!

أيتها الولاَّدة الحنون.. الخصيبة الحاضنة الراضية الملهمة.
أيتها الحكَّاءة بالأوجاع والأحلام والغوايات الموءودة.. البواحة بما فى النفس من أشجان وما فى الروح من توق إلى المجهول.
أيتها الشابة لن يبلغ الشيب مفرقك أبدا.

شطة
إذا وصل بك الميكروباس الذى سيحملك محطتين فقط من السيدة عائشة إلى التونسي حيث نهاية الخط وأول سوق الجمعة، لابد تنزل يا بن عمي لأن الزحام الذى هو بروفة ليوم القيامة لن يسمح لك بأن تمر راكبا سيارة ولا حتى بسكاليتة بعجلة واحدة.. الكل لازم ينزل ويأخذها على القدمين. وشاطر من يتمكن من شق طريقه بأمان وسط خلق الله وعربات الكارو وترابيزات الفرش وأكوام البضائع من كل شكل ولون، غير الفول والطعمية والكبدة والمشاريب، وكراتين الملابس الداخلية وأحواض السمك الفارغة والمملوءة وصناديق الأحذية وأقفاص الحمام والعصافير والانتيكات ولوازم النسوان وكل عجيب وغريب، وكل ما تعرفه، وما لم يخطر على بالك يوماً.

ـ صلي على اللي يشفع فيك.

سأكون يا ابن عمى فى انتظارك أمام ترابيزة كبيرة عليها كل التوابل والعطارة، ما سمعت عنه وما لم تسمع.. البردقوش وماء الورد. الجنزبيل والقرفة. الكركديه والحلبة. الفلفل والكمون. الينسون والشمر. الحنة والبهارات. جوزة الطيب.. المسك والبخور الجاوي. النعناع ولبان الدكر والزعفران.

على شمالك تجدني بعد حوالي مائة خطوة، مجاور لفرش كبير عالي، من بعيد تلمحه عيونك، يبيع الستائر والمفارش والمخدات والملاءات ولوازم سراير العرسان.. عقبي لك. فقط اسأل على شطة. يعرفني ألف بياع حتى الزباين أكثرهم يعرفون ابن عمك، وراءنا جبل المقطم وأمامنا بيت مهدود على جانبه سبيل لزوار القبور والعابرين.

لا تجعل قلبك يفتح بابه للهموم.. عقلك لم يعد له لزوم. ومهما كان مكسبكملاليم، حط رأسك على الوسادة ونام راضي.. توكل على من خلق الكون ونشاه، لا ينسي أبدا عبيده، وسلام يا ابن عمي.. أشوف وشك بألف خير، إنت وكل أهل البلد.

كان صعباً أن أحكي له بالضبط حقيقة الأحوال.. وهل كان يصح أهرب بالكلام منه، وهل كان يصح أن أعمل له البحر طحينة وعسل؟.. وهل كان يرضي ربنا أصدمه وأقول له ابن عمك ضاع فى شوارع المحروسة، ومقدر ومكتوب أرجع عن قريب للبلد حافي؟.. هل كان من الأصول أفضفض وأقول: إني بالعافية ألقي عشايا وإني أكمله نوم؟.. يستحيل أهزمه أو أخدعه حتى لو كنت أنا هلكان.. أنا وهو وكل خلق الله على فيض الكريم.. صلوا على من بُعث للعالمين رحمة. عليه ألفين صلاة وسلام.

خلونا فى الموضوع المهم.. أنا قلبي انشبك وأصبح فى غير طوعي.. دماغي تحولت، وما عاد لي قرار، كل تفكيري فى بشاير.. لعبت فى رأسي وفتحت فيها من السكك والدروب ما يؤدى إليها.. إذا رفعت عينها فى عيني وسلمت للفضا نظرة، نفذت بين ضلوعي وفرفر قلبي كما حمامة شقها سكين.

بشاير.. ست توزن من الرجال عشرة.. ما العمل وأنا ساكن فى شقة تحوي من الرجال عشرة؟.. أربعة منهم هنا فى السوق وثلاثة شيالة فى سكة حديد مصر، وواحد عتال على نقل خضار وفواكه من الجناين والغيطان لسوق العبور، وواحد صبي قهوة وأخرهم غريب الشأن وماله عدلة وكل يوم بكلام.. مرة يفوح منه العطر وعامل قُصة، ومرات جربان، مرة مكسي ومرات عريان، مرة يرمي الفلوس رمي، ومرات مفلس، لكنه فى كل الأحوال يمزع ويفشر عمال على بطال. أبدا لا تبعد عنه سرقة كتابي الوحيد الذى أواظب على القراءة فيه، أغاني وأشعار جاهين ومرسي عزيز ورامي والتونسي.. أنا فى غيظ ما بعده غيظ، وكيف أصبر على الجار السو يا يرحل أو مصيبة تشيله.. الود ودي أفكر له فى تفكيره تبعده عنا.. عقلي وقلبي ووقتي يا ناس سلمتهم لبشاير.. تأمر وتنهي كما تريد وأنا راضي.. المهم حبل الأمل فى الوصال لا ينقطع حتى أنول المراد من رب العباد.

الحلوة تبيع شباشب بلاستيك، رجالي وحريمي وأحذية أطفال صغيرة ملونة.. لها وجه أسمر وملامح تحل من المشنقة وعيون عسلية كبحر وسيع ومحيط. ظروفها مثل ظروفي ولا يهم جلبابها المتسخ وطرحتها الممزقة.

مجرور أنا كسمكة فى سنارة لصاحبة الوجه الجميل القاعدة قدامي.. أنا منياوي وهى من بهتيم.. نفسي يكون لي فى قلبها مطرح.. قال عرفة بائع الصُّرم.. عندما أطبقت الحيرة على مراوحي، ملت عليه اسأله رأيه:

ـ لا تسلم لها.. إن كيدهن عظيم.
الله يسمَّك يا بعيد.. اندفعت فيه:
ـ أسلم لها إيه يا عرفة يا تعيس من يومك، وأنا فى الأساس شحات.
ـ وابنها؟
ـ فى عيني.
ـ والسكن؟
ـ المقابر جنبنا.. تلمنا.
ـ والمصاريف؟
ـ لا تعقدها.. حصيرة وقلة.. وبالنهار السوق يطعمنا.. كل الأشداق لها رزاق.
ـ تضحك على نفسك.
ـ يا ابن الحلال.. المهم الرضا، واللقمة والهدمة آخر شئ.
ـ ربنا يهدي لك الأحوال.

الغريبة إن الحيرة تبددت بعد حديث عرفة. قلبي نفش وانتعش ملأ قيعان صدري وكان عطشان حنية، رفعت رأسي للسما.. كان السحاب يمر.. يفسح الطريق للشمس حتى تراني..

ـ أنا والله طيب وراغب خير.

فى يوم أخذت ابنها فى حضني.. شافتني، تبسمت.. رفض قلبي وداخ.. الولد ولدي يا ضي العين.. تقابلت نظراتنا وتعانقت رغم الزحام.. تحركت عيوني وراء عيونها حسب الفراغات التى تطل بين صفوف العابرين.. يسألني الناس عن أسعار الفلفل والكمون أجيبهم بأسعار القرفة والينسون..

ـ وبكام يا عم المستكة؟
ـ ببلاش يا عروسة
ـ يا بني هات بجنيه شمر

غمزت بعينها وعدلت الطرحة.. نط قلبي ودق.. هبيت من مكاني.. خطفت ابنها وأجلسته على الدكة.. هربت من الزباين والبضاعة.. الله وكيلي.. شققت سبيلي بين كتل البشر. فى أقل من ثانية كنت بجوارها وجهها أتفتح من المفاجأة وشهقت.. تفلت فى عبها

ـ يا شطة.. إخص عليك.
سحبت يدي يدها وحضنتها. يدها دافئة. سمعت فيها نبض قلبها الذى يخبط.. قالت:
ـ اتجننت؟
ـ أيوه
ـ الناس يا وله.

 الكلام يفرح.. رجع قلبي يتنطط.. ابتسمت وتذكرت يدها.. سحبتها وتلفتت حواليها، لقطت عيني نظراتها وهى تتجه إلى هاشم فى محل المفروشات. وجدته يرصدنا وفى عيونه شرار.. الغيرة ترعي فى قلبه.. لا يا صاحبي.. آخر يوم فى عمرك لو قربت منها.. سيبنى يا بنى أرسي لي على بر.. لا تلخبط غزلي، ولا تعكر مياهي.

ـ وبعدها يا بشاير
ـ كل شئ بأوان
ـ الحب قبل المال
ـ طبعا
ـ طب بللي ريقي
ـ اطمن
ـ ياه لو ضمنا يا بشاير بيت واحد.. ح تكوني فيه ست الستات.
ـ فرجه قريب.

فى اللحظة ذاتها شقت الكون صرخة.. صرخة رفيعة إنما تزلزل. لم أعرف تماما مصدر الصرخة.. حاولت ألا أهتم لأكمل سكتي معاها.. مشغول أنا من ساسي لرأسي بمصيري المعلق بقلب حائر.. انفجرت ناهضة وجسمها كله ينادي عليه.

ـ ابني

انتفضت من قعدتي لأقف وأتبعها.. ارتبكت حتى كدت أقع.. على الأرض سبقني كفي وانسندت عليه. ماء بارد سكبوه على نار. طارت الأفكار. تبدل فى لحظة كل شئ.. ماله ابنها؟.

قمت أجرى نحوها.. الصراخ فظيع.. الولد الشقي وجهه بشعره مغطى بالشطة.. يدعك فمه وأنفه وعينيه.. يكاد يختنق.. الوجه أحمر فى أزرق فى أسود.. كرة من لهب.. يتلوى وينتفض.. أنا قلبي انخلع.. أدركت أخيراً المأساة.. غرف الولد من الشطة وأكل.. يخرب بيت من أنجبك.

فى ثانية خطف الولد هاشم وطار على المقهى وهات يا غسيل، وبشاير هات يا صويت ولطم.. فجأة مالت على بضاعتها.. أخذت تسحب الشباشب وتضربني فى رأسي وصدري ووجهي.. بدت قوية ومكوية.. تضرب كوحش كاسر، بكل أعصابها وغضبها.. يدها ثقيلة وأنا أدافع بكفوفي بدون جدوى.. الضرب واصل.. كلما الشباشب تمزقت سحبت غيرها.. رجالي وحريمي.. لا يمكن يكون ما جري لي ضرب حبيب ولا كان ده العشم.

شعرت كأن السوق كله يضرب معها.. لم أجد أحدا يدافع عنى أو يقول كلمة تخفف.. ظهر فى النهاية شخص يسأل عنى.. دلُّوه علىَّ.. كنت قد وصفت له عنواني بالضبط وزيادة.. وصل من البلد فى اللحظة ذاتها التى ضاعت فيه كرامتي ورسمالي والأمل الذى فى الطريق.. الأمل ضل وابن عمي وصل.. أخذني فى أحضانه..

قلت له وأنا أغالب دموعي: العار يا ابن عمي أطول من العمر

*بعد شهر وشهيَّر والتانى قصير، تزوجت بشاير من شطة
وهشام رقص فى الفرح لما قالوا له كفاية.

"ما كذب الفؤاد ما رأي"
هذى خيولك تركض فى البرية من أجل المتعبين والجوعي..
من أجل من افترشوا أَسِرَّة الأحلام..
كم طَيْبت خاطرهم ومسحت على أعناقهم التى دكَّها نير الحياة!

المصيدة
مثلث جغرافي لا يكاد يعرف غيره، البيت والمقابر وسوق الجمعة.. ثلاثة أماكن ـ مرتبة حسب الأهمية ـ يتدله فى حبها.. ليست مجرد أماكن وإنما معالم فى جسده وروحه، وقلبه وعقله، كل منها له أدواته ولغته وناسه وأحبابه، وهو فيها جميعا صاحب كلمة وهيبة.. له أيضاً حب راسخ وإعجاب.

الأماكن الثلاثة لا يحتاج للحركة بينها إلى وسيلة انتقال، رجلاه تكفياه، ولا يحتاج ليؤدي دوره، ويلتقط لقمة عيشه إلى نظر، وربما لذلك حرمه الله منه قبل أن يولد، ومتَّعه بعقل وإحساس ولسان.. تعود الرجل أن يحمد الله آناء الليل وأطراف النهار على النعم التى لا يحصرها حصر. بكت أمه شهراً كاملاً عندما انتظرت أن يفتح عينيه بعد ولادته، فلم تفتح، وعندما ـ بعد شهور ـ انفرجت الجفون نصف انفراجة بدت العين بلا إنسان.. مجرد مساحة رمادية تتحرك فيها سحابات غامقة كخرقة للمسح طال بها العهد، لكنه يسمع دبة النملة وتثاؤب الشياطين وحوار الملائكة، وكم أمسك بعضها متلبسة بتسجيل بعض أفعاله ـ إبان سنين الصبا ـ التى قد لا ترضي عنها السماوات السبع، وهو لا يجد غضاضة فى الاعتراف ـ فى ساعات الصفا والسمر ـ بأنه بدأ طريق الخطيئة مبكراً.

لا يغضب لأنه فى السوق يسمونه "المفتح" ويقولون:
ـ المفتح كان هنا من شوية.. المفتح جاء.. المفتح راح.
لكنه فوجئ بضابط الشرطة يسأله:
ـ قوللي يا مفتح.. تعرف محسنة؟

رفع وجهه إلى السماء نصف رفعة، كأنه يتأهب لاستقبال المدد ثم ابتسم، ولا يدرك من لا يعرفه إذا كانت الابتسامة سخرية، أم إنها دلالة على ثقته بما لديه من معلومات.. قال وهو يفرك كفيه الغليظتين:

ـ جارتي
ـ عرفت إنها اختفت؟
ـ لم تختف.. ذهبت لتزور أهلها فى شبين.
ـ إيه رأيك؟
ـ فى خلق السماوات والأرض؟

تنهد الضابط، ثم قال:

ـ فى سبب اختفائها؟
ـ تعددت الأسباب والاختفاء واحد
ـ ركز يا مفتح
ـ أكثر من كده
ـ عندك سبب محدد

ابتسم المفتح من جديد، وسأل الضابط:

ـ هل تعرف سبب تسمية الضابط بهذا الاسم؟
ـ نعم وحياة أمك!!
ـ أجبني إذا كنت تعرف ولا تأخذك العزة بالإثم
ـ ح تعمل مفتح علىّ يا أعمي

اسود وجه المفتح

ـ إذن أنت كالعادة لا تدري.. الضابط ليس من يضبط السارق أو الهارب، الضابط من يضبط نفسه.. وواضح إنك لست بضابط.

احمر وجه الضابط ونفرت عروقه وجمع أصابع يده فى قبضة غاضبة، وهم بأن يدفعها لوجه المفتح، الذى قال له:

ـ هيا.. اضرب

فوجئ الضابط واضطرب وأدرك أنه وقع فى شرك مع هذا الرجل المشكلة، فاستدار على عجل وتبعه فريق الشرطة والمخبرين.

فى اليوم التالي جاء ضابط آخر يطلب منه الحضور للتعرف على جثة امرأة مشوهة الوجه، ربما كانت جثة محسنة، فقد وصلت إشارة مجهولة بذلك من فاعل خير.. اضطرب المفتح وارتعد فقد ثار بركان بأعماقه.. لم يتصور الخبر، لكنه تماسك وقال:

ـ يا مندوب الحكومة.. كيف أتعرف عليها والمفتحين بحق وحقيقي لم يستطيعوا التعرف عليها؟
ـ تعالي يا مفتح يمكن يكون لك فايدة
ـ إذا كنت أنا مش شايفك وأنت زى فلقة القمر
ـ تبقي شايفني
ـ إنت صدقت يا حضرة الأنباشي
ـ ضابط يا لوح.. غور.. عنده حق اللي عماك.

لم يشعر بأنه أعمي إلا هذه الأيام، ولم يتيقن أن الدنيا معتمة إلا هذه الأيام، بل لم يحس أبدا أن الحياة مقبلة على أيام سوداء وظالمة إلا هذه الأيام، ومع ذلك فهو على ثقة أن الجثة ليست لمحسنة.. إحساسه لم يخنه أبدا.. قالت من قبل إن أهلها يقاطعونها ولم تشرح الأسباب.. لم يدفعه الفضول لحفر البئر.

تنهد بعمق واحتضن بكل جوارحه وأعصابه سيرة محسنة التى ترحم كثيراً على من سَّماها، وكأنه كان يعلم ـ وهى لا تزال قطعة لحم فى حجم قطة ـ إنها ستكون فعلا محسنة، تطبق ببساطة وتدفق كل دلالات الكلمة.

تذكر حنانها وأكلها اللذيذ وسؤالها الدائم عنه.. ولول برأسه يميناً ويساراً، كأنه فى حلقة ذكر.. لا تنسوا الفضل بينكم.. لأول مرة دمعت عيناه التى لم تدمع إلا على أمه فقط من دون خلق الله، وكانت حضنه الدائم، وسنده وحماه، وهى التى شحنت قلبه بالجسارة ودفست فيه جمرة نار لا تطفئها المياه.. لكن المياه فيما يبدو ـ أخيرا ـ تسربت.. سبحانه علام الغيوب.

عندما سكن عندها.. دخلت عليه وسألته:

ـ إزى الحال
ـ فى نعمة ما لها نظير
ـ أمال فين دولاب هدومك؟
ـ لا لزوم له.. توب علىّ وتوب على الوتد

خرجت فاشترت له جلبابا وكوفيه، وشبشباً من جلد متين تتحرك فيه براحتها قدماه الكبيرتان. ابتسمت أعماقه أولا ثم ابتسم جسده ونضحت الابتسامة على شفتيه.

عندما أحضرت له بطة محمرة هجم عليها وهو يقول:
ـ ونزعنا ما فى صدورهم من غل.
ولما قضى على معظمها. توقف وحمد الله.
قالت:
ـ كل كمان.
ـ شبعت.. يجعل بيت المحسنين عمار.
ـ خللي بالك.. المثل يقول: الأكل على قد المحبة
ـ إذا كان على محبتي يبقي لازم آكل كل ما على الأرض.
ـ يعني مبسوط.
ـ لم أكن أتصور إن ربنا راضي عنى لهذه الدرجة.

قامت فحملت إليه الماء الساخن وأخذت تحممه بالليفة وتدعك له كعبيه بالحجر، ثم حلقت ذقنه وعطرته، وأخذت تغني له أغاني أم كلثوم التى يحبها وهى تقص أظافره، بينما كان يحاول بكل خياله تصور الأحوال فى الجنة بعد يوم الحساب، وانتهي إلى أنها لن تختلف كثيراً عما هو فيه فبعض ما يستمتع به على يدي محسنة لم يخطر على قلب بعض البشر وإذا كانت الجنة كذلك فعلينا أن نبذل الجهد الخرافي لبلوغها، واستقر فى وعيه بشكل غامض، أن الله ربما يذيقه فى الدنيا بعض ما فى الجنة ليدرك روعتها.
شعر أن جسمه بعد عمليات التنظيف والتجميل يكاد يطير، وخامره إحساس إنه جميل.. ثم قال محدثا نفسه التى يحب الحديث إليها:

ـ يالروعة الدنيا إذا كانت فيها امرأة مخلصة تحبك، ويا لها من صحراء لعينة إذا خلت منها.

محسنة جارته فى السوق والبيت.. الباب أمام الباب. قلبها دائما على قلبه.سمعها دائما معه، وعينها عليه. قبل أن يفكر فى شئ يتمناه يكون عنده.. لا يصدق هذا القدر من الخير الذى يتفجر منها.. ولول برأسه، وتنهد عميقاً لعل الأسى ينصرف ونور الحقيقة يشرق على الدنيا وعليه.

كان يجلس أمام بضاعته بعد فرشتها بحوالي عشر فرشات إلى جانب الخواجة أقدم بائعي السوق.. تحايلت على جارها بائع لوازم النجارة من الشواكيش والمناشير والفارة والكماشة حتى يتبادل مع المفتح مكانيهما ويأتي ليفرش جوارها حيث تبيع لوازم الخياطة.. الإبر وبكر الخيط والترتر والدبابيس والكباسين وخرج النجف والكستبان والدانتيلا والركامة والأزرار.. كما تبيع المقصات والقصافات والفيونكات.

فوجئ بها تقول له وهو جالس يقرأ القرآن أمام مصائد الفئران التى يبيعها:

ـ يللا بينا من هنا.
ـ إيه اللي جرى

لم ترد عليه، مضت يدها فى عجلة تنقل مصائد الفئران وتحطها فى الأجولة الخيش. ندهت على الولد عزمي ابن سعد الكيال، حمَّلته جوالاً وسبقته بجوالين، واحد على رأسها والثاني ضمت عليه ذراعها، وانطلقت تشق الجموع بجسارة ولسانها جاهز للسب إذا اقتضي الأمر، وتكتفي مؤقتاً بقولها:

ـ وسَّع طريق.. وسَّع.

اعتمدت يسراه على عكازه، ومضت يمناه الطليقة تساعده على تفادي الزبائن الذين هم فى نظره عميان إلا عما يودون شراءه.. يسيرون بربع انتباه.

كان المفتح أنصح ولد فى كتاب الشيخ برهان.. يقرأ الشيخ السورة مرة واحدة. يحفظها المفتح فى لحظات ويتلوها بالتجويد، كأنه منذ سنة لا عمل له إلا قراءتها، وحشو رأسه بها.. أشاع عنه بعض الأولاد ـ وقد تكون رواية صحيحة ـ إنه كان يتمتم قبل أن يبدأ الشيخ القراءة.

ـ سنقرؤك فلا تنس.

ويكررها عدة مرات دون أن يدرك بالطبع معانيها إلا عندما شب عقله وامتلك القدرة على التأمل والتفكير..

تعقبته الآذان وهو يتلو القرآن فى البيوت وعلى المقابر، وفى ذكري الأربعين والخمسان، والجمع والعيدين، وفى معظم شهور رجب وشعبان ورمضان.. كان ذا صوت رخيم يجيد التنغيم.. يصعد ويهبط بالنبرات فى اقتدار ويبتكر فى تقطيع الكلمات، وفى الضغط على بعضها لفتا للعقول والأفهام، ويبدع فى التواشيح والتسابيح ورفع الأدعية والأذان.. وهكذا أصبح مرتبطا بالمقابر دون الاقتراب من مسجد السيدة عائشة إذ حاربوا اعتلاءه المنبر من امتلأت نفوسهم بالحقد عليه إدراكا لقدرته الوحشية المقتحمة.

كان أخوه قد نزل مصر منذ عشرين عاماً بحثاً عن رزق أكبر بدلاً من الفقر المدقع فى قريتهم التى نسيتها الأيام.. ترك الأسرة الصغيرة تمضغ نبات الأرض الجافة وبين ليلة وضحاها أصبح تاجر حبوب، ولما مات الوالد والوالدة بعده، وتزوجت الأخت، لم يكن من بد أن ينتقل المفتح واسمه إبراهيم للإقامة مع أخيه سنوات إلى أن قضت طعنة نجلاء على حياة أخيه الذى اكتشف إبراهيم أن الأخ عاش على عمليات متواصلة من النصب والسرقة والكذب، ومنها إنه باع بيتهم بالقرية دون علم الشيخ، وأزيح الستار عن الخراب فى القرية والقاهرة معا.

بلغ محسنة أن صاحب العمارة التى يقيم فيها الشيخ قد منحه أسبوعاً واحدا مهلة وبعدها عليه إخلاء الشقة.. قفزت إلى عقلها فكرة، تتقرب بها إلى الله بإكرام عبده التقي الموشك على التشرد.
سحبت ولدها وذهبت إليه:

قالت لولدها: سلم على سيدنا الشيخ.
مد الولد ذو السنين الخمس يده الصغيرة وهو متوجس، فنامت فى كف الشيخ التى فى حجم رأسه.. قال: يا بشري..
هذا غلام سحبه إليه وقبله.. أجلسه فى حجره والولد يقاوم رعباً يستولي عليه.. طلبت إليه أن يتفضل مشكورا بالانتقال إلى بيتها فلديها شقة خالية، واعتذرت لأنها بالدور الثاني وليس الأول.
قال الشيخ: من فَّرج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة.
قالت: ح أبعت لك اتنين شبان ينقلوا حاجتك بعد صلاة الجمعة.
قال فى حسم: لا أتحرك إلا بعد الاتفاق على الأجرة.
قالت فى رقة: ما بين الخيرين حساب.
قال: أبدا..
أذعنت وقد أضمرت خيراً: خلاص يا بركة.. ماشي كلامك.

علم أن الغلام اسمه جمعه، ووالده خميس، وقد رحل، تحدثت عنه بالإعجاب محسنة.. لم يكن فى مثله رجل، وقد أقسمت ألا تتزوج من بعده مهما شبع موتاً فلن تمحو ذكراه السنين.

رصت المصائد على الترابيزة وجهزت كرسياً للمفتح، وطلبت له من سيدة العمشة واحد ينسون ولها واحد قرفة، ولمحت المصائد غير مرتبة، قفزت من موضعها لترتبها فى صفوف، وغرست التسعيرة الورقية المكتوب عليها أربع جنيهات للمصيدة، حتى لا يسأله أحد أو يثرثر، من أراد المصيدة دفع الثمن فى صمت ومضي مصحوباً بالسلامة.

تنهدت راضية، فقد ألهمها الله أن تقوم بالواجب إزاء هذا الرجل "الوحداني" الذى ابتلته الأيام بالمصائب، وسوف تحصل بوجوده البركة لعلها تحميها وهى تستشعر أنها تمشي على الشوك والخطر.. فأر كبير دائم التجوال بأعماقها يثير القلق، ربما بسبب القطيعة بينها وبين أخواتها الذين رفضوا زوجها، وعداوتها لزوجة أبيها "مفراك الشر" وغيرتهم جميعاً من دعم أبيها لها قبل وفاته.. وفوق ذلك ألسنة كثيرة توغر الصدور ضدها فهناك من يكرهون بالجان.

الولد جمعه إلى جوارها بالسوق مشغول بمص القصب الذى كسرته أمه عقلا صغيرة.. يمتص الرحيق ويدخل معه بأعصابه، ويمر به على شدقه وحلقه حتى يسلمه إلى البلعوم ومنه إلى بطنه، لتستمتع بلذة حلاوته السائلة ويواصل الشفط من العقلة.. قضمة بعد قضمة، يشد السائل الحلو كما يشد مدمنو الشيشة أنفاسها، ويروون صدورهم بالهباب المعشوق.

كلما رأته أمه تذكرت أباه الذى كان يشفط دخان الشيشة شفطاً ويود لو أدخل الخرطوم بالكامل إلى رئتيه حتى قضي عليه عشقه الأسود.

عندما نزل ببيت محسنة فوجئ بأن الفئران ترعي فيه بحرية كأنها المُلَّاك، وليس هو أكثر من ضيف عليها، وبالطبع غير مرغوب فيه.. بالليل لا تكف عن الحركة، ولا تترك موضعاً إلا اقتحمته وفتشت فيه بحثاً عما يلائمها من طعام، حتى عِمَّته لم تسلم من العبث وحملات التنقيب، كما أنها عبثت بوجهه وتفحصت معالمه وهو نائم، ونفذت داخل الجلباب، وكم من مرة استيقظ على قرضها سرواله الطويل الضيق!.. كم من مرة سقطت برطمانات وعلب فوق رف عال معلق على الحائط!.. وقد يصحو على جرجرتها مركوبه، وهو فى حجم بطة، أو فى حجم ذكر أرنب كبير لا يكف عن مطاردة الإناث.

عاني منها إذن كل المعاناة، ولم يفلح فى إصابتها إلا واحدا أمسكه وقذفه بشدة فى الحائط، وعثرت عليه محسنة فى الصباح محطماً وغارقاً فى إبريق الماء الكبير، وأكمل كل منهما القصة للأخر.

لا يعرف بالضبط منافذها ولعل لها فى الشقة جحورا. ولما خربت له نومه، حكي للسيدة صاحبة البيت فأكدت له إنه لن يراها بعد الليلة، وأرسلت من يشتري لها عدة كيلو جرامات من الأسمنت والرمل، ومضت تسد كل جحر، وقبل أن تغادر.. قالت:

ـ غداك النهارده علينا يا عم الشيخ.
ـ يا خبر أبيض ليه التعب يا كريمة
ـ اسمى محسنة
ـ لكن بفعلك كريمة

أقسم لها أنه رآها فى الحلم قبل أن ينذره صاحب البيت بالطرد. رأى البيت ينهار على السكان وامرأة جميلة تجره من تحت الأنقاض.. سألته عن الأحلام كيف يراها؟ فأكد أنه يراها بمنتهي الوضوح وأنها فى الأغلب ملونة واضطربت عندما قال لها:

ـ أدعو الله أن أرى السيدة الجميلة التى أنقذتني فى الحلم والحقيقة.

بعد أيام فوجئ بالفئران تعود، خرج بنفسه فاشتري مصيدة، وعلَّق بلسانها قطعة جبن، وقبل منتصف الليل وفى عز العراك الجسدي انطلق باب المصيدة بعنف لينغلق على الفأر وتبدأ جهوده المحمومة للخروج، كما كانت هناك جهود محمومة لفأر آخر يحاول الدخول فى مصيدة أخرى.

برقت الفكرة فى رأسه.. أن يتاجر فى المصايد، يتخصص فيها دون غيرها، ويعرف بها ولا ينافس أحدا، لكم اشتكي من مساحات الوقت الفارغة.. سأل محسنة. أكدت له أنها لم تر أحدا يبيع المصائد. شجعته، وفى اليوم الأول باع عشر مصايد، وفى اليوم الثاني كذلك واستمر الإقبال عليه.

سأله مداعباً الولد عزمي ابن سعد الكيال:

ـ افرض حد سهَّاك وسرق مصيدة وما دفعش
قال على الفور:
ـ يبقي دخل المصيدة
لم يبد على عزمي إنه فهم إلا بعد أن أفهمه أبوه.

مصيدة بسيطة عبارة عن صندوق من الأسلاك على قاعدة من الصفيح، وباب مشدود بياي إلى لسان تعلق فيه من الداخل قطعة الجبن أو الخيار أو الطماطم، ومن أعلى يتعلق اللسان بسن صغير فى مقبض الباب تعليقة مرهفة جدا، يكفي الهواء إذا لمس اللسان لينطلق المقبض وينغلق الباب.

ـ هكذا الحياة.. البيت وصاحبته.. الباعة والسوق.. المقابر والموتى.. الآباء والأبناء.. الزوج والزوجة.. العربة والسائق.. كلها مصايد.. والله فعال لما يريد وهو أحكم الحاكمين.

كان قد فكَّر فى فتح كُتَّاب لتعليم الأولاد القرآن، لكن فكرة المصايد غلبت والفضل للفئران التى ألهمته الحل حتى يتحرك ويري الناس ويروه، ويسمع الأخبار ويتعرف على الحوادث والحكايات.. وليس من المقبول أن تكون حياته جميعها فى المقابر، أما البيع فى السوق فسوف يسمح له أن يكون مع محسنة دائما.. فهي دليله.. يخرجان معا ويرجعان..

ـ شكرا لك يا رب على هذه البوابة الضخمة التى انفتحت وما أجمل الأمل!.

توطدت العلاقة بسرعة غريبة.. فوجئ بها تغسل ملابسه وتنظف له الشقة وتعد له الطعام، واشترت له ملابس داخلية، وجلبابا صوفياً عندما هجم الشتاء، ولما حاول مرة تقبيل يدها، قبلت رأسه، ولما تكررت المحاولة فوجئت به يحوطها بذراعيه وتغيب فى دفء أحضانه وجسدها ينتفض ويستسلم، ربما كان غياب بصره مشجعاً إذ تسلل إليها شعور بأنها تتذوق بعض شهوات الجسد من وراء ستار ولا عين هناك تراها وهى فى أمان حتى لو تعرت أمامه.

جوعان، غاص فى اللحم الجوعان ونهل من آباره. لكنه كان مشدوها باستشعاره أنه يبصر لا الجلد والأعضاء المشبوبة، ولكنه يبصر ما تحتها وما تحت تحتها من الأفران الموارة.

كان يتصور أنه يري شريان الشهوة كنهر الحمم قادماً من بؤر مجهولة ويشق طريقه مسرعاً ليشعل الحرائق فى كل الأعضاء والعضلات والأعصاب والدماء، وما يلبث هذا النهر أن تلتهمه هوة سحيقة فتهب العواصف ويجتاح الجميع زلزال هائج.

سألته عن اسمه الحقيقي.
قال: لا اسم لي.. سميني
ثم استدرك:
ـ لا داعي أن تختاري لي اسم زوجك
ابتسمت واحتجت:
ـ ليه.. اسمه جميل.
ـ لأنك لو ناديتني به وأنت معي فى خلوة أعتبرك خائنة.
ـ اسمك اللي فى البطاقة.
ـ لا يهم.. سميني أنت لإنى اتولدت على ايديك.
سكتت لحظات وإصبعها على فمها تفكر، ثم قالت:
ـ يوسف.
ـ ليه اخترت الاسم ده بالذات
ـ بحبه
ـ يبقي إنت زليخة.

مضي يعاتب نفسه لأنه استغل وحدة الجارة وغياب الرجل عنها.. وها هي تسميه يوسف، لكن "يوسف" نبي حماه الله ونجاه"ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه، كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء" وهكذا استعصم يوسف لما رأى برهان ربه، ولم أستعصم، واستحللت ما ليس لي. سامحني يا رب فقد كان مرادي الشكر فقط على ما بذلتْه لي..

رده عقله: يوسف أعرض عن هذا واستغفر لذنبك.

قالت نفسه: لقد شغفتني يا رب حباً، وأنا من صنعك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت. إنك الغفور الرحيم. يا رب إن الشرور تملأ كل ركن، والذنوب تلطخ القلوب، فتجاوز عن سيئاتنا.

نهض فتوضأ وصلي وأخرج من تحت وسادته خمسين جنيها ومر على الشحاذين والمعوزين الذين لا يسالون الناس إلحافا، ودعي الله أن يتقبلها عنه وعنها وإن ساور قلبه الشك، فليس بمقدوره أن يحسب الحسبة الإلهية فيما يختص بالغفران.. وإن مال إلى أن الحسنات يذهبن السيئات. ولكنه حسم الأمر قائلا: لا مفر من الزواج.

شعر بتوازن نسبي فى نفسيته المرتجفة، لا يجب أن يسمح لنفسه وهو حامل القرآن أن يمضي فى عكس اتجاه القرآن وأوامر صاحبه. انحط على الرصيف عندما أخبره شعبان الحانوتي أن زميلهم رضا الحانوتي وجدوه مذبوحاً فى المقابر.. شملته رعدة وخوف من الزمن والأحوال.. لقد حضر زواجه بجارته مودة منذ شهر فقط.. يا حسرة على العباد.. لم يستطع أن يتذكر من قال له:

ـ الأيام كحصان سريع الركض، تحملنا إلى المعلوم كما تحملنا إلى المجهول، وهى تعرف كيف ترقص، كما تعرف كيف ترفس.

تنهد ونادي ربه فى الظلمات
ـ لازلت أسأل يا رب، هل هى الآجال أم فعل البشر؟.. استغفرك يا كريم وأعلم علم اليقين إنها الآجال.

لم تكن فى البيت عندما عزم على أن يبلغها قراره.. بحث عن ولدها فلم يجده.. الشقة عليها قفل.. إذن فقد سافرت إلى أهلها فى شبين.. كم فكر أن يسألها عن التوتر الناشب بينها وبين أهلها، لكنه كان دائما يقول: لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسوءكم، لتكن هى الراغبة فى البوح ولا أرغمها عليه.

ـ هل تنوي يا رب بهذه السرعة أن تسحب عطاياك.

انتبذ له ركنا فى الشارع يقرأ القرآن وظهره إلى المقابر، ثم آب إلى بيته ومضى يصلي ويدعو الله كي يحفظ محسنة من كل شر.. ثلاثة أيام غائبة ما أطولها!.. تغلغل فى نفسه الإحساس بالظلام.

خبطته بشدة طرقات ثقيلة على الباب.. أدرك إنهم الشرطة.. تلا قوله:

ـ ولا تكتموا الشهادة، ومن يكتمها فإنه آثم قلبه. لن أكتم الحق ولكني فى رعب.. الموت أرحم من لحظة صادمة فى أعز الناس.

سار معهم إلى الثلاجة، قال:
ـ دعوني معها وحدي.
قال الضابط: خَلَّص.. عارفين اللي بينكم.

مد يده تحت إبطها وتمني ألاَّ يجدها، لكن يده عثرت باللحمية التى تتدلي فى حجم حبة الفول، وتحسس أسفل ظهرها وتعرف على المنطقة الخشنة بمساحة كف.

عندئذ زعق وأطلق آهة طويلة يسيل منها الدم والدموع ونهر عريض من الأوجاع.
ـ يا سندي ونور عيوني، سيفتح الله نار جهنم على من أنزل بك السوء.
ظل طويلاً يبكي وينتفض.
ـ لماذا لم تأخذني أنا؟ ما ذنبها؟.. لا تبقني يوما بعدها.
عجز أن يوقف مسلسل الانهيار.

عاونوه على الخروج من غرفة الثلاجة.. جلس وهو أسوأ حالا من طفل أبكم ضال.. رأى بكل وضوح خواء ناصعاً يملأ ما بين السماء والأرض، لا أحد على الإطلاق يمشي أو يتحرك أو يطير.. لا حيوان ولا شجر.. تسلل إليه حدس أن العالم انتهي وسينفخ فى الصور.

ـ يبدو أني دخلت المصيدة وإنها أغلقت علىّ بإحكام. لابد أن أتزوجها فورا.. قولي ورائي: زوجتك نفسي.. قولي.. قولي..لابد أن تصعدي طاهرة.. قولي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* بعد شهر تقريباً، ظهر مُلاك جدد للبيت، طلبوا منه سرعة الإخلاء.. تدخل بعض الجيران..قال الملاَّك لأحدهم وتكرر مع الآخرين:

ـ اضرب العمى واكسر عصاه.. ما انتش أحكم من اللي عماه.

ولم يجد المفتح من حل إلا اللجوء إلى المقابر حيث عاش مجاورا للراحلين، ومنهم محسنة التى لم يتوقف حواره معها، وما عاد أحد يناديه كما كانوا ينادونه فقد حرص على ألاَّ يري.

هل لديك القدرة كي تنتشلينا من الهاوية وأوحال الرمال الوهمية
والأيام السكريَ بالعفن؟
مرصودة أنت لنا بحرا نغتسل فيه من أدران النزق المادي المموس،
وشذوذ التوق لامتلاك الزائل فى نهارات مكتظة بالدمامة.

بيت النار
هل الأيام هى المولعة بنصب الفخاخ لأبناء الدنيا التى تتحرك بكثير من النزق فوق أرض زلقة؟.. راود آدم كثيراً هذا المعني بشكل غامض، وربما لم يفهمه تماماً.. لام نفسه.. لو تعلم لفهم. وسواء فهم أم لم يفهم، فلابد أن يذهب إلى السوق، وأن يفرش بضاعته فى مكانه الثابت المعروف، فليس من حقه أن يحطها فى مكان آخر، وليس من حقه أن يغير جيرانه ولا الوجوه التى أمامه إلا بالاتفاق.. هذه أعراف السوق التى لا سبيل لتغييرها، وهى فى الوقت ذاته دستوره الذى يحميه ويبقيه قوياً ضد أي سلطة. وبصرف النظر عن النظام فقد تعود أن يذكر نفسه إذا برمت: الزق مطرح ما ترزق.

فكرة واحدة مهيمنة عليه. الدنيا تحاصره فى ركن ضيق جدا وتأمره أن يركض من أجل لقمة العيش، وما عليه إلا الإذعان.. اركض بسرعة.. اركض، إياك أن تتوقف أو تنام.. القطار يدب وراءك وسوف يدهسك، وليس لك من طريق إلا ما بين قضبانه.. لكنه كثيراً ما تمني أن يباغت الحياة والناس بموقف جديد يغير به قدره.

جهز الترابيزة وغطاها بالملاءة القديمة المخططة بخطوط بنية عريضة.. الملاءة ذاتها لا تتبدل. سحب من أكياسه البلاستيكية البيضاء التى اقترضها من بائع الأعلاف عرائسه ودُماه.. أُسود ونمور. دببه وغزلان0 قرود وزراف. كلاب وقطط. جمال وأرانب.. اجتمعت لديه الحيوانات التى تعيش فى الغابة وفى البيوت والشوارع.. أكبرها الأسد الذى يكشر دائما عن أنيابه ويفتح فمه الأحمر عن آخره وينطلق من عينيه الشرر، ويفرد شواربه التى يمكن أن تقف عليها صقور ونسور وقطط، لكنه أبدا لا يخيف، إذ إنه ليس أكثر من دمية، وقد آثر ترك الوحشية والافتراس لسكان الأرض من البشر.

هاهو قد فرش معرضه الكبير للحيوانات الجميلة الأليفة متنوعة الأحجام والألوان، وكلها للكبار والصغار،ألعاب وزينة وهداياً فى أعياد الميلاد وكل المناسبات، وسكة وصال بين الأحبة.

وصل كشري ضئيل الحجم جار آدم فى البيت والسوق، فهما معاً يسكنان بيت زميلهم شطة.

ـ صباح الفل.
رد آدم وهو يحاول أن يتخلص من حالته:
ـ صباح النور.. ناموسيتك كحلي.
قال كشري وهو يفتح أكياسه الكبيرة البيضاء
ـ كابوس مقرف بعيد عنك.. مسكني من أول الليل لآخرة.
ـ تلاقي شطة كان بيشخر.
ضحك كشري نصف ضحكة، وقال:
ـ عادته ولا ح يشتريها.
دنا منه آدم وراح يعاونه فى نقل صناديق لعب الكبار.. الطاولة.. الدومينو.. الشطرنج.. علب الكوتشينة.. الشيش الصغيرة التى تزين بيوت الغاوين.
غمز كشري بعينه لآدم:
ـ بص على صاحبك
ـ مين؟
ـ ورايا يا سرحان
ـ آه.. رجب
 شده كشري من كمه وقال:
ـ تعالي نقفشه.

مضي آدم وراء كشري بصورة آلية وبدون نفس.. رجب وراء سجادة جاره الكبيرة المتدلية من كمرة حديد، يصب من زجاجة البيرة فى زجاجة دواء الكحة خوفا من زوجته التى ستأتي بعد قليل، ومن المؤكد إنها ستطين عيشته. نصحه الأطباء أن يبتعد تماماً عن البيرة.. كبده تقريباً انتهي بعد أن أصابه التليف، وكبر جدا وهاش. بطنه بالتالي كبرت وأصبح يبدو كالمرأة الحامل فى التاسع.. وجهه ذابل وضامر، لا يتوقف عن شرب البيرة التى عشقها منذ أيام الشباب البعيدة، وتنازل عن كل ملذات الحياة إلاها، وعندما تظهر زوجته يبدأ التمثيلية بالكحة، ثم يتجرع من زجاجة دواءها المزيف.. الغريب أن أباه مثله، ورغم ذلك شكت له زوجة رجب أفعال ابنه.. منعت نفسها من اللطم على خدودها وتمزيق صدر ثوبها كمدا، وهو يقول لها:

ـ خليه على هواه لما ييجي ديله على قفاه.

عاد آدم عندما لاحظ أن الزبائن بدأت تهل، وتهادي كشري وهو يصفق عاليا ليحيي النهار والصباح الجميل، متمنياً أن يكون اليوم نادي، هو نفسه ضحك على نفسه عندما تذكر وصف آدم له، بأنه: زى الضفدع حس عالي وجسم مفيش.

خطف آدم نظرة إلى سطح "مودَّة". تعودت أن تصعد إليه إذا الشمس سطعت.. قال لنفسه:

ـ طلعت الشمس يا مودة وانت فين؟
سأله كشري:
ـ مش ح تفطر.. أجيب لك طبق كشري؟.
ـ ماليش نفس.
ـ غير مية الشيشة.. وخليك حلو.. المسألة فات عليها شهور.
قال آدم وهو شارد:
ـ رحت بعيد
تنهد، ثم قال ليغير الموضوع:
ـ إنت مش قلت ح تبطل الكشري ده، هو إدمان؟.. كرهناه عشان خاطرك.
قال كشري وهو يتلوى تعبيراً عن خبرته:
ـ ايش فهمك إنت فى الأكل.
أخذ آدم الكلام على محمل آخر.. فاسود وجهه غضباً.. أراد أن يخرج من الحالة.. هربت عيونه إلى سطح مودة، حاول أن يدندن مع سيد درويش:
ـ طلعت يا محلي نورها شمس الشموسة.. يللا بنا نملا ونحلب.. لبن الجاموسة
وأكمل:
ـ آه من عمايلك يا جا.. يا بقرة.
تنهد:
ـ أشكي لمين وكل الناس مجاريح.

حاول أن يدندن فلم تتحرك أحبال صوته. قمعتها مشاعره الأسيانة.. كادت الدموع تطفر من عينيه.. اختبأ بنظراته فى حيواناته المستكينة، المحشوة بالقش وفتافيت الملابس القديمة والقصاقيص.. حيوانات هشة ليس لها إلا شكل جميل.

ـ من برة هلا هلا.. ومن جوه يعلم الله.

كانت رأسه كغرفة العمليات، وهو نفسه كان ممددا على الطاولة، وهو نفسه الطبيب الذى يقوم بإجراء العمليات الجراحية لعقله وقلبه، وكالعادة فشلت وساءت حالة العضوين وأعضاء أخرى، وكان الأطباء المساعدون والممرضات كالعادة يضحكون مما يجري ويدهشون.. وكان المارة كذلك.

هل تراها جوارحه خدعته وغررت به حين ألقته على حافة المتعة والهاوية؟.. مودَّة.. ذلك الكائن الجميل الذى حلم به طويلا، وكانت بكل نظرة من نظراتها تصنع شموساً وغيوماً وأنهاراً من عسل، ويظل فى أحضان الحلم اللذيذ بالليل، ويقدم القرابين بالنهار حتى نالها، وعندما امتطي الفرسة العفية تمدد تحت أقدامها على الفراش وانسحبت روحه ورغبته، وكلما صهلت تراجع.. أيام وشهور شهدت ذهوله.. مصيبة المصائب سابت الناس كلها وحطت عليه.. الشياطين اختارته لأقسى تجارب الإنسان.. الجمال والجسم الفائر والنار والغرام يملأ القلب، لكن مفتاح البوابة سقط فى بئر مسحور.. لابد هناك من فعل به هذا.. عمل له عملا يربطه.

قال لها: اكفي على الخبر ماجور لحد ما ربنا يجيب الفرج.
قالت ببطء وهى تتنهد وتمط شفتيها ضجرا:
ـ سرك فى بير.

لم يستطع أمهر السحرة وحلالين العقد، فك الربط المتين.. زار أولياء الله الصالحين ولجأ إلى المشعوذين والدجالين ولبس الأحجبة واشترى من الخواجة جاره فى السوق مسجلا حشاه بشريط الطبلاوي لا يقرأ فيه إلا سورة البقرة ليلا نهارا لعلهاتفك النحس، لكن الفرسة كانت تصهل باستمرار والبقرة تخور.. صبر الفرسة مثل زور الحمامة، وكل الطرق كانت تؤدى إلى الصمت المشوب بالانكسار والحسرة.

أخرجه كشري من حواره اليومي الملتبس حول المصير البشع الذى آل إليه. دعاه للإفطار حيث يتجمع عدد من الباعة عند المعلمة توحة بائعة الكوارع والكرشة والطحال وأحشاء البهائم.

أعدت توحة صينية فول مدمس بالطحينة والشطة والزيت الحار والكمون والليمون ومعها البصل. أرسلت من اشتري لها من الطابونة ثلاثين رغيفاً ربما تكفي الجميع، ومضت تدعو كل من له رغبة من الباعة والزبائن.

ـ تعالي أجبر الزاد.. لقمة هنية تكفي ميه.. يللا يا فندي يللا يا بيه بصلة المحب خروف.

كانت تدعو للطعام كأنها تدعو المشترين لبضاعتها وكأنهم سيدفعون الكثير من المال.. الزبائن يمرون بها ويدهشون من تصرفها، الغريبة إنها لم تكن تأكل بانتظام، فهي تلتقط لقمة مقابل عشرة لكل واحد من الرجال.. مشغولة بالكلام، حتى رأت ابنتها تأتي متهادية فى كسل فاستلمتها بالسخرية.

ـ على ما تتكحل العمشة يكون السوق خرب.
ـ مالوش لازمة يا أمه.
ـ له ونص يا ضنايا.. ورانا أكل عيش.
ـ عيش وفول يا معلمة.
ابتسمت نصف ابتسامة، وقالت:
ـ سايباني لوحدي يا بت.. خدي.. عملت لك شاندوتش.
تمد يدها وتقبض على الساندويتش،.. تقضم منه وسرعان ما تنطق فى دلال.
ـ ده ملهلب يا أمه.
ـ كلي يا بنت علشان تنسندى.. اتفضل يا فندي.. اتفضل يا بيه اجبر الزاد.
شطة يقول لها ضاحكاً: زاد إيه يا توحة.. الصينية فضيت.
ترد عليه: بالهنا والشفا.. مطرح ما يسري يمري.
نهض آدم. قبَّل كفه ظهرا لبطن وحمد الله.. عاد إلى فراشه كأنه كان على موعد مع رزقه.. باع قردا وغزالة.. ثم نمرا ودبا.
ها هو شاربه ينبت من جديد وكان قد حلقه..
ـ إيه فايدة الشارب المبروم والنخيل مايل.

خطف نظرة لسطوح مودة.. فى اللحظة ذاتها كانت تظهر تربيعة مودة الحمراء المزينة بالترتر تسبقها وهى تصعد على السلم الداخلي الخشب إلى السطح.. فردت طولها ومالت قليلاً نحو الشارع:

ـ بِسْ.. بِسْ
بسبست لجابر بائع الكولونيا والكريمات والشامبوات المجاور لتوحة.. لما رفع رأسه ناحيتها.. قالت:
ـ ارمي لي حُق كريم.
رمي الحُق وهو يقول:
ـ كده وصلك تلاتة
قالت له بدلال وتخميسة من كفها:
ـ كُبَّة.

جلست فى الشمس أمام آدم. عَّرت ذراعيها وساقيها وسحبت التربيعة ونترت شعرها الأسود الكثيف الذى كم شمه وشرب من عبقه ودفس فيه أمانيه، ربما مع الأيام تزهر.. انطلقت غيطان شعرها فرشت على ظهرها. وتلفت الشبان من الباعة والمارة.. أغرقها مطر النظرات التى تعودت عشق الجمال حتى لو شبعانة. شربت روحها من العيون رضا وغروراً.. ولم تمنع نفسها أن تقول:

ـ شاطرين بس ياكلوني بعنيهم.

مضت بالسبابة والوسطي بعد أن لمت على بعضها باقي أصابعها، تحتفن من علبة الكريم وتمسد بحنان لحمها الأبيض.. بدأت بساقيها، وعينا آدم مع الكريم تجرى على قوالب النور والرخام والزبد المخزن فى بطن الساق.. طلع معها على الذراعين، وقبَّل بعينيه الحنان اللذيذ ونعومة الحرير فى اللحم الضانى.

عرف كل هذه الكنوز ورآها، فجن جنونه، ونصيبه لم يسمح له أن يلمسها لمس المحروم، وفرق السماء والأرض بين لمس الشبعان ولمس المحروم، وقد حسبته الأقدار على الشبعانين.

الذراعان والساقان تشرق عليها الشمس بزيادة، وعيون المحبين يجننها الشوق بزيادة، وقلب آدم فاق الكل وزيادة.

كاد يلطم خدوده من جديد وينطح رأسه فى أصلب الحيطان بوصفه سيد المحرومين وإمام المعذبين فى الأرض، عندما علم إنها تزوجت غيره بعد أن طلقها.. لم تصبر إلا ساعات الليل.

ـ نفضتني نفضة سوده بنت الكلب. استعجلت قبل ما يتحقق الأمل.. وكان يدوب بيسأل على العنوان.

احتفلت بهدوء شديد بجوازها من جندي من جنود الأمن المركزي.. لم يستمر الزواج أكثر من شهر.. أجبرته أن يطلقها واختفي تماماً ولا يعرف عنه أحد شيئا، ولا حتى ظهر من جديد خالها الذى زوجها له.

بعد شهر لم تظهر كعادتها على السطح وقيل سافرت إلى بهنسا لتتزوج من أحد أقاربها الأغنياء، وبعد شهرين عادت وحدها ولزمت الدار، وشوهدت كثيراً على سطحها.. ترعي دواجنها وتركض وراءها وتتناول طعامها وتنشر غسيلها وتجهز الخضروات للطهي وتحمص جسمها بالشمس وتعرف أخبار الدنيا.

وكم رأت من برجها العالي معارك وغراميات وصفقات وسرقة وخطف!.. ورأت قتلا أحيانا ولواط عيال، وموتي يعبرون إلى المقابر محمولين على المحفات والرجال وراءهم يدَّعون الحزن، والنساء تولول مؤقتاً حتى يواري الرجال موتاهن تحت الثري.
لما طردت آدم عاد للسكن مع شطة وفرقته العشرة. لا يدري السر فى أنه يشك فى أحدهم.. ذلك الشاب الغامض واسمه عاصي.. لوح شطة بأنه من المحتمل يكون وراء ما يجري.. فكر آدم أن يخنقه وهو نائم، لكن قلبه لم يطاوعه، فليس بينهما لا محبة ولا عداوة.. قال لنفسه:

ـ حل مشكلتك بنفسك ولا تحملها لغيرك.

لم يتمكن من تنفيذ خطة جهنمية دعاه إليها شطة، بأن يفرغ له الشقة من سكانها ويستدرج له فتاة لتجربة عدته، فلم تفرغ الشقة.. دائما هناك الداخل والخارج والنائم والصاحي.. القريب والغريب، ودائما هناك أهالي قدموا لزيارة أولادهم.

تمكن آدم من تنفيذ نفس الفكرة فى إحدى المقابر وجاءت النتائج مبشرة جداً، وكرر التجربة فى مقبرة أخرى، فقد ساورته الظنون باحتمال وجود سر فى المقبرة الأولي أعانه على تحقيق المراد، وقد لا يتحقق المراد ذاته فى مقبرة أخرى، لكن التوفيق حالفه فى كل المقابر التى استخدمت كمعامل لإجراء التجربة التاريخية والمصيرية، برغم مطاردة المقرئ الأعمى الشهير "بالمفتح" الذى يدهش آدم بإحساسه، وكيف أنه يظهر له فى كل مرة، ويشعر به ويتعقبه كأنه مكلف بمراقبته، وقد سمعه عدة مرات وهو يقول:

ـ وحياة أمك يا نتن لامسكك وساعتها شوف إيه ح يجرالك.. ولا عزرائيل نفسه ح ينقذك منى.
بعد أن فتح عشر بطيخات نسائية وكلها كانت حمراء ولذيذة عزم ألاَّ يتزوج إلا مودة..
ـ عهدٍ علىّ وعمري ما المس غيرك بعد اليوم.. سامحيني أنا مش خاين بس كان لازم أتأكد أني سليم.
مضي يرقص ويصفق ويغني: أنا سليم.. أنا سليم.
ارتعد عندما تمني أن يسكن فى المقابر لكى يفلح فى الزواج والمتعة وإنجاب الأولاد.
عندما قرر الذهاب ليطلب إليها قبوله زوجاً من جديد فالحال غير الحال. فوجئ بالخبر الملعون.. لقد تزوجت فى الليلة السابقة من رضا الحانوتي صديق "المفتح".
ـ مسكينة يا مودة.. وصل بك الحال تتجوزي رجل حانوتي وأعرج وأعور وسكري.. ياه.. لو صبر القاتل على المقتول ليلة واحدة كنا بقينا مع بعض.. بس برضه مش ح أتجوز غيرك.

ثلاثة من قبل وهذا هو الرابع، إما التواصل ثم الاستمرار والاستقرار، أو السير على الطريق ذاته ومن ثم الانفصال، وساعتها لا مفر من الاعتراف بأن هناك خللا لدي مودة.. مودة الأنثى العاتية المتمتعة بأكثر مما هو متاح لامرأة جميلة وشهية. تساءل الجميع حتى الآن هل يمكن أن يكون هناك عمل معمول لها يعجز معه الرجال من دك حصونها المنيعة.

عبثت به الهواجس التى زينت له الرعب من الحانوتي فربما يضع الله سره فى أضعف خلقه، ويستطيع هذا المخلوق الشائه ذو الأنف الكبير والسنام على ظهره أن يبلغ الأعماق التى لم يمس سطوحها الآخرون.. تقلب على أشواك شهوته وكرامته.. لم تعد هناك مشكلة أمامه حتى زواجها من الحانوتى، وليكن ما يكون.. العمر واحد والرب واحد. لا.. لن تكون مودة لأحد غير آدم. سيطرت عليه فكرة أن يعرف بالضبط خط سير الحانوتي.. متي يخرج ومتى يدخل؟ وكيف يقضي وقته إذا توقف عزرائيل عن قبض الأرواح؟.

مع حلول الظلام وبعد أن ينتهي السوق يرحل معظم الباعة ويفكون الفرش، من يملك الأكشاك فإنه يسهر ويفتح طوال الأسبوع وليس كالباعة الوافدين يومي الجمعة والأحد.

بقي آدم بصحبة مرسى الذى يعرض فى كشكه أشرطة الأغاني والفيديو لمختلف المطربين وكذلك المسلسلات التليفزيونية إلى أن أغلق فى نحو العاشرة، وانتقل للسهر فى مقهي "القدس" المجاور حتى الثانية عشرة عندما لمح الحانوتي السمين عائدا يتطوح ويتمتم بكلمات مضطربة، فيها خليط من حواراته مع أصدقائه مع بعض عبارات مسبوكة من خطبه على الموتى والدعاء لهم بالمغفرة مع نكت وبعض العبارات المشهورة عن كبار المسئولين.. ثم ضحك وتمايل وتخبط وتعثر واختتمها بقوله: يكون فى علمكم أنا سيد الرجالة.. آه.

سهر آدم فى الليلة الثانية والثالثة، ورأى بالضبط ما رآه فى الأولي ولاحظ أن غرفة مودة فى الدور الثاني ينطفئ نورها حوالي الحادية عشرة.. ظل ثلاث ليال دون نوم.. يتقلب ويفكر ويحدق فى السقف على نور سهراية ومعه فى الحجرة أربعة، واحد منهم فقط هو الذى تذمر كثيراً من حركة آدم المتوالية وطقطقة السرير الخشبى العجوز.

كانت مودة تشغل قلبه ثم شغلت عقله، وتسلل فيروسها إلى روحه.. فكل صوت نسائي يمكن أن يكون صوتها، والقادمة من بعيد قد تكون هى، وأى حديث عن امرأة جميلة فى التليفزيون أو فى الأغاني إنما يقصدها.. تسلل فيروسها إلى عينيه وأعصابه وفمه.. بات يتصور أن أي حلو يأكله هو شفتاها، وقد تخيل ذلك كلما تذوق الجيلاتي.. وأي صوت جميل بالتأكيد صوتها وأي رائحة عطرة تفوح دليل على أنها فى المكان أو قريبة.. هى الدنيا والحياة والجمال والدفء والحنان.. هى الحب والأهل والأمل.. هى الحكومة والجيران والصداقة والنزهة والسياسة والمزاج والمستقبل.. هى المصير.

قرر أن يمضي فى سكته حتى لو دخل السجن وقضي عمره كله.. فيه لن يسمح لنفسه أن يتزوج غيرها، ولا لغيره أن يتزوجها.. انتهي.

فى الحادية عشرة والنصف بعد انطفاء نور غرفتها.. مضي إلى باب البيت.. لمسه لمسا هيناً لعله ينفتح دون ضجة. لم يرحب به الباب. حاول بقوة.. كان مغلقاً بإحكام.. لم يحسب حساباً لذلك، كان والد مودة ومنذ سنوات يترك الباب مفتوحاً حتى إذا جاء ولده الغائب منذ سنين بالعراق فى أي ساعة استطاع الدخول.

دار حول البيت من الخلف.. كانت بعد بيتين هناك شجرة. تسلقها فى يسر وقفز إلى سطح أقرب بيت، وكان مكونا من طابقين مثل بيت مودة وبينهما بيت من ثلاثة طوابق.. تعلق بأظافره ويديه وقدميه فى الجدار، وجرب عددا من المحاولات حتى صعد ونزل فوق سطح مودة، ونزل على السلم الخشبي المتنقل ودفع بابها فلم ينفتح.. نقر نقرا هينا، فلم تفتح النائمة، فكر أن يطرق بشدة، خاف أن يسمع أهلها فى الدور الأول، وإذا صحت ربما تصرخ، لا يأمن رد فعلها وقد خطط أن تجده أمامها مباشرة فلا تملك السبيل للخلاص.

صعد إلى السطح، وقبع على حرف بير السلم ليفكر فى الأبواب المغلقة والطرق المسدودة والفوران الذى يغلي بداخله والإصرار الغريب على عدم التراجع.. قام وجلس. دار حول نفسه وهو يحرص ألاَّ يلمس أرضية السطح.. يود أن يدخن سيجارة. لن يستطيع تحقيق هذه الرغبة حتى لا ينكشف وجوده المشبوه. غير خطته. لا سبيل إلا انتظار الحانوتي.. اطمئن على ما فى جيبه.. كان يرتعد بشكل مطرد.. ليس من البرد ولكن مما يمور بأعماقه.. قلبه يرتجف أيضاً ويواصل القرع على ضلوعه، كأنه يود الخروج.. عقله بركان ملتهب.. أعصابه متوترة كأنه مطارد بقوة لا قبل له بها ونجاته لا سبيل إليها إلا بعبور فضاء بين جبلين على حبل مهترئ.. لا تكاد تحمله قدماه، ولا تستقر على الأرض مؤخرته.. بدا من هول ما يزلزله كأنه يعذب صعقاً بالكهرباء.

تناهي إليه خبط باب الشارع وصعود الجسم الثقيل، قدما بعد قدم والخبط على درجات السلم، والكلمات المضطربة والمختلطة التى تواصلت حتى بعد دخوله الدار.

تأهب آدم وتعالي نبض قلبه وهو يخرج من جيبه زجاجة، فتحها وصب نصفها على منديل. ما إن أدخل الحانوتي مفتاحه فى الباب حتى أسرع آدم بالهبوط كقط على السلم الخشبي النقال.. صبر على رضا حتى دخل محشورا بين الضلفتين وقبل أن يرد الباب خلفه كان آدم قد ثني ساعده الأيسر بسرعة تحت رقبة الرجل السمين وضغط بمنتهي القوة عليها، وكتمت يده اليمني بالمنديل على فمه وأنفه.. تقلب الحانوتي وتلوي وحاول أن يزعق أو يتأوه.. حاول أن يدفع ذراع آدم.. حاول أن يرده بظهره العريض إلى الحائط ويضغط، وقد أفلح، لكنه بدأ يتهاوى أسرع بكثير من جبل جليد هجمت عليه فجأة حرارة شمس قاسية.

أصبح عبئا ثقيلا على صدر آدم فسمح له بالهبوط تدريجياً ليستقر مكوماً على الأرض، شاغلا معظم مساحة الصالة أمام عدد من كراسي الأنتريه القديم الذى مازال كما كان منذ عهد آدم وقد كشفه نور السهراية الشحيح.

احتاج أن يرتاح قليلاً وقد أحس أنه قطع نصف الطريق، ثم راجع نفسه مؤكدا إنه قطع الثلث فقط أو حتى الربع، لأن الموقف المحوري أو اللقاء المصيري لم يتم بعد.. ومودة ليست سهلة.. إنها قوية جسداً وروحاً.. لا تسمح لأحد أن يلوي ذراعها ويرغمها على ما لا ترضاه.. فرسة عنيدة ولها جبروت وكرامة.

رأي ألاّ يستخدم نصف الزجاجة الثاني، لكنها فى جيبه إذا لزم الأمر وكذلك المنديل والمطواه.. الأعمال العظيمة ليست سهلة أو فى متناول كل من يفكر فيها.. المشروعات الكبرى تتطلب فكراً غير تقليدي وغير طبيعي.. لابد من الجنون والابتكار.. وهذا المشروع بطله هذه الزجاجة.. تحسس جيبه ليطمئن عليها. وتذكر مندهشاً إنها فكرة عاصي.. ذلك الشاب الغامض الذى يقيم معهم كالشبح.. قال له ـ كاذبا بالطبع ـ إنه يريد أن يحصل على قرض من أمه وزوجها مقيم دائما فى البيت لا يبرحه، ومستعد يشوف العمى ولا يشوف آدم، ولن يمكنه من نيل مراده.. دلَّه عاصي الشبح على هذه الزجاجة المخدرة.

ـ كبر فى نظري الولد ومن هنا ورايح لن أسمح لأحد أن يمسه بكلمة.

لم ينس إغلاق باب الشقة من الداخل. مضى إلى حجرة النوم.. الجميلة النائمة عارية الفخذ الأيسر.. تعرف على السرير والدولاب.. النور يتسرب بشحوب برتقالي من النافذة ونور هامس ومختنق من سهراية الصالة.. أغلق باب الغرفة ثم تنهد من جديد لحشد العزم والإقدام على أهم مرحلة.. إما النصر والحياة السعيدة، أو الفضيحة والسجن، والموت أرحم.. هكذا فكر، لكنه قبل أن يبدأ الخطوة الأولي.. تصور أن النتائج يمكن أن تختلط، فليس شرطاً أن يعقب النصر سعادة.. لا يضمن تصرفات مودة، لقد خلقت من جنون.. حسم أمره بتأجيل النتائج.. التفكير إذا طال توقف العمل واقترب الفشل.

صعد إلى السرير بحذر الثعلب.. كان لابد أن يقدم القرابين ويعتذر.. انحني على الفخذ المضئ فى شموخ.. فقبله بحنان ولهفة، كأنه يقول له:

ـ حقك علىّ.

أمسك بركبتها اليسرى المائلة قليلا نحو اليمني فنحاها برقة نحو اليسار، مضي بين الفخذين يحل ويفك ويخلع ويسلك بعد أن جهز نفسه وكشف نصفه السفلي، ثم مضي فى ثقة نحو مفترق الطرق السحري بين الجنة والنار.. فوجئ بها تقول فى غبشة النوم:
ـ مالوش لازمة اللي بتعمله.. عايزة أنام.. ريحة البوظة مقرفة.
شجعه الكلام الكاشف على أن يتقدم سعيدا باكتمال سلامته.. يفتح الأبواب الموصدة بحنان وحذر، ويربت برقة على قبة الكنز، وتمني أن يقبلها مرات ومرات والنهل من الرضاب.. لكن الفرصة غير سانحة.. الأفضل سرعة اجتياز البوابة والنفاذ مباشرة إلى السرداب.

تعثر قليلاً وفتش وعالج، وفوجئ بها تبتسم نصف ابتسامة ساخرة ملفوفة بليل النعاس. اضطرب خشية أن تستيقظ فتهدم المشروع أو تنسحب الطاقة الحساسة المتوترة كما كان يحدث فى الماضي، إلى أن وجد نفسه يتسلل مهيباً إلى أعماق المغارة الدافئة وإذا بجنباتها تتسع له بالكاد وتحضنه.

فزت مودة من نومها مفتوحة العينين ناهضة نصف نهضة.. اضطربت تحته، وقبل أن تفتح فمها لتصرخ كانت المطواة فى عنقها.. ظلت مفتوحة العينين تطلق الأسئلة، بينما كان يهرس أسنانه إعلاناً عن الغضب واعتزام الإقدام على قتلها إذا تنفست.. أدركت أنه ليس آدم الأول.

أخيراً نطقت وهى تقدحه بشرر عينيها:

ـ إنت مجنون.. إبعد أحسن أوديك فى ستين داهية.

قال بهدوء وحسم:

ـ إنت مراتي فى السما والأرض.. لن يلمسك غيري ولو ذبحتك وذبحته، اهدي خالص.

تهاوي جسدها مستسلماً لا يري مبرراً للمقاومة.. اندهش لأن أعصابه المتوترة ورعبه الذى يخبط قلبه ويزلزل روحه من مودة والفضيحة والسجن وغضب الناس واستعراضهم للثورة من أجل الشرف.. كل هذا لم يؤثر على آلته التى صمدت فى وجه الأعاصير، وظلت متمسكة بموقعها المتقدم على جبهة الأعداء الأحباب وبعد أن توقف عن تهديده، أولي شهوته التركيز الكافي حتى تحقق أهدافها من أجل المحبوبة الغالية.

حط عليها يقبل خديها ورأسها وأنفها وشفتيها وعنقها العرم ثم بدأ يهبط بالقبل إلى ثدييها الذين مزق من حولهما صدر الثوب، كأن الثوب كان يتأهب لذلك دون مقاومة أو عصيان، ومع ذلك ظلت المطواة فى يده جاهزة لأي غدر.

تدريجيا شاركته لهفته وردت على أشواقه بأفضل منها، تدريجيا أصبح لا يعنيها ما الذى حدث وما الذى يمكن أن يحدث وأين هى وكيف عبر كل هذه البوابات وكيف انتقل من السطح إلى العمق؟.. كيف دخل وكيف فتح؟.. ومن هذا الذى يرافقها الفراش الصابر والمعذب.. هل تراه الزوج الأول وماذا حدث له وماذا حدث للدنيا؟ مطر من الأسئلة يهطل دون أن يبلل أو يهدم ولكنه لا شك يروي ظمأ كل الأرض.

أخيرا.. همد وتمدد فوقها.. عانقها وعانقته.. لم يتوقف عن تقبيلها والنهل من آبارها المتدفقة برحيق العسل. دفس رأسه فى شعرها واستنشق رائحة الأعشاب البرية الجافة.. مزيج من روائح النعناع والريحان والتمر حنة والقرفة والمسك.. أيقن إنها رائحة جسدها الذى انزرع طويلاً فى الصحراء حتى تصبَّر وتجفف.

بعد أن عرفها بنفسه كاشفاً عن شخصية جديدة وباهرة.. قالت له:

ـ امشي بسرعة. رضا زمانه جي. مش عايزة حد يشوفك.
ـ ماشي كلامك. بس ولا كلمة لمخلوق لحد ما نتصرف.

ظلت متعلقة به رغم إلحاحها عليه أن يغادرها على عجل، وظلا على عناق والتحام واشتباك بالقبل حتى بعد باب الشقة وعلى السلالم وحتى باب الشارع، ثم عبرت فوق الجثة المكومة فى الصالة ودخلت وتمددت فى سريرها المضيء بالفرح والنشوة إلى أن احتواها بحر من النوم العميق.

امتلأت أحاسيس آدم بوعي جنسي جديد، لم يدركه على وجهه الصحيح والعميق عندما كان زوجها. لم تبلغ به الشهوة سابقاً كل هذا الجمال وتلك اللذائذ، بل لم تكن ثمة رغبة إلا ما ينتج عن ملامسة الحرير والقطيفة أو النوم على فراش طري مريح.. حالة غريبة ومدهشة تتلبسه وتفتح له آفاق جديدةفى الجسد والنفس على السواء.. تنهد وهو يقول فى بهجة أسطورية:

ـ دار الحجر ورجع مكانه.

أحس إن مودة آلة موسيقية وأن الأنغام لن تخرج منها دون أصابعه.. كن شهيا تري الوجود شهيا.. كن جاهزا بأدواتك لا بأحلامك ولن ينفعك الكلام.

لم تعد طرية وناعمة فقط بل قادرة على أن تسكره.. أدرك الآن فقط السر فى أن الكهرباء تحتاج إلى سلك أرضي وسلك فضائي.. كان يريدها دائما زوجة جميلة وحنون وماهرة وشجاعة، أما بعد اكتشاف اللذة الجسدية التى ضربته فى نافوخه وفى كل كيانه فإنه لن يتركها ثانية واحدة تغيب عن عينيه أو عن أحضانه المحرومة، ولو فقد عقله وامتشق سيفاً ومضي يقطع الرءوس التى تحول بينه وبينها. تذكر الآن فقط كلام المفتح عند تقديم القرآن للنساء على كل الشهوات التى زينها للناس.

مضي عقله يلعب مع روحه ويتدافعان ويمرحان ويفرحان بالرزق الجديد الذى سيغمرهما حتى نهاية العمر.. مضي يركض ويرقص كطفل فى يوم عيد.. سعيد بجلبابه الجديد وقد امتلأت جيوبه بالنقود.

فى اليوم التالي طلبت مودة من رضا الطلاق فشخر لها وأبي. كلمت أباها فسمع منه ما لا يرضيه. بلغ ذلك آدم فأسقط فى يده.. كان كسمكة تشوي.. لم يتوقف عقله دقيقة واحدة عن التفكير والبحث ورسم الخطط حتى منتصف الليل حين استقر تماماً على سبيل الخلاص.

مضى إلى جلسة البوظة واندفع وهو يمسح دموعه نحو رضا:
ـ أنا وقعت من السما وأنت استلقتني
رفع الحانوتي عينه الوحيدة ليري محدثه، ثم ضحك وقال:
ـ كويس إن مش أنا اللي وقعت.. كنت ح تستلقاني ازاي.
ـ ابن عمى مات دلوقتي وهو غريب وعايزين نتاويه فى حته.
ـ خليه للصبح.
مد يده بخمسين جنيها
ـ دلوقتي أرجوك.
ـ كمان خمسين.
ـ بعد الدفن.

تدحرج رضا أمام آدم الذى كان يعيد ترتيب خطته ويطمئن على سلامتها.. مال رضا على سبيل فأخذ يغرف الماء ويضرب وجهه حتى وعي ما حوله.. تابع سيره مخترقاً الأزقة التى تفصل بين المقابر حتى توقف عند إحداها بينما كان آدم يواصل تقييم الخطة وتحديد الوسيلة واللحظة الفارقة، ولما انحني الحانوتي ليفتح قفل المقبرة المعلق ببابها المنخفض، حط عليه آدم ومر ضاغطاً بمطواته على رقبته حتى المنتصف، وسقط الحانوتي مرتطماً برأسه فى الباب الحديدي للمقبرة.. مسح آدم فى جلباب الميت مطواته، وألهمه تفكيره الشيطاني أن يفتح المقبرة ويلقي فيها المطواة، لكنه ارتعد لذلك الخاطر الملعون، وأسقطها فى صندوق قمامة كبير على بعد حوالي مئتي متر دافساً إياها فى أعماق كرنبة ذابلة.

أسرع إلى بيته وارتمي على سريره فى أسوأ حالاته، رعباً وعجزاً وتوتراً، وشرع يسأل ذاكرته عن سلامة الطريق وخلوه من كل أثر يدل عليه.. كان عليه أن يتظاهر بالنوم، كلما صدرت حركة من أحد سكان الغرفة وأن يحبك النوم بالغطيط الكاذب.
عاد يبحث فيما جري عن آثار أقدامه وأياديه.. عن كلامه مع من لقيهم، وما تبقي من أنفاسه أو رائحته، وما علق بملابسه أو حذائه، ثم دافع عن نفسه.. ماذا كان على أن أفعل وقد رفض تطليقها وأنا.. أنا كان يجب أن أنالها؟.. هى لي وأنا لها.. ياه.. كم فرحت بي وفرحت بها.. وتكرر على خاطره مشهدهما وهو يغادر بيتها مصحوباُ بها وهى لا تفلته وتكاد تطلب منه أن يواقعها على كل درجة سلم.. لا.. كان لابد أن يحدث هذا أو أنتحر.. مودة هى الحياة.. وأنا بشر.. بشر يا ناس بشر.

مع طلعتك تزهر فى الأرواح شمس الرب.
فاجمعينا على الجمال والحق ورُدَّينا إلى الإنسان.. الإنسان..
وابقي لنا الغواية والولع والتطلع فى عين الشمس..
لعلها تولد فينا بعض الحقيقة.

ندي الورد
أصرت على الذهاب إلى السوق رغم الحمْل الكبير الذى تنوء به.
طلبت من جارها سائق الميكروباس أن ينقلها والبضاعة إلى سوق الجمعة وهو فى طريقه إلى الموقف.. لم يتأخر كالعادة جابر.. شاب يتمتع بنخوة، كما أنه لا ينسي توصيات زوجته المتكررة للاهتمام بصديقتها وردة.

السوق يشغلها والبضاعة وأختها الصغيرة التى ذهبت مبكراً إلى المدرسة، وأمها لا تزال فى ذاكرتها رغم رحيلها منذ شهور وبطنها التى تثقل عليها وتؤلم ظهرها، والنشع الذى ظهر بقسوة فى جدران بيتها، لكن ذلك جميعه لا يشغلها عن صلاح. الحلم الجميل الذى تحول إلى كابوس بسبب الغياب المفاجئ وانعدام أي معلومة تطمئن البال المشغول وتشير ولو من بعيد على ملامح الطريق، إذا كان هناك طريق.

الوحيدة التى تعرف سرها جارتها مديحة زوجة جابر السائق.. ومن كرم ربنا وفاة أمها قبل أن تعرف شيئا عن حملها.. كانت فى الثالث، وقضت ليال طويلة ساهرة تعد وترتب الخطة التى ترسمها لنقل الخبر المشئوم إلى أمها.. أمها تعاني من متاعب فى القلب وتحتاج إلى تغيير صمامين وعضلة القلب ذاتها ضعيفة جدا، لا يمكن أن تحتمل خبرا كهذا.. من النادر أن يتحمله أقوى الرجال.. لو لم يتقدم صلاح بسرعة فهي مصيبة بكل المقاييس.

أمها عرفت صلاح وارتاحت إليه.. أدركت أنه شاب محترم.. وموثوق به وتأكدت من أنه يحب ابنتها.. لكنها لم تعلم بما جرى بينهما.

ـ ربنا يا بنتي يجعل لك معاه نصيب.

كانت يوم رحلت الأم فجأة تبكي وتلطم، لها ولأمها.. دموعها السيالة لم تتوقف أسفاً على نفسها التى غافلها الحب واستدرجها لمقتل، وها هو الحضن الوحيد يرحل.. الدنيا لابد سترحل معها ولا يبقي غير العذاب الذى سيحاصرها بكل الوسائل وهى وحيدة فى مهب الرياح العاصفة دون أب أو أخ أو خال ولا عم.. شغلت مكان أمها فى السوق.

هذا الطريق الذى تمضي فيه سيارة جابر سارت عليه مع صلاح وداست معه على كل حجر وعلى التراب والأسفلت.. عبرت شريط السكك الحديدية القديم الذى قال صلاح إنه سكة قطار البضائع المتجه من وإلى حلوان قادماً من العباسية، والآن أصبح على امتداد كيلو مترين مشغولاً بالباعة والبضائع وزبائن سوق الجمعة.. شرق كوبري التونسي.. تضخم السوق.. كل يوم يمتد فى كافة الاتجاهات ويخلق لنفسه المسارات والناس والبضائع. كيان عجيب ومثير.. قال صلاح إنه نموذج مثالي للحياة المصرية.. ما كل هذه المسافات التى قطعاها معا من الأبجية والسيدة عائشة إلى التونسي والإمام الشافعي والسيدة نفيسة ومجري العيون إلى الفسطاط، وميلا إلى السيدة زينب وأحمد بن طولون وباب زويلة والمعز لدين الله والغورية وخان الخليلي والحسين ومسجد الرفاعي والسلطان الحسن والخليفة.

ـ كنا مجانين بجد.. دراعه على كتفي وهات يا كلام.. كلامه حلو وما بيخلصش، وأنا مش عايزاه يخلص.
تنهدت وتساءلت:
ـ يا تري إنت فين يا صلاح دلوقت.. الله يسامحك.. خمس شهور ما اشوفكش.. أزاي يجيلك قلب تنساني وتنسي ابنك، وأنت عارف إنه جي.

وصلت السوق. فرشت بضاعتها وهى تلتقط أنفاسها بصعوبة. الجنين يكبس على مراوحها.. تشعر بوهن لم تشعر به من قبل.. رتبت الشيلان والإيشاربات والطرح.. أرسل لها الخواجة مع سامي الكيال ثلاث ربطات قمصان نوم حريمي تجذب الزبون وترمي قرشين حلوين. تسند بيدها اليمين ظهرها مرة، ثم تسنده بيدها الشمال.

مرت عليها توحة وبشاير.. قبلاها وسألاها عن الأحوال.
ـ نحمده..
ـ ما ظهرش.
فرت الدمعة من عينها.
ـ لسه.
قالت توحة: أما واد ندل بصحيح.
أسرعت وردة: اخص عليك يا توحة، أوعي تقولي عليه كده حتى لو غاب العمر كله.
ابتسمت توحه بفرح: آه من الحب.. براوة عليكي يا بت.. فرجه قريب.
ـ ما لناش غيره.
ـ وازي العفريت.
ـ يظهر عفريتة.
ـ كشفتي؟
ـ قالوا لي مادام هادية.
 قالت توحه:
ـ صح.. مادام هادية تبقي بنت، ولو إنها ساعات تِخلف.
قالت بشاير:
ـ المهم الستر والسلامة

فرحت بقمصان النوم ودعت للخواجة الطيب.. فرشت بعض القمصان الساتان ذات الألوان المبهجة، وسرعان ما أقبلت السيدات والبنات وتساهلت فى الأسعار.. كانت تحب البيع حتى لو بمكسب بسيط أو حتى بدونه.

الله جاب. الله خد.. الله عليه العوض.. نعمل اللي علينا وبس.

كان عليها أن تقف مكان أمها وتذكرت أن أمها اضطرت للوقوف على الفرش مكان أبيها الذى رحل بعد أن دخل السجن. دخل السجن بسبب الحشيش ومات بسببه.. قلب أمها مهدد، قالت إن هذا المرض وراثة فى العائلة فأمها ماتت به وعمها.

عرفت صلاح أمام مسجد قايتباي.. كانت عائدة مع أختها بعد أن أحضرتها من مدرسة الخليفة الابتدائية.. شكت أختها من الظمأ عدة مرات، فلما اقتربتا من المسجد اضطرت أن تسأل من فيه عن الماء.. كانت هناك سقالات من خارج المسجد وداخله.. التقاها صلاح.. طلبت منه الماء لأختها.. رد عليها بأدب:

ـ من عينيه.
أحضر الماء على عجل.. وبينما أختها تشرب.. سألته:
ـ طولتوا فى الترميم.
ـ قربنا.
ـ كان لازم فعلا يترمم.
ـ خاصة بعد زلزال 1992.
ـ فين شغل زمان.
ـ البال كان رايق.

شربت هى الأخرى وشكرته ومضتا، خرج وراءهما صلاح.. لا تدري السر فى إنها وقفت ونظرت وراءها.. تعلقت العيون لحظات.

بعد وفاة أمها اضطرت كي تسبك العملة بدلاً من الفضيحة أن تسافر إلى أقاربها وتتغيب أسبوعاً فى بركة السبع ثم تعود إلى بيتها.. تسرب خبر زواجها من ابن عمها الذى سافر إلى الإمارات.. ساعدتها مديحة على ذلك..

حزنت جدا لرحيل أمها التى كانت كل شئ فى حياتها، طمأنت نفسها وهدأت من حزنها بأن ربنا رحيم.. هي ميتة ميتة.. موتها قبل ما تعرف أرحم لها ولي..

حدثها عن قايتباي الذى حكم مصر 28 سنة وكان اسمه الأشرف سيف الدين قايتباي، واحد من أشهر السلاطين المماليك.. قالت له إنها حصلت على الثانوية العامة وكانت تحب التاريخ جدا، وتجتذبها سير العظماء.. قال لها إن عهده كان أفضل العهود فى بناء المساجد والمدارس والقلاع سواء فى مصر أو فى سوريا، وكلها تتميز بالنقوش الجميلة والحليات.. اصطحبها لتشاهد المسجد الفسيح وعمارته الرائعة. حدثها عن المنبر المطعم بالصدف والسقف المنقوش والزجاج الملون والمشكاوات والمقرنصات والنوافذ وأركان تعليم القرآن والحديث.

قال لها إنهم كلفوه بالعمل فى مسجد قايتباي، واشترك قبل ذلك فى ترميم مسجد ابن طولون والمؤيد والشيخ برقوق وأنه يحب عمله جداً لأنه يجمع بين أشياء جميلة كثيرة مثل الفن والعمارة والتاريخ، وقد تعود أن يقرأ كثيراً عن كل من يشارك فى ترميم أثره.

ضحكت لما قال لها: الناس غير متنبهة إن أهم مهنة فى الدنيا هى مهنة المرمم.
قالت: عمري ما سمعت عنها أصلاً.
سألها: إيه فى الحياة مش عايز ترميم؟.
حدقت فيه بدهشة: قصدك لما يكون بيت قديم وآيل للسقوط.

قال بثقة: مش بس البيوت.. كل شئ فى الحياة.. الطب ترميم.. كثير من قرارات الدولة ترميم.. الأكل ترميم.. عمل الخير ترميم.. الحب نفسه ترميم للقلوب.. إصلاح الأجهزة.. الأجازات.. صلاة الجمعة.. التوفيق بين المتخاصمين ترميم.. ترقيع الملابس والأحذية.

تحس اليوم دبيبا لم تحس به من قبل، لكنها تندمج مع حركة السوق، والبيع يلهيها.. قالت لها توحة ألا تقعد وتظل واقفة وتتحرك حتى يأتي الفرج.. البنت لابد تتقلب أو تعدل نفسها.

قال صلاح لها يوما وكانا يجلسان على عشب حديقة قلعة محمد على والأفق مفتوح، والدنيا تحت أقدامهما والجو بديع، والقلوب متأهبة للسعادة:

ـ باقي شهرين فقط وينتهي العمل فى قايتباي.. لازم نسلمه آخر مارس ولن يسمحوا لي بالغياب ولا يوم.
ـ أنا حامل يا صلاح.. لازم تتصرف.
ـ لن أتركك أبدا.. إنتِ هدية من ربنا.
ـ أنا مرعوبة.
ـ أرجوكِ تثقي بي.
أغمضت عينيها وأخذت نفسا عميقاً وقالت:
ـ طمنتني.. ربنا يطمنك.
 أمسك ذقنها التى يمتدحها دائما وقال:
ـ يللا بقي نسمي العيال.
ـ لو جه ولد ح سميه جمال.. إيه رأيك؟
ـ ليه جمال.
ـ على اسم أخويا اللي مات.. كان ناوي يبقي ظابط شرطة.
ـ أنا موافق على الاسم، بس مش علشان أخوكي.. سامحيني.
ـ عارفه ليه عاجبك الاسم.
ـ ولو بنت؟.
ـ أنا سميت الولد.. سمي إنت البنت
ـ أنا مجهز اسم ح يفرحك.
ـ يا ريت يعجبني ويكون أحسن من الأسماء اللى اخترتها.
ـ ندى الورد.
ـ الله يا صلاح.. اسم جميل قوي
ـ ده اسم بنت من بنات قايتباي.. عجبني.
لم يرد أن يقول لها: إنها بنت من بنات الغواية.. طرد الفكرة.

دخل صلاح قلبها يوم أن مرت مع أختها أمام المسجد، وفوجئت بالصغيرة تصطدم بالرصيف وتسقط، وبدا إنها موشكة على السقوط مرة أخرى، وإنها فاقدة لتوازنها.. جسمها النحيل يتهاوى.

أسرعت تنادي صلاح فخرج بلهفة وحمل البنت.. سارا معا نحو البيت فى الأبجية التى تبعد نحو مائتي متر، وكان عليه أن يصعد بها جبل المقطم الذى تحط على هضابه بيوت الأبجية. صفوف من البيوت عن يمينه وشماله.

يمضيان على الطريق الجبلي الصاعد بينها، تحاول وردة أن تأخذها منه فيرفض بشدة.. حتى وصلاً.. قدمته لأمها وعرض أن يحضر الطبيب لكنهما شكراه.. ألحت أمها فى بقائه.. استأذن عائدا إلى عمله، لتبدأ بعد ذلك المودة اليومية مع مرورها به ويفاجأها بالشيكولاته لها وللطفلة ولأمها، وتحمل له أحياناً من أمها طعاماً أو حلوى منزلية.

لام نفسه كثيرا ولامت نفسها، كيف سمحا لنفسيهما أن يتمرغا على سجادة العواطف الناعمة حتى يبلغا الذروة. غابت عنه عدة أيام فذهب يسأل عنها.. كانت إلى جوار أختها المريضة وأمها فى السوق تبادلا القبل.. أول مرة شخص يلمسها وهو الحبيب الذى تهيم به وهى الحبيبة روح حياته.. لم تكن تتصور أن قبلته إلى هذا الحد شهية، وإنها تكتب على روحها كلاماً عجيباً وتفعل بها فعل السحر.. فاستسلمت للقبلات التى سحبتها إلى الرمال المتحركة والقاع.

الجنين فى بطنها يتقلب ويخبط، وهى تنشغل عنه بالناس والحركة والبيع وترتب البضاعة وتبتسم فى وجوه الزبائن وتشارك النسوة اختيار ما يليق بهن.

لا يغادر وعيها صلاح، ولا يفتأ يتحدث إليها وهى لا تشبع من كلامه.. حكي لها قصة أحمد بن طولون ومحاولته الاستقلال بحكم مصر وتجاهل الخلافة الإسلامية فى بغداد، وقصة قطر الندي وزواجها العجيب.. حكي لها عن المماليك والقلعة ومحمد على وجدد لها المعلومات التى درستها.. أدهشها ولا يزال حديثه عن طومان باي أشرف المماليك وأنبلهم والذي هزمه العثمانيون وشنقوه على باب زويله لأنه قاومهم طويلاً ولم يستسلم بسهولة..

ها هو أمامها بوجهه المشرق ولسانه الحلو وبساطته وحنانه لا يحكي لها فقط عن أعلام التاريخ الكبار ولكنه يقص عليها حكايات النحاسين والخيامية والسروجية والمسافر خانة ومجري العيون.. وتتمني ألا يتوقف.. ذراعه على كتفها يمشيان وقد نسياً العالم.

تمنت لو يظهر من جديد ويمشيان معا، ويتجولان فى تلك الأحياء الشعبية القديمة التى لا تفقد بهاءها أبدا ولها روائح غريبة مثل البخور والمسك.. حالة تتلبس كل من يمر بها.. حالة ترمم الروح.. تنبهت إنها أصبحت تتكلم مثله.

طبطبت على قلبها وقال: لا أجمل فى الدنيا من الحبيب الوفي.

أحست فجأة أن روحها تكاد تنسحب منها.. صرخت. تداعي جسمها رغما عنها.. لمحتها نجاة ابنة توحة..اندفعت تنادي أمها..

وسرعان ما كانت توحة تدخل بحجرها تحت رأس وردة وتطلب منها التحمل وذكر الله.. قالت لها إن الخبط هبط إلى فم الرحم.. رفعت توحة رأسها إلى السوق لتستطلع المشهد.. آيات القرآن تتردد فى الفضاء قبل صلاة الجمعة.. تتسلل موجات الرضا إلى النفوس مع الكلمات المقدسة.. فكرت توحة.. يوم مبارك بإذن الله.. البنت بكرية.. يجب أن نلجأ للمستشفي، الزحام يملأ المكان ويسد عين الشمس.. جست بيدها أسفل بطن وردة.. أيقنت أنها ستلد فى الطريق.. ظهرت بشاير.. طلبت منها توحة تسخين حلة ماء على وابورها.. أسرعت بشاير وأرسلت بدلا منها نجاة.. فكرت توحة فى رشدي وفرج وحكيم تجار الموبيليا القديمة.. هل تحملها إليهم.. لكن المسافة كبيرة، والموضوع حساس..

ـ فيه بهدلة وميه ودم وخلاص وحكاية.. ليه نحرج الناس.

أخذت تتلفت على فرش كبير، وجدته إلى جوارها مباشرة.. فرش شفيق بائع عجلات الأطفال.. جرَّت وردة تحته.. وردة فاقدة الوعي تقريباً. صفعتها توحة على خديها عدة مرات برفق وهى تقول:

ـ احذقي.
ردت وردة بوهن شديد:
ـ مش قادرة.. إنت فين يا صلاح؟.
ـ مش وقته.. احذقي جامد وقولي يا رب.
ـ يا رب.. ابعت صلاح وساعدني.

عندما دخلت توحه وهى تجر وردة لاحظت أن المكان يشبه الخيمة.. رضيت عنه.. طلبت من ابن العجلاتي يفرش ملاءة كي يغطي بها الجانب العاري.. طلبت وسادة.. حضرت فى الحال ثلاث وسائد.. طلبت ملاءة حضرت فى الحال ملاءتان.. طلبت منديلا.. وصل ثلاثة، دست أحدها فى فم وردة، وقالت: احذقي.

 أيادي من وراء الملاءات تمتد بالمطلوب وأيادي من تحتها تتسلم.. وصل كل المطلوب ووصلت النسوة ولم يبق غير الفرج.
قبل أن ينتهي العمل فى المسجد بأسبوع وحوالي الساعة الرابعة خرج صلاح من عمله إلى الشارع. تمشي قليلاً نحو محطة الأتوبيس، وقبل أن يصل المحطة هجمت عليه سيارة فخمة جدا فأوقعته وهرست عظام رجليه.. الساقان والفخذان، اضطرت السيارة المسرعة للتوقف لأن السائقة الجميلة فوجئت بأن الأتوبيس أمامها يسد الطريق. أسرع إليها الجمهور صارخين فيها، قالت لهم:

ـ بدل الثورة دي شيلوه بسرعة.. حطوه فى العربية علشان أوديه المستشفي.

اهتم بعضهم بتسجيل رقم السيارة وانحني الآخرون فسحبوا صلاح من تحت السيارة وحملوه، وقبل أن يفتحوا الباب كانت السائقة الشابة قد طارت بعد أن تحرك الأتوبيس، وصلاح فى غيبوبة كاملة.

نقلوه إلى المستشفي وجاء الضابط ومساعده للتحقيق.. سلمهم الشهود بيانات السيارة، حضر أمين الشرطة إلى المستشفي فى اليوم التالي وقال لأهل صلاح إن الأرقام غير صحيحة وغير موجودة بالمرور.

أثر ارتطام رأس صلاح بالرصيف على وعيه، وواصل الأطباء علاجه بوضع المسامير والشرائح والتجبيس مرة بعد أخرى، وهو يكاد لا يدرى من أمره شيئا.

ابن خاله ضابط فى شرطة السياحة له صديق رائد فى شرطة المرور طلب منه البحث عن الأرقام.. قال له بعد البحث إن الأرقام رفعت تماماً من القوائم وتم تركيب لوحات جديدة للسيارة التى ضربت صلاح ولا تشغلوا بالكم.. الموضوع انتهي.

انتظرت وردة طويلاً وبطنها لم تكن تنتظر ولا الجنين.. واصلت بقدر ما يتاح الوقت السؤال عن صلاح.. العمل انتهي فى المسجد.. إدارات هيئة الآثار كثيرة وفى كل مكان.. لا تعرف غير أن اسمه صلاح.

كل شئ كان ضبابيا والرؤية غائمة، والذاكرة تخلو من المعالم.. كل ما فيها يفر.. تدريجياً ومع عمليات الترميم المتواصلة بدأ صلاح يسترد وعيه ويتنبه لمن حوله ويسأل عن وردة، ولا أحد يعرف من هى وردة.. يعرف بيتها الذى زارها فيه عدة مرات سواء فى حياة أمها أو بعدها.

أخيرا وعلى عكازين يحملانه من تحت إبطيه استطاع أن يذهب بسيارة أجرة إلى الأبجية.. صعدت به السيارة حتى بيت وردة، لم يجدها.. سأل عنها.. أنبأه بائع فى كشك مجاور إنها فى السوق، حملته السيارة إلى بدايات السوق ولم تتقدم.. مضي ينقل خطوة بعد خطوة ويحاول تذكر اسم سيدة كانت تجاورها وتحدثت عنها كثيراً.. حكت له عن المرأة الرجل.. المرأة الصديقة الكريمة الحنون.. المرأة الأم والحضن والأمان.. تعرض كثيراً للدفع من مسرعين لم يقصدوا لمسه، أوشك الزحام أن يتسبب فى سقوطه عدة مرات..

تذكر أنها كانت تبيع الشيلان والطرح.. على مهله سار يدقق فى البضاعة المعروضة وفى وجوه البائعات ورأسه لا يكف عن محاولة التقاط المفتاح.. قبل أن يسأل فتاة تبيع الشيلان والطرح وقمصان النوم الحريمي.. كانت نجاة التى واقفة تبيع بضاعة وردة، تذكر اسم المعلمة توحة.. فسألها عن توحة.. خشي ألا تعرف وردته.

ـ قالت: فى مشوار صغير.. أي خدمة؟
قال: لا.. كنت عايز أسألها عن..
 نبتت فى خاطر نجاة نبته صغيرة كما الياسمين، فاح عطرها على وجهها ألقا.

كيف عرفت نجاة إنه هو.. هل لأن وردة تحدثت معها عنه ووصفته تماماً.. أم أنه مجرد إحساس عابر أرادت الأقدار أن ترميه كالرهان على مائدة اللحظة المحمومة، وكم للأقدار من علامات وأسباب وألعاب!

ابتسمت نجاة وسألته فى شك يتأهب للفرح بالاكتشاف الذى تثق فى صوابه:

ـ إنت صلاح؟
دهش صلاح واهتز فى وقفته.. كيف يمكن أن تعرفه فتاة بين مليون شخص فى السوق.
لم يستطع أن ينطق.. اضطر أن يهز رأسه مؤكدا إنه هو.. انقشع فجأة الغمام الذى كان يغلف الدنيا.
انحنت نجاة ورفعت الملاءة، فاجأها صراخ الوليدة
احمر وجهها وصرخت وانتفضت واقفة تهلل ثم قالت فى سعادة غامرة:
ـ ألف مبروك.. وشك حلو.
فرت الدموع من عيني صلاح وكاد يسقط. سقط بالفعل أحد العكازين.. همس.
ـ ندي الورد.
أحس أنه لا يردد الاسم وإنما يشمه.. مضي يشرب من عبير السعادة الذى بدأ بالعثور عليها.
أسرع إليه شاب بكرسي، جلس وسأل نجاة:
ـ ممكن أدخل؟
انحنت نجاة ورفعت الملاءة.. حدقت فى وردة الغارقة فى العرق والذبول، بدا واضحا عليها الإنهاك بسبب الجهد الذى تطلبه خروج روح من روح عبر مضيق الحياة المذعور.
قالت بتردد فرحان: فيه واحد عايز يشوفك.
لم تستطع وردة أن تجيب ولا أن تخمن.
طلعت فيها توحة:
ـ واحد مين يا بت.. إنت مجنونة.
نهضت نجاة وأنزلت الملاءة.. قالت:
ـ كمان شوية.. هات له يا شوقي ينسون.
أخذ يتلفت حواليه ويبلل ريقه الجاف ويرفع وجهه إلى السماء ويتمتم بشكر الله ويمنع دموعه.
جاءه شوقي بالينسون.. طلب منه شراء باقة ورد من بائعة الورد القريبة.
رفعت نجاة الملاءة وانحنت تطلب الإذن
ـ الأستاذ صلاح عايز يدخل.
هبت وردة برأسها كأنها كانت تحلم واستيقظت فجأة:
ـ مين يا نجاة.. مين؟
ـ حبيب القلب يا وردة
طفرت الدموع من عيون وردة ومن جسمها كله، دبت فيها بعض العافية.. التفتت إلى توحة وقالت:
ـ والنبي يا توحة أشوفه.
ـ مش وقته.
 كانت الخيمة ممتلئة بالحلل والطشوت والمياه والدم والنساء.. بسرعة جهزوا المكان وأخلوه مما لا لزوم له..
ما زالت وردة تتوسل:
ـ أشوفه يا توحة.. سايقة عليكي النبي.
ـ هاتيه يا نجاة علشان نرتاح من مُحْن النسوان.
ـ القلب وما يريد يا توحة
كانت توحة بسرعة قد سوت شعر وردة ومسحت عرقها ومدت يدها بكوب ماء بسكر.
رفع صلاح بحذر وتردد طرف الملاءة وقال:
ـ حمد لله على السلامة.
لاحظت وردة العكازين فانفرطت فى البكاء.. ارتبك صلاح وفهم سر بكائها.. مد يده بالورد ولم يستطع أن يقول:
ـ وحشتينى يا وردة.. سامحيني.
انسحب ليداري دموعه، وتلفت حواليه، سأله العجلاتي:
ـ طلباتك يا فندي.
ـ عايز عربية تروحنا أنا ومراتي
ـ مراتك!
ـ وردة
ـ حالا يا أفندي

ركبت نجاة معهما السيارة حاملة ندى الورد وأمها ملفوفة فى أحضان صلاح، حولها ذراعه والبطانية المرسوم عليها حصان، وباقة الورد تحت خدها، تميل عليها بين الحين والحين لتشمها وتغمض عينيها لتحتفظ بطعم الهناء الذى وصل أخيرا ليغلق كتاب الحزن.