يكشف لنا الشاعر والمترجم المغربي هنا عن كيف أسقطت الحرب الدائرة في غزّة العزّة الأقنعة عن الوجه الغربي القبيح، في ألمانيا وفرنسا خاصة، فبعد حجب معرض الكتاب الألماني جائزة عدنية شبلي، لم تستطع مؤسسة هاينريش بل حجب جائزة حنة أرندت عن ماشا جيسين، وإن عرقلتها: ألأنها يهودية وليست فلسطينية؟ تجيب جيسين في الحوار المنشور في نفس العدد.

وكأن جيل ديلوز حيّ بيننا

فلسطين أسقطت القناع عن الوحش الغربي

رشـيد وحـتي

 

في سياق «صيد الساحرات» ضد أيّ نقد للنظام الصهيوني، سحبت دار Fayard الفرنسية مِنْ كلِّ منافذ البيع الترجمة الفرنسية لأحد أهم الأعمال البحثية حول الإبادة الجماعية الكولونياليَّة: «التطهير العرقي في فلسطين» (2006) للمؤرخ إيلان بابيه. منذ 7 تشرين الثاني (نوفمبر)، سحبت الدار الكتاب، الذي نُشر في طبعته الفرنسية منذ عام 2008 مِنْ قِبَلِ الناشر الباريسي نفسِه، وبالتالي لم يعد ممكناً لبائعي الكتب طلب نسخ منه لزبائنهم. وحتَى على المواقع المخصّصة للبيع، تتم الإشارة إلى أنّ الكتاب «توقّف تسويقه نهائيّاً»، كما كشفت عن ذلك وسائل إعلام فرنسيَّة. ووفقاً لمزاعم «فايار»، فإنّ السبب شكليٌّ وقانونيٌّ بحتٌ. إذ صرّح الوكيل القانوني للدار للإعلام: «انتهى عقد الكتاب منذ 27 شباط (فبراير) 2022. ولذلك ارتأت الدار، في 3 تشرين الثاني (نوفمبر)، إنهاءه من دونَ تجديدِه. سبب غير مفهوم، وخصوصاً أنّ مبيعات الكتاب ارتفعت بشكل كبير في الأسابيع الأخيرة، فنصف مبيعات الكتاب، وفقاً لإحصاء رسمي، تحقَّق في أسابيع قليلة فقط، بين 9 تشرين الأول (أكتوبر) و12 تشرين الثاني (نوفمبر) 2023. ومع ذلك، وفي مناسبة عودة المبيعات إلى الارتفاع، قرّرت الدار سحب الكتاب من الرفوف، على الرغم من أنّ العقد المتنازَع في شأنه كان قديماً لمدة 21 شهراً!

في الواقع، يبدو قرار «فايار» مرتبطاً بالسياق الحالي لـ «صيد الساحرات»، بالنظر إلى عملية الإسكات الممنهجة للأصوات التي تُدين سياسة التطهير العرقي والكولونيالي التي ينتهجها الكيان الصهيوني. إذا أخذنا في الحسبان السياق الفرنسي وحده، فثمة سوابق عديدة مثل محاولة منع التظاهرات المناصرة لفلسطين، واعتقال نقابي من CGT بتهمة «امتداح الإرهاب»، أو استدعاء نشطاء المجموعة اليسارية «الثورة الدائمة» للتحقيق معهم بسبب تثبيت ملصقات مناصرة لفلسطين على الجدران، إلى جانب تعليق عمل أو طرد أو استقالة إعلاميين من المؤسسات الإعلامية الفرنسية احتجاجاً على الأداء الإعلامي الفرنسي المنحاز إلى السردية الصهيونية.

من خلال بحث موثق بعناية، يوضح إيلان بابيه في كتابه «التطهير العرقي في فلسطين» أنّ تأسيس «دولة إسرائيل» عام 1948 قام على طرد السكان العرب بطرق التطهير العرقي. وتشكل سياسة الطرد المنهجي هذه ما يسمّيه «الإبادة الجماعية التصاعدية». يتزامن سحب عمل بابيه أيضاً مع استحواذ مجموعة «هاشيت» على «فايار» لتكون في خدمة نشر أفكار مالكها الملياردير اليميني المتطرف فنسان بولوريه، وهو صاحب إمبراطورية إعلامية حقيقية، يضعُها في خدمة أفكاره اليمينية المتطرفة: فالقنوات والصحف التابعة له وضعت نفسها، منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 في مقدمة حملة حقيقية معادية للإسلام، جعلت من الإبادة الجماعية المستمرة «مهمَّة حضارية».

وبعيداً عن كونه فعلاً ذا صبغة قانونية فقط، فإن سحب كتاب بابيه الرئيسي يشكِّل فعلاً رقابياً مداناً، يوضح ويؤكد المدى الكامل للهجوم الرجعي السائد الذي من الضروري مواجهته بمواصلة إدانة الإبادة الجماعية المستمرة في فلسطين، وتواطؤ القوى الإمبريالية معها، على رأسها فرنسا. إنّ الحاجة إلى بناء حركة واسعة تطالب بتقرير مصير الشعب الفلسطيني واختفاء الدولة الصهيونية أصبحت أكثر أهمية من أي وقت مضى، لأنه كما يشير بابيه — وهذه هي الخلاصة المزعِجة في الكتاب — فإن الطريقة الوحيدة لوضع حدّ للتطهير العرقي هي النضال ضد نظام الفصل العنصري الإسرائيلي من أجل «فلسطين متخلِّصة كلِّيّاً من الصهيونية ومحرّرة وديموقراطية، من النهر إلى البحر».

من جهة أخرى، حُجبت «جائزة حنَّة أرندت» عن الصحافية والباحثة ماشا غيسين بعدما حصلت عليها بسبب مقالتها عن غزة. إذ أعلنت «مؤسسة هاينريش بُلْ»، التابعة لحزب الخضر الألماني، بالاتفاق مع مجلس شيوخ مقاطعة بريمن، عن التراجع عن منح الجائزة للصحافية الروسية الأميركية ماشا غيسين، متذرِّعة بمقالتها الأخيرة في «نيويوركر» تحت عنوان «في ظل الهولوكوست» كسبب لهذا القرار. في المقال الذي نُشر في 9 كانون الأول (ديسمبر)، تنتقد غيسين سياسة ألمانيا المحابية لإسرائيل (بما في ذلك قرار البوندستاغ المثير للجدل، الذي يدين حركة مقاطعة إسرائيل باعتبارها معادية للسامية) وسياساتها الخاصة بإحياء ذكرى الهولوكوست النازي. وتقارن بين محنة سكان غزة المحاصرين اليوم بمحنة اليهود المعزولين في غيتوات في أوروبا الشرقية التي احتلها النازيون. تقول في المقال: «على مدى السنوات السبع عشرة الماضية، كانت غزة عبارة عن مجمع مكتظ بالسكان وفقير ومحاط بأسوار. لم يكن لجزء صغير من السكان الحق في المغادرة ولو لمدة قصيرة من الوقت.

بعبارة أخرى: غيتو. ليس مثل الحي اليهودي في البندقية أو الحي اليهودي داخل المدينة في أميركا ولكن مثل الحي اليهودي في إحدى دول أوروبا الشرقية التي احتلتها ألمانيا النازية. وفي الشهرين الماضيين منذ هاجمت حماس إسرائيل، عانى جميع سكان غزة من الهجوم الذي لم ينقطع من قبل القوات الإسرائيلية. مئات الآلاف. وفي المتوسط، يُقتل طفل في غزة كل عشر دقائق. وقصفت القنابل الإسرائيلية المستشفيات وأقسام الولادة وسيارات الإسعاف. ثمانية من كل عشرة من سكان غزة أصبحوا الآن بلا مأوى، ويتنقلون من مكان إلى آخر، ولا يستطيعون الوصول إلى بر الأمان».
ووفقاً لمقال نشرته صحيفة Die Zeit الألمانية في بداية هذا الأسبوع، فقد انتقد فرع «الجمعية الألمانية الإسرائيلية» (DIG) في بريمن بشدة تصريحات غيسين حول الوضع في قطاع غزة، ودعا إلى تعليق احتفال توزيع الجوائز المقرر. وجاء في رسالة مفتوحة من DIG  في بريمن أنّ «تكريم غيسين (الكاتبة اليهودية التي قُتِل جدها على يد النازيين) سيتناقض مع الإجراء الحاسم الضروري ضد معاداة السامية المتزايدة». ويبدو أنّ المفارقة المتمثلة في الدعوة إلى تعليق جائزة تحمل اسم إحدى أهم المنظِّرات السياسيات المناهضات للاستبداد من أجل استرضاء حكومة طَيِّعة لدولة مارقة ترتكب حالياً جرائم إبادة جماعية ضد شعب محتل، لن تكون آخر فعلٍ فاضح لتغنِّي الألمان بقيم الديموقراطية والتَّسامح والحرية.

فقد تعرضت الحكومة الألمانية لانتقادات شديدة في الشهرين الماضيين بسبب دعمها غير المشروط للحرب الإسرائيلية على غزة، فضلاً عن حملتها العدوانية على الأنشطة المناصرة والمؤيدة للفلسطينيين. كان إسكات الأصوات الفلسطينية محسوساً بشكل حاد داخل المجتمع الثقافي الألماني، في ظلّ إلغاء عروض المتاحف وجوائز الكتب والمعارض الفنية في الأسابيع الأخيرة.

كأنَّ جيل دولوز حيّ بيننا:

في مقالة «لقائي مع جان بول سارتر» للمفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد (1935 ـــ 2003) حول خيبتِه من المواقف المتذبذبة لفيلسوف الحركات التَّحرُّريَّة الأبرز تجاهَ الفلسطينيِّين، تنكشفُ خيبةٌ أخرى من ميشال فوكو (1926 ـــ 1984)، فيلسوفِ الحفرياتِ المؤرِّخة لسطوة الأجهزة القمعيَّة على الجسد منذ العصر الوسيط حتَّى العصورِ الحديثة. يقول إدوارد سعيد: «في نهاية الثمانينيَّات، أسرَّ لي جيل دولوز أنَّه وفوكو، اللذَيْن كانا قريبين جداً مِنْ بعضِهما، تخاصَما وصارت بينهما قطيعة شخصيَّة بِسبب خلافاتِهما بشأن فلسطين: ميشال فوكو يدعم إسرائيل، وجيل دولوز (1925 ـــ 1995) الفلسطينيِّين. فلا عجب إذاً أنَّ فوكو لم يكن يريد مناقشة مشكلات الشرق الأوسط معي، أو مع أي شخص آخَر».

إضافةً إلى مواقف دولوز العامَّة والخاصَّة في نصرة مستضعَفي الأرض والمزعِجين للقوى الإمبرياليَّة والمارقين عن كل سلطة، عبر نصوصه الفلسفيَّة أو ممارسته السياسية؛ فقد خصَّص بشكل مباشر أربعة نصوص لدعم الفلسطينيِّين وقضيَّتهم، ومنها اجتزأنا كلَّ استشهاداتنا في متن المقالة: «المزعِجون» (لوموند 7 نيسان/ أبريل 1978)، و«هنودُ فلسطين» (محاوَرة مع إلياس صنبر، ليبراسيون، 8و9 أيار/ مايو 1982)، و«عظَمة ياسر عرفات» (الطبعة الفرنسية لمجلَّة الدراسات الفرنسية، العدد 10، شتاء 1984)، و«الحِجارة» (

كصدى لما يحدث في إعلامِ اليوم بانقسامه بين غالبيَّة مضلِّلة خاضعة للرأسمال العالمي وأقلية حرَّة ومستقلة ويقِظة الضمير. لا بدَّ لنا من أن نتذكَّر أيضاً نصَّ دولوز السِّجاليَّ في ذمِّ ظاهرة ما سمّاه وعَنْوَنَهُ بِـ«الفلاسفة الجدد»، الذين تسيَّدوا ساعتئذ المشهدَ الإعلامي والساحة الثقافيَّة بانعطافهم يميناً وقدحهم للماركسية، وقيم اليسار وتطبيلهم لاقتصاد السوق وتصهينهم، عبرَ خروجهم من عباءة المضطَهدين واعتِمارهم لبوس الحاخامات، عائدين إلى طوائفهم الدينيَّة بأبشع صورة، بعدما كان جلُّهم نشطاء راديكاليين في حركة مايو 68 الطلَّابيَّة (كانت تلميحات دولوز تُشير أكثر إلى «فتى الربيع العربي» برنار هنري ليفي والمهلِّل لنهاية الأيديولوجيا أندريه غلوكسمان ضمن ثلَّةٍ غفيرة من فلاسفة استوديوهات ومجلات ودور نشر الرأسمال المتوحِّش والمعولَم).

باعتبارِه ابناً لمدرسة التاريخ والتاريخانيَّة، لا يجتزئ دولوز الأحداث من سياقاتها، مثلما يفعل الآن من بدأت لديهم موجة العنف في المشرق العربي يوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023. بل إنّ دولوز يعود بالقضيَّة الفلسطينيَّة إلى جذورِ وقائعِها وجوهرها السياسي، فاضحاً سياسة الكيل بمكيالين: «لماذا يكون الفلسطينيون «محاوَرين مقبولين» بما أنَّه لا وطنَ لديهم؟ ولماذا يكون لهم وطن، وقد سُلِبَ منهم؟ ولم يُمنحوا أيَّ خيار سوى الاستسلامِ من دون قيد أو شرط. لا يُعرض عليهم سوى الموت. وفي الحرب الدائرة بينهم وبين إسرائيل، تُعتبَر تصرفات إسرائيل ردوداً مشروعة (حتى لو بدت غير متناسبة)، في حين يتم التَّعامل مع تصرُّفات الفلسطينيين باعتبارها حصراً جرائم إرهابية. والعربي الميت ليس بِنفس قياسِ أو وزنِ الإسرائيلي الميِّت».

مواصلاً تعريته لذرائعيَّة العنف المجَّاني لسياسة الكيان المؤقَّت، يكشف دولوز عن طبيعته العدوانيَّة الدَّائمة كثابت من ثوابت الصهيونيَّة، عندما يشير إلى أنَّ غزوَ 1978 للبنان «لم يكن رداً على عمل كوماندوس تل أبيب (ثلاثون ألف جندي ضد أحد عشر إرهابياً)(1)، بل كان تتويجاً متعمَّداً لسلسلة كاملة من العمليات التي احتفظ فيها دوماً بزمام المبادرة. ومن أجل التوصل إلى «حلّ نهائي» للمشكلة الفلسطينية، يمكن لإسرائيل أن تعتمد على تواطؤ شبه إجماعي مِنَ الدول الأخرى، مع اختلافٍ في الفروق الدقيقة والقيود المختلِفة». يخلص من تحليله للحدث ولسلوك الكيان الصهيوني إلى استنتاجٍ ما زالَ صحيحاً حتى اليوم، مفادُه أن الفلسطينيين، كشعب بلا أرض ولا دولة، مزعِجون للجميع. مهما تلقَّوْا مِنْ أسلحةٍ وأموالٍ مِنْ بعضِ الدُّولِ، فإنَّهم يَعُونَ ما يقولون عندما يعلنون أنهم وحيدون تماماً. للإشارة، فعبارة «حل نهائي» هي ذاتُها التي استعملتها النازية كمصطلح مهذَّب للهولوكوست، لا يتوانى دولوز هنا إذن عن وضع مقابلات وتقاطعات صارخة بين المشروعين النازي والصهيوني.
لكنَّ النُّقطة الأقوى في تحليل دولوز، والمستنِدة إلى مِراسه الطويل في آليات التحليل النَّفسي، هي كشفُه عما يشكّل العصبَ الأهمَّ لديمومة القضيَّة الفلسطينيَّة ولأسطورة الفدائيِّ الذي تَتَخَصَّب به بطون الفلسطينيات بلا انقطاع: «اللاجئون خزَّانُ المقاتِلين الفلسطينيِّين. لا تدَّعي إسرائيل هزمَ المقاتِلين إلا عبر تسبُّبِها في آلاف آخرين من اللَّاجئين، ما سيولّد مِنهم مقاتِلين جدداً». وهذه الظاهرةُ بالذات تنسحبُ على وقائع «طوفان الأقصى»، وتثير حالياً الرُّعب في المؤسَّسات الصهيونيَّة في شكل سؤال مزدوج: ماذا عن اليوم التالي لوقف إطلاق النَّار؟ كيف سيكون مستقبلاً السلوك النفسي والحربي لمن سينجو من أعتى إبادة عرقيَّة في أوائل هذا القرن تجاه من يحاول إبادتَه من دون جدوى؟

كأنَّ دولوز ما زال حياً بيننا، ما زال تحليله للقضيَّة الفلسطينيَّة صحيحاً ضِمن الوضع الدولي العام وفي إطار تآمرِ القوى الإمبرياليَّة مع ربيبتِها الوظيفيَّة وبتغطيتِها ديبلوماسياً لجرائمها وسياستها الكولونياليَّة المتواصلة. يقول: «واليومَ، دولة إسرائيل هي التي تقودُ حقلَ التجارب. إنها تصنعُ نموذجاً للقمع الذي سيُسوّق في بلدان أُخرى وتكييفه مع بلدان أخرى. ثمَّة استمرارية كبيرة في سياستها. لقد اعتبرت إسرائيل دائماً أنّ قرارات الأمم المتحدة التي أدانتها شِفاها تثبيتٌ لصحَّةِ ما تقترِفُه. وتحوَّلت الدعوة إلى مغادرة الأراضي المحتلة إلى واجبِ إقامةِ مستوطَنات فوقَها [..] إنه ابتزاز غريب، لن يخرج منه العالم كله إلا إذا كان هناك ما يكفي من الضغط حتى يتم الاعتراف بالفلسطينيين في النهاية على أنهم «محاوَرون مقبولون»، ما داموا في حالة حرب ليسوا مسؤولين عنها بالتأكيد».

وهذه بالذات كانت غاية «طوفان الأقصى» السياسيَّة: إرجاع الفلسطينيين إلى خريطة الصراع الدولي، بعدما ظنَّت أميركا وذيولها وحلفاؤها أنَّهم أقبروا صوتهم ومطالبهم المحِقَّة تحت ركامِ الاتفاقيَّات الإبراهيميَّة المذِلَّة، عاد الفلسطينيُّون كمحاوَر وحيد لحلِّ قضيَّتهم، مهما كان السَّند، ومهما تكالَب الأعداء. وفي موازاةٍ بين كولونياليَّة إبادةِ الشعوب الأصليَّة للقارة الأميركيَّة (وتأسيس الولايات المتَّحدة الأميركيَّة على جماجم الهنود الحُمر) والكولونياليَّة الإحلاليَّة الصهيونيَّة في فلسطين، يقتفي دولوز آثارَ التَّماثلات بين الإبادتين: «ليس الفلسطينيون في وضع شعب مستعمَر، بل تم إجلاؤهم وطردهم.

هناك عمليَّتان مختلِفتان للغاية في الرأسمالية. في بعض الأحيان، يتضمن ذلك إبقاء شعبٍ على أراضيه، وجعله يَعمل، ويستغلُّونه، لتجميع الفائض: وهذا ما نسمّيه عادة مستعمَرة. وفي أحيانٍ أُخرى، وعلى العكس من ذلك، يتعلق الأمر بإفراغ منطقة ما من سكانها، لتحقيق قفزة إلى الأمام، حتى لو تطلَّبَ ذلك جلبَ قوة عاملة من مكان آخر. لقد مر تاريخ الصهيونية وإسرائيل، مثل تاريخ أميركا، عبر هذا: كيف نخلق الفراغ، وكيف نُخْلي شعباً من وطنهِ؟». ينسج دولوز من هذه التأريخ الوجيز استعارةً طفت هذه الأيام على السطح عبر تداول فيديوات تُقيم مقارنة بين رقصات الهنود الحُمر ورقصات الفدائيّين الفلسطينيِّين. بالنسبة إلى دولوز، الفلسطينيُون هم هنود الشرق الأوسط. (ربَّما كانت هذه هي الاستعارة التي أوحت لمنير العكش بتأليف خماسيَّته حول الإباداتِ الجماعيَّة الثقافية والجنسية لهنود أميركا انطلاقاً من تعاليمَ تلموديَّة).

وفقاً لدولوز، لم تُخْفِ «إسرائيل» هدفها منذ البداية. هدف تفصِّله وفقاً لمراحلها الإباديَة والإحلاليَّة التي ما زالت مستمرَّة حتَّى الآن: إخلاء الأراضي الفلسطينية والتصرف كما لو أن الأراضي الفلسطينية خالية، ومخصّصة دائماً للصهاينة كأرض موعودة توراتيّاً. يوضح دولوز الفرق بين الكولونياليَّة الكلاسيكيَّة والكولونياليَّة الصهيونية في أعتى مظاهرها اليمينيَّة المتطرِّفة المنطبقة على ساسة الكيان المؤقَّت الحاليِّين: «لن نستغل سكان البلاد، بل سنجبرهم على المغادرة. أولئك الذين بقوا، لن يتم تحويلهم إلى قوة عاملة رهينةٍ بالأرض، بل إلى قوة عاملة عابرة ومنفصلة، كما لو كانوا مهاجرين تم وضعهم في غيتوات. الأمر، منذ البداية، مؤسَّسٌ على شراء الأراضي بشرط أن تكون خالية مِنْ ساكنيها، أو قابلة للإخلاء. إنها إبادة جماعية، لكن حيث تظل التصفية الجسدية خاضعة للإخلاء الجغرافي: بكونهم بشكل عام عرباً فقط، يجب على الفلسطينيين الباقين على قيد الحياة أن يندمجوا مع العرب الآخرين. إن التصفية الجسدية، سواء عُهِدَ بها إلى المرتزقة أم لا، أمرٌ واقعٌ تماماً. لكنهم يقولون إنها ليست إبادة جماعية، لأنها ليست «الهدف النهائي»: إنها، في الواقع، وسيلة مِنْ بينِ وسائلَ أُخرى.

«ثنائيَّة الجلَّاد والضَّحيَّة، تناحر المستعمِر والمستعمَر، يوجزهما دولوز في شعارين مكثَّفين للغاية، يختصران كلَّ تاريخ الصراع الصهيوني-الفلسطيني: «بيانُ الفلسطينيين: نحن شعب مثل الشعوبِ الأُخرى، لا نريدُ أنْ نكونَ إلَّا كذلك. إنها صرخة ذات معانٍ متعددة. أولاً وقبل أي شيء، هي تذكير، أو نِداءٌ. بيان إسرائيل هو: نحن لسنا شعباً مثل الشُّعوبِ الأُخرى، من خلال سُمُوِّنا وهولِ اضطهادِنا». كلُّ ثنائيَّة الشعب العادي ذي التطلُّعات التحررية فوق أرضه و«شعب الله المختار» المصطَنَع والمارق على القوانين والمواثيق الدَّوليَّة تتضح بجلاء في هذين الشعارين الذين لخَّص بهما دولوز مسارَ الصراعِ والآليات التي يخوضه بها كل طرف: يطالب الصهاينة بِمعاملة كشعب خارج المعاييرِ، في إطار حالة من التبعية الاقتصادية والمالية للغرب، بشكل لا مثيل له في أي دولة لم تعرف شيئاً كهذا مِنْ قَبْلُ، وبشكل أكثر جلاءً اليومَ عبر توريد شحنات السلاح والمأكَل لطرف وحصار وتجويع إبادة طرف آخر، حتَّى خارج مواثيق وقوانين صنعها الطرف الأقوى والمهيمِن على القرار الدولي.

بلا موارَبة ولغة مراوِغة، يوصِّف دولوز ما يقترفه الصهاينة في حروبهم على الفلسطينيِّين بعبارةٍ لو شِيءَ له اليوم أن يكون حيّاً بيننا وتفوَّه بها لَطاله الحجب الإعلامي ومنعت كتبه من التَّداول، وخصوصاً أنَّه يجد مجازرَ الصهاينة شبيهةً بمجازر نازية هتلر: «يقولون إنّها ليست إبادة جماعية. مع ذلك، فهي قصة تتضمن الكثير مِنَ التَّماثل مع مجزرةِ «أورادو» (قرية فرنسية أبادَتها القوات النازية في 10 حزيران/ يونيو 1944) منذ البداية. لم يكن الإرهاب الصهيوني ضد الإنكليز فقط، بل أيضاً ضد القرى العربية التي توجَّبَ أنْ تختفي؛ وكانت منظمة الإرغون نشطة جدّاً في هذا الصدد (دير ياسين)». تحتدُّ لهجة دولوز في إدانةِ الإرهاب الصهيونيِّ في انتقادهِ للاتاريخانيَّته وميله إلى أَسْطَرَةِ واختلاق الوقائع، فهو يرى أنَّ تحويل الهولوكوست إلى شر مطلقٍ رؤيةٌ دينية، لا رؤية تاريخية، بما أنَّها لم تَمنع الشر، بل على العكس من ذلك، فهي تمارسه في حقِّ أناس أبرياء من اقتراف الهولوكوست، تمارسه بالطريقة نفسها الِتي مورسَ عليها (الطرد، والتكديس في غيتوات، والاختفاء كشعب).
يصوّر دولوز في الأخير الفلسطينيِّين كضحايا لدوَّامة تاريخيّة طحنتهم طحناً، إذ مرُّوا بكل هذه الدورات الجهنمية من التاريخ: فشل الحلول كلما كانت ممكنة، وأسوأ انتكاسات في التحالفات التي عانوا من أجلها، وعدم الوفاء بالوعود الأكثر جلالاً. ومِنْ كل هذا، لم يكن مِنْ بُدٍّ لمقاومتهم إلَّا أنْ تتغذَّى من آلامهم. فهل ستزهر الآلامُ الجِسام، في مقبل الأيام، حلولاً تحترم تضحياتِهم أم سيتواصل إهمال وجودهم وصوتهم ليصنعوا، كحلٍّ وحيدٍ يُتْرَكُ لهم، موجة عنف ثوري أكثرَ وضوحاً وحسماً في الجولة القادمة؟

(1) في إشارة إلى العملية الواسعة التي شنتها حكومة بيغن في جنوب لبنان، رداً على العمليَّة التي قام بها كوماندوس فلسطيني شمال تل أبيب وقد خلّفت عشرات الضحايا. بالنسبة إلى «دولة إسرائيل»، كانت هذه أكبر عملية تُنفَّذ على الإطلاق في الأراضي اللبنانية؛ وتسببت في سقوط مئات الضحايا في المخيمات الفلسطينية وفي صفوف اللبنانيين، وتسببت في نزوح عشرات الآلاف من المدنيين اللبنانيين نحو العاصمة. ورغم حجم هذا الهجوم، إلا أنه فشل في تفكيك قواعد المقاتلين الفلسطينيين، وبقيت الجبهة مفتوحة (هامش من وضع محرِّر الطبعة الفرنسيَّة لمقالات دولوز).
2:
بعد أسبوع على إرسال القوات الإسرائيلية التي احتلت ما يصل إلى سدس الأراضي اللبنانية، اتخذت «القبَّعات الزُّرق» التابعة للأمم المتحدة مواقعها في جنوب لبنان (هامش من وضع محرِّر الطبعة الفرنسيَّة لمقالات دولوز).

*
المصادر
Gilles Deleuze: Deux régimes de fous et autres textes (1975-1995), Minuit éd., Paris, 2003
Edward Said: Ma rencontre avec Jean-Paul Sartre, Le monde diplomatique, septembre 2000, pp. 4-5

 

نص مخطوطٌ، ديلوز نُتَرجمه كاملاً
الحِجارة
إنَّ الدَّين اللَّامتناهيَّ الذي تَدين به أوروبا لليهود، لم تَشرعْ أبداً في سَداده، بل جعلَتْ شعباً بريئاً يسدِّدُه: الفلسطينيُّون. أمَّا دولة إسرائيل، فقد بناها الصَّهاينة على الماضي القريبِ لِعذاباتهم، وعلى الرُّعب الأوروبيِّ الَّذي لا يُنسى، ولكن أيضاً على آلامِ هذا الشّعب الآخر، بِحجارةِ هذا الشعب الآخر. لقد سُمِّيَت الإِرْغون منظَّمةً إرهابيَّة، ليس فقط لأنَّها فجَّرت الإقامة العامة البريطانيَّة، ولكن أيضاً لأنها دمَّرت القرى وأبادت السكان.
لقد جعل الأميركيون من الأحداثِ فيلماً هوليوودياً ضخماً، بميزانيَّة هائلة. كان يُفترَض أن تُقام دولة إسرائيل على أرض خلاءٍ انتظَرَتْ طويلاً الشعب العبرانيَّ القديم، وبها أشباحٌ مِن بعضِ عربٍ أتوا مِنْ أماكنَ أخرى، حرَّاساً لِحجارةٍ نائمةٍ. لقد تمَّ إلقاءُ الفلسطينيين في جُبِّ النِّسيان. طُلِبَ منهم الاعتراف بدولة إسرائيل قانوناً، ولكنَّ الإسرائيليِّين استمروا في إنكار الحقيقة الملموسةِ المتمثِّلة في الشعب الفلسطيني.

لقد خاضوا وحدهم، منذ البداية، حرباً لم تنتهِ للدِّفاع عن أرضهم، وحجارتهم، وحياتهم: هذه الحرب الأولى التي لا أحد يتحدَّث عنها، اعتقاداً أنَّ الأهمَّ هو جعلُ النَّاس يعتقدون أنَّ الفلسطينيِّين عربٌ أتوا مِنْ أماكنَ أخرى يمكنهم العودة إليها. من سيزيلُ كلَّ هذا الالتباس بين أردن وآخَر؟ من سيقول إنَّ العلاقة بين فلسطيني وعربيّ آخَر يمكن أن تكون قوية، ولكن ليس أكثرَ مِن تلك التي بين دولتين أوروبيتين؟ وأي فلسطيني يستطيع أن ينسى ما فعله عرب آخَرون به، مثل ما فعله به الإسرائيليون؟ ما هي عُقْدَةُ هذا الدَّين الجديد؟ بعد طردهم من أرضهم، استقر الفلسطينيون حيث يمكنهم على الأقل رؤيتُها، واحتفظوا بهذه الرؤية كاتصال أخير مع كينونتِهم المهلوَسة. ولن يكون أبداً بمقدور الإسرائيليين دفعُهم بعيداً بما فيه الكفاية، دفعهم إلى الظلام، إلى غياهب النسيان.
تدمير القرى، تفجير المنازل، الطرد، اغتيال الشخصياتِ، قصة مروِّعة بدأت مرَّة أُخرى على حساب الأبرياء الجدد. يقال إن أجهزة المخابرات الإسرائيلية تحظى بإعجاب العالم. ولكن ما هذه الديمقراطية التي تمتزج سياساتها بقوَّة مع عمل أجهزتها السرية؟ كل هؤلاء الأشخاص يُكَنَّوْنَ بِـ «أبو»، كما يقول مسؤول إسرائيلي بعد اغتيال أبي جهاد. أما زالَ يتذكَّر الصَّوتَ الفظيع الذي كان يقول: «كلُّ هؤلاء النَّاس يسمَّون ليفي؟» فكيف ستنسحب إسرائيل مِنْ كلِّ هذا، مِنَ الأراضي المضمومة بالقوَّةِ، ومِنَ الأراضي المحتلة، ومِنْ حاخاماتها المعتوهِين؟
احتلالٌ، احتلالٌ لا متناهٍ: الحجارة التي يتمُّ قذفُها تأتي من الداخل، تأتي من الشعب الفلسطيني لِتذكيرنا بأنَّه، في مكان من العالم مهما كان صغيراً، تمَّ قلبُ الدَّين. ما يقذفُه الفلسطينيُّون حجارةٌ لَهم، حجارةُ وطنِهِم الحيَّة.
لا يمكن لأحد أن يسدّدَ دَيناً بِجرائم القتل، واحدة، أو اثنتينِ، ثلاثٍ، أو سبعٍ، أو عَشْرٍ في اليوم، ولا بِالتَّواطؤ مع طرفٍ ثالث. الطَّرفُ الثَّالث يتملَّص، وكلُّ ميِّتٍ يدعو أحياءً، والفلسطينيُّون عبروا داخلَ روحِ إسرائيل، يحرثون هذه الرُّوح كمَنْ يسبُرها ويخترقُها كُلَّ يوم.

نشرت هذه المقالة في حزيران/ يونيو 1988، بعد وقت قصير من اندلاع الانتفاضة الأولى، انتفاضة أطفال الحجارة في كانون الأول (ديسمبر) 1987

ملاحظتان:
1. رغم قوَّة لغة وحجَّة دولوز في النَّص الذي ترجمناه له، إلَّا أنَّهكجلِّ الإنتاج الثقافي للذهنية الغربية — يعاني، وهو الخبير في ضبط المفاهيم، مِنْ تشوّش في وضع الحدود والفروقات بين اليهودية والصهيونية والسامية (وهذا من أسباب وقوع خيارنا عليه لترجمته كاملاً)
2. بلغنا انزعاج بعض القراء النبيهين والمتابعين الدائمين من «تخويننا» لبعض أعلام الفكر الغربي في سلسلة مقالاتنا السابقة المركِّزة على جرد مواقفهم من عذابات الشرقيين عموماً، وآلام الفلسطينيين خصوصاً. كنَّا دوماً نبني تحاليلنا وخلاصاتنا على المتون والوقائع المثبَتة في أرشيفات رسمية تُدين خيانة المثقفين لمهامهم الرئيسة في نصرة مستضعَفي الأرض؛ ونحن عموماً لا نجرِّم جملةً وتفصيلاً الإنتاج الفكري لهذه الأعلام، فالكثير من إنتاجها ما زال صالحاً لنقد إمبرياليَّة ارتموا في أحضانها سعياً وراء إغراء مادي أو أهواء يورومركزية أو تحاليل زائفة كُتِبَتْ بِحِبْرِ العِرق أو الدِّين أو اللَّون أو أيديولوجيا «العالَم الحُرِّ».