تكشف هذه الدراسة للباحث والروائي التونسي المرموق عن المسكوت عنه في هذا الكتاب الرائد والاستثنائي في ثقافتنا العربية، وتميط اللثام عن خلفيته الفكرية والفلسفية التي أدت إلى سوء فهم الكثيرين له، وعن ريادته وكشوفه الباشلارية قبل باشلار بزمن غير قصير.

المسكوت عنه في «الخيال الشعري عند العرب»

في كتاب أبي القاسم الشابي

نزار شقرون

لا يموت الشّاعر طبعا لأنّه مجبول على الالتحام بقوى الوجود الجوهريّة التي لا تكفّ عن الحضور في كلّ مكان وزمان، ولا يعدّ الموت البيولوجي غير ارتهان مشترك بين الكائنات لحقيقة مطلقة. وما الشّابي غير شاعر حوّلته الرّؤية العميقة رغم انحسار الامتداد الزّمني إلى إنسان خالد، ورغم انقضاء هذه العقود على رحيله فإنّ سؤال راهنيّة تطلّعاته تبقى جائزة خاصّة في سياقات ثقافيّة تونسيّة وعربيّة جعلت منه سلطة أدبيّة، وقامة إبداعيّة تسبّب بعض النّتاج النّقدي في تأليهها دون وعي بسلبيّة هذا التّأليه، بل بتضاربه مع رؤية الشّابي الفنّيّة. ولذلك لا يمكن النّظر إلى سؤال الرّاهنيّة من زاوية تصنيم شعريّة الشّاعر بقدر ما يجب الوقوف عند المكوّنات الأساسيّة التي تجعل من الشّابي راهنيّا وغير مرتهن بالتّمشّي التّصنيمي الذي تنطلق منه مقاربات نقديّة شكّلت في الحقبة الأخيرة بديلا رمزيّا لـ "المناصب الشّرعيّة" التي قاومها الشّابي، وانصرف عنها لكونها مرادف أمين لسلطة التّحجّر في الوجود. لقد وقف الشّابي ضدّ مألوف الرّؤية الشّعريّة بشكل متناظر مع سعيه إلى التّجديد. فاصطدم بالذّائقة العربيّة حين واجه بشكل متميّز وعجيب «الخيال الشّعري عند العرب». لقد توقّف الشّابي عند جوهر ماهيّة الشّعر، أي عند الرّؤية الشّعريّة التي تكون بمثابة المولّد الرّئيسي للفعل الإبداعي، وهو في هذا الوقوف ما يزال راهنيّا، فمجمل الكتابات والتّجارب العربيّة الرّائدة ما تزال تواجه "الرّؤية المحنّطة للخيال العربي" التي تحوّلت لدى المتلقّي العربي إلى نوع من الطّوطم، لا تجب مهاجمته، ولا زحزحته عن كاهل الشّعريّة العربيّة. لقد اختار الشّابي أن يكون في رؤيته متّصلا بالرّؤية الغربيّة التي لها "رنّة عميقة داوية" في مقابل الرّؤية العربيّة ذات "الرنّة السّاذجة البسيطة"، وما هذه الرّنّة غير إيقاعيّة الشّعريّة الثّائرة التي تتوهّج في أعماق الحياة والوجود، وبقدر ما تلمّس الشّابي راهنيّة لامارتين وغوته في عصر، بقدر ما نستشعر راهنيّة الشابّي اليوم دون أن نخفي موقفنا النّقدي من كلّ الكتابات التي زعمت قراءة الشّابي دون أن تقرأه فعلا.

كلّما دلفت إلى كتابه (في الخيال الشعري) أدركت أنّنا لم نقرأ بعد ما يجب قراءته، وأنّ ظلم الشابي ما يزال مستمرّا من قبل دارسيه ونقّاده. ففي كلّ قراءة تتراءى لي إشراقات فكريّة وحسّ مستقبلي وإلماعة روح تستوطن الآتي أكثر ممّا تقيم في الحاضر. نحن اليوم، بالمعنى الرّاهني، نحتاج إلى إعادة قراءة الشّابي خارج موجّهات المقاربات السّابقة التي سيّجته في دائرة الرّومانسيّة العربيّة، أو التّأثّر بالشّعر المهجري، أو الشّعر الوطني فحسب، فإذا نوينا الحديث عن الرّاهنيّة لن نجد مناصا من تحرير الشّابي من معتقل المنظار النّقدي، ولا نغالي حين ندعو إلى تجديد قراءته دون أن نتعالى عن دراسات نقديّة استطاعت أن تلتحم بنسغ الرؤية الشّعريّة للشّاعر.

نادى أبو القاسم بأن يكون الشّعر ابن الحياة، وهو الذي صرّح بأنّ "لكلّ عصر حياته التي يحياها ولكلّ حياة أدبها الذي تنفخ فيه من روحها القشيب"، وهو يفرّق بين "شعر الحياة الخالد وبين شعر السّخافات والتّقاليد" وهو بذلك قد أمعن في تأسيس رؤية للشّعر تلامس جوانب رؤية الشّاعر المعاصر، بل علّه بلغ رغم يفاعته درجة التّمكّن من جوهر العمليّة الشّعريّة من حيث الوعي بمولّداتها والوقوف على أفقها الممكن والمستحيل في آن. ألم يكن هجومه على الخيال العربي من أبرز الأطر النّظريّة التي ولّدت تجربته الكتابيّة؟ ومع ذلك تحتاج مواقف الشّابي في هذا الصّدد إلى إعادة قراءة دون مغالاة بالطّبع ودون إسقاط لمفاهيم معاصرة على مباحثه، بل إنّ أهمّ ما يمكن بحثه في حدود الرّاهنيّة هو الآليّات الفكريّة والشّعريّة التي جعلت من روحه روحا ثائرة، تتّجه إلى عمق الحياة باعتبارها معين التّجربة الشّعريّة ومداد كلماتها. ثمّة دعوة إلى التّناغم الشّعري مع الحياة بما في ذلك الإنصات الشّفيف إلى خفقانها. ألا نحتاج اليوم إلى شعر يتناغم فعلا مع الحياة؟ أي إلى شعريّة تكون بنت الحياة لا بنت البلاغة؟

لاختبار هذه الرّاهنيّة نستدعي المدوّنة النثريّة للشّابي، دون أن نغفل عن شعره، نستنطقها بما هي السّند المرجعي لتفكيره، فهي إضافة إلى فعله الشعري لم يحترز من الكتابة النثريّة، بل جعلها جزءا من حياته الإبداعيّة، وربّما بقيت هذه الكتابة بعيدة نسبيّا عن التّناول النّقدي قياسا بالاهتمام البليغ بـ "أغاني الحياة"، فقد تحاشى بعض النّقّاد إعمال النّظر في هذه الكتابات مخافة أن تعرقل المنهج النّقدي على الغوص في جماليّة النصّ الشعري. إلاّ أنّنا نقف عند هذه الكتابات النثريّة وتخصيصا كتاب (في الخيال الشعري عند العرب) للتّوغّل في بؤرة تكوّن الرؤية الشعريّة باستقصاء المكوّن الفكري لمسألة الصّورة الفنّيّة لدى أبي القاسم الشّابي.

1 ـ في التباس تصنيف كتاب "الخيال الشعري" وغربته:
ينشأ البحث في الصّورة الفنيّة من زاوية اكتناه لماذائيّة الشعر، حيث يدور السّؤال في منبت الشّعر وماهيّته وهو بذلك يتّصل بميتافيزيقا النّشأة والتّبلور. وحين نضع المنجز النّظري للشّابي وخاصّة كتابه (في الخيال الشعري عند العرب) تواجهنا مشكليّة التّصنيف. فهل نعدّ الكتاب نقدا، أم تنظيرا، أم نوعا آخر يشبه ما نسمّيه راهنا بـ "البيان الشّعري"؟ لكنّ الشّاعر لا يتعرّض لتجربته الشّخصيّة في الكتابة، ولا يبني لها نسقا بشكل مباشر، وإنّما يمرّر في كتابه مواقف وأفكار هي تعبير صادق عن رؤيته لـ "الشعريّة العربيّة القديمة". وهو في هذا التّناول يعبّر عن طبيعة الكتابة التي يرنو إليها، فدحضُ هذه الشعريّة والتّمرّد عليها في المتن النّظري يحمّل الشّاعر مسؤوليّة تحقيق هذا العدول في مستوى كتابته. لذلك يعدّ الكتاب في نوعه صيغة متداخلة للنّقد والتّنظير والتّبشير، فعلا ثمّة بعد تبشيري في الكتاب، وهو سمة البيانات التي تنزع إلى تحطيم السّائد ثمّ التّلويح بأفق جديد. ولئن صحّ القول بنسبة ضئيلة، أنّ الشّابي شحيح في الحديث عن تجربته فإنّه في تنظيره للشعر مفهوما وتشكيلا جعل من ذات الشّاعر ذاتا نموذجيّة حامت حولها جميع تصوّراته. ففي حديثه عن الشّاعر بإطلاقٍ إدماجٌ لذاته في هذه الذّات الشّعريّة الكونيّة، وإذا ما فهمنا هذا الأسلوب الذي يتّبعه الشّابي، فإنّنا نسحب بذلك جميع مكوّنات الرؤية الشعريّة العامّة للشّعر إلى رؤيته المخصوصة، فندرك بهذا أنّ رؤيته لـ "الشعريّة الجديدة" نابعة من تجربته الذّاتيّة، عكس ماذهب إليه بعض النّقّاد، ومن بينهم إحسان عبّاس، حين أنكر على الشّابي ذلك بقوله: "لا يحدّثنا الشّابي عن لحظة الإبداع في حياته الشعرّية، وهو في حديثه عن الخيال الشعري عند العرب يستشهد بتجارب غيره، ولا يقف عند تجربته الذّاتيّة في هذا المجال"(1).

ولكنّ كتاب (الخيال الشعري عند العرب) يصدر عن تجربة مخصوصة لذات الشّابي. وربّما مثّل التباس تصنيف نوع الكتاب في هذا الحكم القاسي، وفي غير هذا الكتاب لا يداري الشابّي اندفاعة الشّعر ومقامات نشوئه. فهو في مذكّراته يصدح: "إنّني شاعر. وللشّاعر مذاهب في الحياة تخالف قليلا أو كثيرا مذاهب النّاس فيها. وفي نفسي شيء من الشّذوذ والغرابة أحسّ أنا به حين أكون بين النّاس. يجعلني أتبع سننا ورسوما تحبّها نفسي، وربّما لا يحبّها النّاس. وأفعل أفعالا قد يراها النّاس شيئا محبوبا، وألبس ألبسة ربّما يعدّها النّاس شاذّة عن مألوفاتهم (..) أنا شاعر. والشاعر يجب أن يكون حرّا كالطّائر في الغاب، والزّهرة في الحقل، والموجة في البحار"(2).

واجه الشّابي معارضة من قبل النّقاد في تونس وفي المشرق، فنقدُ الشعر العربي القديم أثار مواقف ضديّة قديمة وحديثة تفيد نوعا من الاتّفاق النّقدي أساسا حول "مغالاة" الشّابي وإفراطه في الحماسة. واللاّفت أنّ الشابي دفع بالكتاب إلى المطبعة بعد سنة من إلقاء محتواه في شكل محاضرات "دون أيّ تنقيح أو زيادة أو حذف" كما أكّد هو نفسه في تصدير الكتاب. ويرسّخ هذا التشديد إمعان صاحبه في المحافظة على أفكاره، رغم عداوة البعض لها، وهي ممارسة تجنح إلى بيان إصراره على تأكيد سمتين أساسيّتين في الكتاب أوّلهما نبرة التّمرّد والجرأة؛ وثانيهما عدم التّراجع عن أفكار الكتاب. ويؤكّد هذا التّمشّي إيمانه برؤيته التّنظيريّة.

بعد صدور الكتاب ببضع سنوات يقدّمه الكاتب مختار الوكيل في مقالة بمجلّة (أبولو) فيعارض ما ذهب إليه الشّابي من إنكار الخيال الشعري عند العرب، معتبرا هذا الحكم متطرّفا، ولئن التمس عذرا للشابي بردّ الحكم إلى "شحذ القرائح واستنهاض الهمم حتّى يصل الخيال الشعري على أيدي الشباب العرب إلى درجة سامية، لم يحلم بها السّابقون في هذا الميدان"(3). فإنّنا نجد في هذا العذر/ المبرّر نوعا من النّقد الملطّف، وهو ما يتكرّر في كتابات نقديّة أكثر عمقا ومعاصرة. فنعثر على الموقف ذاته للنّاقدة سلمى الخضراء الجيّوسي التي اتّهمت الشّابي بعدم فهمه لروح العالم القديم وشعره وحركة الفنّ في المجتمع الجاهلي أو الإسلامي. وهو اتّهام ينقض كليّة مشروع الشابي في كتابه (الخيال الشعري عند العرب) ويعني ذلك أنّ الشابي يفتقر إلى آليّات قراءة النّتاج الشعري القديم، وهذا ما صرّحت به الجيّوسي: "إنّ هجوم الشابي في هذه المحاضرة على الموقف الكلاسيكي العربي من المرأة ـ وهو موقف معقّد لم ير فيه الشّابي إلاّ وجها واحدا ـ وعلى مدلولات الشعر الحماسي الجاهلي وحيويّته في مجتمعه، يكشف نقصا في ثقافته الكلاسيكيّة في إلمامه بتاريخ المجتمع العربي ودور الشعر فيه. غير أنّها تقف شاهدا على روح الفترة التي كان يكتب فيها، وعلى جرأته الشّخصيّة النّادرة، وثورته ورفضه وطموحه"(4). ولا يذهب جلّ النّقد هذا المذهب في إنكار معرفة أبي القاسم للشعر العربي فقد نجد حكما مختلفا ومناقضا بشكل مطلق.

يُشيد فؤاد القرقوري بثقافة الشّابي قائلا: "إنّ محاضرته عن (الخيال الشعري عند العرب) لخير دليل على إلمام أبي القاسم بالأدب العربي منذ عصوره الأولى، وعلى دقّة فهمه لخصائصه وسعة معرفته لأعلامه"(5). وفي رأيه مناصرة ضمنيّة للنتائج التي باح بها الكتاب، لكنّ هذا الرّأي بقي محتاجا إلى تفصيل. لذلك فإنّ مجمل الموقف النّقدي يفنّد تصوّرات الشابي ويحكم على ثقافته بالهشاشة، وهو ما تسبّب نسبيّا في إهمال النّقد لهذا الكتاب، وكأنّ نتائجه هزيلة ومردودة على صاحبها حيث لم يقع غير تثمين نبرة الشابي دون محتوى رؤيته في صيغة تنفي عنه صفة النّاقد والمنظّر ولا تجلّ غير صفة الشاعر. ولا يعني ذلك أنّ المتعاطفين مع كتاب الشابي قد أنصفوه أيضا لأنّ تمجيدهم للكتاب وجّه نحو مساندة الشابي في هجومه على الجمود في الشعر القديم. فمن بين معاصري الشابي ينتصر زين العابدين السنوسي للكتاب بقوله: "الشيخ أبو القاسم لم يتحاش أن يصادم في كثير من النقد بخطابه ذاك، مراكز كانت نفوسنا متوطّنة عليها. إذ صارحنا في هذا السّمر بنقد الأدب العربي، الذي خلدت نفوسنا منذ أمد الدّراسة على أنّه مقدّس وعلى أنّه المثال الأعلى الذي يجب أن يرفع له ذوو الكفاءات نتائجهم في وجل"(6). ومن بين اللاّحقين من النقّاد نعثر على رأي شوقي أبوشقرا بقوله: "أهميّة الشابي في هذا الكتاب هي وقفته الرّافضة"(7)، فيتوافق المساندون مع الرّافضين في إقرار "نبر الشابي" ويهاجم الرافضون محتوى الكتاب بينما يسكت المساندون عن الخصائص التّثويريّة له.

إزاء التّلقّي السلبي للنّقاد سارع الشّابي إلى الردّ على المشارقة دون التّونسيين، متّهما إيّاهم بقصور الفهم وعدم التّمييز بين نوعين من الخيال: "الخيال الصّناعي" و "الخيال الفنّي". ولكنّ هذا الردّ والتّوضيح لم يلجم النّقد من مواصلة تأكيد الحكم بتسرّع الشابي في دراسته للأدب العربي وافتقاره لثقافة واسعة تجعله على بيّنة بخصائص الشعريّة العربيّة. ولقد حدس الشابي أنّه يتعرّض لمسألة في غاية التّركيب، وهي مسألة "الخيال"، بل إنّه لامس أخطر مكوّن في العمليّة الشعريّة برياديّة واضحة حيث لم تشهد تلك الفترة التّاريخيّة تناولا لـ "الخيال الشعري العربي" وحسبه أنّه كان فاتحا لهذا المدار الفكري في نقد الشعر. لذلك جاء خطاب كتابه ملتبَسا بين روح الشّاعر الذي اكتشف أرضا بكرا في التّفكير العربي، وبين بناء كتابي يجمع بين صنعة النّقد وأدوات المفكّر والمنظّر. وإذا كنّا نقرّ بجدّيّة مبحث الشّابي وطرافته في ذلك العصر، فإنّنا ننظر في نتائجه ضمن أفق عصره، دون أن نظلمه فنطالبه بالعمق النّظري الذي تبلور لاحقا في كتابات الغربيّين بالخصوص. ولم يكن الشابي في كتابه مجرّد شارح، مثلما ذهب إلى ذلك أبو شقرا، وإنّما تحلّى بصفات من يمشي في سبيل غير مطروقة وغامضة المسالك.

2 ـ النّزوع التّصويري المبدع:
نتعمّق في مسألة الصّورة لدى أبي القاسم فإذا نحن في حوار مع الينبوع الصّافي لرؤيته الشعريّة، أي المعين الأساسي لاندفاعة شعره. ولا ننفي عن هذا الينبوع أثر شخصيّته ونفسيّته المتألّمة. هذه النّفسيّة التي استطاعت إلى جانب الفكر فيه أن تهتدي إلى تشكيل نبع التّصوير الفنّي. وقد نجد بعض النّقّاد من اهتدى إلى أهميّة هذا النّبع مثل فريد غازي حين أفرد فصلا في كتابه عن الشابي بعنوان "النّزعة الإبداعيّة" فتلمّس دون أن يبلغ أقصى البحث مكمن الشّاعريّة ومرتكز الفعل الإبداعي للتصوير الفنّي، بل إنّه لم يفهم آنذاك مرمى نزعة الشابي وعمقها، ظنّا منه أنّها مجرّد فكرة "مستقاة من فيض ينبوع الإبداعيّة الغربيّة"، وهي "فكرة جبرانيّة محضة". واتّهم أبا القاسم بنقص في الإدراك النفساني والعقلي، وذو نزوع هروبي لم يتعقّل متغيّرات المجتمع ولا حركته التاريخيّة وهو يشبه الإبداعيين الغربيين الذين لاذوا بالأشواق المبهمة. يقول عن هذه النّزعة: "وهي نزعة بيّنة عند الشابي وعند كثير يتّسم بها إلى يومنا في بلادنا وفي غير بلادنا نفر غير قليل، نزعة ما نزال نطالع آثارها على صفحات جرائدنا ومجلاّتنا، تمتاز بالهروبيّة من كلّ مسؤوليّة، وبأشعار مشوّشة، تتخلّلها العبارات "الميتافيزيقيّة" الرّنانة الفارغة كلّها دموع وعواطف، تناثرت فيها الزّهور.. والعطور.. والبخور.. والحرير"(8).

ولئن ردّ غازي هذه النّزعة إلى جهل الشابي بأحوال مجتمعه واضطراب نفسيّته إلى درجة التعقّد، فإنّه لم يميّز بين نزوع التقليد والاتّباع في التجربة الشعريّة وبين أصالة تجربة الشابي في مراودته للوجود وانغراسه في إشكاليّة انبثاقة الشعر. فتهيّأ له أنّ أبا القاسم يتّكئ على الإبداعيّة الغربيّة فينسخها، وكأنّ شعره ليس صوتا لتجربته في الوجود. لذلك فإنّ اتّجاه النّقد إلى إغفال وعي الشاعر بمشكليّة الشعر، واتّهامه بالهروب هو من باب الجهل بقيمة أساسيّة في تجربة الشّاعر، وهي وقوف الشاعر في حضرة الشعر ذاته. لننصت إلى أبي القاسم في أنينه المدوّي: "إنّني طائر غريب بين قوم لا يفهمون كلمة واحدة من لغة نفسه الجميلة، ولا يفقهون صورة من صور الحياة الكثيرة التي تتدفّق بها موسيقى الوجود في أناشيده، الآن أيقنت أنّني بلبل سماوي قذفت به يدُ الألوهيّة في جحيم الحياة. فهو يبكي وينتحب بين أنصاب جامدة، لا تدرك أشواق روحه، ولا تسمع أنّات قلبه الغريب.. وتلك هي مأساة قلبي الدّامية"(9) .

يمكن أن نعثر على هذا الفيض من اللّوعة مبثوثا في كتابات عربيّة وغربيّة لمبدعين من أزمنة متفرّقة ولغات متنوّعة. وذاك لا يفنّد أصالة التّجربة ولا يعدمها بمثل ما لا يتّهمها بالانبتات عن المجتمع. كلّ ما في الأمر أنّ نفس الشاعر أيّا كان منبته تتّصل بينبوع كوني للإبداع، كلّما انفضّت عن المادّي، وتكشّفت على عالم الرّوح. كما يمكن أن نستشفّ من خلال هذا المقطع القصير من إنشاد أبي القاسم دقّة إدراكه لمكوّنات الفعل الشّعري في ربطه بين الشعر واللّغة وبين الشعر والصّورة. فروحه التي تحترق شوقا بيتها اللّغة، ومدادها الصّورة. ولا تفيد غربته بين بني قومه معنى الانقطاع عنهم، وإنّما تعكس فهمه العميق لغربة القوم عن أنفسهم وعن الوجود، فلا ينبع ألمه من شقاء ذاته، وإنّما من لوعته على بني قومه الذين استحالوا إلى أنصاب مهجورة من الرّوح. وانحاز الشّابي إلى كلام النّفس، مفرّقا بينه وبين اللّغة، وهو تمييز شعري خلاّق في زمنه. فسؤال الشعر مرتبط بسؤال اللّغة، وسرّ فجيعة الشاعر الذي يتّخذ من الطّائر رمزا له عجز النّاس عن فهم "لغة نفسه" وهي لغة ليست كلغة القوم بلا ريب، أي أنّها الكلام الشعري بامتياز. وما انقطاع النّاس عن لغة الشاعر، إلاّ انقطاع عن لغة نفوسهم أيضا.

هكذا يكون الشاعر محلّقا بين أرض وسماء، بين لغة القوم ولغة نفسه، ممزّقا بين ثنائيّات عديدة: البلبل السّماوي/ جحيم الحياة، أشواق الرّوح/ أنصاب جامدة. تلك هي نفس الشّاعر تخفق بحدّة التّباين الذي تسعى اللّغة إلى صياغته. لكنّ أبا القاسم يحدّد المنازل فيجعل اللّغة دون الخيال لأنّها "أصغر وأعجز" و "ضيّقة ومحدودة" ولا يراها مادّة جامدة تستقرّ في النّفوس وتحملها البشريّة، وشرط انفتاحها على المجهول موكول بشحذها بالخيال، فهو يصرّح بأنّ "اللّغة مهما بلغت من القوّة والحياة فلا ولن تستطيع أن تنهض من دون الخيال(10)" فالخيال بتعبيره هو "الكنز الأبدي" للّغة تستمدّ منه جذوتها، ولكنّه على عكس اللّغة، لا ينفد بينما اللّغة عاجزة عن "استيفاء ما في النّفس الإنسانيّة من عمق وسعة وضياء"، ويعني ذلك أنّ مغامرة اللّغة محفوفة بالعجز، في حين تظلّ الرّوح محلّقة أبدا. يأتي "التّصوير" في منزلة تالية بعد اللّغة كأنّه يشكّلها، وهو تصوير يتّخذ من الحياة منبعه الرّئيسي، غير أنّه تصوير موصول بالموسيقى وهنا ينشأ انزياح رائع. فالشّابي يرفع المحسوسات إلى درجة المجرّد. لأنّ القوم يرون بأعينهم دون أن يستطيعوا بلوغ طور القبض على رؤية اللاّمرئي من خلال المرئي. فمن يستطيع القبض على الموسيقى أو رؤيتها؟ ألا يتعرّض الشّابي إلى ذائقة جماليّة جديدة تهفو إلى السموّ بالعين من البصر إلى البصيرة، من الحسيّ المشاع مثلما تشاع الغريزة إلى الرّوحي الذي ينعتق من "غباوة" مفرطة كان الشابي في عداء دائم لها. ألم يكن مشروع الشابي أن تتحوّل العين إلى أذن، أن تنصت العين وتخترق حجب الرّوح بافتضاضها للصّورة؟

3 ـ الخيال الشعري موطن الصّورة:
يتلمّس الشابي مناطق جديدة، ولا أحد يتعاظم لمطالبته بأنى يكون مفكّرا بالمعنى التّام للكلمة، أو عالِما، حسبه أنّه شاعر قاده حسّه الشعري، وصدقيّة تجربته إلى تناول قضيّة الصّورة من باب التّخييل، دون أن نتبيّن لهذا التّناول مرجعياّت فكريّة محدّدة، ومعلن عنها في خطاب الشّابي. وإن كانت مؤثّرات عربيّة وغربيّة ثاوية في بعض ردهات الخطاب، فإنّنا لا يمكن أن ننكر طليعيّة طرح الشابي. وحين تعرّض لمشكليّة الخيال الشعري، فقد وضع نظره على مكوّن منسي في بناء الفكر العربي، والغريب أنّ ما اهتدى إليه الشابي صنّف في باب خطاب شاعر حول قضيّة شعريّة، فحجبت بذلك إضافته النّوعيّة. لم يطرح الشابي هذه المشكليّة من منظار الشعر فحسب وإن تقيّد بإطاره العام وإنّما طرحها من زاوية أشمل تمتدّ على الفكر العربي الذي ينتمي إليه. وكأنّه سارع إلى توكيد أهمّية قراءة الفكر العربي من زاوية "الخيال" فيه. ولذلك فإنّ تصوّرات الشابي اختُزلت كثيرا وسطّحت بردّ معركته إلى معركة ضيّقة ضدّ الشعر الكلاسيكي، في حين أن ما انتبه إليه من خطورة اكتفاء العرب بنوع من نوعي الخيال، لم يعره المفكّرون في عصره، أو بعد عصره أيّ اهتمام.

لقد أفصح الشّابي عن مشروعه فقال: "إنّني لا أقصُر بحثي على ما أبقاه العرب من شعر ونثر ليس غير، بل إنّني سأجتاز هذين إلى قسم آخر هو كالشعر صورة مغرية من صور الخيال". ولئن عنى بهذا القسم الأساطير العربيّة فإنّ في انزياحه عن المطابقة بين الخيال والشعر انفتاح على ما أسماه بـ "جوانب الحياة الفكريّة" التي راح يبحث عن حضور الخيال فيها ومقوّماته، مشخّصا أشكاله وتمظهراته. فلا يعقل بعد ذلك أن نأسر جهده ودراسته في باب الشّعر. لأنّه لم يقصد بالخيال الشّعري، خيالا منغلقا على نوع مخصوص من الكتابة وإنّما لم يجد مصطلحا آنذاك يدقّق ما كان بصدد اقتفاء أثره، فبحثه ينخرط في "الخيال الشّاعري" أو في ما يمكن أن يسمّى راهنا بـ "بويطيقا الخيال".

إذن يأتي جهد الشّابي خارج التّصنيفات الكتابيّة، وحين واجه مسألة الصورة، فبحدس خارق، لأنّها زلوقة، ولهذا السبب لم يفهم النّقّاد نتائج مبحثه، فالصورة بالتعبير الباشلاري "لا تحتاج إلى دراسة أكاديميّة" فهي بنت الرّوح بدل العقل، وتكون متّصلة بـ "الوعي الحالم". وفي التّصوّر الباشلاري ليست الصّورة الشعريّة ذات طبيعة تكوينيّة بل تنويعاتيّة. فلا يمكن لقارئ الشعر أن يبحث عن الصّورة الشعريّة كبديل عن شيء إذ لها حقيقتها. ليست هناك علاقة سببيّة بين الصورة الشعريّة والأنماط العليا، وهي ليست صدى للماضي. هناك إقرار بوجود هويّة وديناميّة خاصّتين بالصّورة. ولكنّ أبا القاسم لامس هذه الجوانب قبل أن يتعمّق فيها البحث الفلسفي، منشئا هذه العلاقة الصميمة بين الخيال والصورة في تعريف قوامة التّمييز بين نوعين أساسيين من الخيال، يرتبط الأوّل بما اصطلح على تسميته بـ "الخيال الفنّي أو الشعري" الذي "يضرب بجذوره إلى أبعد غور في صميم الشعور"، وليست له صلتة بالعقل ككابح لإمكانات الفعل الإبداعي. ويتّصل الثاني بما أسماه بـ "الخيال الصّناعي" القائم على المجاز والتشبيه والاستعارة. ويبوح الشابي بتجنّبه للدرس البلاغي، فهو مبحث "جاف" و "جامد" لأنّ الصّورة تنبع من الرّوح، ومن عوالم قصيّة في ذات الإنسان، فلا تخضع لاشتراطات بلاغيّة، دون أن يجرّه هذا الموقف من ازدراء للبلاغة كوسيلة في صياغة اللغة الشعريّة والصّورة. لأنّه يتعقّب الصّورة في تخلّقها، مفرّقا بين تخلّق صناعي طينته حذق بلاغي وتخلّق طبيعي ينساب فيه الشّعور ويتوسّل حينها باللّغة القاصرة.

يقف الشابي ضدّ البلاغة كمنظار يتيم للشعر العربي وهو لا يتّخذ مكان البلاغي ليدرس الشعر الكلاسيكي، فذلك بعيد عن مطمحه كباحث عن ماهيّة الأشياء في العالم. كأنّ البلاغة ستر لـ "طفولة الشعر" وهو معنيّ بهتك هذه الطّفولة.. بتحريرها رغم قدريّة مرورها عبر اللّغة وعبر البلاغة. ثمّة اختلاف في الهدف بين شعريّة تتلوّى في ألاعيب البلاغة وبين شعريّة تتوق إلى معانقة الشعر/ الحياة، فتحيا في "نهر الإنسانيّة الجميل الذي أوّله لا نهاية الإنسان، وهي الرّوح، وآخره لا نهاية الحياة وهي الله". بذلك يقتحم أبو القاسم في بحثه عن الخيال ميتافيزيقا تكوّن الشّعر. إنّه يتعرّض لعوالم التّدفّق والتّجدّد والأحلام في تجربة إنسانيّة ليس الشعر غير تعبيرة من تعبيراتها. فلا تتكوّن الصّورة إلاّ من ذاك التّوهّج بين قطبين للجذب هما: الرّوح واللّه، أي خلود الإنسان وخلود اللّه، وبتعبير أكثر دقّة: "إنّه ينغرس في لحظة الأبديّة".

ينزّل الشابي نظرته لـ "لشاعريّة" في مدوّنة الشعر العربي مسلّطا منظاره على طريقة بناء الصّورة لدى الشاعر العربي الكلاسيكي:

"فالشّاعر العربي إذا عنّ له مشهد جميل استخفّ نفسه واستفزّ شعوره، عمد إلى رسمه كما أبصره بعين رأسه، لا بعين خياله، فأعطى منه صورة واضحة أو غامضة، على حسب نبوغه واستعداده ولباقته، في الرسم والتّصوير، دون أن يكشف عمّا أثاره ذلك المشهد في نفسه من فكر وعاطفة وخيال، كأنّما هو آلة حاكية ليس لها من النفس البشريّة حظّ ولا نصيب، فهو كالمصوّر الفوتوغرافي، لا يهمّه إلاّ التقاط الصّور والأشباح، ولإظهارها كما هي دون أن يرسم معها صورة من نفسه، ولونا من شعوره، تاركا للمشهد وحده أن يثير في نفس النّاظر ما يثير، حتّى إذا ما تصرّف فلا يعدو التّزويق والتّنميق حتّى يبدو الرّسم جميلا خلاّبا يستهوي الأفئدة ويختلب النّفوس، تلك هي الطّريقة العربيّة في تناول الأشياء والنّظر إليها، إلاّ أفرادا قلائل شذّوا عن هاته الطّريقة في بعض أشعارهم كابن الرّومي، وأبي تمّام، والبحتري".

يحدّد الشابي بوضوح تامّ كيفيّة انبناء الصّورة لدى الشاعر العربي النّمطي، فينزّهه عن صلته بالتخييل لغلبة الحسي لديه، فهو ينظر إلى الأشياء من حوله بعينه الغريزيّة دون أن ينفذ إلى العالم ببصيرته وروحه، أي أنّه يحاكي الطّبيعة دون الغوص فيها، أو مباشرتها بشعوره، ودون التورّط في أعماقها، يرسمها بحياديّة تتطابق مع "المصوّر الفوتوغرافي"، في حين أنّ الشاعر مطالب بأن يسكن في الحياة دون "آلة حاكية". وليس في هذا النّزوع احتفاء بالذّات والفرديّة المطلقة على حساب موضوعيّة الواقع، فقد نحيد بذلك عن فحوى رؤية الشّابي. إذ الذّات لديه لا تتمركز في العالم إلاّ بمعنى أنّها مستقرّة فيه حدّ التّوحّد، ومتورّطة في الحياة دون هروب بل لا يمكن إرجاع التّوكيد على فعاليّة التّخييل إلى نوع من الانهزام أو ترك الواقع بحجّة احتماء الشاعر في غابة الرّومانسيّين لأنّ الشابي لم يدع إلى إدبار الشعر عن الحياة بل دعا إلى تجاوز مادّيّة التّصوير لبلوغ الماهيّات لأنّها ولاّدة الشاعريّة ومتى كان الشّعر مجبولا عليها يصير تصويره للحياة أكثر عمقا ونبلا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ إحسان عبّاس: لحظة الإبداع عند الشّابي ـ في كتاب: دراسات عن الشّابي ـ الدّار العربيّة للكتاب ـ ط 2 ـ 1984 ـ ص. 238.
(2) ـ أبو القاسم الشّابي: مذكّرات ـ دار المعارف، تونس ـ الطّبعة الثانية ـ 1997 ـ ص. 84.
(3) ـ مختار الوكيل: الخيال الشّعري عند العرب ـ مجلّة أبولو ـ مجلّد 1 عدد 7 ـ مارس 1933 ـ ص. 833.
(4) ـ سلمى الخضراء الجيّوسي: أبعاد الزّمان والمكان في شعر الشابي ـ ورد في كتاب: دراسات عن الشابي ـ إعداد أبو القاسم محمّد كرّو ـ الدّار العربيّة للكتاب ـ ط 2 ـ 1984 ـ ص. 226.
(5) ـ فؤاد القرقوري: أهمّ مظاهر الرّومنطيقيّة في الأدب العربي الحديث ـ الدّار العربيّة للكتاب ـ 1988 ـ ص. 72.
(6) ـ ورد في مقدّمة زين العابدين السنوسي لكتاب "الخيال الشعري عند العرب" ـ ص. 19.
(7) ـ شوقي أبو شقرا: الخيال الشعري عند العرب لأبي القاسم الشابي ـ دراسات عن الشابي ـ مرجع سابق ـ ص. 210.
(8) ـ محمّد فريد غازي: الشابي من خلال مذكّراته ـ الدار التّونسيّة للنشر ـ الطبعة الثالثة ـ 1987 ـ ص. 52.
(9) ـ أبو القاسم الشابي: مذكّرات ـ مرجع سابق ـ ص. 38.
(10) ـ أبو القاسم الشابي: الخيال الشعري ـ مرجع سابق ـ ص. 31.