ظهر التنظير الغربي للعروض الأدائيّة في عقد الستينات من القرن العشرين، وقد أحدث الاعتراف بفنية المشهديّة الأدائيّة تحولاً هاماً في جماليات المسرح. في هذا العدد من الكلمة يعود باب علامات إلى مقالتين من عقد الثلاثينات في الصحافة العربية، تطرح فيهما محاولة مبكرة لربط الأدائية الاحتفالية بالجمالية الفنية.

كلمات مبكرة عن فنية

أثير محمد على

يعود باب علامات في هذا العدد من الكلمة إلى مقالتين من الصحافة العربية. تحمل المقالة الأولى عنوان "التمثيل في مراكش... على قارعة الطريق"، ونشرت في مجلة "الأسبوع المصور" السورية عام 1931. والمقالة الثانية معنونة بـ "التمثيل الهزلي أصله شعبي... رأي جديد في نشأة التمثيل في مصر" ونشرت في مجلة "كل شيئ والعالم" المصرية عام 1933.

كما هو معروف، ظهر التنظير الغربي للعروض الأدائيّة Performance في عقد الستينات من القرن العشرين. وقد أحدث الاعتراف الأكاديمي بفنية المشهديّة الأدائيّة تحولاً واضحاً في مفهوم المسرح وتصنيفاته الجماليّة، ووسع من آفاقه الفنيّة والفضائية والمعماريّة والتقنيّة، كما أنه عدّل من ارتباطات فن المسرح بمعايير المؤسسة المتعالية وشكل العلبة الإيطاليّة المغلق ومفهوم الجدار الرابع.

وتبدو في المقالتين، اللتين تعيد نشرهما مجلة الكلمة – على بساطتهما – محاولة مبكرة للاعتراف بفنيّة العروض الأدائيّة، وخصائص آنيّة الحدث الفني بين المرسل والمتلقي، إلى الحد الذي يدرج معه الارتجال والتماهي كعنصرين أساسيين في فضاء العرض اللعبي الأدائي.

من هذا المنطلق يمكن القول أن الممارسة والتنظير المسرحي لما عرف لاحقاً بـ "الاحتفاليّة" في المسرح العربي في المغرب لكل من عبد كريم برشيد، والطيب الصديقي، وعبد السلام الشرايبي؛ ولعز الدين المدني من تونس، جاءت، في جانب من جوانبها، كمحاولات لإدراج فن المسرح في الممارسات الثقافيّة العربيّة، وعقد الصلة بين العرض المسرحي وشبكة الظواهر الطقسيّة والاحتفاليّة في الأعياد والمناسبات الشعبيّة المختلفة.

التمثيل في مراكش... على قارعة الطريق

لا أثر للتمثيل في مراكش، فهم ينظرون إلى الفن الجميل نظرهم إلى بدعة غريبة لا يتوق أحد إلى العمل بها. والأغنياء في البلاد يكتفون بالذهاب لمشاهدة الفرق الأجنبية التي تمر بين حين وآخر.

وقد زار كاتب افرنسي مراكش، ودوّن مذكرات مدهشة عما شاهده فيها من غرائب العادات والتقاليد، خصوصاً في المناطق الجبلية النائية، رأينا اقتطاف شيئ منها، وهو خاص بطوائف المهرجين الذين يجوبون تلك المناطق ويعرضون ألعابهم البريئة على الناس سعياً وراء الرزق وكسب العيش. وألعابهم هذه هي النوع الوحيد من التمثيل في مراكش كلها، إذا حق لنا أن نسمي التهريج تمثيلاً.

قال الكاتب:

أقيمت ذات يوم حفلة عظيمة لمناسبة أحد الأعياد الوطنية فساعدني الحظ، ودعيت إليها مع بعض الأصدقاء من العرب، وقد تركت تلك الحفلة في ذاكرتي أثراً عميقاً لا يمحى. والذي لفت نظري واستدعى اهتمامي هو منظر أبناء قبيلة الزمور، وهم يقومون بألعابهم المدهشة أمام الجمهور، فقد كانت "الجوقة" مؤلفة من عشرة أفراد أو أكثر يحمل بعضهم آلات موسيقية غير معروفة لدينا، يعزفون عليها أو ينفخون منها. وهي مصنوعة من القصب أو من العيد وقد شدت إليها جلود الحمير القاسية.

وكانت الألحان المتصاعدة من تلك الآلات الموسيقية الغريبة تؤثر في النفس تأثيراً شديداً إلى حد كنت لا أستطيع فيه البقاء في مكاني بلا حراك.

الساعة العاشرة مساء. المكان منار بمصابيح زيتية ترسل حولها أشعة ضئيلة تزيد في روعة المنظر وتعطي أفراد الجوقة شكلاً أقرب إلى الأشباح منه إلى البشر. والموسيقيون جالسون القرفصاء يعزفون على آلاتهم ورؤوسهم تميل إلى اليمين وإلى الشمال بنظام تام. وأخيراً نهض البعض من أولئك المهرجين وتقدموا إلى وسط القاعة لعرض ألعابهم علينا.

بدأوا بالرقص. وهو رقص غريب عجيب، لو نقلت قواعده إلى ملاهي أوربا لنالت استحساناً يفوق ما يتصوره العقل.

ثم انقلب الرقص تهريجاً وأي تهريج، وبغتة رأينا أحد اللاعبين ينزع عنه ثيابه ويبدو أمام أنظارنا كما خلقه الله، ليس عليه غير خرقة صغيرة تستر عورته. وجعل ذلك الشخص يدور حول نفسه بسرعة تفوق كل وصف، ثم ارتدى ثيابه من جديد وقلب سحنته بصورة تدعو للعجب فصار فمه عمودياً بدل أن يكون أفقياً، وغارت عيناه حتى أننا لم نعد نرى منها غير البياض.

هذا هو ابليس اللعين يريد مهاجمة بني آدم!

لكن الكلب السلوقي واقف بالمرصاد يترقب حركاته. وليس الكلب السلوقي غير أحد أفراد الفرقة الذي وضع في أسفل ظهره ذنباً وجعل يعوي بطريقة لا تترك مجالاً للشك بأن العاوي كلب – ابن كلب – أباً عن جد!!

ودارت بين الإثنين معركة هائلة. ابليس يدور في المكان، ويرسل زمجرة مخيفة، والكلب السلوقي يحوم حوله ويطارده، وهو يعوي ويطلب من أسياده النجاة، بينما الموسيقى تعزف لحناً شيطانياً، لا ريب أنه من ألحان الجحيم.

وأخيراً اضطر ابليس إلى الهرب أمام الكلب السلوقي الشجاع، الذي هنأه صاحبه وقدمه للحاضرين... لكي يدفعوا له ما فيه النصيب. فهو قد طرد إبليس ولعن أباه!!!

ويقول الكاتب بعد ذلك:

وشاهدت ألعاباً أخرى. الوطاويط الحائمة، والقطط الهائجة، والسباع الضارية، والجمال العطشى، والخيول الأصيلة، وغير ذلك من المشاهد المختلفة التي يألفها المقيمون في الصحراء والجبال الجرداء.

وكان المهرجون يقلدون تلك الحيوانات تقليداً متقناً إلى أبعد حد.

(الأسبوع المصور،س3، ع 10-80، دمشق، 9 حزيران 1931)

التمثيل الهزلي أصله شعبي.. رأي جديد في نشأة التمثيل بمصر

رأيان مختلفان

موضوعنا الذي نعالجه في هذه المقالة هو التمثيل الهزلي والرواية الهزلية في مصر، وهناك رأيان في هذا الموضوع: أولهما يقول إن التمثيل الهزلي وغير الهزلي دخيل علينا وكذلك التأليف المسرحي اقتبسناه من الغرب، والرأي الثاني هو أن التمثيل والتأليف المسرحي كانا معروفين في مصر منذ زمن بعيد قبل احتكاكنا بأوربا، ثم تقدما تحت تأثير الفن الأوربي. ونميل إلى الأخذ بالرأي الثاني، وعندنا الأدلة على صحته.

لكن يجب قبل كل شيئ أن نتصور حالة المجتمع المصري قبل نصف قرن، لكي يسهل علينا تصور الحالة الساذجة التي نشأ عليها التمثيل الهزلي والتأليف المسرحي الهزلي. ولا بد من استبعاد أي نوع آخر من التمثيل، ولهذا سبب سنشرحه فيما يلي:

في الأفراح والمواسم

نشأ التمثيل الهزلي في الأفراح والمواسم كوسيلة من وسائل التسلية واللهو، وعلى هذا يكون هناك وجه شبه بين نشأة التمثيل عندنا ونشأة التمثيل في البلاد الأوربية، ففي أوربا نشأ التمثيل في الكنيسة في أيام المواسم والأعياد، ونشأ تمثيلنا في المواسم والأعياد. ولما كانت أفراحنا تظهر بمظاهر البذخ والكرم والرغبة في إبداء السرور والابتهاج، فقد وجد التمثيل جواً خصباً لنشوئه ونموه إلى حد محدود.

فكلنا لا بد قد شهد أو سمع عن السيد قشطة، وأحمد الفار، وأبو رابية. وهؤلاء كانوا بهجة الأفراح وزينة الموالد، فمن كان موسراً أقام حفلات عديدة قبل حفلة الزواج ويجتهد في أن يحيي إحدى هذه الحفلات واحد منهم، وتكون ليلة سعيدة يحتشد فيها أهل "الحي" وقد يحضرها ناس من الأحياء الأخرى.

الماكياج والمناظر

ما أبسط الماكياج في هذه الفصول التمثيلية الهزلية، وما أبسط الإخراج وأبسط المناظر! يضع كبير الممثلين فوق رأسه طربوشاً بدون "زر" ويصبغ وجهه بالدقيق وحواجبه بالقهوة، ويرسم له ذقناً أو شارباً بالقهوة أيضاً. ويرتدي ملابس تناسب المقام، ويمسك عصا أو "فرقلة" (نوع من الكرابيج) أو مقرعة. هذا هو كل الماكياج المطلوب.

والمناظر تقتصر على بعض الكراسي و "ملاية" تنشر هنا أو أكثر، ومنضدة (ترابيزة) وقليل من الأواني. هذه هي المناظر وأدواتها. لا يرفع الستار ولا ينزل، وليس بين الفصول وقت للراحة. وأعجب ما في الأمر أن الجمهور نفسه كان يغضب ويظهر سخطه إذا توقف التمثيل لحظة، فإنه يجب أن يستمر الممثلون في عملهم كما لو كانوا آلات لا يدركها التعب.

تأليف ارتجالي

نعم كانت هناك فصول هزلية مشهورة يعيد الممثلون عرضها، لكن هذه الفصول كانت عرضة للتحوير والتبديل حسب ما يقتضيه المقام. وكان عددها محدوداً، وقلما يضاف إليها فصل جديد سبق تحضيره.

وكان يتفق أن يمزج صاحب الفرقة فصلين أو ثلاثة بعضها ببعض، وفي أغلب الأحيان كان يرتجل فصلاً أو مشهداً توحي به الساعة ويلهمه الظرف.

دائماً كنت تجد ملاءمة بين الفصول المضحكة وبين نوع الفرح وصناعة صاحبه، فللحاج فصول، وللختان فصول، وللزواج فصول. فإذا تعذر تمثيل الفصل المناسب، أدخل التحوير المناسب أو قيلت نكت مناسبة يرتجلها الممثل. وقد يحدث أن يشترك الجمهور في التمثيل، بمعنى أنه يبادل الممثل النكتة، أو يدعى يعض المتفرجين للاشتراك في التمثيل فيلبي مغتبطاً مسروراً. وقلما كان يسلم صاحب الفرح من التنكيت فما كان يغضب أو يسخط أو يسخط ويشمئز.

الممثلات الشعبيات

بينما كان المسرح الجدي المأخوذ عن المسرح الأوربي يشكو أزمة في الممثلات لدرجة أن بعض الفرق كانت تعهد بأدوار النساء للشبان.. بينما كان هذا حال المسرح الفني لم تكن الفرق الهزلية الشعبية تشكو ندرة الممثلات أو قلتهن. فالغوازي كن ممثلات هذه الفرق والغازية فضلاً عن قيامها بدور النساء في الفصول المضحكة كانت ترقص وتغني أيضاً. وبهذه الطريقة كانت الممثلة عنصراً أساسياً في الفرقة الشعبية الهزلية، وكان الجمهور لا يجد غضاضة في اشتراكها مع الرجال، لأن الغوازي كن – وما يزلن – يملأن الحارات والشوارع دون أن يجد الناس غضاضة في رقصهن وغنائهن.

شخصيات هزلية

يمكنك بكل سهولة أن تتأكد من أن الشخصيات الهزلية التي اشتهرت أخيراً في المسارح الهزلية قد أخذت من ذلك التمثيل الشعبي، فشخصية العمدة، والفقي، والبربري وخلافها قديمة قد هذبت، بل إن بعض الروايات التي اشتهرت لها أصل شعبي معروف.

نظن أننا أعطيناك برهاناً كافياً عن نشأة التمثيل المصرية، وجعلناك مثلنا تعتقد أن التأليف المسرحي نشأ مصرياً. وبالطبع استفاد هذا الفن التمثيلي من الفن الأوربي فصار إلى ما تراه اليوم.

(الكواكب، ع47، القاهرة، 13 فبراير 1933)