بعد تمحيص لماهية الآخر في الفكر الإنسني، ينطلق الباحث المصري ليكشف في نوع من الاستقصاء الفانوني، نسبة للمفكر المارتنيكي البديع فرانز فانون، عن أن الآخر كامن في النخب العربية في أكثر صوره تشوها، وأشرسها في قهر الذات، وتشويه رؤاها، ونهب ثرواتها.

محنة شعوبنا إدراكها الساذج للآخر

حازم خيري

«كبدى خذوه..
يا ناهشي الأكباد
هاكم فانهشوه!»
نجيب سرور  

تقول الأسطورة: إن القندس قطع خصيته ليُنقذ حياته من صائديه الذين يطاردونه، لأنهم يريدون خصيته التى تُستخلص منها العقاقير! وبدوري أتساءل: ألمثل هذا التصرف اليائس يُدفع عالمنا العربي؟! خاصة، وأن الآخر الغربي ونظيره العربي، لا يتورعان عن الترويج لكل ما يعضد مخاوفي ومخاوف غيري! فها هى نسخ الآخر العربي تُروج لكون الحضور الغربي، لا غناء عنه، وأنه إنما يُسمح به لاغاثة الذات العربية، وانتشالها من تخلفها! حتى أننا كـ "ذات" ألفنا مباهاة الآخر العربي بنجاحه فى جلب العون الغربي، وكذا ألفنا اعتباره ذلك انجازاً! المدهش هو حدوث المباهاة، رغم أن ثمة أمارات تؤكد ما يجلبه الحضور الغربي من فساد وخراب! من هنا يعمد هذا المقال لابراز هذا التواطؤ المُخزي..

من هو "الآخر" فى الفكر الأنسني؟
ما المعاني المختلفة والعديدة التي ارتبطت بـ الفكر الأنسني إلا انعكاسات لتفكير حقب مختلفة من تاريخ الإنسانية ولمضامين شخصية واجتماعية متنوعة! البعض، ولست منهم، يرى أنه لكي تكون عبارة "الفكر الأنسني" ذات بريق ودلالة يُعتد بها فلابد لها أن تظل دوماً فضفاضة وضبابية كمدلول لاتجاه أو لتأكيد يعكس غموض الطبيعة البشرية! فإنها لخاصية عميقة فى الإنسان، انه كلا الأمرين معاً، فهو ابن الطبيعة المادية ووارث لطاقات تحرره من قيود منشأه الأصلي! بيد أن أهم حقيقة جوهرية واضحة ومألوفة عن الإنسان هي انه يحمل الثمار والأزهار التى تبدو وكأنها تنتمي إلى مرتبة أرقى من أصولها! أقول هذا ليعلم قارئي الكريم، أنى ما أقدمت على صياغة رؤيتى للفكر الأنسني، إلا لايمانى العميق بأنه يحدث أن يتجاوز رأي بعينه فى خطورته مرتبة صاحبه بكثير.

يرى الكثيرون فى مجتمعاتنا العربية المتخلفة أن "الآخر" هو دوماً وحتماً من لا ينتمي إلى ثقافتنا العربية الإسلامية، وأعنى بالثقافة هنا تعريف إليوت الأنثروبولوجي لها بأنها طريقة شاملة للحياة! والحق أن رؤيتي لـ "الفكر الأنسني"، وعلى نحو ما سنرى، تخالف الرؤية المُشار إليها تواً، جملة وتفصيلاً، إذ تقول بامكانية انتماء الآخر والذات لثقافة بعينها، وكذا تقول بعدم تعارض ذلك مع امكانية تأجج الصراع بين الطرفين! وهو صراع مؤلم ومعقد، لا يتورع الآخر فيه عن استخدام، أو إغراء الذات المغتربة باستخدام، كافة الوسائل لحسمه لصالحه. فى دراسة سابقة لى بعنوان "بناء الذات الأنسنية"، أودعتها أسس رؤيتي للفكر الأنسني، وقمت بنشرها مؤخراً على شبكة الانترنت، ذكرت أن بناء الذات الأنسنية لا يعني ـ فى رأيي ـ سوى صياغتها بما يسمح لها بتحقيق أكبر قدر ممكن من التطابق بين أقوالها وأفعالها، شريطة انطواء تلك الأقوال والأفعال على تثمين للأنسنية القائلة بالإنسان كأعلى قيمة في الوجود، وهدفها الماثل في التمحيص النقدي للأشياء بما هي نتاج للعمل البشري وللطاقات البشرية، تحسباً لسوء القراءة وسوء التأويل البشريين للماضي الجمعي كما للحاضر الجمعي. وكذا شريطة وقوع تلك الأقوال والأفعال في إطار الخصائص العامة للأنسنية:

(1) ـ معيار التقويم هو الإنسان.
(2) ـ الإشادة بالعقل ورد التطور إلى ثورته الدائمة.
(3) ـ تثمين الطبيعة والتعاطي المتحضر معها.
(4) ـ القول بأن التقدم إنما يتم بالإنسان نفسه.
(5) ـ تأكيد النزعة الحسية الجمالية.

فى تمييزها بين الذات والآخر، تحتكم رؤيتي إلى المعيار الأنسني، والذى طبقاً له يُعد الإنسان أنسنيا (ذاتا أنسنية) طالما أدرك الأنسنية وسعى لتبصير الغير بها، ولم يستأثر بها لنفسه أو لفريق بعينه. وكذا يُعد الإنسان ذاتاً حتى لو جهل الأنسنية، ولم يُدرك كنهها، أو أعرض عنها، لكنه في تلك الحالة يكون ذاتا مغتربة ثقافيا. فالشائع في المجتمعات المتخلفة، ومنها مجتمعاتنا العربية، هو تنازل الإنسان عن حقه في امتلاك ثقافة حرة ومتطورة، إراحة لذاته وإرضاء لمجتمعه! أما الآخر، وطبقاً للمعيار نفسه، فهو كل من يدرك الأنسنية ويستأثر بها لنفسه أو لفريق بعينه، ويعمل جاهدا في الوقت نفسه للحيلولة دون أخذ الذات المغتربة ثقافيا بها كنهج حياة، وتعميتها عنها بشتى الوسائل والسبل، بهدف حرمان تلك الذات من جني ثمار الأخذ بالأنسنية. فتطور التاريخ الإنساني لا يعدو ـ فى رأيي ـ كونه نتاجاً لصراع ثقافي معقد، أطرافه الذات الأنسنية والذات المغتربة والآخر! ويتفق أن يكون الآخر محلياً أو إقليمياً أو عالمياً، ويحدث أحياناً أن يمتلك آخراً بعينه الصفات الثلاثة، هذا ما يحدثنا به التاريخ، ويؤكده الواقع المُعاش.

أقول صراعاً ثقافياً، استناداً لتعريف ت. س. إليوت الأنثروبولوجي للثقافة بأنها طريقة شاملة للحياة، وهو ما يعني كون الصراع أعم وأشمل منه عند الماركسيين، فاحتياجات الإنسان ليست مادية فحسب، فهي تتجاوز الاحتياجات المادية، على خطورتها وأهميتها. وأقول صراعاً معقداً، لتعدد جبهاته وتداخلها. فهناك الصراع بين الذات الأنسنية الساعية لتبصير الذات المغتربة بالأنسنية وتعرية دور الآخر في تكريس اغترابها، وبين الآخر المدرك للأنسنية والحريص على الحيلولة دون نجاح الذات الأنسنية في إقناع الذات المغتربة بالتخلي عن اغترابها، وكذا الحريص على الحيلولة دون أخذ الذات المغتربة نفسها بالأنسنية كنهج حياة، وهو صراع مؤلم، لا يتورع الآخر فيه عن استخدام، أو إغراء الذات المغتربة باستخدام، كافة الوسائل المستترة وغير المستترة لحسمه لصالحه. وهناك أيضا الصراع بين الذات الأنسنية والذات المغتربة، وهو صراع عدائي من جانب واحد، هو جانب الذات المغتربة، يُغذيه الآخر ويؤججه، فهو يُلقي في روع الذات المغتربة أن قهر اغترابها يعني محو هويتها، وأن جهود الذات الأنسنية لحثها على قهر اغترابها والأخذ بالأنسنية، ليست سوى ممارسات عدائية في حقها..!!

قارئي الكريم، بتطبيق المعيار الأنسني، المُشار إليه تواً، على واقعنا العربي المُعاش، نجد أن النخب العربية الحاكمة في مجتمعاتنا العربية المتخلفة، تُشكل، حجر الزاوية في هيكل الآخر المحلي/ العربي! وأقصد بالنخب العربية الحاكمة تلك الطائفة من الحكام والساسة وغيرهم، الذين ترتبط منافعهم دوماً بالأوضاع المتردية، والمواتية لتعمية الذات المغتربة عن إدراك الأنسنية وجني ثمار الأخذ بها، فنراهم ينزعون للمحافظة على تلك الأوضاع، بدعوى الحفاظ على النفعية المؤسساتية والشرف الوطني! وهو ما يُفضي بهم دوماً إلى الانفصال الثقافي عن الذات، وان بدا الأمر للمغتربين ثقافياً خلاف ذلك! واراني بحديثي هذا قد أعفيت تجار الآلام من عبء تذكيرهم المستمر والملح لنا بقبح جلد الذات، فالثابت أن أولئك الذين تحملهم أنانيتهم الثقافية على تعمية مواطنيهم عن إدراك الأنسنية وجنى ثمارها، ليسوا ذاتا تُجلد ولكنهم آخر تصطلي الذات بناره!

أما الآخر العالمي/ الغربي، فأعنى به أبناء الحضارة الغربية المهيمنة الذين يعمدون لتعمية الذات العربية عن الأنسنية، وذلك بمساندة الآخر المحلي/ العربي بطبيعة الحال! وأراني قانعاً بالرأي القائل بانطواء تعميم القول السالف على جميع أبناء الحضارة الغربية على قدر من الإجحاف والظلم، استنادا لما يلمسه الكثيرون منا، عبر تعاطيهم المباشر مع بعض المنتمين للحضارة الغربية، من رفض بين لتلك الآخرية العالمية/ الغربية، وإيمان عميق بقبح إهدار آدمية الذات العربية! ولأصحاب الرأي المذكور أؤكد أنني أتعاطى في المقال الماثل مع الاتجاه العام المسيطر والمؤثر في الحضارة الغربية المهيمنة عالميا، والذي غالبا ما يُسهم أولئك الأبرياء في صياغته، بشكل أو بآخر، وان توهموا أو سعوا لإيهامنا بخلاف ذلك! والأولى بهؤلاء الأبرياء، حال جديتهم، ردع الآخر العالمي/ الغربي، الذي ينتمون إليه، عن إهدار آدمية أبناء الحضارات الأخرى، بدلا من التباكي عليهم!

تواطؤ مُخزي ظاهرهُ الرحمة وباطنهُ العذاب:
لم يلبث عالمنا العربي أن تنفس الصعداء فور رحيل الآخرين العثماني والأوروبي عنه، فقامت في ربوعه المختلفة كيانات عديدة مستقلة، أدعوها دولاً ـ وذلك للتسهيل ـ غير أن لحظة الاستقلال الحقيقي تلك لم تدم طويلاً، فسرعان ما حلت النخب العربية الحاكمة محل الأوروبيين، وراحت تعمل جهد طاقتها لإدامة الأوضاع العربية المتردية، والمواتية لتعمية الذات العربية عن إدراك الأنسنية، من خلال ممارسات، تماثل في مضمونها ممارسات الأمويين والعباسيين والآخر غير العربي من بعدهم، بل تتجاوزها في أحيان كثيرة إلى ما هو أسوأ. وكان ذلك إيذانا بدخول عالمنا العربي حقبة لا تزال غيومها تظله، وهى حقبة الاستقلال السلبي! أعلم أن منطقي هذا لابد وأن يصدم الكثيرين، ممن يحلو لهم تمجيد رموز نخبوية بعينها، بزعم الكاريزمية والتفرد بالأدوار الريادية والنهضوية إلخ! ولهؤلاء أسوق مقولة ماركس: "لا تصدق كلامي.. صدق كلام أحفادي"، فقد قصد الرجل بمقولته تلك أن التاريخ كفيل بكشف كل زيف وبطلان، فالقراءة المتأنية للأحداث بعد خبو ثورة الحماس والانفعال، تهدينا دوما لأمور يتعذر علينا إدراكها في حينه، خاصة في عالمنا العربي، حيث تغيب الشفافية ويغسل التلقين الإعلامي الشرس أدمغة المواطنين. لذا فنحن الأحفاد أدرى بفعال آبائنا وجدودنا، فلنكشفها بجرأة ونعالجها بحكمة، بغية تحطيم القيود التي لا تنفك تُدمى معصم الذات العربية!

وكأني بالثائر الأنسني فرانز فانون فى قبره ينبه شعوبنا إلى ضرورة إدراك أن الاستقلال الوطني يُبرز وقائع أخرى كثيرة هي في بعض الأحيان متباعدة، بل ومتعارضة! فهناك دوماً أجزاء من الشعب ـ الآخر المحلي ـ لها مصالح خاصة لا تتفق اتفاقاً كاملاً دائماً مع المصلحة الوطنية. والشعب، وان تبنى في بداية الكفاح تلك الثنائية التي أوجدها الاستعمار الغربي: العربي والغربي، يبيت لزاماً عليه أن يدرك أنه يتفق لعرب أن يكونوا أكثر آخرية من الآخر الغربي، وأن هناك فئات من السكان لا يحملها إمكان ارتفاع راية وطنية وإمكان قيام أمة فتية على التنازل عن امتيازاتها وعن مصالحها. كما يبيت لزاماً على الشعب أيضاً أن يدرك أن هناك أناساً من بني وطنه لا يتمسكون بمصالحهم فحسب، بل ينتهزون كذلك فرصة النضال لتعزيز وضعهم المالي وقوتهم! فهم يتاجرون ويحققون أرباحاً طائلة، على حساب الشعب ـ الذات ـ الذي يضحي بنفسه دائماً، ويروي بدمه تراب الوطن. إن المناضل الذي يجابه بوسائله البدائية آلة الاستعمار الجهنمية ـ آلة الآخر العالمي/ الغربي ـ يكتشف أنه بقضائه على الاضطهاد الاستعماري يساهم في خلق جهاز استغلالي آخر، وهو اكتشاف مؤلم وشاق ومثير. فقد كان الأمر بسيطاً للغاية في البداية، كان هناك في نظره أشرار من جهة، وطيبون من جهة أخرى. أما بعد الاستقلال الوطني، يحل محل الوضوح الخيالي اللاواقعي الأول ظلام يفصم الوعي. إذ يكتشف الشعب أن ظاهرة الاستغلال الظالمة يمكن أن تأخذ مظهراً غربياً أو عربياً. لذا، على الشعب أن يتعلم كيف يُندد بالآخرية المحلية. وكذا عليه في مسيره الشاق إلى المعرفة العقلية، أن يترك تلك النظرة التبسيطية الساذجة التي كان يتميز بها إدراكه للآخر(1)!

وعن التواطؤ الحاصل بين الآخرين العربي والغربي، يقول نادر الفرجاني إنه بعد حصول الدول العربية على استقلالها من ألوان التبعية المباشرة للدول الغربية، سعى الآخر الغربي لتطوير أشكال جديدة من التبعية تُفرغ الاستقلال العربي من مضمونه، وتحوله إلى استقلال سلبي ـ والتعبير لكاتب هذه السطور ـ وتقوم أساساً على آليات للتبعية الاقتصادية! وطبقاً للفرجانى أصبح مدى التبعية الحقيقي كجسم جبل الجليد الطافي، لا يظهر منه فى الأفعال الإرادية الظاهرة فى الحلبة الدولية إلا النذر اليسير(2)! وفات الفرجانى، كعادة غيره من المفكرين العرب، أن يحدثنا عن دور الآخر العربي فى التمكين لهذه التبعية. على أية حال، قد يكون ملائماً قبل أن ندلف إلى تعرية أبرز أوجه التواطؤ الحاصل بين الآخرين الغربي والعربي، التأكيد على أن الأخير لم يكن ليجرؤ على الانخراط فى مثل هذا الفعل المُخزي، لولا نجاحه المذهل فى تكريس اغتراب الذات ثقافياً، أى نجاحه فى تكريس تنازلها عن حقها فى امتلاك ثقافة حرة ومتطورة، وذلك عبر آليات عديدة منها البوليسي، والتعليمي، والإعلامي، إلى جانب ما اصطلح على تسميته بالديني، نسبة إلى الدين والدين منه براء! ولك، أيها القارئ الكريم، أن تتصور كيف تغدو تبعية بلادنا للدول الغربية ـ وما يصاحبها من هدر للامكانيات والكرامة ـ جحيماً لا يُطاق، حين تعوزها جهود الآخر العربي التي تُمكن لها بالقوة أحيانا، وتحببها أحيانا أخرى إلى الذات البائسة(3)!.

(1) ـ تواطؤ الآخرين العربي والغربي ونهب الثروة النفطية:
ترتب على استغلال الثروة النفطية على نطاق واسع فى دول العالم العربي، التى حبتها الطبيعة باحتياطيات نفطية ضخمة، أن تدفقت عائدات مالية كبيرة إلى خزائن الدول العربية الأعضاء فى منظمة الأقطار المصدرة للنفط (أوبك)، والتى تُعد مجرد جهاز لإدارة أسعار النفط، لا كمياتها، فى إطار النظام الاقتصادي العالمي وفى حدود موازين القوى الاقتصادية والعسكرية القائمة! بيد أن الذى حصل هو أن العائدات النفطية قد استحدثت صنفاً جديداً من الدول العربية.. استحدثت، وياللغرابة، دولاً عربية غنية ومتخلفة! فهل ثمة نهب للثروة النفطية؟.. وهل ثمة علاقة لهذا النهب بتواطؤ الآخرين العربي والغربي؟!

الإجابة: نعم.. ثمة نهب منهجى ومنظم للثروة النفطية!

نعم.. ثمة علاقة وثيقة لهذا النهب بتواطؤ الآخرين العربي والغربي! وكيف لا، وزيادة العوائد المالية التى غالباً ما تنجم عن ارتفاع أسعار النفط تؤدى إلى زيادة تخلف الدول النفطية وتبعيتها للدول الغربية؟!.. كيف لا، والعوائد المالية المرتفعة تؤدى لشيوع الكسل والتكالب المُستفز على الاستهلاك ـ على نحو ما يظهر فى سلوك مواطنينا العائدين من هناك ـ ومن ثم زيادة استيراد الدول النفطية للسلع الاستهلاكية من الدول الغربية!.. كيف لا، والجزء الأكبر من الفوائض النفطية يتم توظيفه فى الدول الغربية عن طريق إعادة تدويرها فى اقتصاديات تلك الدول، وأحياناً فى صورة استثمارات قليلة الجدوى؟!.. كيف لا، وتبعية الدول النفطية للدول الغربية تمتد فى مجالاتها الأخطر إلى التقنية؟! التبعية التقنية تتجسد فى اعتماد الدول النفطية على استيراد السلع الاستهلاكية وأدوات ومستلزمات الانتاج السلعي والخدمي من الدول الغربية المصنعة، وتتعدى ذلك إلى التقنية الناعمة، مثل الخدمات الاستشارية والتنظيمية والتسويقية. أما التبعية الحضارية، فتبدو أشد ما تبدو، فى النمط الاستهلاكي الغربي، الذى يجتاح الدول العربية على تباين خصوصياتها. والشواهد أن تبعية الدول العربية تتأكد فى هذين المجالين، ربما أكثر من التبعية الاقتصادية البحتة.

صفوة القول، إن تخلف عالمنا العربي فى مجمله، على الرغم مما أصاب بعض دوله من غنى ناجم عن استنضاب رأسمالها النفطي، يُعد تزخيماً لمحاجتى بتواطؤ الآخرين العربي والغربي على نهب ثرواتنا النفطية! ولا أعنى بالتخلف هنا أن الدول العربية فقط تالية للدول الغربية فى تتابع زمنى على مضمار التقدم، وإنما أعني فى المقام الأول أن البُنى الاجتماعية ـ الاقتصادية والسياسية بها ضعيفة ومشوهة ومتدنية الكفاءة، مما يترتب عليه كون الحاجات الأساسية، مادية وغيرها، لغالبية السكان فى الدول العربية غير مشبعة بعد، وأن هذه الدول تعتمد اعتماداً حرجاً على الاقتصاديات والحضارات الغربية، مما يورثها مركزاً ضعيفاً فى الحلبة الدولية، ويدمغ مقدرات الذات العربية بدوام حالة التخلف هذه..

(2) ـ تواطؤ الآخر (بمستوياته المختلفة) وهدر الدم الفلسطيني:
بفضل إضعافها للذات العربية عبر تكريس اغترابها الثقافي، نجحت النخب العربية الحاكمة ـ بوصفها حجر الزاوية فى هيكل الآخر العربي ـ في ترسيخ الاستقلال السلبي للدول العربية، الأمر الذي أثر بقوة على التوجهات الإقليمية لتلك الدول، فجاءت في معظمها غير مواتية لمصالح الذات العربية، على نحو يلفت النظر ويسترعى الانتباه، رغم تأكيد خطاب الآخر العربي على حتمية انتهاج سياسات إقليمية موائمة لتلك المصالح. وبرغم انطواء تلك السياسات على بعض الجوانب الإيجابية المحدودة، والتى ربما جاءت ذراً للرماد فى العيون، يظل التساؤل قائماً حول تداعياتها السلبية على الذات العربية، خاصة في شقها المعنى بالتعاطي مع الآخر الإقليمي/ الإسرائيلي. أقول إنه منذ ميلاد دولة إسرائيل، أصبح التعامل معها محكاً مهماً لاختبار رغبة وقدرة الآخر العربي على التعاطي الإيجابي مع القضايا الإقليمية، بما يعود بالنفع على الذات العربية ويحفظ عليها حقوقها. ومن ثم، اتسم سلوك النخب العربية تجاهها ـ أقصد تجاه إسرائيل ـ بالثراء والتعقيد، باعتباره الأكثر حساسية على الصعيد الإقليمي! تراوح نهج الآخر العربي تجاه إسرائيل بين الرغبة المحمومة في التعاطي المنفرد معها من وراء ظهر الذات العربية، بغية الحصاد المنفرد للثمار، خاصة رضاء الآخر الغربي، وبين الإضعاف المتعمد للذات العربية، باعتباره الضمانة الوحيدة لديمومة الاستقلال السلبي ورسوخه، وكلا الأمرين يصب في مصلحة الآخر الإسرائيلي! على أية حال، يظل رصد الملامح الرئيسية لنهج الآخر العربي تجاه إسرائيل من الأهمية بمكان، لكونه تجسيداً لتواطؤ الآخر العربي مع نظيريه الاسرائيلي والغربي:

ـ اضعاف نسخ الآخر العربي للذات الفلسطينية(4):
انتهجت نسخ الآخر العربي ممارسات مؤلمة تجاه الفلسطينيين، وتراوحت تلك الممارسات بين الإيذاء الصريح والإيذاء المستتر، مما أسهم في إضعافهم في مواجهة دولة إسرائيل. ولقد دأب ياسر عرفات ـ رغم كونه أحد رموز الآخر العربي ـ على إثارة تلك القضية المهمة في أحايين كثيرة، ففي حديث له مع صحيفة الرأي العام الكويتية، إبان زيارته للكويت خلال الفترة من 23 ـ 25 / 4 / 1985، أنحى عرفات باللائمة على ممارسات النخب العربية تجاه الفلسطينيين بقوله: "بعد نكسة حزيران مباشرة، أصبح الفدائي الفلسطيني، هو الأمل الوحيد لهذه الأمة، وأصبح الشعلة التي تضيء النفق المظلم، كان بمثابة هالة وأسطورة.. خصوصا بعد معركة الكرامة، حين رأى الوطن العربي لأول مرة جثة لجندي إسرائيلي ودبابة إسرائيلية محطمة.. كنا نقاتل من جميع الجبهات، إرادة القتال والنضال، أصبحت متوفرة لدى الجميع حينذاك، ولا ننسى أن العدو أطلق على غزة إسم غزة ـ كونج لأن رجالنا كانوا يسيطرون على المنطقة بالليل وبشكل كامل، لتعود السيطرة إليهم في النهار. يومها قالوا أن عرفات سيقود هذه الأمة إلى النصر.. وكانت بعض الأنظمة تختبىء خلف المقاومة الفلسطينية حتى تلتقط أنفاسها.. لأن النظام أهم من الأرض.. ولأن الحكم أهم من الحق الذي سُلب. وبدأت المؤامرة.. لأن الأنظمة العربية لا يمكن أن تتوافق والثورة.. صحيح أخطأت الثورة في بعض حساباتها ودفعت ثمناً غالياً لهذه الأخطاء، لكن العملاق ظل واقفاً وإن أصيب في مرات عديدة بحالة انعدام الوزن. لماذا يريدون الآن تحميل عرفات كل مساوىء الأمة العربية.. كل أخطائها.. كل تناقضاتها.. فلو كنت فعلا أستطيع اتخاذ القرار العربي، أو التأثير فيه بالشكل المطلوب لكان العلم الفلسطيني يخفق حالياً فوق القدس الآن".

ولم يقف عرفات عند ذلك الحد، فقد استطرد قائلاً: "لن أعود إلى الماضي البعيد.. وليس إلى حرب رمضان حيث كانت طريق القدس مفتوحة.. ولا للأيام الأولى منها، حين أوشكت إسرائيل على إخلاء الجولان.. وسيناء مفتوحة أمام مدرعات الجيش المصري.. فقط سأعود إلى أيام الحصار في بيروت.. تلك الفرصة التاريخية التي ضاعت على العرب.. وتركونا وحدنا، لقد تبعثر الجيش الإسرائيلي في وديان وسهول وجبال نعرفها جيدا.. لقد جاء العدو إلينا ولم نذهب نحن إليه.. وأنهم حتى الآن ما زالوا يحصون عدد قتلاهم وجرحاهم، في أطول حرب عرفتها إسرائيل منذ نشأتها، مخيم عين الحلوة لم يسقط إلا في اليوم العشرين، وظلت بيروت صامدة، تتحدى بيغن وشارون و ايتان.. البعض وقف يتفرج علينا شامتاً، وآخر يقول أنها ليست حربه، وفريق للتاريخ يريد أن يدعمنا، لكنه لا يستطيع بعدما أغلقوا كل الطرق أمامنا، حتى أن أحد هؤلاء البعض صادر الأسلحة التي بعثها الاتحاد السوفياتى لنا، بواسطة إخواننا في الجزائر".

واختتم عرفات حديثه عن ممارسات نسخ الآخر العربي تجاه الفلسطينيين بقوله: "بصراحة مشكلتنا مع بعض العرب ـ يقصد النخب العربية الحاكمة ـ أسوأ مما هي مع إسرائيل.. ولقد خسرنا من خلال ضربات الأشقاء أضعاف مما خسرناه في مواجهتنا مع العدو الصهيوني.. كم أتمنى أن يكون شعار تحرير فلسطين حقيقيا وليس سلعة للمناورة والتجارة. ألا يكفى أنهم يمنعوننا من الموت فوق أرضنا.. وصرنا نعانى أسوأ مشكلة عرفها البشر في تاريخهم.. الفلسطيني صار يفتش حتى عن قبر ليدفن فيه، وكم من جثمان ينتقل من بلد إلى آخر!.. نعيش بلا أرض.. وبلا قبر.. أليست هي المأساة! أليست هي الكارثة، أن بعض الجنود العرب يحمى حدود العدو ويستميت بالدفاع عنها، أكثر من الجندي الإسرائيلي نفسه؟.. حين تصبح الكرامة أهم من النظام، حين يصبح الحق المسلوب أهم من الكرسي، نكون قد بدأنا فعلاً في مسيرة تحرير فلسطين".

ـ تلاسن نسخ الآخر العربي حول ممالأتها إسرائيل:
في ظل تهافتها على التعاطي المنفرد مع إسرائيل من وراء ظهر الذات العربية، دأبت نسخ الآخر العربي على تبادل الاتهامات بممالأة إسرائيل، وبدا ذلك جليا في مواضع كثيرة، أشهرها اتهام صدام حسين الصريح للنخبة المصرية الحاكمة بالخيانة، إثر توقيعها اتفاقيات كامب ديفيد مع الإسرائيليين، على خلفية حرب التحريك في أكتوبر 1973(5). فقد أورد في خطابه الافتتاحي أمام مؤتمر القمة العربي العاشر بتونس ما نصه(6): "لقد أثبتت تجربة السنة الماضية نجاح الخط السياسي الذي حددته قمة بغداد (يقصد مؤتمر القمة العربي التاسع بالعاصمة العراقية عام 1978). كما أثبتت بطلان وتهافت الخط الاستسلامي الذي انتهجه النظام المصري ـ يقصد النخبة المصرية الحاكمة آنذاك ـ وفق اتفاقيات معسكر داود. فالرأي العام العالمي قد احترم مقررات قمة بغداد وتعامل معها بكل جدية، وأيدتها أوساط دولية مهمة، كما جرى في المؤتمر الإسلامي الذي عقد في فاس، وفى مؤتمر القمة الأفريقي في منروفيا، وفى مؤتمر قمة عدم الانحياز في هافانا، وفى مختلف الأوساط العالمية. وتطورت مواقف كثير من الدول الأوروبية التي كانت مترددة في اتخاذ موقف، في حين انكشفت تماماً، ولكل ذي بصيرة مواقف الاستسلام والتنازلات المهينة التي قدمها النظام المصري لصالح العدو الصهيوني، ومأزق السياسة الخيانية التي اتبعها هذا النظام، فازدادت عزلته على كل الأصعدة العربية والإسلامية والإفريقية، وفى العالم كله وحتى شركاؤه في اتفاقيات الصلح الخيانية باتوا يشككون في إمكانية استمرار الخط الذي انتهجه".

ـ اضعاف الآخر الفلسطيني للذات الفلسطينية(7):
ساهمت النخبة الفلسطينية الحاكمة بنصيب وافر في إضعاف مواطنيها في مواجهة دولة إسرائيل، وجاء ذلك في إطار جهود الآخر العربي لإضعاف الذات العربية المغتربة. فقد أسفرت السياسات التي اتبعتها قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، إبان غزو العراق للكويت، والإدارة غير الرشيدة للأموال وللأصول الفلسطينية، عن إقدام ياسر عرفات وحفنة من مستشاريه على قبول أي شيء تلقي به الولايات المتحدة وإسرائيل في طريقهم، حتى لا يفوتهم ركب عملية السلام، مفرطين بذلك في كافة الأهداف الوطنية والمشروعة للشعب الفلسطيني. وما إن دخل ياسر عرفات إلى غزة، حتى جاءت التقارير تؤكد أن خمسة أو ستة ـ إن لم يكن سبعة ـ أجهزة مخابراتية، لابد وأن بعضها على صلة بجهازي الشين بيت والموساد الإسرائيليين، يقدمون تقاريرهم إليه، وأن بعض المواطنين الفلسطينيين قد لقوا حتفهم أثناء التعذيب، وأنه تم إغلاق بعض الصحف، وأن معارضي عرفات يتعرضون لملاحقات أجهزة الأمن.

وأضاف اختيار عرفات للرجال الذين تم تعيينهم في مواقع السلطة الوطنية آنذاك، مزيداً من الملح إلى الجرح الفلسطيني. فالمسئول الأول عن الأمن والمخابرات، هو نفسه سفير المنظمة في تونس، والذي أصبح معلوما لاحقاً أن مكاتبه ومقاراته هناك كانت مخترقة بواسطة جهاز المخابرات الإسرائيلية. والقائد العسكري لأريحا هو نفسه ذلك الرجل الذي قضت المحكمة العسكرية بإدانته بتهم الهروب من الميدان والجبن، وذلك عندما فر من جنوب لبنان إبان الغزو الإسرائيلي عام 1982. هذا في الوقت الذي توالت فيه الأنباء عن الفساد، وتكاثر النصابون القادمون من أنحاء العالم للاستفادة من هذا الأمر! صفوة القول إن سعي الآخر الفلسطيني لتعظيم مكاسبه الخاصة إقتداء بنسخ الآخر العربي الأخرى، دون إدراكه لخصوصية موقف بلاده، ساهم بقوة في إضعاف الذات الفلسطينية في مواجهة دولة إسرائيل وفى مواجهة أنفسهم، فضلا عن مساهمته في تشويه كفاحهم ونضالهم في عيون العالم.

ماذا يعني أن نكون أحراراً؟
لم يكن الآخر العربي ليجرؤ على ارتكاب خطيئة التواطؤ مع الآخر الغربي، لولا نجاحه ـ أقصد الآخر العربي ـ المذهل فى تكريس اغتراب الذات ثقافياً، أى نجاحه فى تكريس تنازلها عن حقها فى امتلاك ثقافة حرة ومتطورة، ومن ثم تعميته لها عن ادراك وجوده، وايهامه إياها أن مناهضتها له جلد للذات! أقول هذا لاقتناعي بأن الحرية الفكرية والتعبيرية تستمد المساندة لنفسها من غريزة الانسان البدائية. فحتى الوليد يثور على القيد ويميل لعدم الطاعة! وما من أحد يجب أن يدفعه غيره إلى هنا أو هناك، وأن يقول له ما يجب أن يعمله. ويُناط باللسان أن ينبري للزود عن صاحبه دون أن يحتاج إلى من يُلقنه. فهذا هو المنبع الفطري الذى لا يفنى لحب الحرية والزاد الذى تزودنا به الطبيعة ضد الآخرية وتجارة الآلام والتواؤم الخنوع. ثم إن هناك ميلاً انسانياً طبيعياً لأن يدلى المرء برأيه، فالبشر ليسوا مجهزين بأعضاء للكلام فقط ولكنهم يمتلكون الدافع لاستعمالها، ولا يحتاجون إلى أن يُحثوا على الكلام، ولا أن يُلقنوا ما يقولون.

طريق الحرية هو الطريق الشاق! لذا، فانه من المغري دائماً لنسخ الآخر العربي أن تُدمر من يعمد لمناهضة آخريتها أو مناهضة اغتراب الذات ثقافياً! ذلك أن تواطؤ الآخر العربي مع نظيريه الإقليمي/ الإسرائيلي والعالمي/ الغربي يتمترس فيما يبدو خلف هاتين العقبتين ـ أقصد الآخرية والإغتراب الثقافي للذات ًـ وعليه، فإنه لأمر منطقي انه إذا كانت الذات العربية ستتحرر من الآخرية والإغتراب فإن عقلها يجب أن تتحرر! يجب أن لا يكون عقلاً مُختزناً بالمعرفة ومتفتحاً للاتصال بالخارج فحسب، ولكنه يجب أن يكون مستقلاً فى ذاته أيضا! إذ أن عقل الانسان هو الطاقة الأساسية التى يمكن بواسطتها تحقيق امكانات الحياة..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ راجع: حازم خيري، تعرية الثائر الأنسني فرانز فانون للآخرية، مقال منشور على شبكة الانترنت.
(2) ـ للمزيد راجع: نادر الفرجانى، هدر الامكانية، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1985).
(3) ـ للتعرف على ظاهرة الاغتراب الثقافي للذات العربية راجع: حازم خيري، الإغتراب الثقافي للذات العربية، (القاهرة: دار العالم الثالث، 2006).
(4) ـ ياسر عرفات، أوراق سياسية ـ لقاءات ومقابلات صحفية مع الأخ أبو عمار، (الكويت: منظمة التحرير الفلسطينية، مكتب الكويت، 1985)، ص ص 30 ـ 33. ولتأكيد ما ورد في حديث عرفات عن إضعاف نسخ الآخر العربي للفلسطينيين راجع: Black September, (Beirut: Palestine Liberation Organization, Research Center, 1971).
(5) ـ عندما سُئل الرئيس الراحل أنور السادات أثناء اجتماعه مع قادة الجيش المصري يوم 24 أكتوبر 1972 عما إذا كان هدفه من الحرب تحرير الأرض أم تنشيط العمليات لإعطاء الفرصة للحل السياسي، أجاب بقوله: "لقد سبق أن قلت ذلك للفريق صادق ـ وزير الحربية آنذاك ـ منذ أغسطس وهو كسر وقف إطلاق النار". للتعرف على تفاصيل ما دار بالاجتماع المذكور راجع: سعد الدين الشاذلي، مذكرات الشاذلي ـ حرب أكتوبر، (الجزائر: المؤسسة الوطنية للكتاب 1987)، ص ص 179 ـ 186.
(6) ـ أنظر: خطاب الرئيس العراقي صدام حسين في افتتاح مؤتمر القمة العربي العاشر بتونس20 ـ 22/ 11/ 1979.
www.Arableagueonline.org
(7) ـ لمزيد من المعلومات عن دور الآخر الفلسطيني في إضعاف الذات الفلسطينية في مواجهة دولة إسرائيل راجع: إدوارد سعيد، "غزة ـ أريحا" سلام أمريكي، (القاهرة: دار المستقبل العربي، 1994).