كانت هذه النصوص الثلاثة هي آخر نصوص منشورة يراها اسامة الديناصوري قبل رحيله المبكر عن عالمنا يوم الخميس الماضي 4 يناير. وأسامة الديناصوري من أهم شعراء قصيدة النثر في جيل التسعينات في مصر ومن أكثرهم تميزا وكان الشاعر قد أكمل قبل رحيله كتابا جديدا عليه كلية من حيث الشكل واللغة والبنية معا بعنوان (كلبي الصغير كلبي الهرم) وهو الكتاب الذي نشرنا منه نصوص العدد الثلاثة والذي يروي فيه تجربة معاناته مع مرض الفشل الكلوي، وعلاقته بأسرته وبكل من شاركوه هذه التجربة أو وقفوا معه فيها. وكان الشاعر عضو حركة كفاية وحركة أدباء من أجل التغيير. ولد أسامة الديناصوري عام 1960 وصدر له (حراشف الجهم) عام 1991، و(مثل ذئب أعمى) عام 1996، و(على هيئة واحد شبهي) عام 2001، و(عين سارحة وعين مندهشة) عام 2003، وسيصدر كتابه الأخير (كلبي الصغير كلبي الهرم) عن دار ميريت للنشر بالقاهرة. أسرة (الكلمة) تعزي أسرتيه، أسرته الصغيرة، وأسرته الأدبية الأوسع في فقدان هذا الشاعر الموهوب قبل الآوان.

نصوص

أسامة الديناصوري

العملية
السبت 24/6
2 صباحا

(أمى: لا تهدرى الوقتَ فى الدعاء لى بالشفاء.
ادعى لى فقط.. بألاّ تتوقف عمليّتى)

العملية هى روح الغسيل. هى الهواء الذى يتنفسه. إذا توقفتْ, توقف الغسيل بالضرورة. لكنهم يحتالون على ذلك, بإعاشته على التنفس الصناعى. فيركّبون للمريض قساطرَ فى الصدر, أو الرقبة, أو الفخذ. القساطر لا تدوم. ويجب ألا تدوم. ففى النهاية، لابد أن يعود الغسيل إلى الهواء الطلق.. إلى العملية. 

عمليتى الأولى استمرت ثمانى سنوات ونصف. عبَرْتُ بها وحدة الاستقامة، ومركز فيصل. ورافقتنى ثمانى سنوات كاملة فى الهدى، إلى أن وصلتُ بها سالمةً إلى وحدة الزمالك. لكنها أخيراً كفّتْ عن الحياة مثل كل حىّ وتوقفتْ.

كنا يومها فى الإسكندرية, ذهبنا فى الصباح أنا وسهير, ومرتجى وعيشة, إلى العجمى. نزلتُ أنا ومرتجى لنسبح.
 سبحَ مرتجى، وبلبطْتُ أنا، ثم عدنا فى المساء.

فى الفجر, ونحن نائميْن عند أمى فى شوتس، صحوت فجأة إثر إحساسى بوخزة صغيرة. وضعتُ ذراعى على أذنى اليسرى. كانت هامدةً تماماً. لم أسمع الصوت الأليف المعتاد (جوْوْ، جوْوْ، جوْوْ). تحسّستُها بأصابعى، كان الوريد متليفاً ومبروماً كالحبل.
لقد تجلّط الدم إذن, وانسدّت العملية.


كانت العملية فى نهاية ذراعى الأيمن, بالقرب من يدى. وكانت تنتهى بانتفاخ فى الوريد, يظل ينبض كقلب صغير. أحَبّها الأطفال جميعاً. إذ كانت صالحةً تماماً, كلعبة حية لا مثيل لها. يلمس الطفل البالونة الصغيرة، فتلمع عيناه، فأبادر أنا بوضعها على أذنه، فيسمع الصوت القوى الذى يشبه صوت (مكنة الطحين). وعندما يسأل, أخبره أن هناك جهازاً كهربائياً صغيراً مزروعاً هنا.

(أنا نفسى كنت أتصور ذلك فى البداية)

إلى أن فهمت أن العملية هى عبارة عن جسر، أو وصْلة، بين شريان ووريد. الأوردة على السطح, بالقرب من الجلد. أما الشرايين, فتختفى فى أماكن أعمق.

يفتح الجرّاح الذراع، ويبحث عن الشريان حتى يجده، ثم يبرزه على السطح, ويفتح به فتحة, يقوم بخياطتها فى فتحة أخرى فى الوريد، فيصير الوريد شرياناً، أو ذيل شريان، يتدفق فيه الدم قوياً, آتياً من القلب مباشرةً. 

لقد رأيتُ بعينىّ العملية الثانية, خطوةً خطوة: حقنة البنج الموضعى, المشرط, وهو يشق ذراعى الأيسر بالقرب من يدى.


ثم لغوصة الدكتور فى أحشاء ذراعى، وإخراجه الشريان معلّقا فى سبّابته.
كان عبارةً عن أنبوبة بيضاء, مدرّعة بحلقات, تشبه الأكورديون. ذكّرتنى بعضو ذكر البطّ، الذى رأيته وأنا طفل، يتدلّى منه أبيضاً ورخواً، إثر قيامه من فوق إحدى جواريه, على سطح بيتنا.

أمسكَه بمشبكين معدنيين قبل أن يفتح بينهما فتحة صغيرة. وقبل أن يخيطها فى فتحة الوريد, انتبه إلىّ, فأسدل الممرض على الفور ملاءةً, حالتْ بينى وبين ما يفعل.

توقفتْ تلك العملية بعد إجرائها بأسبوعين. وقبل أن تكون جاهزة للاستخدام. 

نصحتْنى داليا بالذهاب للدكتور خالد الهنداوى, الذى أجرى عمليةً ناجحةً لرفاعى, مازالت تعمل منذ سنوات.

أجرى لى د. خالد عملية جديدة فى ذارعى الأيسر، على بعد كاف من العملية السابقة، غسلتُ منها لشهرين، ثم توقفتْ. فانتقل إلى الذراع الأيمن، وأجرى واحدة فى منتصف الذراع تماماً، عند المفصل، غسلتُ منها ستة أشهر، ثم توقفتْ أيضاً، بعد أن تسبّبتْ فى تورّم ذراعى بشكل مخيف.

وأخيراً أجرى لى واحدةً فى أعلى ذراعى الأيسر, بالقرب من إبطى (زرع وريد). يعنى أنه بحث عن وريد قوى فى العمق وأعاد ذرعه على السطح, وأوصلَه بالشريان. 

مازالت العملية الأخيرة صالحةً إلى الآن, منذ ما يقرب من عامين. أتمنى ألا تتوقف هذه العملية أبداً. وإن كان ولابدّ لها أن تتوقف فى النهاية، فلتعشْ معى إذن أطول فترة ممكنة. 

لقد استُنْفدتْ كل الأماكن الصالحة فى ذراعىّ. ولم يتبق سوى حل وحيد، وهو ذرع وريد صناعى فى فخذى. 

"عندما كانت تتوقف العملية، أذكر أننى كنت أُسرع فى نفس اليوم, أو فى الصباح التالى على الأكثر, إلى مستشفى صيدناوى، وأتوجه مباشرة إلى غرفة العمليات فى الدور الثالث، للقاء د. جمال روفائيل طبيب التخدير. لم يكن يحتاج لأى شرح، بمجرد رؤيتى, يدخلنى مباشرة إلى غرفة العمليات الصغرى، ثم يشرع فى تركيب القسطرة.

(قسطرة نائمة فى الوريد، تنتهى بمدخل ومخرج صغيرين، يتم التركيب منهما, والغسيل, لمدة شهرين, حتى تلتئم العملية الجديدة, وتصبح جاهزة للاستخدام)

فى آخر مرة, حاول د. جمال تركيب القسطرة فى الصدر، فى الجهة اليمنى أولاً، ثم فى اليسرى، وأخيراً حاول فى الرقبة، الجهة اليمنى أولاً: لم يستطع السلك المرور من الأوردة الثلاثة.

كانت الأوردة مسدودةً تماماً, بسبب الجلطات التى تكونتْ من جراء تركيب القساطر فى المرات السابقة.

عندما استطاع السلك المرور من الوريد الرابع فى الجانب الأيسر من رقبتى, تنفس د. جمال الصعداء وقال:
- أفّ .. أخيراً لقينا عندك وريد سالك.
إنت لازم تعمل أشعة دوبلكس على الرقبة والصدر, عشان نشوف إيه الحكاية ". 

لن أذهب إلى الدكتور جمال بعد ذلك. ولن أركّب أىّ قسطرة فى رقبتى.
فعمليّتى الحبيبة، التى أحتضنها بحنان تحت إبطى، والتى أطمئن عليها فى اليوم مائة مرة... ستظل حية. وستظل ترفسنى برفق. كجنين فى شهره السادس.

        سأواظب على التربيت عليها بالكمادات الدافئة. وعلى دهنها بالهيموكلار.

       حتى يظلّ وريدها غضاً, ومكتظّاً بالدم والحياة. 

الجمعة 30/6/2006
الساعة 9 مساءً

انتهت الآن مباراة ألمانيا والأرجنتين فى دور الثمانية.
فازت ألمانيا بركلات الترجيح . لم تكن مباراة جميلة على كل حال.
بعد ساعة ستبدأ مباراة إيطاليا وأوكرانيا فى نفس الدور.

أنا متوتر ودائم السرحان وأشعر برغبة قوية فى الكتابة.

ولذلك لست متحمسا لرؤية المباراة ، خصوصا إن استطعت الاندماج فيما سأكتبه الآن.
لكننى حائرٌ ولست على يقين من أن هناك موضوعاً محدداً يشغلنى ويستدرجنى لكتابته.
ليس لندرة المواضيع أو لفراغ الرأس منها، بل على العكس تماما.
أنا فى حالة كتابة دائمة منذ فترة. 

عندما أكون فى هذه الحالة يكون كل ما أراه أو أسمعه أو أعيشه من شخصيات وأحداث، صالحاً للكتابة.
لقد غازلتنى عشرات المواضيع فى الساعات الماضية.
بل بذلت نفسها لى وقالت اكتبنى.
ولأننى محترف قديم لفن الهرب من الكتابة، فلقد راوغت، وتملصت، وتعاميت طوال الساعات الماضية، إلى أن وجدتنى الآن وحيداً فى البيت، ليس بى رغبة فى النزول، ولست متحمساً لرؤية المباراة القادمة.

وإذ بالمواضيع التى راودتنى بالأمس تهجم على الآن وتطن فى رأسى كجيش من الدبابير. 

يجب أن أفرّق أولا بين حالات الكتابة التى تأتينى الآن،
وتلك التى كانت تأتينى أيام كنت أكتب الشعر.

لقد ظللت طوال عمرى ومازلت أعد نفسى ويعدنى آخرون شاعراً. 

الشعر والنثر وطنان مختلفان ومتمايزان.
كل له ناسه ولغته وطقسه وأشجاره وثماره. 

كنت أسكن أرض الشعر وأعتبر نفسى مواطنا من الدرجة الأولى.
ولأن أرض الشعر أرض فوق واقعية، فهى ليست هى بالضبط فى عين كل قاطنيها.
فالبعض يراها واحة خصبة، وأرضا مثمرة، وأشجارا خضراء طوال العام.
والبعض الآخر يراها جرداء وعرة. يظل يسير فيها فراسخ وأميالاً، عابرا السراب تلو السراب، حتى يظفر فى النهاية بشجرة وحيدة ،تتدلى منها ثمرة واحدة، يتفيأ ظلها قليلا، ثم يعاود السير،
بعد أن يتبل ريقه بالعصير الحلو، وتهدأ معدته. 

كلا البعضين يشفق على الآخر
فالأول من فرط إشفاقه على التانى لا يراه.
أما الثانى فإنه يرى الأول جيدا، ويعرف كم هو بائس.
ويعرف أيضاً أن ما يكنزه من ثمار ما هى إلى زنزلخت لا يصلح لشىء.

أما أرض النثر: فهى كالغابة المتشابكة الأغصان، كل أشجارها مثمرة وقريبة المنال.
لكن الثمار المرجوّة دائما خفية. إذ لا يراها سوى قاطنوها.
لا.. ليس كل قاطنيها.
بل ذلك الذى يمكن أن يكون حطابا، وطالع نخل، وصيادا، ومستكشفا، وقصاص أثر، فى رجل واحد، حتى تمكنه الغابة من ثمارها العزيزة. 

لقد غزوت أرض النثر مرات معدودات من قبل.
فى كل مرة كنت أتسلل على وجل واستحياء، وأعود سريعا بعد أن أختلس ثمرة صغيرة.
الآن، بعد أن تجرأتُ وتوغلت قليلاً أوشك أن أقول:
(بائس هو الشاعر الذى لم يعرف النثر أبداً)

أعود إلى حالات الكتابة، وأتذكر أنى كنت أعيش أسابيع بل شهورا وأحيان سنوات،
متروكا ، مثل نبى هجره الوحى . أعبر على الأشياء فأراها كما هى أشياء.

إلى أن تضربنى الصاعقة، أو تحتضننى مطبقه علىّ جناحيها. فأتفصد عرقا، وأرتجف.
أنظر للأشياء ولا أراها. وأظل عليلا إلى أن تنتهى منى.
ثم أفيق من سكرتى فلا أجد صواعق ولا أجنحة.
أنا فقط وحولى الأشياء كما كانت. وفى يدى قصيدة.

أما الآن فأنا أعيش مالم أعشه من قبل.
حالة الكتابة مستمرة معى منذ أكثر من شهرين.
الحياة بكل مفرداتها مادة متاحة للكتابة دائما.
(الحياة نثر) وما على الكاتب سوى أن ينقلها من واقعها إلى الورق.
ولكن السر كله يكمن فى عملية النقل هذه.
كيف ترى نثر الحياة ومن أى زاوية. وأى المفردات يسترعى انتباهك أكثر من الآخر.

ثم الغلالة الرقيقة التى تغلف المشهد الذى وقع اختيارك عليه،
تلك الغلالة التى هى روح الكاتب ومزاجه الخاص.والتى تحول تلك المشاهد إلى نصوص.

المشاهد الغافلة التى تسبح فى ديمومة الوجود . والتى تنزلق عليها الأعين دون أن توليها أى قدر من الاهتمام. إلى أن تأتى عين الكاتب،
فتضعها بين قوسين، ثم تنقلها بحرص إلى الورق،
لتبدأ حياة جديدة لا تنتهى.

فاطمة

الجمعة 28/7
10 مساء

سبتمبر 75. بداية العام الدراسى. يوم السبت. الساعة السادسة صباحاً. محطة قطار محلة مالك.
توجّهنا أنا وأبى إلى المحطة, لنركب قطار السادسة والنصف, القادم من مطوبس، والمتّجه إلى دسوق، المحطة التالية مباشرةً، كنت أرتدى ملابس جديدة، مثل كل الطلبة أبناء محلة مالك: طلبة الإعددية, والثانوية بنوعيها: العام والفنى. الجميع متوجهون إلى مدارسهم وفصولهم الجديدة. كان أقرانى ذاهبين للمرة الأولى إلى (المرحلة الثانوية), وبالتحديد: مدرسة جمال عبد الناصر الثانوية العسكرية.
بينما أنا كنت متوجّها بصحبة أبى إلى الإسكندرية، ليتم حجزى فى المستشفى الميرى (مستشفى الجامعة).

كنا قد ذهبنا إلى عدد غير قليل من أطباء المسالك البولية، نقطعُ مع كل منهم مرحلةً طويلة، ثم نبحث عن آخر، ونكرّر نفس الخطوات: الأشعة، والتحاليل، وروشتّه جديدة, نسير عليها فترة, ثم نبدأ فى البحث والسؤال عن طبيب آخر.
آخر من ذهبنا إليه كان د. فاروق حمّودة، الذى قال لنا وكأنه يزف إلينا البشرى: هذا المرض (المثانة العصبية) عادةً لا يستمرّ سوى ثلاث سنوات، وينتهى من تلقاء نفسه. كان قد مضى عامان، وأنا استكثرْتُ المدة الباقية: عامٌ كاملٌ سيمرّ, قبل أن ينتهى هذا العذاب!. ولذلك بحثْنا عن طبيب آخر، وكان د. محمد محمود الغراب، كبير أطباء المسالك البولية فى الإسكندرية، ورئيس القسم فى الجامعة والمستشفى. عندما فحصنى، وقرأ تاريخ المرض، ورأى الأوراق والأشعة قال:
- المسألة مش بسيطة، وماقدرش أحدّد أىّ حاجة، لازم يتحجز فى القسم عندنا مدة .. مدة طويلة، عشان نقدر نعمل كل الأبحاث الضرورية، و يشوفه كل دكاترة القسم، وبعدين نشوف هنعملْ إيه.
وهكذا أخذ أبى أجازةً من عمله عاماً كاملاً بدون مُرتّب ، وتفرغ تماماً ليكون مرافقاً لى. وتحدّد يوم السبت، أول أيّام العام الدراسى, ليكون يوم دخولى المستشفى.

كنتُ فى غاية الحزن. أبكى بكاءً داخلياً لا ينقطع.
كانت (عايدة): البنت التى كنتُ مغرماً بها منذ الصف الأول الابتدائى، ولم أكن قد كلّمتها حتى تلك اللحظة, سوى بضع كلمات عجلى. والتى نشأتْ بيننا قصةٌ سريةٌ لم يعلمْ بها أحدٌ سوانا. لا تحتوى سوى على فصل واحد يتكرر دائماً، وينحصر فى نظرات لاتدوم طويلاً كلما التقينا، ولكنها كانت مشحونة بكل ما فى كتب الحب من كلام.
كنتُ أعلم أننى سأراها على المحطة, كالعادة, وسط صاحباتها. وستلتقى عينانا ولو لمرة واحدة، يتم فيها تبادل كلّ ما يمكن أن يتم فى لقاء طويل: ( إزيّك .. وحشتينى .. كلّ سنة و إنتى طيبة .. عام سعيد .. أنا سعيد ببداية الدراسة, عشان هاشوفك كل يوم ). والذى كان يذبحنى، أن (عايدة) ستعلم بلا شك, بطريقة أو بأخرى, أننى كنتُ ذاهباً إلى المستشفى, وستشفقُ علىّ، ولن تكون نظراتها هى هى, عندما ترانى بعد عودتى. وكنتُ موقناً أننى فى سبيلى إلى خسران شىء ثمين، أغْنَى حياتى إلى تلك اللحظة, ولاسبيل إلى تعويضه أبداً.

بعد أيام من احتجازى, صار قسم المسالك البولية فى الدور الخامس, بيتى الجديد. كان الدور مقسّماً إلى ثلاثة أقسام. كل قسم يتبع أستاذاً من الأساتذة الكبار. اثنان للرجال، وواحد للنساء. القسم الداخلى القريب من قاعة المحاضرات ومكتب رئيس القسم، كان يتبع رئيس القسم، ويتوارثه رؤساء الأقسام. يضم ثلاثة عنابر, يفصلها عن بعضها حائط زجاجىّ مصنفر. ولأنى تابعٌ للدكتور الغراب, رئيس القسم، تمّ تسكينى أنا وأبى, فى العنبر رقم 3 بجوار السلم الأوسط
كان القسم نظيفاً ومنظماً. يتمّ تغير الشفتات فى الثامنة. تأتى ممرضات الصباح, ليستلمن من ممرضات السهر. يكون كل المرضى قد استيقظوا قبل ذلك بساعة.
إذ أن الدادت أو العاملات يأتين فى السابعة، ويبدأْن فى مسح الأرضية والحوائط.
فى الثامنة, تغيّر الممرضات أغطية الأسرّة, وأكياس المخدات, ثم يأتى الإفطار (غالبا ما كان ينزل أحدُنا للاتيان بسندوتشات الفول والطعمية, من عند محمد أحمد القريب) وبعد ذلك يوزّعون علينا الجرعات الصباحية من الأدوية. ويجهزون من سيذهب لعمل أشعة, أو لإجراء منظار, أو جراحة.
فى التاسعة, يمر النائب ليطمئن على المرضى، يغير جرعة العلاج لأحدهم. أو يأمر بتجهيز آخر لعمل أى شئ. أو يكتب خروجاً لمريض ثالث.
النائب هو الدينامو الذى لا يهدأ طوال الوقت. يعرف كل شىء عن كل مريض. كنا نشعر أنه لا يبارح القسم ليل نهار.
كان يذهب إلى سكن الأطباء ليستريح بالطبع. لكننا كنا أحياناً نراه فى الفجر قادما ليطمئن على مريض ما.
كان د. عبد العزيز صبرى هو نائب القسم الشاب فى ذلك الوقت. كان شعلة نشاط لا تهدأ. الآن, أعتقد أنه قد صار رئيساً للقسم, أو كاد.
كانت هناك لوحةٌ خشبيةٌ صفراء, مكتوب عليها بالأسود, أسماء أطباء القسم حسب درجاتهم. فى الرأس رئيس القسم. ثم نائب رئيس القسم. ثم الأساتذة, حسب الأقدمية. ثم الأستاذة المساعدون. ثم المدرسون. ثم المدرسون المساعدون. وأخيراً نائب القسم.
يتم تغيير هذه اللوحة كل عدة سنوات, فتصعد أسماء, وتختفى أسماء، وتضاف أسماء.

كل يوم سبت, كان يمر الأستاذ رئيس القسم, وخلفه الاصطفّ كله كاملاً, ومعهم النائب. يكون صباح السبت دائماً هو أكثر الصباحات هدوءاً, ونظافةً, ونظاماً, وصمتاً, فى انتظار (المرور). يقف الأستاذ عند كل سرير بضع دقائق، يقوم النائب أثناءها بشرح ملخص للحالة، ويطلعه على الخطوات التى تم إنجازها، فيوافق الأستاذ، أو يوصى بإجراءت جديدة، أو يأمر بخروج المريض، أو تجهيزه للجراحة، ثم ينتقل إلى مريض آخر.
عندما كان يصل إلىّ, كانوا يقفون طويلاً.
كانت حالتى معقدة. اجتمعوا لأجلها هى فقط, مرات عديدة. كل يقترح حلاً أو يقدم تفسيراً. وتنتهى كل هذه الاجتماعات, إما بالتوصية بالاستمرار فى الإجراءات المتبعة معى، أو بإضافة إجراء جديد لتجربته.

هاجمتنى نوبة الاحتباس والارتجاع بعد أيام من احتجازى, وكانت حادةً وشرسة, وتعذّرَ علىّ التبول نهائياً لعدة أيام.
أذكر أن د. مجدى الرقباوى,وكان مدرساً مساعداً وقتها، قد جرّب معى لأول مرة: (القسطرة). كانت حلاً سحرياً. بمجرد أن أدخل القسطرة إلى مثانتى، عبر عضوى, انطلق البول بقوة, ولوقت طويل، حتى امتلأ الجردل بما يزيد عن أربعة لترات من البول والصديد. وأنا استرحتُ كما لم أسترحْ من قبل.
تعرفتُ على القسطرة, وتعرفتْ القسطرةُ على عضوى, ولم تتركه بعد ذلك.
فى أعقاب كل تبول, كانوا يُدخلون القسطرة ليقيسوا كمية البول المتبقى بعد التبول. وهل يحدث أى تغيّر فى حجمها بين فترة وأخرى؟ وفى أعقاب كل نوبة ارتجاع, كانوا يُدخلون نوعاً آخر من القساطر: (قسطرة فولى) وهى قسطرة دائمة, يتم تثبيتها فى المثانة لفترة, حتى تهدأ الكليتان تماماً, ويتم غسلهما بالمحاليل عن طريق الدم, حتى تطرحا كل الصديد العالق بهما.

القسطرة الفولى تختلف عن البلاستيكية العادية فى أنها من نوع رخو من البلاستيك، لكى تتشكل بشكل قناة مجرى البول, ولا تسبب أى أذى مع الوقت. تنتهى بثقب أو اثنين بجوار رأسها, ثم فتحة فى نهايتها لإخراج البول.

توجد قناة نحيلة ملاصقة للقسطرة, تبدأ من أسفل بسدادة، وتنتهى قرب الرأس بجزء رقيق قابل للنفخ, إذا حُقنتْ القناة بسائل ما- عبر السدادة - لتُصنع بالونة, تمنع القسطرة من الانزلاق من عنق المثانة. كان المفترض أن تُفتح القسطرة طوال الوقت فى خرطوم ينتهى بكيس لتجميع البول. حتى لا يشكّل تجمع البول أى ضغط على الكليتين المرهقتين. كنت أوصلها بالكيس وأفتحها طوال نومى. أما بالنهار فهى مغلقة دوماً بأمبول ما، وكل فترة, أذهب لإفراغ مثانتى فى دورة المياه, ثم أسدّها وأعاود الحركة فى كل مكان.

لم يمض وقت طويل حتى حفظنى كل الأطباء, والممرضات, والمرضى. وبينما أنا أتنقل من سرير إلى سرير، ومن مكتب لمكتب, كان أبى على سريره يقرأ الجرائد, أو يطالع كتاباً ما, أو ينام.
كنتُ أسهر مع ممرضات السهر حتى وقت متأخر, يتحدثْن فى كل شىء بلا خجل أمامى. حتى أنهن كنّ يُلمحن وسط الضحكات العالية, إلى أعضاء المرضى, ويقارنّ بين أحجامها.
مريض المسالك البولية لابد أن يغير علاقته بأعضائه منذ اليوم الأول. تنتفى الخصوصية والسرّية تماماً, وتصبح الأعضاء مكشوفة لأعين كثيرة: أعين الأطباء أولاً, ثم أعين الممرضات, وأخيراً بعض المرضى المتلصصين.
كانت الممرضة أحياناً هى التى تقوم بتركيب القسطرة, فى حالة عدم تواجد النائب. تمسك العضو (لابد من ذلك)، ثم تركب القسطرة. كنت أمتلئ بالرعب خوفاً من أن يتمدّد فى يدها. وكنت أهرب, أو أظلّ أماطل, حتى يجئ النائب.
تصاحبت مع (عصمت). كان أقدم منى بسنوات, ويكبرنى بعدة أعوام. كان صعيدياً يمتلك أبوه وكالةً لبيع الخضار فى الحضرة. وكان مدلّلا, وطيّباً, وظريفاً. صرنا لانفترق رغم تحذيرات أبى.
- الواد ده بايظْ ماتمشيش معاه.
علّمنى عصمت التدخين. كنتُ أدخن من قبل, ولكننى كنت هاوياً. احترفتُ على يدىْ عصمت. ذهبنا كثيراً فى جولات استكشافية فى المستشفى, وخارج المستشفى. إلى أن وصلنا إلى كلية الطب, وكافيتريا كلية الطب. كان يعاكسُ البنات, وأنا أتعلم منه فنون المغازلة, وندخّن طوال الوقت. وأخذ يمدنى بالمعرفة: "الدكتور فلان, بيحب الممرضة فلانة". "التومرجى الفلانى, على علاقة بالتومرجية الفلانية". وهكذا أضاء لى طريقى, ورسم أمامى الخريطة, وأنا سرتُ بعد ذلك معتمداً على نفسى تماماً.

أحببتُ (فاطمة)، أول حبّ ناطق فى حياتى - أحببت قبل ذلك كثيراً, لكنه كان حباً صامتاً أو سرياً - كانت فى الصفّ الثانى فى مدرسة التمريض, يعنى: (تانية ثانوى تمريض). أى أنها كانت تكبرنى بعام. كنّ يأتين أفواجاً للمكوث فى كل قسم لعدة أسابيع, ثم ينتقلْن إلى قسم آخر. ظهرتْ فاطمة فى حياتى, قبل شهر من مغادرتى المستشفى.
بمجرد رؤيتها تحوم فى القسم ببدلتها البيضاء, وكابها الأزرق, وسط زميلاتها، تغيرتْ حياتى فى التوّ واللحظة.
كانت تقضى بجوار سريرى معظم الوقت الذى تمضيه فى القسم. كلام.. لا نكفّ عن الكلام. تحدثنا فى يوم عن الدراسة. وأننى متأخرٌ كثيراً عن أقرانى. وأننى لستُ مهموماً سوى بمنهجَىْ اللغة الإنجليزية والفرنسية. الباقى يمكن تحصيله. وكنت خائفاً من قدرتى على استيعاب القصة:
أوبريشن مسترمايند (operation mr mind).
قالت: إنها لديها نسختها التى درستْها العام الماضى. وأن أغلب كلماتها مترجمة للعربى، سآتيك بها.
وفاجأتْنى بأنها عادت لى فى نفس اليوم, وقتَ الزيارة, وهى ترتدى ملابسها العادية, وفى يدها القصة. وأمضت معى وقت الزيارة كله.
خرجتُ من المستشفى بعد أن صار حبُّنا معلناً للجميع: زميلاتها, كل المرضى, والممرضات, ومن قبلهم أبى.
صرنا نتبادل الرسائل الملتهبة الطويلة. بعد قليل, أخذتْ تقصرُ رسائلها, وتطول رسائلى. ثم جاءتنى آخرُ رسالة, وفيها تأكيد على أن الحب الذى يجمعنا لن يموت, ولكنّها لا ترى أى أمل فى استمراره.
وأهدتنى نصيحة غالية:
- ياريت تسمع أغنية عبد الحليم (حاول تفتكرنى) وفكّر فيّا وانتَ بتسمعها, كأنى أنا اللى باغنيهالَك.
وظللتُ أسمع (حاول تفتكرنى) وتدمعُ عيناى.
لم أكفّ عن حبها. بل تعلّمتُ لأجلها الشعر.
كتبتُ الشعر من أجل: فاطمة محمد على جمال الدين. وكتبتُ أول قصيدة, ولم أصدق نفسى. كانت عموديةً, ومقفاةً, كما تَعلّمنا, تشبه اللزوميات. إذ تنتهى كل الأبيات بمقطع ثابت (آته): خفقاته, خلجاته, آهاته.

بمجرد أن انزلقَتْ قدمى إلى عالم الشعر, استحوذ على كل اهتمامى ومشاعرى. ورضيتُ به بديلاً مقنعاً لفاطمة. بل وشكرت فاطمة فى سرى, لأنها كانت السبب الذى دفعنى إليه.
كنت أكتب بغزارة, بالفصحى, وبالعامية, وفى كل شىء.
ولم تمض بضعة أسابيع على حالى الجديد, حتى شرعتُ فى كتابة سيرتى الذاتية.
وقتها, كنتُ قد قرأت الأيام لطه حسين. وكنت مفتوناً بها. أيضاً كنت قد قرأتُ رواية اسمها (الفارس), من سلسلة: روايات عالمية. كان الكاتب يصف دائماً ذلك الفارس, بطل الرواية المغوار, بأنه من (حثالة النبلاء). فوقَرَ فى نفسى, أن حثالة النبلاء تعنى: عليةَ القوم.

وبدأتُ سيرتى بالحديث عنى بوصفى غائباً, فأقول جاء صاحبُنا, ذهب صاحبُنا, متأثراً بطه حسين.
وفى إحدى الفقرات, بدأتُ الحديث عن والد صاحبنا, بأنه رجلٌ من حثالة النبلاء.
أكملْتُ عدة صفحات, ولم أطق الانتظار, فجريْتُ على أبى لأقرأ عليه ما كتبت.
أذكر: كان مستلقياً على ظهره فوق السرير، وأنا أقرأ واقفاً بجواره. كان يبتسم, إلى أن نطقتُ بعبارة: حثالة النبلاء, فامتعض, ونظرلى قائلاً :
- غيّر الكلمة دى.
- كلمة إيه؟.
- حثالة.
- ليه؟
- ابقى شوف كلمة غيرها.. كمّل.

ظللتُ لسنوات طويلة لا أفهم هذا الطلب الغامض من أبى, إلى أن عرفتُ فيما بعد, معنى كلمة حثالة, وعرفتُ أنه كان مُحقاً تماماً فى طلبه هذا.