تقدم هذه القراءة التونسية المتأنية لمشروع الناقد التونسي المرموق أهم مكونات مفهومه عن الشعر، وتتحرى منهجه النقدي الإبداعي المغاير معا، بصورة تبلور معها إضافته النقدية المتميزة لنقد الشعر العربي المعاصر.

النقد الإبداعيّ العربيّ المعاصر بين التنظير والتأصيل

قراءة في مفهوم "الشعر المؤسِّس الأصيل" عند محمّد لطفي اليوسفي

مصطفى القلعي

إنّ الحديث عن نقد إبداعيّ عربيّ معاصر مسألة في غاية المجازفة. فالخطاب النقديّ العربيّ المعاصر يقدّم نفسه على أنّه خطاب عالِم يرفع شعارات العلم والأكاديميّة والحياد والإلمام وسعة الاطّلاع والدقّة والنّزاهة والوعي... إلخ. وهذه الشعارات تشترط في النّاقد امتلاك أدوات معرفيّة ومنهجيّة لا تتوفّر للمبدع. فللمبدع، الشاعر في مقامنا هذا، أدواته التي يستثمرها في إنتاج نصّه الإبداعيّ. وللناقد أدواته التي "يسلّطها" على إنتاج المبدع ليقيّمه ويعيّره ويصنّفه ويميّز جيّده من رديئه. والثّابت، في الثقافة العربيّة، أنّ رحاب الجامعة قد أنتجت الخطاب النقديّ العالِم واحتضنته، ثمّ احتكرته. فصارت الأصوات النقديّة الأعلى والوجوه النقديّة الأشدّ بريقا هي أصوات أساتذة الجامعة ووجوههم. لقد عملت الجامعات العربيّة، بدافع الأصالة، على تحقيق التراث النقديّ العربيّ ونشره ودراسته وتدريسه وممارسته على النّصوص الإبداعيّة القديمة والمعاصرة. كما اشتغلت، في الوقت ذاته، بدافع المعاصرة، على استقدام المناهج المستحدثة في الثقافة الغربيّة وترجمتها و "توظيفها" في قراءة النصّ الشعريّ العربيّ القديم والمعاصر على السّواء.

إنّ احتكار الجامعة للخطاب النقديّ العالِم خلق وضعا موازيا يتّصل بالخطاب الإبداعيّ، فهو خطاب يقيم خارج أسوار الجامعة في أغلب الأحيان. بل لعلّه خطاب ألصق بالإنسان، يقول أحزانه ويصوغ آماله في الكلمات وبها، ويصغي إلى همس الكائنات ووشوشتها. إنّه يرى كلّ شيء ويسمع كلّ شيء، يعيش نبض الأمّة، يرصد كبواتها، يراقب أعداءها المتربّصين بها، فيحذّر وينبّه ويصرخ أحيانا. إنّه خطاب يؤدّي أدواره الوطنيّة والاجتماعيّة بوعي كامل دون أن يتخلّى عن وظيفته الإبداعيّة. فالشاعر كائن موكول إليه إنتاج نصّ يلبّي حاجة الإنسان الجماليّة، وهي حاجة ملحّة فيه. هذا الوضع خلق علاقة متوتّرة بين الشاعر المبدع والناقد العالِم، يسودها الخلاف والاتهام، فالشاعر يتّهم الناقد بأنّ أدواته النظريّة والإجرائيّة عاجزة عن الإحاطة بأسئلة النصّ الإبداعيّ وإضافاته. والناقد يتّهم النصّ بالتّقصير والقصور المعرفيّ والعجز عن التّعبير عن صخب الّلحظة وامتلائها، وعن إدراك منجزات نصوص الأمم الأخرى الغربيّة والّلاتينيّة. بل إنّ النقد العالِم صار يرسم للنصّ دروب الإبداع، ويدعوه إليها مفتكّا منه دور الرّيادة، موجِدا علاقة جديدة بين الخطابين الإبداعيّ والنقديّ، فيما صار النصّ الإبداعيّ مُريدا تابعا للخطاب النقديّ. وهي علاقة كلّما وعاها النصّ الإبداعيّ رفضها وتمرّد عليها وانتفض.

ومن بين أحضان الجامعة، ومن خارجها أيضا، نشأت أصوات نقديّة جديدة تردّد أنّ هذا الصّراع القائم بين المبدع والناقد صراع مفتعل يعطّل مشروع التحديث العربيّ. ويغيّب الثقافة العربيّة عن أسئلة العصر الملحّة. ويهدر طاقات الأمّة الفكريّةَ في سجالات لا تقدّم شيئا. هذه الأصوات الجديدة هي التي جوّزت لنا الحديث عن نقد إبداعيّ عربيّ معاصر يقدّم رؤية للممارسة النقديّة مغايرة للرّؤية السائدة. إنّها رؤية تعمل على ردم الهوّة القائمة بين الشعر والنّقد. بل إنّها تمضي إلى أبعد من ذلك حين تعبّر عن طموحها إلى صياغة خطاب نقديّ جديد يتنازل عن تعالمه، لا عن علمه، وينزل من عليائه الموهوم ويصغي إلى النصّ وينصهر فيه ليدرك قوانينه وأسراره المتستّرة على نفسها في أعماقه. هذا النّقد الجديد ظهرت أصوات أصحابه وعلت في أرجاء الفضاء الثقافيّ العربيّ مشرقا ومغربا. ومحمّد لطفي اليوسفي، الناقد الأكاديميّ التونسيّ، يُعَدُّ أحد رموزه البارزين، فقد تتالت كتاباته النقديّة المهتمّة بالمنجَز الشعريّ العربيّ المعاصر بشكل لافت داع إلى الاهتمام منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي تقريبا. ولقد اشتغل في كتاباته على الخطاب النقديّ العربيّ المعاصر المهتمّ بالقصيدة العربيّة المعاصرة.

وقد لاحظ اليوسفي أنّ غزارة المؤلّفات التي واكبت الشعر العربيّ المعاصر توهم بالتنوّع والاختلاف والاجتهاد في محاصرة الظّاهرة الشعريّة اجتهادا يحيط بقوانينها المنتجة لشعريّتها، وييسّر عمليّة تلقّيها ويقلّص عزلتها وغربتها في ثقافتها. غير أنّ النقد الشعريّ العربيّ المعاصر خذل نوايا أصحابه، في نظر اليوسفي، فمارس على النصّ الشعريّ نوعا من القهر حَدَّ من اندفاعاته وحجب شعريّته، من حيث أراد كشفها والاقتراب من تخومها. وقد عزا اليوسفي هذه المفارقة بين نوايا النقد وبين منجزاته، إلى مراجع نقد الشعر العربيّ المعاصر وخلفيّاته، التي تحرّكه في السرّ وتتحكّم في مقولاته وترسم له أهدافه. وهو يصنّف هذه الكثرة النقديّة صنفين كبيرين متعارضين، وصنفا ثالثا جامعا بينهما:

الصنف الأوّل:
هو النقد الكلاسيكيّ المفتون بنظريّة العرب القدامى في الشعر والشعريّة، يقرأ الشعر المعاصر في ضوء مقرّراتها. وهو نقد يفي بحاجات العرب القدامى الجماليّة، ولا يفي بحاجات معاصريه. فهو، بهذا المعنى، نقد لاتاريخيّ يسلّط الماضي على الحاضر، ويجرّد النصّ الشعريّ المعاصر المشغول بلحظته التاريخيّة من معاصرته، ويجبره على الامتثال للتصوّرات البيانيّة العربيّة القديمة، فيلغي إضافات النصّ المعاصر إذ يقيس شعريّته بشعريّة سلفه دون اعتبار لعامل الزّمن والتّاريخ. هذا النقد يؤمن ب «أنّ القديم هو مركز الجاذبيّة والثقل في الثقافة العربيّة السّائدة، فهي لا تفهم الإنسان إلاّ وارثا ومكمّلا، بحيث إنّ الحاضر والمستقبل ليسا إلاّ نوعا من شرح القديم أو التّعليق عليه»(1). إنّ هذا النّوع من النقد يُربك العلاقة بين النصّ والواقع، وبين الإنسان والزّمن، بل إنّه نقد يربك صيرورة الفكر العربيّ ويعطّل مسار الثّقافة العربيّة فيرميها، بوعي كامل، في عتمة الماضي.

الصنف الثّاني:
تمثّله الكتابات النقديّة التي تستقدم المناهج النقديّة الغربيّة الحديثة وتطبّقها على الإنتاج الشعريّ العربيّ قديمه وحديثه قصد استكشاف مكامن الإبداع فيه ومحاصرة قوانينه البانيةِ لشعريّته. ويرى اليوسفي أنّ هذا النقد مدرسيّ تبسيطيّ، يمارس قهرا فكريّا مضاعفا في اتّجاهين، في اتّجاه الثّقافة المنتِجة، فهو ينتزع الأفكار من منابتها ويجبرها على الحلول في غير أوطانها دون مراعاة لتربتها الثقافيّة التي نشأت فيها، ولا للعوامل الفكريّة والفلسفيّة والاجتماعيّة والسياسيّة التي مهّدت لظهورها، والتي لم تتوفّر في السّاحة الثقافيّة العربيّة التي فيها نشأ النصّ الشعريّ موضوع الدّراسة من جهة، وفي اتّجاه الثّقافة المستهلِكة من جهة أخرى إذ يقصي منجزاتها عن واقعها وعن مجتمعها، ويجبرها على أن تعلن تطوّعها للإيفاء بحاجات الآخر الغربيّ، الذي لا يبدو في حاجة إلى هذه الخدمة، ولم يطلبها أصلا.

إنّ هذا النّوع من النّقد سيجبر النصّ على الامتثال للمنهج المُستَقدم من ثقافة أخرى. فهو نقد لا يحتفي بالنصّ المدروس، بقدر ما يزدهي بإشعاع المنهج وإغرائه. إنّه نقد يعلم مسبقا، قبل ممارسة العمليّة النقديّة، ما سيصل إليه التحليل من خلال خبرته بمنجزات المنهج في الثقافة التي أنتجته. إنّه نقد لا يقرأ النصّ الشعريّ قصد تمثّله، بل يقرؤه ليحقّق ما حقّقه المنهج المستقدم في ثقافته الأمّ. فالقراءة بهذا المعنى لم تعد استكشافا لمجهول هو النصّ الإبداعيّ ذاته، وإنّما هي قراءة معلومة المنطلقات والنّتائج لا تفيد النصّ بقدر ما تمارس عليه قهرا جديدا مرتديا ثوب الحداثة، هذه المرّة(2).

الصنف الثّالث:
هو النقد الموفِّق بين الصّنفين السّابقين، وهو الصّنف الأشدّ شقاء، لأنّ أهله يعتقدون أنّهم أمسكوا بالتّميمة التي تمكّنهم من الإفلات من سلفيّة الصّنف الأوّل ومن اغتراب الصّنف الثّاني. وهم، بجمعهم بين التصوّر البيانيّ العربيّ القديم، وبين المناهج النقديّة المستحدثة في الثقافة الغربيّة في ممارستهم النقديّة، يعتقدون أنّهم قد ضمنوا لعملهم سِمتيْ الأصالة والمعاصرة. على أنّ هذا الصّنف لا ينتبه المبشّرون به إلى أنّهم يقعون من التّاريخ خارجه، كما يعبّر اليوسفي، ذلك أنّهم يعتقدون واهمين أنّ الأصالة لحظة واقعة في الماضي الذي مضى وابتعد. واستعادة هذه الأصالة الموهومة لا تتمّ إلاّ من خلال استعادة ذلك الماضي واستدعائه لينوب عن الذّات في ما نهضت لتضطلع به في الحاضر: مشروع التّحديث العربيّ. فيقومون بعمليّة غربلة لاختيار ما يصلح في نظرهم لهذه الّلحظة الحاضرة ممّا يسمّونه التّراث المتراكم، ويقدّمونه نموذجا صالحا للاقتداء دون بيان معايير الغربلة والاختيار.

أمّا المعاصرة فيكفي، لتحقّقها في نظرهم، أن يكون النصّ مكتوبا هنا والآن. ولا ينتبهون إلى أنّ كثيرا من النّصوص ليس لها من المعاصرة إلاّ تاريخ كتابتها. ولا يتفطّنون إلى أنّ المعاصرة/ الحداثة هي "طريقة في الإقامة على الأرض ورؤيا للعالم". ممّا يعني أنّ المعاصرة ليست حكرا على هذا العصر الحديث بل إنّها صفة ملازمة لكلّ عصر. فالمعاصرة ليست لحظة تاريخيّة ستمضي، إذ أنّها لا تخضع للزمن الميقاتي. بل إنّها، كما يقول هايدجر الباحث الأصيل في التواشج بين الشعر والوجود، "لحظة امتلاء بالوجود" يعيها كلّ شاعر كبير في أيّ عصر من العصور.

هذا الخطاب النقديّ العربيّ، بجميع أصنافه، يحمل، في نظر اليوسفي، بذور وهنه في داخله. إنّه خطاب عاجز عن الإحاطة بحجم تجربة الشعر العربيّ الحديث. واليوسفي يؤمن ب «أنّ التّحديث الذي تمّ في ثقافتنا على مستوى اللّغة وعلى مستوى الرّؤية للعالم وكيفيّة الإقامة على الأرض، إنّما هو من صنع بعض المبدعين الذين أعلنوا منذ نهاية القرن الماضي شِرعة الخروج نحو المخالف والمغاير والجديد. وهذا بالضّبط ما عجز الخطاب النقديّ السّائد عن تمثّله، لأنّه خطاب افتتح مجراه في رحاب التّحايل، التّحايل على الذّات وعلى الآخر، على التّاريخ وعلى اللّحظة الحاضرة. فعجز عن الإسهام في تجديد أسئلة الثقافة العربيّة»(3).

ههنا، يتنزّل مشروع محمّد لطفي اليوسفي النقديّ المختلف، ويجد طرحه المغاير كلّ مبرّرات وجوده. إنّه يقترح قراءة تصغي إلى النصّ الإبداعيّ وتراوده مراودة لا تكلّ، حتّى يجود عليها بأسراره وقوانينه الخفيّة المتستّرة في أغواره، المقفلة أمام أنواع القراءات النقديّة القهريّة الأخرى. إنّها قراءة تتبادل مع النصّ الإبداعيّ كرما بكرم، كما يعبّر اليوسفي.

يقترح اليوسفي قراءة "لا تمارس التّحايل على ثقافتها ولا على زمنها ولا على التّاريخ". هي قراءة تعلن أنّها تعي حجم امتداد تجربة الشعر العربيّ المعاصر. وتعمل على استكشاف هذه التجربة ورصد إضافاتها والتقاط القوانين المحرّكة لشعريّتها لا بتطبيق النظريّة البيانيّة العربيّة القديمة، ولا باستنساخ المناهج النقديّة الغربيّة الحديثة، وإنّما بتمثّل هذه المنجزات النقديّة جميعها، والاستفادة منها في قراءة النصّ الشعريّ بأدواته عينها. بمعنى آخر، إنّ اليوسفي يقترح قراءة/ كتابة تصنَّف، من حيث الجنس، ضمن الفكر النقديّ، ولكنّها تفارق جنسها، من حيث خصوصيّاتها فـ "هذه الكتابة محاولة لالتقاط سلطان الكلام وفتنته، عن طريق ممارسة نفس الطّقس، طقس الكتابة التي تؤمن بأنّ الشّعراء، حالما يكتبون، يدخلون سفر العذابات والوجع وحدهم"(4). هي كتابة تمارس العمليّة النقديّة بأدوات إبداعيّة، إضافة إلى أدواتها النقديّة المنهجيّة، إنّه نقد إبداعيّ.

النقد إحاطة بأسئلة الإبداع:
"النقد فعل إبداعيّ (...) لكنّ الكثيرين يمارسونه كفعل قضائيّ"(5). هذا ما يؤمن به اليوسفي مع أصحاب البيانات، ويوضّحه حين يقول: "إنّ تأصيل النقد مشروط بامّحائه وزواله من جهة كونه سلطة متعالية تمتلك الحقيقة، لاسترداده من جهة كونه ضربا من الكتابة لا تكتفي بشرح النصّ أو تقييمه وتفسيره، بل تتعدّى الشّرح والتّأويل إلى الإحاطة بأسئلة الإبداع من جهة كونها مستقرّا في رحابه تلتقي جميع أسئلة الرّاهن الثقافي العربيّ"(6). فالمبدع، أمير الكلام، «يلهو بالحبكة، بالسّرد، بالضّمائر، بالشّخصيات، بالأحداث، بالمكان بالزّمان، بالنّصوص، بالقارئ، بالنّاقد، باللّغة، بالطّبيعة، بالأشياء، بالمواد، بالأسماء، بالأطر، بالأوصاف»(7). والقراءة الانطباعيّة التجزيئيّة المعياريّة التي تكتفي بتمييز جيّد الأدب من رديئه، والقراءة المتّكئة على المناهج الغربيّة فتبحث في النصوص الشعريّة العربيّة عمّا يستجيب لمقرّرات هذه المناهج، عاجزتان عن أن تحيطا بهدير النصّ وصخبه وثرائه. إنّهما قراءتان للنصّ من خارجه، عاجزتان عن النّفاذ إلى أعماقه، إلى أصقاعه المحجّبة.

يعلن النقد الإبداعيّ أنّ القراءة النقديّة التي تقارب النصّ الشعريّ وهي مدجّجة بنظريّات ومناهج من خارج النصّ هي قراءة/ سلطة تدّعي امتلاك الحقيقة. فتشرع في التّحليل والشّرح والتّفسير. ثمّ تمرّ إلى التّصنيف، تصنيف جيّد الأدب من رديئه واضعة قاموسا كاملا من مصطلحات التّقييم والتّعيير(8). فالنّقد عند لطفي اليوسفي، ليس سلطة تصنّف وتعيّر وتميّز، ثمّ تُعلي وتَحتَفي، أو تُلغي وتُقصي. وإنّما النقد فعل إبداعيّ وليس فعلا قضائيّا. ولِيكونَ النّقد فعلا إبداعيّا عليه أوّلا أن يجدّد أدواته، وأداته الأساسيّة هي الّلغة. فـ "الشعر لن يتأتّى للشاعر إلاّ إذا استطاعت قوّته الابتكاريّة أن تلاشي الفرق الفاصل بين الحامل والمحمول، أي حين تصير الّلغة نهاية في ذاتها ومن أجل ذاتها (...) ترفيع الّلغة إلى أفق اكتمالها هو الوظيفة الأولى للشعر"(9). وكذلك شأن النقد وشأن وظيفته. فالنقد كلام على الإبداع. وحتّى يتمكّن النّقد من الإحاطة بأسئلة الإبداع عليه أن يكون هو أيضا كلاما إبداعيّا، بمعنى أن يتخلّص من سلطاته الموهومة ويقارب النصّ من داخله فيصغي إليه ويلتقط ما التقطه ويشير إليه.

إنّ تنظيرات اليوسفي النقديّة لم تنطلق من فراغ، بل هي قراءة واعية منطلقها الاطّلاع الواسع على الموروث العربيّ الفكريّ والفلسفيّ المتّصل بالشعر والشعريّة. فقد بحث في تنظيرات العرب القدامى في الشعر والشعريّة(10). وخلص إلى نتيجتين مركزيّتين:

الأولى: تتعلّق بالشعريّة حيث اعتبر أنّها ليست ماهية الشّعر بل هي إحدى صفاته(11)، وهي توجد فيه وفي غيره من أنواع الكلام الفنّي. فالشعر عنده حدث عظيم لا يمكن أن تختزل عظمته في أفانين التعبير أو في المعاني والأغراض الماثلة فيه دون بقيّة المكوّنات.

الثّانية: وهي الأهمّ، تتّصل بوظيفة الشعر. فهو يرى أنّ تنظيرات العرب في الشعر يحكمها تصوّر بيانيّ مداره تحقيق غايتين: الإلذاذ والإفهام، الإمتاع والمؤانسة. فنظريّة العرب في الشعر نظريّة نفعيّة بمعنى أنّ العرب يرون أنّ الشعر يجب أن يحقّق النّفع بالمعنى الاجتماعيّ إلى جانب المتعة الفنيّة. أمّا النّفع الاجتماعيّ فإنّه يتمثّل في مدح الخصال الممدوحة للحثّ عليها، وذمّ الخصال المذمومة للتّنفير منها. وأمّا الإلذاذ فإنّه يتحقّق بما ينجز في الكلام من صور وتخييلات ومجازات.

غير أنّ اليوسفي يُؤمن بأنّ هذه الرّؤية البيانيّة، التي في رحابها صاغ الفكر العربيّ القديم نظريّته في الشعر والشعريّة، كانت تستجيب لشروط لحظة العرب التاريخيّة، حيث لا تزال المدينة العربيّة الإسلاميّة في طور التكوُّن والتشكّل، هشّة طريّة. هذه المدينة تأسّست على خلفيّة حضاريّة دينيّة تفصل بين الرّوح والجسد، بين اللّفظ والمعنى. فاعتبرت المعاني متاحة ملقاة على الطّريق، كما يعبّر الجاحظ. والإجادة، كلّ الإجادة، في التّعبير، أي في الشّكل الذي فيه سبكت المعاني المتداولة.

ويرى اليوسفي أنّ هذا التصوّر البيانيّ للعمليّة الإبداعيّة يقلّص من قيمة الشعر والشاعر إذ يقصر وظيفتيهما على الزّينة والزّخرف الّلتين تحقّقان غايتي الإلذاذ والإفهام، أي الوظيفة الاجتماعيّة للشعر. هذه الرّؤية نفسها تقصي المبدع عن إبداعه وتجرّد الشعر من وظيفته المركزيّة، مساءلة الوجود ومساءلة الذّات ومساءلة الزّمن ومساءلة الّلغة. هذه الرّؤية البيانيّة كانت تفي بحاجات أصحابها، أجدادنا العرب القدامى. ولكنّها، في رأي اليوسفي، لا تفي بحاجات العرب اليوم. ولذلك، فإنّ من أوكد مهمّات الفكر العربيّ المعاصر تَمثُّل الموروث الفكريّ العربيّ القديم، لا لهدمه وإلغائه، وهو عصيّ على ذلك، ولا لاستنساخه وتقليده، وإنّما للتّغاير معه وإنجاز ما لم ينجزه. إنّها الصّيرورة التي يجب على الفكر العربيّ ألاّ يعطّلها.

الشعر المؤسّس الأصيل:
الشعر، في رأي اليوسفي، ليس تسلية خواء أو أداة لتزجية الوقت. وهو ليس استجابة لشعور عابر يحزن الذّات أو يفرحها. لقد افتتح النصّ الشعريّ العربيّ الحديث مجراه مفتونا بحدّين يخشاهما ويحاذر الوقوع فيهما أو في أحدهما ويعمل على التّغاير معهما، موروث هائل متراكم لم يمض، كما يعتقد أنصار القدامة، بل لا يزال عالقا في قاع الذّات يفعل فيها ويتسرّب إلى إنتاجها سواء أوعت ذلك أم لم تع من جهة، وإنتاج قادم من وراء البحار يُغري بفتوحاته ويهفو إلى تلوين الثقافة العربيّة بتلاوينه. وعلى القصيدة العربيّة الحديثة أن تواصل حفر مشروعها التحديثيّ دون أن تتلاشى في غيرها، موروثها القديم أو النصّ الغربيّ الحديث. فكيف تفعل القصيدة لتبني هويّتها الخاصّة؟ وكيف تتمكّن من الإفلات من المآزق التي تترصّدها؟ ههنا يتنزّل النصّ المؤسّس الأصيل، فهو وحده القادر على إنجاز المهمّة، ذلك "إنّ أوّل واجب من واجبات القصيدة هو أن تخلق شعورا أصليّا في وجدان المتلقّي، بحيث تجعله يتلمّس إنسانيّته على نحو يتعذّر إنجازه بغير القصيدة حصرا"(12).

ولكن، من أين يطلع النصّ المؤسّس الأصيل؟
"إنّ منابت الحدث الشعريّ المؤسّس تظلّ، في جميع الحالات، واحدة"(13). رغم تعدّد التّجارب واختلافها الظّاهر. "فالنصّ المؤسّس يوهم، حين يحُلّ بيننا، بأنّه يستلهم الدّين والأسطورة. ولكنّه، في الحقيقة، يفضح تكتّم تلك الأساطير والأديان عن منابتها ويقول ما سكتت عنه حين يرتقي إلى نفس الرّحاب التي تنحدر منها لا ليقتفي أثرها بل ليفتح مجراه وفق طريقة تشير إلى أنّ قدر الإنسان ماثل في الرّفض، رفض جميع المصالحات التي تُغرِّب الإنسان عن ذاته وتُشَيِّئ العالم وتخلّفه أفرغ من الفراغ"(14).

الشّعر المؤسّس الأصيل يقع في المرتبة نفسها مع الأديان والأساطير، إذ تصدر جميعا عن الأصول نفسها. "وهو (النصّ) يستدعي الرّمز النموذجيّ(15). الذي تنحدر منه الأسطورة والدّين. ثمّ يرتاد رحابا لا يطالها الدّين ولا تدركها الأسطورة عندما يعلن أنّ الإنسان يبدو أوهن من خيط، ولكنّه حين يرتاد مدار الرّعب يصبح أسمى من إله"(16). فالنصّ المؤسّس الأصيل ينحدر من الأصول نفسها التي انحدرت منها الأساطير والأديان، ولكنّه لا يذوب فيهما أو في أحدهما. إنّه يصنع كيانه الذاتيّ، ويعمل على نحت ماهيته الخاصّة بأدواته الفريدة، لاسيّما التخييل والموسيقى والتحرّر من الميتافيزيقا.

لهذا ينفتح النصّ الأصيل على الرّموز النموذجيّة النمطيّة المشتركة(17)، التي مثّلت قاع الأساطير والأديان. وعند هذه العتبة ينفتح الشعر على الدّين والأسطورة. فالنصّ المؤسّس الأصيل هو الذي يرتاد المناخات والأقاليم نفسها التي ترتادها الأديان والأساطير، ليرى ما لم يُرَ وليقول ما لم يُقلْ، سؤالَ البدء وسؤالَ الوجود وسؤالَ المصير.

لقد "شرعت الأسطورة في الأفول (...) جاءت الأديان لتنفيها وتحلّ محلّها، فاندحرت على مهل. غير أنّ الأديان نفسها، سارت على نفس الدّرب، استعارت ذلك النّموذج المشترك. حوّرته أحيانا (...) ولكنّ العناصر الأساسيّة الفاعلة ظلّت قائمة: الماء/ النّور/ الظّلمة/ النّبات/ السّكون...إلخ" (18). إنّ انفتاح النصّ الشعريّ على الأساطير والأديان وفّر له رصيدا كبيرا من الرّموز التي حفل بها ديوان الشعر العربيّ المعاصر (المسيح، يهوذا، عشتار، تمّوز، فينوس، عوليس، اليعازر، العنقاء، ميدوزا، بابل، جلجامش، أدونيس، إيكار...) هذه الرّموز صهرها النصّ في محارقه وأدخلها ضمن نسيج شبكة العلاقات التي تقوم بين مكوّناته البانية لشعريّته. فاكتسبت، بذلك، معاني ودلالات لم تكن لها في الأصل. فكانت عامل إثراء للنصّ وساهمت في دفعه نحو دروب الإبداع(19).

يشترك الشعر مع الأسطورة في التجربة واللغة، فالأسطورة نشاط فكريّ بشريّ. والشعر "يرتقي إلى نفس الذّرى التي ارتقت إليها الأسطورة (...) إنّ الأسطورة طريقة إقامة في العالم ونوعيّة حضور فيه. وهي إقامة في العالم على نحو شعريّ، ذلك أنّها إنّما ترجع إلى نوع من التأمّل لا التّفكير. والتأمّل طريقة حدسيّة من طرق الإدراك تكاد تكون أقرب إلى الرّؤيا والكشف (...) التصوير الشعريّ الذي تنبني عليه الأسطورة ليس سردا محايدا (...) بل إنّه محلّ تحوّل التجربة إلى لغة، أو تحوّل تجربة الإنسان في مواجهة الوجود إلى لغة"(20). هكذا يعبّر اليوسفي.

ووحده النصّ الشعريّ المؤسّس الأصيل ينجح في الحفاظ على ماهيته وكينونته ولا يتلاشى في غيره. فهو يتقاطع مع الأسطورة والدّين، كما بيّنا، ولا يكتفي بترديد مقرّراتهما، ولا ينهض ليشعر الإنسان بالذّنب، كما يعبّر اليوسفي، ولا ليذكّره بالخطيئة الأولى، بل إنّه "يتحوّل إلى نداء، نداء الإنسان ودعوته إلى الإقامة في مدار الرّفض، رفض المصالحات جميعها، مع كلّ ما يغرّب الإنسان عن ذاته. إنّه ينهض كإدانة لكلّ أنواع الخطابات التي تشير إلى أنّ خلاص الإنسان ليس ملك يديه. وهو ينهض أيضا ويحلّ بيننا كأمارة على أنّ الخلاص البشريّ كامنة شروط تحقيقه في صميم المنزلة البشريّة ذاتها"(21).

النصّ المؤسّس "هل يمكن أن يلتزم بغير ذاته؟"(22).
النصّ المؤسّس هو الذي يتقدّم مفتونا بذاته لا بغيره، هو النصّ الذي يطمح إلى تأسيس ذاته كيانا متفرّدا. والتّأسيس لا يعني نزوعا نحو الثّبات والتحجّر، بل هو تأسيس يحكمه قانون التّجاوز والتجدّد. فهو نصّ لا يبني إلاّ ليقوّض ما بناه، ثمّ يعيد البناء من جديد. هو نصّ ولد ونشأ في القلق. ولذلك فهو يجرّب كلّ الطّرق والمسالك الممكنة بحثا عن الميلاد العظيم، ميلاد الشعر والشاعر. إنّه نصّ يحاور الكون، يولد ويستمرّ ويتجدّد في التّناقض. إنّ النصّ المؤسّس الأصيل منابته أسطوريّة دينيّة، ففيه منهما شيء من القداسة. وهو لا يلتزم بغير ذاته. داخل هذه الرؤية الجدليّة يصوغ اليوسفي آراءه ويشرع في تأسيس تنظيراته.

إنّ الأصالة، في فكر اليوسفي، طموح كبير تلاحقه القصيدة العربيّة الحديثة. إنّها ليست صفة واقعة في الماضي، كما يعتقد أنصار القدامة واهمين، بل تقع في ما سيأتي، إنّها مشروع للتّأسيس. فالنصّ لا يولّي الأدبار ليبحث عنها في موروثه، بل هو يستشرفها في مستقبله، يعمل على تحقيقها في الكلام وبالكلام.

وما انفتاح القصيدة المعاصرة على الأساطير إلاّ مسعى جادّ في سبيل تحقيق هذه الغاية، ذلك أنّ النصّ المؤسّس "يحيل المتلقّي على رسومِ رموزٍ قابعة في ذاته محتمية بالنّسيان متحجّبة بالغياب(23). وهو، حين، ينحدر إليها وينتشلها من عتمة الغياب، يفتح الذات البشريّة على ما غاب منها، ويشير إلى أنّ قضاء الذات على اغترابها عن نفسها أمر ممكن عندما يوقظها على ما قبع في الظلّ مجهولا لا يطاله الكلام العاديّ ولا يقدر على تمثّله مشيرا، في ذات اللّحظة، إلى أنّ تلك الذات هي التي صنعت الخطاب الذي غرّبها عن نفسها وشيّأ العالم من حولها"(24). فالنصّ المؤسّس يسعى إلى أن يؤصّل الذات في ذاتها بأن يحرّك فيها منابتها الأسطوريّة. فتحنّ إلى تلك المنابت وتشرئبّ إلى تلك الأزمنة التي أمعنت في المضيّ، فتحاول استردادها بالكلام و في الكلام.

النصّ المؤسّس الأصيل يسعى إلى بلوغ لحظة المرح البكر، لحظة الحريّة المطلقة، لحظة تماهي الأسماء مع مسمّياتها، لحظة التحام الإنسان بالكون. إنّها لحظة لا ظلم فيها ولا قهر ولا استعباد، لحظة كانت فيها الآلهة تمرح، هنا، على الأرض مع الإنسان، كما حدّثت بذلك أساطير اليونان(25)، وهو ما تطمح القصيدة الأصيلة إلى تحقيقه. فأصالة النصّ أمامه تغويه، وليست وراءه تجرّه إلى النّكوص والتخاذل.

الرموز المشتركة ترد طيّعة تنقاد للشعر المؤسّس الأصيل تخدمه وتعضده:
إنّ كتابات اليوسفي تلحّ على الكيفيّات التي يتمّ عبرها استدعاء الشّعر للأساطير والأديان. فمجرّد حضور الرّموز الأسطوريّة والدينيّة في النصّ الشعريّ ليس أمارة معاصرة وأصالة. بل إنّ هذا الحضور قد يكون أمارة عجز في النصّ عن أن يبني أدبيّته. فيتّكئ على الرّموز يرصّفها ترصيفا طمعا في أن تنوب عن الشّعر في ما نهض له. فيكون حضورها حضورا ناشزا يجعلها تحُلّ في النصّ غريبة عن أوطانها، كما يعبّر اليوسفي(26). فالنصّ الشعريّ متى استدعى الأسطورة عنوة وقهرا ولم يهيّئ لها الأرضيّة الملائمة خذلته وخانته وأبادت شعريّته.

إنّ الأسطورة، في النصّ المؤسّس الأصيل، "ترد طيّعة تنقاد للشعر تخدمه وتعضده وتفي بحاجاته"(27). هذا الحضور المؤسّس للأسطورة لا يتمّ إلاّ بعد أن يكون النصّ قد هيّأ لها المناخ المناسب، أي بعد أن يكون الشّعر قد شرع في بناء قاعه الأسطوريّ. وعندها "فإنّ الكلام حالما يبلغها يشرع في اختزال المسافة الفاصلة بين الشّعر والأسطورة، يكاد يلغيها، الفارق بين الأسطورة والشّعر يكاد يتلاشى"(28). وفي هذه الحالة من الحضور الفاعل، تكمل الأسطورة الدّفق الدلاليّ الشعريّ وتثريه، كما يقول اليوسفي. ولذلك، فالنصّ المؤسّس الأصيل قد يعدل في أحايين كثيرة عن استدعاء رموز أسطوريّة ودينيّة وتاريخيّة وغيرها. ولكنّه، في المقابل، يخلق رموزه الخاصّة، ذلك أنّ رموزه المحليّة تنفتح على الكونيّ. فتصبح رموزا بشريّة كونيّة. والتّجارب الناجحة في ذلك كثيرة، في ديوان الشعر العربيّ المعاصر مثل، رمز المطر عند السيّاب ورمز أحمد الزّعتر عند محمود درويش ورمز المهدي بن بركة عند سعدي يوسف ورمز النّسر عند الشابي(29).

النصّ المؤسّس الأصيل والواقع:
إنّ هذه الرّموز الذاتيّة التي يخلقها النصّ الشعريّ تحقّق غاية أخرى، فهي تشدّه إلى واقعه. فالنصّ المؤسّس الأصيل لا يلغي واقعه أو يقصيه أو يتعالى عليه. بل إنّه، بعبارة اليوسفي، ينحني ليلتقط واقعه، لا ليصفه من الخارج فقط، بل ليغوص في أعماقه ويكشف ما تحجّب فيه. ذلك أنّ "بنيته العميقة (...) تعلن عن نفسها في شكل خطابين متعاضدين، يتجلّى الأوّل في شكل ومضات واقعيّة مستمدّة من مسيرة الشّاعر الحياتيّة اليوميّة (...) ثمّ يأتي الخطاب الثّاني ويضطلع بأشدّ أدواره خطورة ومضاء. ذلك أنّه خطاب يكسر المرجعيّة ويتخطّى الواقع. فتتوغّل الّلغة داخل مناخات وأقاليم تكاد بموجبها تدرجنا في أزمنة أمعنت في المضيّ"(30).

إنّ العبور من الواقعيّ إلى الأسطوريّ عمليّة في غاية الدقّة. وقد حرصت كتابة اليوسفي على رصدها. وقد كشفت أنّ "الشعر الأصيل لا يكون إلاّ مفتونا بالعتبة المعتمة، العتبة الممتدّة كخيط واه بين الواقعيّ والخياليّ وتلك القائمة بين الخياليّ والأسطوريّ، أي العتبة التي يتقاطع في رحابها الواقع مع اللاّواقع، المعقول مع اللاّمعقول، الواقعيّ مع الخياليّ، والخياليّ مع الأسطوريّ"(31). بهذا المعنى، فإنّ جسر العبور من الواقع إلى الأسطورة هو الخيال. فالخيال هو القوّة الحيّة الأولى والأداة الأولى لكلّ إدراك بشريّ. إنّه تكرار يقع في العقل لفعل الخلق السرمديّ في الوجود المطلق(32). إنّ للخيال سحره وخطره أيضا. فهو الواسطة الواصلة بين الرّمز الذاتيّ وبين الرّمز المشترك، بين الواقع والأسطورة. وبين الواقعيّ والأسطوريّ والخياليّ تقوم علاقات ووشائج. "هذه الوشائج بين الأسطوريّ والأدبيّ المجرّد تضيء عدّة جوانب من التخييل، وبخاصّة التخييل الأكثر شعبيّة، وهو على درجة من الواقعيّة تجعله قابلا للتصديق في حوادثه"(33).

رهانات الشعر المؤسّس الأصيل: تجديد اللغة، تجديد الوجود، دحر العدم:
إنّ الّلغة التي بها وفيها يحيا الإنسان تتقادم وبيد بفعل العادة والاستعمال. ولذلك فإنّ الشاعر المؤسّس الأصيل "يخلّص الّلغة من البلى ويجدّدها"(34). وفي تجديد اللغة تجديد للوجود الذي أصابه التفسّخ والتشيّؤ، وفيه عاش الإنسان رحلته المنكّدة إذ عجز عن حماية نفسه من نفسه. ولذلك فإنّ "طرائق تشكّل النصّ وانتظامه وتوظيفه اللغة على نحو أصيل، في حدّ ذاتها، إشارة خفيّة إلى تجديد اللغة وانتشال الوجود"(35). والرّهان الأكبر للشعر المؤسّس الأصيل هو التصدّي للعدم المتربّص بالوجود ودحرُه. ولذلك "يصبح التوقّف عن الكتابة إقرارا بسلطان العدم وسيطرته، والاستمرار فيها دحرا لذلك السّلطان"(36).

زمن الشعر المؤسّس الأصيل زمن أفلت من قانون التّعاقب:
إنّ زمن الشعر "زمن فوق الزّمن الميقاتيّ الممعن في الهروب. إنّه زمن/ حالٌ يرتادهما الشّاعر معا عندما يتوغّل في ما خفي من ذاته، ويقف على عتبات الغياب يتقرّى كوامنه ويقول مجاهل النّسيان. فإذا الشّعر كيان يكسر قسريّة الّلحظة الرّاهنة المفتّتة ويفلت من عُقالها. وهو لا يلتقط الذاتيّ ( صراعاتنا وصراعات جيلنا/ أشياءنا...) إلاّ ليغرسها في رحاب الكونيّ عندما يضرب بجذوره عميقا في تلاوين الوجع البشريّ الشامل"(37). "إنّه زمن أفلت من قانون التّعاقب، وظلّ، هناك، في الأقاصي البعيدة يؤثّث للمبدعين فردوسهم الخالد، ويدعوهم إليه. ولا سبيل للانفتاح على هذا الزّمن إلاّ عبر الشعر"(38)، وأيّ شعر!! إنّه الشعر المؤسّس الأصيل. فـ "هذا هو زمن الشعر الخالق المؤسّس الأصيل، زمن لا يطاله التبدّل والتحوّل والتّغيير، يرتاده الكلام فيتحوّل إلى حدث هائل معجب: إنّه الشعر المؤسّس ينهض كإشهاد على رفض التفتّت والتلاشي والزّوال، فيفتتن بالعارض الزائل (أشيائنا اليوميّة الحميميّة/ عذاباتنا/ صراعاتنا...إلخ) وينحني فيلتقطه ليكشف ما يكمن في أصقاعه من ثابت دائم لا يطاله الزوال"(39).

إنّ النصّ المؤسّس الأصيل يتشكّل مفتونا بالأبديّة والخلود راغبا في تجاوز آنيّته العابرة، إنّه "ينشغل بما وراء التّعاقب من ديمومة، يفتتن بما وراء العارض العابر من ثبات. فيتشكّل وفق طريقة تقيه من الآنيّة. فيفلت، لحظة تشكّله ذاتها، من سلطان التعاقب والآنيّة"(40) .

لقد خلق اليوسفي مفهوم الشّعر المؤسّس الأصيل بعد أن ارتاد "مدار الرّعب"، لحظة المكاشفة الشعريّة. وهي "الّلحظة التي يمثل فيها الشّاعر في حضرة الشّعر، ويأتي الشّعر ليتراءى أمام الشّاعر كالهجس تماما، ويمثل في حضرته وعدًا يمكن الإمساك به. إنّها لحظة متميّزة متفرّدة لأنّها لحظة الميلاد العظيم: ميلاد الشّعر والشّاعر ودحرهما لسلطان الصّمت"(41). ولنا أن نسأل: كيف تعيش المفاهيم؟ وكيف تنمو وتتطوّر لتتمكّن من المساهمة في تعميق أسئلة الثقافة التي أنتجتها؟ مفهوم "الشعر المؤسّس الأصيل" الذي أنتجه مشروع اليوسفي النقديّ ما مكانته في خطاب النقد العربيّ المعاصر؟ 

كاتب من تونس
mustapha.kalii@yahoo.fr  
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ أدونيس، زمن الشعر، دار العودة، بيروت، ط 3، 1983، ص 37.
(2) ـ استعرض حاتم الصكر بعض المحاولات النقديّة العربيّة المغتذية بالمناهج الغربيّة في تحليل الشّعر العربيّ المعاصر، بما في ذلك محاولة اليوسفي، استعراضا سريعا. وخلص إلى اعتبارها تحاليل جزئيّة لا تحيط بأسرار شعريّة النصّ وإضافاته. انظر:
حاتم الصكر، ترويض النص، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، 1998، ص ص 145 ـ 204.
(3) ـ محمّد لطفي اليوسفي، البيان عن النّقد.. عن مكر القدامة وأقنعة الهلع، مجلّة حقائق، عدد 584، جانفي/
فيفري، 1997، تونس.
(4) ـ محمّد لطفي اليوسفي، لحظة المكاشفة الشّعريّة ـ إطلالة على مدار الرّعب، الدار التونسيّة للنشر، تونس
 1992، ط 1، ص 161.
(5) ـ قاسم حداد وأمين صالح، بيان موت الكورس، ضمن كتاب البيانات، سراس للنشر، ط 2، تونس، 1995،
 ص 133.
(6) ـ اليوسفي، البيان عن النقد... عن مكر القدامة وأقنعة الهلع، المقال المذكور.
(7) ـ قاسم حداد وأمين صالح، بيان موت الكورس، ص 135.
(8) ـ محمد مندور، مثلا، في كتابه "النقد والنقاد المعاصرون"، ص 183 ـ 184، يحصر مهمّات النقد، في
 منهجه الأيديولوجي، بثلاث، هي:
1 ـ تفسير الأعمال الأدبيّة والفنيّة وتحليلها مساعدة للقرّاء.
2 ـ تقييم العمل الأدبيّ والفنيّ في مضمونه وشكله وفقا لأصول كلّ فنّ.
3 ـ "توجيه الأدباء والفنّانين في غير تعسّف أو خنق لعبقريّاتهم" انظر:
حاتم الصّكر، ترويض النص، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، 1998، ص 148 ـ 149.
(9) ـ يوسف سامي اليوسف، القيمة والمعيار: مساهمة في نظريّة الشعر، دار كنعان للدّراسات والنّشر والتّوزيع، دمشق، ط 2، 2003، ص 71.
(10) ـ محمد لطفي اليوسفي، الشعر والشعريّة، الفلاسفة والمفكرون العرب: ما أنجزوه وما هفوا إليه، الدّار العربيّة للكتاب، تونس، 1992.
(11) ـ وهو يختلف، في ذلك، مع الدراسات الغربيّة التي تهتمّ بالشعريّة فكوهن، مثلا، يعتبر الشعريّة ماهية
الشعر بها يتميّز عن النثر. ويؤكّد أنّ الشعريّة علم موضوعه الشعر.
راجع جان كوهن، بنية اللّغة الشعريّة، ترجمة: محمد الوليّ ومحمد العمري، توبقال للنّشر، المغرب، 1986، ط 1.
ـ أمّا أبو إسحاق الصابي فيرى أنّ ما يميّز الشعر عن النثر هو الغموض وليس الشعريّة، يقول: "إنّ طريق الإحسان في منثور الكلام يخالف طريق الإحسان في منظومه، لأنّ الترسّل هو ما وضح معناه، وأعطاك سماعه في أوّل وهلة ما تضمّنته ألفاظه. وأفخر الشعر ما غمض، فلم يعطك غرضه إلاّ بعد مماطلة منه". المثل السائر، ج 2، ص 414. أورده أدونيس، زمن الشعر، دار العودة، بيروت، ط 3، 1983، ص 31.
(12) ـ يوسف سامي اليوسف، القيمة والمعيار، ص 16.
(13) ـ محمد لطفي اليوسفي، لحظة المكاشفة الشعريّة، ص 161.
(14) ـ نفسه، ص 160.
(15) ـ يستفيد اليوسفي في وضع هذا المصطلح من تنظيرات يونج C.G. JUNG حول L'ARCHETYPE
انظر، مثلا:
C.G.JUNG: les Racines de la Conscience: Etude sur l'archétype, Traduit de l'Allemand par Yves Le Lay, Paris, Buchet Chastel, 1971.
(16) ـ لحظة المكاشفة، ص160.
(17) ـ تنظيرات اليوسفي حول كيفيّات استدعاء النصّ الشعريّ العربيّ المعاصر، لاسيّما نصّ الشابي، لما يسمّيه "الرّموز النّموذجيّة النّمطيّة المشتركة" ناقشتها في بحثي:
مصطفى القلعي، لطفي اليوسفي قارئا الشابي: الكتابة وقد وقعت فيما نهضت لدحره، مجلّة الحياة الثقافيّة، العدد 141، السّنة 28، تونس، جانفي 2003.
(18) ـ لحظة المكاشفة، ص 120.
(19) ـ المثل الذي يضربه اليوسفي على ذلك هو حضور رمزيْ تمّوز وعشتار في ديوان: مفرد بصيغة الجمع، لأدونيس، دار العودة، بيروت، (د.ت).
(20) ـ محمّد لطفي اليوسفي، كتاب المتاهات والتلاشي في النقد والشعر، دار سراس للنّشر، تونس،1992، ط 1، ص 135.
(21) ـ لحظة المكاشفة، ص 161 ـ 162.
(22) ـ كتاب المتاهات والتلاشي في النقد والشعر، ص 84.
(23) ـ إنّ استفادة اليوسفي من علم النّفس التحليليّ، في صياغة هذه الآراء، واضحة. ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ انفتاح النقد الأدبيّ على معارف مجاورة لم تكن طرقه ونتائجه محلّ إجماع ومباركة دائما. فكوهن، مثلا، يحذّر من أنّ علم النّفس قد يعيق تقدّم علم الأدب، يقول: "عندما يصير علم الأدب تحليلا نفسيّا أو سوسيولوجيّا، فإنّه يبقى في العمق عند القضايا القديمة، قضايا الأصول (...) ويبحث النقد الحديث في الأصول النفسيّة أو الاجتماعيّة، ويعتقد أنّه فسّر العمل الأدبيّ عندما يربطه بطفولة أو وسط مّا. إنّه يبحث عن مدلول حقيقيّ مختلف عن المدلول الظّاهريّ ليتسلّم منه مفتاح العمل الأدبيّ، وبذلك يتوارى عنه موضوعه الحقيقيّ، إنّه يبحث وراء الّلغة عن مفتاح موجود في الّلغة نفسها كوحدة لا تنفصم بين الدّال والمدلول".
راجع جان كوهن، بنية اللّغة الشعريّة، ترجمة: محمد الوليّ ومحمد العمري، توبقال للنشر، المغرب، 1986، ط 1، ص 39.
واستفادة اليوسفي الأوضح والأكبر من علم النفس التحليليّ تتجلّى في قراءة المسح الشّامل التي أجراها على الإنتاج الإبداعيّ والنقديّ العربييّن قديما وحديثا، بحثا عن الآليات المحرّكة لهذا الإنتاج.
انظر مشروعه الضخم: فتنة المتخيّل، في ثلاثة مجلّدات، المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، عمّان/ بيروت 2002.
(24) ـ لحظة المكاشفة، ص 162.
(25) ـ انظر، مثلا، الدّكتور عماد حاتم: أساطير اليونان، الدّار العربيّة للكتاب، ليبيا/ تونس، 1988.
يقول واصفا زمن البدء السعيد: "عاليا فوق الأوليمب البهيج يجلس زيوس على عرش الملك محاطا بأسراب الآلهة. في هذا المكان تقيم زوجته هيرا وأبولون ذو الشَّعر الأجعد مع أخته ارتيميدا وأفروديتا الشقراء وأثينا، ابنة زيوس الجبارة وكثير من آلهة آخرين. ثلاث من الأورات الفائقات الجمال يحرسن المدخل المؤدّي إلى جبل الأوليمب الشاهق وهنّ الّلائي يرفعن الغمامة القاتمة التي تحجب البوابة عندما يهبط الآلهة نحو الأرض أو يصعدون إلى أبهاء زيوس المزدانة. السماء الزرقاء اللاّنهائيّة الأسبار تنبسط بعيدا فوق الأوليمب ومنها يتدفق النّور الذهبيّ. لا مكان للأمطار أو الثلوج في مملكة زيوس فالصيف المشرق الّلألاء خالد هناك. وفي الأسفل تتجمّع الغيوم فتحجب الأرض النائية أحيانا. وهناك فوق الأرض يخلف الخريفُ والشتاءُ الربيعَ والصيفَ كما تحلّ التعاسةُ والأحزانُ محلّ السعادة والأفراح (...) ومن جبل الأوليمب ينثر زيوس هباته إلى البشر (...) ويرسل إلى البشر السعادة والأحزان (...) هكذا يحكم زيوس المجيد، ربّ الآلهة والبشر، من فوق جبل الأوليمب، محاطا بأسراب الآلهة الوضاحين ساهرا على الشرائع والأنظمة في الكون بأسره. ص 36 ـ 59.
ـ وانظر،أيضا، هوميروس، الإلياذة والأوذيسة، ترجمة: دريني خشبة، دار العودة، بيروت، 1986.
(26) ـ يضرب اليوسفي مثلا على فشل النصّ الشعريّ في استرفاد الأسطورة حضور رمز "ميدوزا" في قصيدة "المومس العمياء" للسيّاب، ضمن ديوان أنشودة المطر، دار مكتبة الحياة، بيروت، 1969.
انظر: كتاب المتاهات والتلاشي، القسم المعنون بـ "في التّنابذ بين الشّعر والأسطورة" ص  136.
(27) ـ نفسه، ص 181.
(28) ـ نفسه.
(29) ـ كتاب المتاهات والتّلاشي، القسم المعنون بـ "في التعاضد بين الشعر والأسطورة" ص 181.
(30) ـ محمّد لطفي اليوسفي، الشابي منشقّا ـ الكتابة بالذّات بجراحاتها، سراس للنّشر، تونس، 1996، ص ص 34 ـ 36.
(31) ـ كتاب المتاهات والتلاشي ص 189.
(32) ـ ج. روبرث بارت اليسوعي، الخيال الرمزيّ: كولريدج والتقليد الرّومانسي، ترجمة: د. عيسى علي
 الكاعوب، مراجعة: د. خليفة عيسى العزابي، معهد الإنماء العربي، بيروت، 1992.
(33) ـ نورثروب فراي، تشريح النقد (1954)، ترجمة محيِّي الدّين صبحي وتقديمه، الدّار العربيّة للكتاب، ليبيا/ تونس، 1991، ص 202. وفراي يميّز بين أنواع ثلاثة من الخيال: الخيال الكشفي والخيال الشيطاني والخيال التماثلي.
(34) ـ لحظة المكاشفة، نفسه، ص 278.
(35) ـ نفسه، ص 280.
(36) ـ نفسه. ص 283.
(37) ـ نفسه، ص 189.
(38) ـ راجع بحثي المذكور سابقا.
(39) ـ لحظة المكاشفة، ص 224.
(40) ـ نفسه، ص 222.
(41) ـ نفسه، ص 15.