الحكايات مطروحة على قارعة الطريق، لكن المبدع هو من يستطيع تحويل هذه الحكايات، من حكاية، إلى قصة، تلعب فيها الموهبة دورا غير قليل، وهو ما فعله عاطف سليمان، عندما سار بنا فى قطار العمر، متوقفا عند كل محطة من محاطاتها، لنجل أنفسنا فى رؤية فلسفية، مصاغة بلغة قصصية، تدعو للتأمل والتدبر فيى سير الحياة، ومن منا يمكن القول عليه أنه مات من سنين، رغم أنه مازال يتنفس.

حواسُّ الحريقــة

عاطف سليمان

 

بدا القطارُ وهو يشقُّ طريقَه في الليلةِ، برهافةٍ، كأنه آيةٌ من سرمدٍ رحماني.

كان عائداً من رمال الإسكندرية في القطار القشَّاش، الرتيب، وخَطَرَ له أن يطردَ المللَ بأنْ يكتبَ في كلِّ محطةٍ كلمةً واحدةً في ورقتِهِ. شَرَعَ يُسلِّي نفسَه بلعُبتِه، ويـُخبئُ يدَه في كلِّ مرةٍ داخل جيب الحقيبة ويكتبُ كلمةً إلى أنْ شردَتْ أفكارُهُ، وغصَّ بلُعبتِهِ.

*

هَسَّ الليلُ، وقطارُ الدرجةِ الثالثةِ يسري به بين الحقول والقرى في قلب عتمةٍ فريدةٍ، وهو إلى الحقول يرنو من شبَّاك إلى جواره. أحسَّ الحقولَ طريَّةً ومشمولةً بسلامٍ جليلٍ، وانتبَهَ إلى كَوْنِ الحقولِ تطلبُهُ وأنها تكادُ تنتزعَهُ من مقعدِهِ وتبدِّلَه. اشتهى إذ ذاك نورَ القمر، فأشرقَ القمرُ وغمرَ الحقولَ والبلادَ الصغيرةَ بنورٍ قديمٍ ممتلئٍ وكامل. رغبَ أن يسقطَ النورُ على صدرِهِ، فلمحَ حقيبتَه مُلقاةً إلى جوارهِ وجلدتَها السوداءَ الـمُتشقِّقةَ تعكسُ ذاك النورَ بخفوت.

كان يعرفُ أن النورَ يسقطُ ثقيلاً على عُنقِهِ وصدرِهِ، ولم يشأ أن ينظرَ أو أن يمُدَّ يدَهُ لِيتحسَّسَ.

وباتت عيناهُ مفتوحتيْن على الحقول، لِيدركَ أنه لو أصرَّ على إبصارِ أيائلِها وتماسيحِها الأولى، التي كانت، لرآها.

*

ترفَّقَ قلبُهُ به، وأدركَ أن الليلةَ ليلةٌ كبيرةٌ، لعله صادفَ مثلها من قبل أو هيَّأَ الخيالُ له ذلك، إلَّا أنه كان يفهمُ بوسيلةٍ ما أنه في مثل هذه اللحظات يتغشّاهُ الشخصُ الذي سيصيرُهُ -هو ذاتُه- بعد زمنٍ، وما كان يعتني بالنظر في التحوُّلات التي تطرأُ على حالتِهِ ومزاجِهِ وكيانِهِ قبل أن يعودَ إلى ما كان عليه. قَدَرَ، مرةً، أن يصِفَ الأمرَ «عندما كنتُ صغيراً عرفتُ ما ستؤولُ إليهِ نفْسي في الشيخوخة. لقد سِيقَ إليَّ الشيخُ الذي سأكونُهُ، مرةً ومرات»، وكتبَ كذلك «صدمني أن أعرفَ ضِمناً أني سأحيا طويلا. كنتُ آملُ آنذاك نيْلَ حياةٍ قصيرةٍ عارمة». كانت "بادرة" قد لفتتْ انتباهَهُ بحقٍ إلى القطارات «أنا في القطاراتِ لا أعودُ أنا، أشعرُ أني أترعرعُ على قعقعةِ هذا الحديد». وها هو عائدٌ من الإسكندرية ذاتها، ربما في القطار نفسِهِ الذي ركبتْهُ "بادرةُ" بعدما ودعتْهُ لآخر مرةٍ خارج أسوار المحطة.

حين أنهى لعبتَهُ لم يكن قد كتبَ في ورقتِهِ سوى أسماءَ أشخاصٍ ضائعين. وترفَّقَ قلبُهُ به.

*

لـمَّا أشرقَ القمرُ على دُنيا حقولِهِ اعتراهُ الوجلُ، وبدا له أن ما يشعرُ به ويراهُ ليس إلَّا تهيؤات روحِهِ الـمُجهَدةِ وتواطؤاتها، لكنه مع ذلك بقى مُستطِيعاً أن يرى قرصَ القمر مُعلَّقاً في السماء ومُشِعَّاً على الأجسادِ من حولهِ. كانت طائرةٌ تعبرُ أجواءَ السماءِ، تضيءُ وتطفئُ مصابيحَها الخضراءَ والحمراءَ على الجناحين، لم يخطرْ له من قبل أن الطائرات تحملُ بشراً يسافرون. لطالما شاهدَ الطائرات في طفولته وظنَّ أنها تطيرُ لِمجردِ ذرْعِ المسافات، ولكنه يستطيعُ الآن أن يفهمَ الطائرةَ والمسافرين والأفكار.

أخرجَ من حقيبتِهِ أحدَ الكتبِ التي اشتراها من بائع "النبي دانيال" وتذكَّرَ -بالطبعِ- الرجلَ الأبيضَ، العجوزَ جداً، بوسامتِهِ الـمُتَهدِّمةِ الذي التقاهُ في الترام والذي ظلَّ يبحلقُ فيه ثم نزلَ وراءه في محطة إبراهيم باشا، واستوقفَهُ، وقال له بلا مقدمات «كُنْ فَطِناً يا بُنيَّ، وسافِرْ». لم يفهمْ أيَّ سفرٍ يقصدُهُ العجوزُ، ولأنه كان عائداً، مسافراً بالفعل، فلم يستحسنْ أن يستفسرَ أو أن يستزيدَ. وحين توقفَ في شارع النبي دانيال للتقليب في الكتب القديمة لمحَ الرجلَ العجوزَ يقتربُ منه ثانيةً ليقولَ له وكأنه يستأنفُ الحديثَ «لا تغترَ بالكتب، فغايتُكَ ليستْ من هذا الطريق»، لم يردْ، ولم يعتبرْ نفسَهُ مقصوداً بالكلام، واشترى كتابين، وقبل أن ينصرفَ ملأَ عينيْهِ من العجوز وهمسَ له بالألمانية «مسافر». كان الرجلُ العجوزُ الأبيضُ ذو النمش والذي يبدو كواحدٍ من بقايا يونانييِّ الإسكندرية يكادُ يزجُرُهُ وهو يقولُ له «لا تتلكأْ».

عندما مرتْ الطائرةُ واتاهُ طيْفُ ذلك العجوزِ.

***

طلعَ النهارُ. كان نائماً في سريرِهِ، جسدُهُ يوجعَهُ، وروحُهُ ثقيلةٌ ومُعتِمةٌ. سَاوَرَهُ إدراكٌ بأن الليالي الجميلةَ تردُفُهَا نهاراتٌ فاترةٌ. وانتابَهُ شعورٌ بالإثم تجاه ليلةِ الأمسِ وقمرِها وحقولِها، وتوجَّسَ أن ثمةَ قَصَاصَاً سوف يطالهُ.

عادَ إلى النوم، وفي الحُلم رأى الطائرةَ تقعُ وتنفجرُ، ومن حُطامِها يخرجُ الرجلُ السكندريّ الأبيضُ بنمشِهِ وغموضِهِ، ويُقْبلُ عليه، ويحدجُهُ بعينٍ مُطْمئِّنة:

- كما ترى فإنني نجوتُ.

لم يقلْ له « وكيف أدركتَ ذلك!» لأن العجوزَ الـمُطْمئنَ كان سيُجيبُهُ «إنني أشعرُ بنجاتي»، وعندما نظرَا باتجاهِ حطامِ الطائرةِ شاهدا فتاةً تخرجُ منها وتسيرُ نحوهما عاريةً، وحين بانَتْ كان جسدُها محترقاً إلَّا وجهها وشعرها وعُنُقها.

كانت ترتعدُ من الظمأِ والألمِ، فتركهما العجوزُ السكندريُّ وهو يُشوِّحُ له: هي ستُعلِّمُكَ، هي.

اقتربتْ فبدا فمُها حُلواً متفجِّراً بالشهوات. قالت له:

- ضمِّدْني.

فقبَّلها في فمِها، وقبَّلتْهُ، وتشمَّمَ حريقتَها.

تطلَّعَ في عينيْها وملامحِ وجهها، وبدا أنه يتذكَّرُ عنها.

عندها صحا من الحلم ومن النوم فيما لم يعُدْ لرائحةِ اللحمِ المحترقِ وجودٌ يُذكَر.

***

دخلَ ليلٌ ثانٍ، فصعدَ السُّلمَ إلى سطح البيت ويدُهُ تزحفُ على الدرابزين الـمُترَب، ووقفَ في البقعةِ التي مات عندها أبوه بعدما أصابَهُ حجرٌ أسود في جبهتِهِ فأرداهُ على الفور دون أن يستدلَّ أحدٌ على الجهةِ التي انهمرَ منها الحجر. خَطَرَ له أن الحجرَ إنَّما كان فُتاتةَ نيزكٍ جاءَ من فضاءٍ خارجيٍّ كي يلمسَ أباهُ تلك اللمسةَ الهائلةَ الساحِقةَ فحسب. لقد ضاعَ الحجرُ واختلطَ ميتُهُ بالموتى الآخرين مثلما اختلطَ هو بالعائشين، ولو أتاهُ منْ يُخَيِّرُهُ، في لحظتِهِ هذه، بين رؤيةِ الأبِ ورؤيةِ الحجرِ لَشغفَهُ الحجرُ. كانت خواطرُهُ تُشِفُّه وتُقويَّهُ وتُنْهِضُهُ، فعادَ يُسَائِلُ نفسَهُ عن الفتاةِ المحترَقةِ التي عانقها وقبَّلَها قبل قليل، أَمِنَ الجدوى ألَّا يكون لها أيَّ وجود؟ ولو أنه ضاجعَها في الحُلمِ ثم ضاجعَها إنسانٌ آخر في غير الحلمِ أَلن ينوجدَ له تذكارٌ في وليدِها إنْ ولدتْ!

كانت قد توسَّلتْ إليه بينما هو يصحو من نومهِ:

- لا تنسني. اسمي «لالي»، «لالي»، لا تنسَ اسمي!

أسلوبُها ونبراتُها كانا غريبين عنه، لا يُضارَعان، لا يجيئان من أيةِ امرأةٍ عرفَها، لعله لا يستطيعُ الإسهابَ في توكيدِ ذلك، إلَّا أنه امتثلَ لمشيئتِها في ذلك الليل الرطيبِ، فناداها ورددَ اسمَها بصوتٍ مسموعٍ يطفرُ بحنانِهِ وإيمانِهِ بجدوى وَصيَّتِها وتلبيَّتِهِ الورعةِ لها، وتذكَّرَ أن كمساري ترام الإسكندرية أعطاهُ تذكرتيْن بدلاً من واحدة، واحتجزَ بالطبعِ ثمَنَ تذكرتيْن دون أن يبدوَ عليه أنه أخطأَ في شيءٍ ما، وحين اكتشفَ -هو- الخطأَ تقبَّلَهُ رغم وقوفِهِ منفرداً في مؤخرةِ العربة.

في أغوارِ ليلتِهِ تلك صارَ لديهِ ما يُوعِزُ إلى سريرتِهِ أنّ «لالي» بضماداتِها أو بدونِها كانت إلى جوارِهِ الحميم، في مؤخرةِ العربةِ السكندريةِ، دافئةً وراسخةً ومرئيَّةً لِسِواه.

***

أشرقَ القمرُ اللبنيُّ فياضاً من جديد، فامتلأتْ بالشوقِ روحُهُ واشرأبَّتْ. هَبَّ جسدُهُ مُشْهَرَاً رهيفاً وَسْط الصفيرِ النافذِ لِصراصير الليل.

رائحةُ نعناعٍ أخضر تضوَّعت ثم خمدتْ في الليل الرطيب.

لم يتغيَّر شيء. تغيَّر كلُّ شيء.

تغيَّر كلُّ شيء وإنْ لم يتغيَّر شيء.

عساهُ تفهَّمَ في الآخرِ أن «لالي» الـمُفعَمةَ بحريقتِها لا تقدر على المجيءِ إليهِ والحَطِّ على لحمِهِ ودمِهِ. لعله تفكَّرَ في أنه يكادُ لا يغفرُ للوجوهِ الدميمةِ دمامتَها، وأن وجوهَ النساءِ الصبوحةَ على الأجسادِ الشائهةِ تُوقِظُهُ وتـخلبُهُ حتى لَكأنَّ روحَهُ تسعى في إثرِ أجسادِهن العسيرةِ والناقصةِ والمنبوذةِ وتتلقفهن كعطايا في مصافِ المعجزات.

وفيما هو مشدوهٌ إلى منامِهِ، اِنقذفَ حجرٌ خَدَشَ ذراعَهُ وسقطَ غيرَ بعيد. حجرٌ رماديٌّ، ناشِفٌ، مُتْرَعٌ بتجاويفَ هوائيَّة صغيرة صيَّرتْهُ إسفنجياً وخفيفا. بدا مفهوماً لديهِ أن الحجرَ ما انقذفَ لِيصرعَهُ إنَّما لِيخدشَهُ فحسب، وحين التقطَ الحجرَ وتفحَّصَهُ بين يديْهِ في نور القمر انتبهَ إلى ما كان يحدسُهُ ويعرفُهُ عن طُولِ عمرِهِ، وإذ ذاك جرى لسانُهُ بما كان قد سمعَهُ من العجوزِ السكندريّ، فتمْتمَ وهو يرمقُ الحجرَ:

- كما ترى فإنني نجوتُ!

وتحاشى مصارحةَ نفسِهِ بأن الحجرَ الذي نالَهُ وأوجعَ ذراعَهُ هو حجرٌ سَوَّاهُ حريقٌ أو حرائقٌ مجهولةٌ غابرةٌ، وأنهُ بمثابةِ العَطِيَّةِ أو القصاص.

عندما غلبَهُ النعاسُ؛ بقى الحجرُ الصغيرُ إلى جوارِهِ، على فِراشِهِ، له ما للحرائقِ من فتنةٍ، ومُؤتَلِقاً في حضورٍ ضافِ.

وغابتْ «لالي».

لم تجِئهُ حتى لِتشكوَّ له اتساخَ ضماداتِها.

في نُعاسِهِ، بدا له أن جمالَها الحارَّ الـمُتضاعِفَ يُحزِنُهُ ويُمِضُّهُ، وبدا كأنهُ يغارُ، كأنهُ متروكٌ، بل كأنَّما جمالها مَسلوبٌ منه. وهو لا يني يعرفُ أن «لالي» محضُ طيفٍ أتاهُ في حُلمٍ، إلَّا أنهُ حسمَ الأمرَ في قلبهِ؛ طالما أمكنَ وجودَها في الحُلمِ فهي تُغذِّي هذا الوجودَ من مُنتهى حقيقيتِها، وتضاهيهِ وتُشْهِرُه.

***

في النهارِ، كان القطارُ يعودُ بهِ إلى الإسكندرية، ومن النافذةِ تراءتْ له الحقولُ مُتحَلِّيَّةً بقوةِ الحقولِ العاديةِ، وأحسَّها تعصَاهُ وتُجافيهِ دون أن تُنكِرَهُ أو تتخلى عنه أو تحْرمَهُ. رَغِبَ في استخراجِ الحجر من حقيبتِهِ والنظرِ إليه، لكنه تراجعَ تحسُّباً من فضولِ الراكبِ المجاورِ. حملتْهُ أفكارُهُ بشوقٍ إلى «لالي» وتجلَّتْ له هيأتُها حُلوةً على ظهرِ المقعدِ أمامه بينما صوتُها يبثُّهُ: أنا سأعلِّمُكَ، أنا. تشبَّبَ قلبُهُ، ولم يقوَ على مغالبةِ رغبتِهِ وتلهُّفِهِ لِتَحسُّسِ الحجرِ -يُفزِعُهُ هاجسُ ضياعِهِ أو تلاشيهِ- فأدخلَ يدَهُ في الحقيبةِ، ولَمَسَ تجعيداتِهِ ودِفئَه، وظلَّ مُمسِكاً بهِ حتى فاضتْ أناملُهُ بالعرقِ فتشمَّمَها خلسةً وقد أفدحتْها رائحةُ النعناعِ الأخضرِ مُتضوِّعةً لَكأنها أولُ الرائحةِ، أو كأنها لم تُضمَرْ في بالِهِ قَط.

على شاطئ بحر الأسكندرية هجعتْ روحُهُ إلى سكونِ الحجرِ، وهَالتْهُ الطُمأنينةُ التي تغمرُهُ وتُقرُّ عينيْهِ، فهمسَ لِنفسِهِ: ما زلتُ شاباً فتيَّاً ولا أريدُ هذا الآن.

دونما أسفٍ، بل بتهليلةٍ ومرحٍ وعزمٍ رشيدٍ، وقبل حلولِ الظُلمةِ، ألقى بحجرِهِ بعيداً في مياهِ البحرِ الباردةِ.

وفيما هو يتجوَّلُ بمسرَّاتِهِ على رمالِ شاطئِهِ أَنِسَتْ عيناهُ طائرةً تطفئُ وتضيءُ أضواءَها الخضراءَ والحمراءَ في الأفقِ الناصعِ، وتهتدي.

 

11 يناير 1994