إشكالية الزمن ومحاولة الإنسان المستمرة في مواجهتها وفض أسرارها، تمثل محور قصة الكاتب العراقي. حيث يعتمد السرد فيها على المجاز الشعري، ليقتنص ألوان طيف المشاعر التي لا تنتهي في مواجهة الزمن وتقلباته.

قرين الوقت

بيات مرعي

أيام سبعة والشيخ يشدّ تأملاته، يجول بنظراته عبر جدران حجرته بعينيه الوديعتين الرخوتين المثقلتين بنظارةٍ ثقيلة، لم يوقف كرسيه الهزاز إلا قليلاً، تاركاً نفسه مشغولةً في قراءة سير الرجال العظماء، أو لقضاء بعضٍ من أمور متواضعة، ليطوي ملل نهاره البطيء، ظل يرقب عقارب ساعاته القديمة بشكل متناوب وبدقةٍ عالية. وعلى مرأى من بصره المبتلى بغشاوةٍ ضبابيةٍ شفافة مرّ قطار البلدة مسرعاً وعلى متنه رزم المسافرين وبطاقات احتفال لدعوةٍ للقلق، تطايرت بسريةٍ تامة على الذين لم يغادروا أمكنتهم..

قفز شعور بالخوف خدش سكك الوقت، بينما النافذة المرمرية توارثت سماحها بنظراته وهي ترقب مساراتٍ نائية. ثلاثون عاماً وهو مغمور بإحساس ارتباك الزمن، وفي وقتٍ متأخر أخذ يواكب صيحات ساعات حجرته الإحدى عشر، المعلقة بنعومةٍ على الجدران المشبعة برائحة دخان عجلات السكك الحديدية./ وما إن يظنّ أن الديكة قد بدأت أحلامها/ حتى يضيء الشمعدان العملاق الذي بجانبه مثل كل مساء، منتظراً صوت قرع الأجراس بتوحدٍ تام، فلقد اعتاد ذلك منذ أمدٍ بعيد، ينشغل بتراصفها كسرية مشاةٍ متأهبة للصولة، ثم يقتفي الأثر لصوت يولد في مجرّات الصمت/ تنهال الشموع بذرف دموعها/ ليصحو في فجرٍ آخر فتندفع الأشياء كلها مبعثرة/ كأن الكون قد تعثر أو أن قنبلة تفرقعت بين عساكره الموقوتين/ يزيل شيئاً من حيرته ثم يوحد الصفوف مرةً بعد أخرى، فتزدحم التكهنات في صدره من أن أشباحاً غرباء يشاركونه سريره الهزاز.. ساورته فكرة رصدٍ عميقة، محاولاً النيل من تناحرات الوقت، خشية أن يضيع لحظة شعوره بالموت، والتي حرص على تدوين ما سبقها في سجل مذكراته، أو يكتشف زمن الأشياء القادمة من رحلته الطويلة. وهو يقبض على أملٍ متواضع، أن لا مناص من محاولةٍ أخرى لشيءٍ أشبه بمسك عروة الزمن، وهو يدرك أن الساعات المعلقة كلها لم تمسك يوماً بأصحابها على اختلاف أنواعها وألوانها وأحجامها/ ساعة الوالي/ وساعة مفتش المحطة/ والساعة الخشبية المزركشة/ وساعة أبيه الفضية/ وأخريات كلها مخلفات ورشته التي تراكمت في نسيانٍ ثقيل، جميعهم اتفقوا على الرحيل دون موعد، وهم يحملون زمام الوقت في نبض دقاتهم/ الوقت يمر بالشمعدان دائماً/ يتلاشى صوت القطار والشيخ يحرق حكايات امتلاكه للساعات في صفحاته المصفرة، ظل يخفي ذلك كأنه سر مغلق، ساعات تطمطم تاريخها بعد أن شهدت عصوراً مختلفة، وما زالت تحمل رائحة عرق حامليها الأولين، صوتها يتهدج في فضاء الحجرة، وعقارب تحرث في الوقت والخوف معاً، ذلك الذي يحتضر في صدره دائماً فيستل منه حكاية المقابر الممزوجة بالناس، كان ظنه أن أصحابها ينؤون تحت وطأة الوقت وهم يرصدون حركة اللعبة التي تشتت أسرارها، يطلقون زفير أفواههم المشلولة نحو الشمعدان الذي بدأ يتقزّم/ فتهتز لهيبه/ ككرسيه الهزاز المصنوع من الخيزران، والذي التحم به طويلاً وبرشاقةٍ عالية. حينها كانت نظراته تفلت خارج مداراتها لتطارد صوراً لفها كهف الذاكرة وهو يكوّر جسده ليحشره في إطار نافذة دارهم المرمي المطلة على انتماء رغباته، يرقب أطفال محلته الذين تحرروا من وصايا آبائهم، حين كان يدس ذراعيه بين شبكة النافذة الحديدية، ليحلقوا بالكرة إليه فيصطادها بقلق وابتسامة ضعيفة موزعة فوق شفتيه المتيبستين/ تتوقف اللعبة/ محدثةً ارتباكاً في وقتها، فتموت الثرثرات عنوةً، يدركه حزن قديم، تنبهه (تكتكات) ساعته المتسربلة أصواتها من جديد/ دون مبالاة/ يبقى مجروراً إلى ذلك الكهف العميق/ قرع جرس المدرسة بسفاهةٍ مطلقة/ يبدأ الدرس بدفء كفٍّ مصموم في شتاءٍ بارد/ المعلم الطويل/ عصاه الخيزران/ بدلته الكاحلة/ وهو يجول بخطواته بين ممرات الجالسين، أو قرب نافذة الصف التي تجيء بصوت الأحرار من شارع قريب. تتقافز المجادلات المتواضعة في وجوه خجلى بتقاطعاتها....

ـ اقرأ أنت...
* يقرأ بخوف، رغم أنه لا ينظر في كتابه...
ـ توقف... من أين تعلمت هذا...؟
* من الكتاب يا أستاذ...
ـ ولكننا لم نتوصل إلى هذا الموضوع بعد...
* لقد قرأت الكتاب بأكمله، في أوقات فراغي الطويلة
ـ اجلس... ولا تسرع مرةً أخرى...

يجلس بحيرته كلها، فتختلط الأوراق، كان متحسباً من عهدٍ بعيد لمطاردةٍ غريبةٍ، منذ أن ولد الشمعدان من رحم النار، ساعة انتصب قرين للوقت في إحساسه المرهف، لحظة انطلاق قطار البلدة/ فأحدث نزيفاً في شعوره وسطور مذكراته، لتطفح يداه باليأس، يحاول الفرار على أنغام موسيقى مصنوعة من رحيق تأملاته، يهدأ الاهتزاز لحظة ما، لكنه لا يبطل التحديق في عقارب تساؤلاته، حينها أدرك أن الساعات ستثور مثل بركان ينحدر، وأن رسل الأصوات تلاحق بعضها كنجوم سائبة... وعقب فترة صمت قصيرة... حاول أن يوقف الخيزران للحظة، ويشد على ركبتيه العقيمتين بقوةٍ مفتعلةٍ كي تولد منها الخطوات، أطبق على خواطره، تعكّز بإصرارٍ على منافسة الخصم ليبطل جولة الارتباك/ دون جدوى/ فلقد شدّ الخيزران الطوق عليه رغم تعدد محاولاته، كان متأملاً لانتباه أدق.../ يعيد الإمعان في التحديق يائساً/ كأنه يرصد وقتاً مضى، أو كمراهق تائه يلملم ذاكرته المحملة بالطبول والصور.../ أتربة المعسكرات/ تتلامح في رأسه/ صداقة الأمكنة التي أرجحها القلق/ أخبار الصحف تحت ضياء القمر/ السير في خطوط ثلاثية منظمة/ زحمة الأصابع في طبق مائدة هواء ساخن/ ثرثرة الربايا المختنقة بالنكات/ بوق الوقت قابض المسافات والتكشيرات.. تحتج الذاكرة، كان صوت الساعات عواءً جديداً.. والكل على مضمار الجري المبعثر/ ساعة تشير إلى العاشرة وأخرى إلى الخامسة وأخرى إلى الثانية وأخرى و... و... الأصوات تتشابك. تسبح الحيرة في جسد الشيخ بحزنٍ عميق، يستفيق ألم رصاصة قناص، بحثت يوماً عن قامة باردة... تونع (التكتكات) وليدة مبعثرة مرةً أخرى، يطاردها صوت الخيزران المهتز دائماً كحصان متوحش يأمل في المشاركة بالسباق وفوران جياده... الشيخ يتعلق بانتظار أخير لعودة القطار ذاته، يتلفت برأسه حذراً ليرى العزلة مرشوشةً حول كتفيه/ وما زال القطار غائباً/ والشمعدان قد تهيأ للملمة وصال لهيبه/ تنهدت عزيمته وتوهنت صلابته في مجابهة اهتزاز الخيزران/ الشمس أخلت بوعودها للظلال.../ اعتصم/ لأجل ترقب آخر، الساعات تاهت دواليبها، ويداه تواطأتا وهي تقترب من النافذة، حتى قدماه تقاعستا عن مواصلة اهتزازاته، رشق المطر يداهم النافذة بإنفلات موحياً للقلق، يموت الشمعدان، اللهب يتوارى بالماء، والساعات تنشد ضجيجها على سطوح جدران تتزايد عتاقتها، والحجرة تصر تحفظها للأشياء بصمت، ولم يبق في المكان سوى سرير عتيق/ كرسي هزاز متكسر الصيحات/ وعشرات الكتب على منضدة كسيحة/ مذياع أخرس وأعقاب سكائر منقرضة/ تمثال شمعدان وتقويم ممزق/ أوراق آخر الخواطر/ وأمنية يابسة في هصر حفنة من الوقت مثل تراب.. أو عودة القطار من رحلته المجنونة....

تك... تك... تك... تك...

صوت يسترسل في الترتيل وهو في طريقه إلى بوابة المقبرة التي لا وقت لها، بينما شوهدت ساعات عتيقة كانت قد بيعت في مزاد علني رخيص...