في هذا الديوان يتوقف الشاعر أمام تيمة "الجوع"؛ تعبيراً عن الهم الاجتماعي، واللافت أنه يقوم بتوسيع دلالته فيجعله شاملاً لكل الجوارح: القلب واليد والفم والأنف، والمعدة، فضلاً عن الروح. وتصبح الأيام والأحلام جائعة. فالجوع؛ ليس فقط عدم وجود ما يسد الرمق، إنه يبدأ بذلك لكنه مع الوقت يحيط بكل شيء.

قصائد واقعية ترثي العالمَ وتحكي تاريخ القهر

محمد السيد إسماعيل

 

يظل الهم الاجتماعي هو التيمة الموضوعية المهيمنة على مجمل دواوين الشاعر كريم عبد السلام، وهو ما يعاود الظهور – بصورة كبيرة – في ديوانه الجديد "أنا جائع يا رب" (دار الأدهم). ولا شك أن شيوع هذه الظاهرة يبعد كتابته الشعرية عمّا تمّ الترويج له من أن قصيدة النثر منشغلة وحسب بـ "كتابة الجسد"، والدوران حول هموم الذات الفردية. على أن الأهم من ذلك هو أن شعر كريم عبد السلام يثبت تعددية قصيدة النثر وتمردها على فكرة النمطية والمواصفات الجاهزة النهائية. فالشعر عموماً، وكما يصفه حلمي سالم هو "قوس قزح" يتسع لأشكال جمالية غير محدودة. في هذا الديوان يتوقف كريم عبد السلام أمام تيمة "الجوع"؛ تعبيراً عن هذا الهم الاجتماعي الذي أشرت إليه، واللافت أنه يقوم بتوسيع دلالته فيجعله شاملاً لكل الجوارح: القلب واليد والفم والأنف، والمعدة، فضلاً عن الروح. وتصبح الأيام والأحلام جائعة.

فالجوع؛ ليس فقط عدم وجود ما يسد الرمق، إنه يبدأ بذلك لكنه مع الوقت يحيط بكل شيء. يقول: "أنا جائع يا رب / قلبي جائع / ويدي جائعة / فمي وأنفي وروحي / وأيامي وأحلامي / وابتسامتي جائعة" (ص 34). ومما يلفتنا في هذا الديوان أنه قد تخلّص مما كان يسمى بالمعجم الشعري الذي كان يستبعد الكثير من الدلالات بوصفها غير شعرية. فوجدنا معجماً دالاً على الشعر الإحيائي ثم الرومانسي، لكن الشعر الحديث، بدءاً من حركة الريادة التفعيلية، تخلّص من هذا، ورأى أنّ من الممكن "شعرنة" ما يريد من دلالات لغوية بإدخالها في بناء يحولها من الاستخدام المتداول إلى الوظيفة الجمالية.

 

آلية الترميز

وهذا ما نجده في الديوان الذي بين أيدينا منذ العنوان بأسلوبه الخبري المباشر المتخلص من المجاز، أو وصف "البعوض" بالمحترم على سبيل التهكم، في القصيدة الأولى التي تنتهي بضرب هذا التوقع حين نكتشف أن الشاعر لا يعني البعوض تحديداً؛ بل يعني كل من يمتص دماءنا، وأن البعوض ليس سوى رمز دال فحسب، يقول: "أيها البعوض المحترم / ليس لدينا مشكلة أن تمتص دماءنا / كل يوم / نعم كل يوم / لكن هل تتكرم بأن تستنزفنا بصمت / دون طنينك الاحتفالي / الذي يشعرنا أننا فريستك المفضّلة "(ص7). وما يدعم هذا التأويل هو أن القصيدة تبدأ بالحديث الطويل عن الأغنياء الذين "يسيرون محاطين بحراسهم / تحسباً لطلقة طائشة"، والذين ينامون و"تحت مخداتهم سكاكين ومسدسات / لمواجهة الكوابيس". بينما الفقراء؛ وهو ما يصنع المفارقة، "لا يخشون الشياطين ولا الملائكة"، وليس لديهم دموع يذرفونها، وينامون ملء جفونهم في البرد والحر، على حد السواء؛ لأنهم لا يملكون ما يخشون عليه. ويستمر الشاعر في آلية الترميز فيبدو الحديث في قصيدة "جريمة قتل"، وكأنه عن "صاحب المخبز في أول الشارع" الذي يخطط سارد القصيدة لقتله. لكنه عندما يقول إن القتيل – على اعتبار ما ينوي – "لديه الأرغفة التي تكفي العالم"، نكون أمام تأويل آخر، يستدعي إلى الذهن السلطة الرأسمالية العالمية. هذا التأويل يتوافق كذلك مع قصائد أخرى مثل "منذ يومين" حين يتحدث السارد عن "الغريبة" التي "لم تأكل منذ يومين"، بينما "مركبات الفضاء تنقل الذرة والشعير والقمح إلى المريخ / والشركات تلقي أطنان الطعام في المحيط".

بصيص من أمل

وفي هذه الحالة يصبح مجرد "الابتسام" معجزة لأنه ينبئ – في عرف المحرومين – بحدث فادح على نحو ما اعتادوا من قلة لحظات الفرح وطول أمد الحزن والخوف، يقول: "كلما ابتسمتُ / ظهر اللصوص من تحت الأرض / وسرقوا نقودي وحذائي". فهو مطارد دائماً من جانب هؤلاء اللصوص، ومن ذلك الشرطي الذي كلما ابتسم اشتبه به وقاده إلى المخفر. وهكذا على مدار القصيدة التي نكتشف خلالها أنه مطارد أيضاً من المارة وصاحب العمل، حتى تعوّد أن يحيا متجهماً ويعلق ابتساماته "على شجرة أمام البيت". وعندما يضيق بأحد هؤلاء المحرومين، عالم البشر، يلجأ إلى النيل: "أنا المهزوم الذي يحدث النيل / وآمل أن يجيبني الماء". عندئذ يفاجأ أن الأسماك قفزت بحماسة "إلى حقيبته الخوص حتى امتلأت / وطمأنه النيل بصوته العميق: أنا معك / ستجدني هنا دائماً". هذه الطبيعة الحانية تعكس بصيصاً من الأمل في حياة مختلفة، كما يعكسه مجرد حلم: "أحلم كلّ يوم أنني أدخل بيتي بعد يوم عمل شاق / فأجد زوجتي تعد العشاء/ وأطفالي مبتهجين بعودتي / ويتحلقون حولي". لكن المؤلم أن يكون هذا الحلم مجرد أوهام عابرة تنقلب إلى نقيضها حين يكتشف أن زوجته قد تركت البيت وأطفاله ينتظرون وأنه من دون عمل.

تناص مع التراث

يشيع في الديوان استدعاء أحداث تراثية؛ من قبيل: "أنا لا أقصد أن أرفع صوتي / لكن ضجيج السيارات عال من حولي / يتشاحنون ويقهقهون ويهتفون / زحام وأنا متعب / زحام والغربان تنهش رأسي" (ص14). فالسطر الأخير يستدعي حلم أحد صاحبي يوسف عليه السلام في السجن، وكان يعمل خبازا في قصر الملك، حين رأى أن الطيور تنهش رأسه، بالإضافة إلى المفارقة بين هؤلاء الذين يتشاحنون ويقهقهون ويهتفون و"الأنا" التي يفسح لها الشاعر المجال للحديث بضمير المتكلم، يهدها التعب والوحدة والاغتراب. وعندما يقول الشخص نفسه: "لماذا لم تحولني حجراً يا رب"، فهو يستدعي قول الشاعر: "ألا ليت الفتى حجر/ تنبو الحوادث عنه وهو ملموم".

ويختلف هذا الحجر عن الأحجار التي يفكر في حملها ويقول لأطفاله: "كلوا"، وهو ما يستدعي أيضاً قصة المرأة التي كانت تطبخ الأحجار لأطفالها على زمن عمر بن الخطاب، وهو ما يظهر أيضاً في "غرباء هائمون": "أمهات يطبخن الحصى / وأطفال يحلمون بأشجار الفاكهة وكراسات الرسم" (ص60). وفي أحد المقاطع نجد استدعاء لشخصية "الكاتب المصري" الذي يجلس القرفصاء واللوح على ركبته، مسجلاً عدد العمال الذين يبنون المعابد والأهرامات، مقابل "رغيف وكوب من البيرة"، وعندما ضعفت عيناه سحبوا اللوح والقلم من يده وركلوه إلى الخارج. هو إذاً قهر ممتد من زمن بعيد وحتى وقتنا الراهن. كما يستدعي عبارة "الكل في واحد" الواردة في كتاب "الخروج إلى النهار". وهي العبارة التي استخدمها توفيق الحكيم في "عودة الروح".

سمة التكرار

وأظن أن التكرار سمة واضحة في كل دواوين شاعرنا، وهو ما نجده هنا أيضاً، بحيث يكرر كلمة "شحاذون" في القصيدة التي تحمل الاسم نفسه خمس عشرة مرة. لكن هذا التكرار لا يقوم على التراكم الكمي بل يحمل تلاوين عديدة للمعنى. وهنا يتحول التكرار إلى إضافة نوعية. وفي القصيدة المركزية "أنا جائع يا رب"، يكرر كلمة "خبز" اثنتي عشرة مرة رأسياً، وثلاث عشرة مرة أفقياً، مستغلاً تشكيل فضاء الصفحة الذي أتاحه شعر التفعيلة وشعر قصيدة النثر. وفي قصيدة "روائح"، يكرر لفظة "رائحة" سبع مرات كي يعدد تلك الروائح الواردة في العنوان. وأحياناً يكون التكرار بقلب الجملة بحيث لا تقول الجملتان إلا معنى واحداً: "لا يعمل لأنه يغني المواويل / يغني المواويل لأنه لا يعمل". وفي قصيدة "منذ يومين" يختم مقاطعها بجملة واحدة: "وهي الغريبة لم تأكل منذ يومين"، بعد أن يقدم ما يناقض حالة هذه "الغريبة"، وهي جملة تصنع إيقاعاً داخلياً استعاضت به قصيدة النثر عن الإيقاع التفعيلي.

وفي "العشاء الجميل" يوظف الشاعر بنية زمنية متعاقبة حين يتتبع يوم أسرة فقيرة ساعة بعد ساعة، متوقفاً أمام الساعة التاسعة تحديداً، ومكرراً إياها أربع عشرة مرة بحيث ينقلب الحدث باكتشاف الأم – من خلال حركة النمل – مكان أرغفة جافة وقليل من الملح فتصنع حساء وتوقظ أبناءها الجائعين ليأكلوا، وتشاركها الطبيعة فرحتها: "في الساعة التاسعة يسقط المطر في الخارج راقصاً / في الساعة التاسعة تتحدث النجوم عن الأحلام / في الساعة التاسعة تتفتح الزهور" (ص82).

هذا الاكتشاف يرادف "الحلم" الوقتي الذي أشرنا إليه والحلم الذي عاود الشاعر حين يقول: "في يوم ما / أراه كما أرى الكلاب في المزابل / سأجمع أطفال الشوارع / حول وليمة لا تنتهي / في يوم ما / أراه كما أرى القهر في العيون / سأعطي الشحاذين حقائب مملوءة بالنقود / وأنا أهمس في آذانهم: استمتعوا". ولا شك أننا قد لاحظنا في بعض النماذج السابقة توظيف الشاعر لتقنية السرد. ويمكننا أن نشير هنا أيضاً إلى انتقاله من عصر إلى عصر. فبعد حديثه السابق عن الفراعنة ينتقل إلى العصور الإسلامية: "منذ دهور أسجل أموال الخراج في بيت المال.../ وآخر اليوم أتلقى كسرة جافة وشربة ماء". وهي كما نرى حياة شبيهة بحياة "الكاتب المصري". ثم ينتقل إلى العصر الحديث متوقفاً أمام أحد العمال. واللافت هو تشابه مصائر الثلاثة: الكاتب الذي ركلوه إلى الخارج بعد أن ضعفت عيناه، وكاتب الخراج الذي قطعوا يده بتهمة السرقة، والعامل الذي طردوه وأغلقوا المصانع؛ "دون أجر / دون طعام / دون كلمة تعاطف واحدة". إننا أمام شاعر يرثي العالم ويحكي تاريخ القهر.

 

اندبندنت عربية