لازالت تجربة الشاعر المغربي المرموق الذي يكتب بالفرنسية تنفتح على تعدد القراءات وتباين الرؤى والتأويلات، هنا قراءة في أحدث دواوينه، والذي قام بترجمته بنفسه من الفرنسية الى العربية، ومعه نكتشف فسحات الجسد البليغة وفواكهه.

القراءة/ الفاكهة في «فواكه الجسد»

سعيد بوخليط

صدرت مؤخرا للشاعر عبد اللطيف اللعبي، مجموعة من المقاطع الشعرية الجديدة وذلك عن منشورات مرسم بالرباط، اختار لها عنوان "فواكه الجسد" أو "les fruits du corps"، مادام أن اللعبي فضل وبتقليد جديد كتابة نصه في نفس الآن بالعربية والفرنسية على البياض ذاته. وأشار في صيغة تقريرية جازمة وباللغتين:

"الترجمة العربية للمؤلف"/ "Traduction Arabe de l'auteur" ما معنى ذلك؟ ربما:

ـ فضل الشاعر الحفاظ على عذرية وطهر وكذا نقاء نصوصه. لذلك ترجمها بنفسه حتى لا يتم اغتيالها من قبل الآخر، خاصة وأن اللعبي وحده قادر على التقاط همس نصوصه.

ـ يريد الشاعر أن يبين قدرته على محاورة العربية والفرنسية، أو بالأحرى عشقه لهما وبالتالي عدم حرمان هذه العواطف الجميلة والشامخة، من دفء سرير ناعم ولين كما هو الحال مع هاتين اللغتين.

ـ يبتغي الشاعر بشكل مطلق، القدرة الانفلاتية للقصيدة المباغثة بالخصوص. من تم تضعف مسألة هوية اللغة بالمعنى الواحدي المتافيزيقي والمؤسساتي. قضية غير ذات دلالة.

ـ توظيف لغتان، يشير إلى أن مشاعر الحب والعشق عند الشاعر، قد لا تكفيها لغة واحدة للبوح. بالتأكيد لا يمكنه الصمت، لأنه لا يملك إلا لغته. كما أن قوة الصمت، لا يتقن تفكيك خرائطها إلا الأطفال. أما مع الكبار فلا يمكننا ركوب الصمت. العكس هو الذي يجب أن يحدث.

ـ تمثل نفس الجسد الشعري للغتين، يمارس لعبة تمويه ذكية على القارئ المتيقظ خاصة، وبشكل مضمر إيقاض حواسه. تتلاشى هنا كل التحديدات الهندسية، يتحول البدء إلى وسط والنهاية إلى خط منحرف. لأن القصيدة، لا نكتبها في حجرات الأوراش الاحترافية أو فوق كراسي المدرسة. ولا حتى بعد الحصول على شهادة التبريز في علوم اللغة. فقط تقوم القصيدة حينما تريد لذاتها ذلك.

ـ ظل اللعبي، يتحدث دائما عن التزاماته الإنسانية. ماذا يمكن للشاعر أن ينشد؟ غير حقنا جميعا في أن نحلم، ويكون العالم أعدل قسمة بين الناس.

ـ يلعب فضاء البياض، دورا تأسيسيا في البعد الدلالي للكلمات. هناك قانون فيزيائي، يقول بأن الطبيعة تخشى الفراغ. والفراغ مع اللوغوس الشعري، يشكل ميتا ـ لغة قليلا ما يلتفت إليه القارئ. رنين ودوي الكلمات يشغل الفراغ. الفراغ هو الحيز المطلق للشاعر، يعطيه هذه القدرة الكبيرة على التخلص من شرك وأفخاخ اللغة. انطلاقا من المعادلة الانطولوجية التالية: بقدر ما نتكلم أو نكتب، فإننا نُختزل.

ـ هل نقرأ إذن "فواكه الجسد" من اليمين أو اليسار؟ في رأيي لا يهم. الشعر يصرخ في وجه كل الجغرافيات.

ـ الترجمة يقوم بها الشاعر نفسه، قد يتوخى دائما احتضان نصوصه حتى لا يغتالها الآخر باسم اللغة. لا نترجم الشعر، ولكننا نعبّر عن إعجابنا وافتتاننا بهذه القصيدة أو تلك، من خلال اللغة التي نتمكن منها أكثر. فالمشاعر بطبيعتها صاخبة وثرثارة وإلا فإنها مجرد غيرة قاتلة.

غالبا ما تقع مفارقة صارخة وسيئة كذلك في أية مقاربة تأويلية لأي نص أدبي أو فني. إذ يقع بشكل واع أو لا واع إسقاط مجموعة من الأدوات النظرية والمنهجية، على جلد نص ناعم جدا قد لا يتحمل كل ذلك. يفتقد النص في لحظة ما، هذه اللغة المكثفة جماليا ولذته كذلك. بمعنى ثان، قد يسعى المؤول إلى استنطاق النص انطلاقا من أجهزته النظرية، وكأن النص مربع هندسي لمجموعة من الأشكال.

أعتقد بأن نصوص اللعبي، من أكثر المتون التي لا تتحمل رؤية كتلك. بل تتوخى على العكس من ذلك، نوعا من القراءات الحالمة والحميمية والدافئة. تشبه ذلك الإحساس الذي ينتابك وأنت تسافر في ليلة مقمرة على متن باخرة تحملك إلى مكان ما بجزيرة كابري Capri. تعطي لمخيلتك كامل جدواها، دون أن تحس بأي رغبة للتفكير. الحلم فقط!!

قصيدة اللعبي جميلة جدا، ومحلقة ومبدعة إلى حدود الكون. سر ذلك حسب ظني، يعود لكون الرجل يكتب بقلبه أكثر. عنصر الصدق مهم في هذا السياق. النصوص الكبيرة، تظل باستمرار عملية تشييد للحياة، نابضة كأنها كتبت للتو.

الصدق كذلك ليس بمفهومه الأخلاقي أو المعياري، لا يهمني. لأن المشاعر فوق ذلك بكثير. ولكن أحيل هنا على قضية تحويل الكتابة إلى جلسات دائمة للجسد. لا نكتب على موعد مع الزمان، ولكننا نرسم خطى اللحظة على الرغم من جماجمنا.

مع هذه اللوحات الشعرية للعبي، فإن بياض الصفحة حتى وإن ظل دائما عند أغلب عباقرة الكتابة صحراء وعرة وشاسعة، يصعب الرهان على أي مرمى منها ـ لهذا ظلت نصوصهم تحاور بدءها باستمرار ـ يؤسس لنوع من اللوغوس الشعري.

تثير لعبة المعجم في "فواكه الجسد"، وبامتياز مساحة تأملية أخرى. إنه التعدد والتحرر والإيروس والفتوة والرغبة الدائمة والحياة المتجددة والأحلام الدائمة واللحظات التأسيسية... الجسد هو الشبق والصفاء والمرأة والوعي الدائم بالحياة الناغلة.

الجسد هنا، لا كقيمة رمزية أو حمولة فلسفية، ولكن يتلمسه الشاعر بكل بساطة في وقائعيته وفوريته. الجسد كتضاريس يومية ونزوع لتلبية مجموعة من الغرائز. الجسد في "فواكه الجسد" هو الأطراف والأصابع والأذن والأثداء والأرداف...، باختصار الرغبة. كل شيء يقدمه هذا الجسد، حتى اللغة. إنه مدرسة قائمة بذاتها. والجسد لا يجد لغته إلا بالجنس، الذي يستحضره اللعبي كممكن حقيقي لتحليق الجسد. هؤلاء الذين يحللون ويحرمون بمنطقهم، وهو منطق بطبيعة الحال لا يفقه شيئا في شاعرية التلاوين الإيروسية للجسد:

"عندما يتطفل الفقهاء
المعممون أو غير المعممين
على الجنس
يقطع ذلك علي شهيتي" (ص60).

يفسدون ذلك بغبائهم وريائهم ونفاقهم. وقد يرسمون العالم بخرائط جماجمهم الصدئة، فيحولونه إلى صيحات مغارة.

بطبيعة الحال، لغة الجنس هنا راقية جدا ومتحضرة. تتحول معه المرأة إلى مجال منفتح للممكن والإيروس والعشق بمشاعر ذكية وحواس حالمة. إنها الطفل والبراءة والصدق والحميمية والعفوية والجرأة والرغبة والجموح والشبق والإيروس...، والموسيقى والأجفان واللهب والجمرة...

لا نقتل بالجنس انكسارات واغتيالات اليومي، وبالتالي تبدو المرأة قضية إيديولوجية لا أكثر. ولكننا بالجنس نحاور أجسادنا، ونتعلم المجازفة. دون ذلك، يصير الوجود ترانيم بلهاء.

لا قوة في العلم بإمكانها إذن، أن تحدد لهذا الجسد مايمكن فعله أو لا! أي دين أو زعيم أو لغة أو وصية أو وثيقة أو رؤية أو موعظة...! تستطيع موضعة هذا الجسد في بوثقة مفهومية، وإخضاعه لجداول ومعادلات!

يؤسس الجسد مواسيم للإحتفال، نوقع به ومعه على مجالات اللانهائي. إنه الوسيلة التي نغزو بها العالم. وتظل القصيدة أكبر عنصر للاختراق والاستوطان. نسكن ذواتنا، وتعانقنا أحلامنا ثم تتحول الموت إلى تمارين مسائية لليوغا.

وحده منطق الرغبة يؤكد عند اللعبي، هذه الانفلاتات الشعرية التي لا يمكنها خلخلة اللغة، إلا بالتخلص والقطع مبدئيا مع كل الضوابط والأعراف والمنظومات سواء كانت لغوية أو ثقافية أو اجتماعية. القصيدة لا تاريخ لها، لا تنحني بل تندهش وتستفز. وبالتالي، حينما نتوخى خلق حوار مع المرأة، فإنه يجدر بنا في حقيقة الأمر أن نفقد الذاكرة ونتخلص من حكايات الراوي. باختصار، نتحول إلى أطفال.

الرغبة حلمنا وفسحتنا وصوتنا غير المبحوح. قد نصرخ بأعلى قوة فينا، حتى في وجوهنا. الرغبة تنمي ما تبقى لنا. يكفينا أن نتخيل، حتى تتلاشى مغارة الرهبان.

قد تخدعنا أحيانا لعبة الجسد هاته، وقد تكون مخادعة وفاشلة أو غبية أو حتى حقيرة، كما قد يسطو علينا الجسد أحيانا، ويحولنا إلى آلات رهيبة وفوق العادة بليدة.

مع نصوص كهاته للعبي، نتمرأى ذواتنا ولادة جديدة باستمرار، وفتوة مطلقة. أجسادنا قيمتنا الدائمة الترحال. لا نستوطن ولكننا ننساب مع اللحظة. أجسادنا نبيذنا المسائي مع حكايات الينابيع والموسيقى والشعلة المتعبة. آه! يلبسنا جسد مرتج.

لن يبقى للشاعر غير جسده، يحتفي به وبقصيدته ليمارس حقه المشروع في أن يحمل راية العصيان على كل المنظومات والقواعد التي تملي علينا بعجرفة ووقاحة طبيعة القائم والممكن. الشاعر سعيد بجسده، يقدس مشاعره ويحترمها بشكل حضاري، لأنه لا يتوخى أي شيء غير دفء الحميمية.

الجسد مصيرنا السرمدي، قد لا يتحملنا العالم. لكن تضاريس العشق والتماهي ترسم لنا طوبوغرافيا التوخي والابتغاء. نموت بلا كلل أو سأم لكننا نولد بالكاد. متى تولدون؟. القصيدة تتحمل حماقاتنا عن طيب خاطر، نعترف لها وبها وحيث هي دون عواطف مجانية.

ليست "فواكه الجسد" باعترافات ليلية أو سريرية في رأيي، بالرغم من غلبة هذا المكون على الإطار النظري لهذه المجموعة الشعرية. بل هو محاولة لتأجيج هذه الآدمية الراقدة والكامنة فينا، والتي سعت كل المنظومات إلى أن تحولها إلى مجرد هامش للنسيان.

أمام تلك التي نعشق فإننا نصير أطفالا صغارا، نكتشف جسدنا للمرة الأولى. ونكون عفويون إلى درجة يمكن أن يتحول معها العالم إلى خربشات على رمال شاطئية. من نعشق يقين، وما تبقى ضجيج بلا معنى. نتكلم جيدا وبفصاحة، ودون حاجة إلى بلاغة هؤلاء المدرسون القساة.

مع "فواكه الجسد"، ينهار عصر سوء الطوية، أنت سيد نفسك. تقول أولا تقول، لا يهم! القضية هي أن تكون ذاتك بالرغم من كل شيء.

أن تبدأ بالنهاية، أو تنتهي مع البداية، فإن اللحظة الشعرية عند اللعبي هي ذاتها. الشكل الهندسي الذي يتأتى لجسده، لا يمكن رسمه إلا على اللانهائي وسعادة المحو. لا يقبض القارئ على أي مؤشر لتحديد سيرورة تراكم الرؤى الشعرية، وربما تداخل نصان وتفاعلهما داخل نفس البياض يؤكد هذه الحقيقة. الفهم الدائري للزمان. أو "تدويره"، يشير إلى دينامية على مستوى الذات والعالم والآخر والرؤية والعلاقات والتأسيس.. توترات دائمة وراسخة، لحظة تلقي بك إلى أخرى.

لأن القصيدة تمارس أنانيتها بشكل أعمى وهي تحتفل. 

كاتب ومترجم من المغرب