يكتب القاص العراقي عن تلك اللحظات التي يتماهى فيها الواقع مع التخيلات وتنمحي أو تنطمس الحدود بينهما. وتصير اللحظة زمنا فريدا لا يخضع لأية مسافات آو قوانين. هنا تتداخل ألاعيب الخيال مع توهيمات الذاكرة، حيث يسقط الظل بين الرغبة والفعل.يكتب القاص العراقي عن تلك اللحظات التي يتماهى فيها الواقع مع التخيلات وتنمحي أو تنطمس الحدود بينهما. وتصير اللحظة زمنا فريدا لا يخضع لأية مسافات آو قوانين. هنا تتداخل ألاعيب الخيال مع توهيمات الذاكرة، حيث يسقط الظل بين الرغبة والفعل.

ذاكرة البرونز

محمد علوان جبر

«إلى قاسم الساجت... وفاء»

ضوء خجول يخترق الأفق الرصاصي، وتغمر الشاطئ المقفر وحشة رطبة تلامس دبق الهواء، كان البحر يحفر علامات على الصخور،  الحفرة الصغيرة أمامها وفي المدى المختنق برائحة البحر لمحت طيورا بيضا تقترب، كانت مجموعة نوارس شكلت نقاطا بيضا على سجادة الرمل الفسيحة، أصابعها في الرمل الطري المشبع بالماء،  يتطاير الماء المالح ويشكل ستارة عالية بأطوال متفاوتة سرعان ما تهمد ويمتصها الرمل،  أخرجت من حقيبتها كرات من الطين الأحمر والشمع، ودعكتها مع كرات من الرمل الندي،  شكل الخليط كتلة بنية لدنة، استسلمت الكتلة إلى السكين... أناملها الدقيقة جعلت دفقة حياة واهنة تلوح من الطين، كانت السكين تجوس في ثنايا الجسد، جسد فتي برز وسط وحشة الشاطئ ثم تلاه ظهور تفاصيل الوجه  والرأس، الجبهة العريضة، الأنف الطويل،  الفم المحدد الزوايا

- لم يبق سوى الدرع.....

رددتها مع نفسها.... أضفى الدرع على فتوة الفارس فتنة طاغية، وبعد أن تفحصته لمرات عديدة ومن جميع الزوايا،  وضعته في أعلى الحفرة.....

-إنه يشبهه تماما.. التمثال البرونزي الصغير الذي كانت تملكه،

فارس يمسح الأفق بنظرة قاسية مجردة.. حركة اليد باتجاه السيف تؤكد أنه يريد أن يشهره،  استمر الخليط المتجانس يصرخ فيها..  أناملها تدعك كرات الشمع والطين الأحمر والرمل الندي.. ومن أعماق الصمت والوحدة في الشاطئ المقفر برز جسد لأنثى، أزاحت ببطء الطين والرمل عن تفاصيل الجسد الأنثوي الجميل الذي اقترب قليلا من الفارس، الوجه إنها تعرفه،  كانت لحظة سريعة،  قفز فيها الزمن بسرعة خرافية من المرآة الصغيرة، حيث كانت تتسمر لساعات  أمامها، اختفى جسد المرأة الفارسة خلف درع، كانت المرأة تتخذ وضعية التأهب أيضا وتمسح الأفق الرصاصي بنظرة تائهة، وبحركات رشيقة عجنت الكثير من الكرات الطينية الحمراء مع الرمل الندي و  صنعت حول الجسدين اللذان يكادان أن يلتصقا  بعد أن قربتهما من بعضهما البعض لمرات عديدة، غابة من السيوف والفخاخ  التي حاول الفارسان أن يعبراها  بإصرار عجيب،حينها غمدت في صدر الفتاة سيفا،  لكنها حينما تعالى صراخ الناس في الغرفة الصغيرة، عدلت عن موت الفارسة، واستبعدت كذلك أن يموت الفتى، أخرجت السيف من صدر الفتاة بهدوء...

- حتى لا تتألم..

 كانت الدائرة مزدحمة بعشرات المراجعين، حينما دخل المحامي الشاب،  كان يرتدي سترة رمادية، نظراته زائغة وسط الزحام،  فتحت ملفا بعد أن ارتدت نظاراتها،  يقترب الفارس قليلا من الفتاة، يضع يده على الجرح، ومن الفجوات الصغيرة التي تتيحها الرؤوس، لمحت ابتسامته، يقترب منها، وتطيل النظر فيه قبل أن تشهق..... (  هل من المعقول أن يكون هو....  فارس البرونز.. بلا درع، يرتدي سترة رمادية..؟ )

كانت متوحدة مع فارس البرونز،  لم تسمع صوت الموج وهو ينقر الصخور، وتلاشت الأصوات في الغرفة، قال لها وهو يقدم لها فارس البرونز....

- تفضلي..... انه فارس لا ينقصه إلا حصان وزوجة !

قالت بعفوية جعلت جدها يختنق بضحكة طويلة.......

- سأشتري له يا جدي حصانا وسأكون  زوجته...

ضحك جدها كثيرا،  كان هذا قبل..... آه.. كم..؟  عشرين عاما أو أكثر، إنها تتذكر دخول الفارس البرونزي إلى فراشها  لمرات كثيرة، كانا يتوحدان  بعفوية،  تماما كالكتلة التي أمامها إذ يتوحد الطين الأحمر اللدن مع الرمل الندي.

نزعت نظارتها وركنت مجموعة من الأوراق  جانبا...  أنفه.. إنها تستطيع أن ترسمه وهي مغمضة العينين.. فمه.. استدارة الجبين العريض، وتلك النظرة تعرفها  جيدا،  كم رسمتها بأشكال عديدة،  هاهما العينان ذاتهما تحدقان فيها مباشرة، أو تتطلعان بتيه في المدى...

- أرجوك تفحصي الأوراق لأن المعاملة.........

لماذا لا يناديها باسمها،  لا أتذكر أننا افترقنا يوما  منذ عشرين عاما،  ثم لماذا هذه الابتسامة...؟

- من أين أنت....؟

- ....................

- من تكون..؟

- ....................

طمرت الحفرة بالملح، ونزعت من الفارس سترة الرماد، ارتدت نظارتها مرة أخرى وطلبت من المحامي الشاب الجلوس على الكرسي الفارغ بجوارها.....

- كم بحثت عنك أيها البرونز الجميل،  وكم بحثت لك – دون جدوى - عن حصان ملائم،  وحينما يئست علقتك على صدري بدبوس من فضة.

كانت السترة الرمادية غامقة جدا، هزت رأسها، كأنها توصلت إلى قرار مهم، ودون أن تستأذن المحامي الشاب، دست تحت السترة الرمادية الدرع والسيف،  كانت حركة الفارسين تنبئ أنهما كانا يحدقان في شيء محدد. استمر البحر يلامس الصخور على الشاطئ وكان الرذاذ ينتشر على مساحات أوسع موزعا الملح على رمل بدا يستحيل  إلى فرسان يلبسون دروعا تحت ستر غامقة.