البسمات الأربع

ماري يني: إعداد أثير محمد علي

أثير محمد على

بين ما أقرأ وما أسمع هذه الأيام من متناقضات المباحث والآراء التي يتداولها أبناء قومي، دافع إلى إحدى ثورات الشعور التي أتحاشى التلفظ بها، وهي مهما تلطفت في تعبيرها لا تفسَّر بغير بسمة قد تكون عنوان رضى وقد تكون عنوان ما لا أذكره احتراماً لنفسي ولقومي.

ثورة في نفوس القوم، ضاع فكري في أمر تحليلها، لو سارت على وتيرة واحدة في سبيل وجهة واحدة، لقلت أن في الشعب روحاً حية ناهضة تبشرنا بنيل ما نرجوه ولكنها اختلافات أراء، وتقلبات مبادئ، ومنازعات أحزاب، وتطورات أفكار، أضاعت لدينا نسبة التمييز بين طريقي الخطأ والصواب فبتنا بين أمرين، إما الإغضاء واحتمال الضيم، وإما التصريح واكتساب الملام.

لو تسنى لي أن أهمس في آذان إخواني، سراً ما يقرأونه الآن علناً، لكان لي بذلك تفريج كربة في الإفاضة عما وددت ألا يسمعه غير أبناء وطني. ولكني مضطرة ألا أسكت مخافة ثورة نفسي على نفسي بالملام الجارح وما أنا بالراغبة في أن أحمل عدوي وسط صدري لذا أتكلم متململة لاضطراري إلى الكلام علناً.

بسمات أربع لمشاهد أربعة مرت بي ومررت بها ولكن أثرها باق لا يزول. 

في الزاوية الأولى من زوايا المسرح جماعة يتداولون. البحث سياسي بالطبع. في صدر كل فرد جذوة متقدة من الغيرة الوطنية، وفي صدر كل منهم نزعة مختلفة ترمي إلى تأييد مبدأ لا يتفق مع مبدأ رفيقه يعتقد بصوابيته وخطأ مخالفته، وفي نبرات كل منهم حجة جازمة يرى فيها تضليل رأي مباحثه وأفضلية رأيه.

وبينا هم يتناقشون ويضجون ثم يصمتون... غاضبين، إذا بالمهاجرة تفتك بالبلاد فتكاً ينبئها بخراب قريب.

فأمرّ بهم وعلى ثغري بسمة... هي بسمة مرارة لضياع آمال الشعوب. 

في الزاوية الثانية فئة من الإخوان انقسموا على بعضهم في الرأي هنا فريق يتحزب للرئيس السابق، وهناك فريق للرئيس الحالي، ذاك يدعم حجته أن للرئاسة أولياؤها والزعامة لا تليق بغير من ألف اعتلاء المجالس، وهذا يقول أن النيابة حق من حقوق الشعب فلا يجدر أن يتمتع بها غير ابن الشعب ـ وبينا هم يحتدمون ويحنقون ثم يرحلون... متوعدين، إذا بالبلاد تشكو جور القوي بالضعيف وتضمحل مصالحها تحت تأثير تنازع السلطات.

فأمرّ بهم وعلى ثغري بسمة... هي بسمة الهزء على مصير الشعوب. 

في الزاوية الثالثة اجتمع دعاة التعليم الوطني يتباحثون في ما بينهم ليقرروا الوقوف في وجه المدارس الأجنبية ومقاطعتها مقاطعة فعلية لأنها لا تعني عناء خاصاً بتدريس لغة البلاد، وبعد مصادقتهم على التقرير إذا بهم حياله واجمين فلا مدارس وطنية تعيضهم عن تلك، ولا سخاء يدفع بالأغنياء للبذل في سبيل المشاريع العامة ولا همة في صدور الشعب يدفع به إلى مطالبة هؤلاء الأغنياء بحق الشعب منهم ـ وبينا أصحابنا يتباحثون ويتداولون... ثم يطرقون، إذا بالتعليم الغربي يقتل الروح القومية في صدور الناشئة.

فأمرّ بهم وعلى ثغري بسمة... هي بسمة أسف على تلاشي قوى الشعوب. 

في الزاوية الرابعة، وسط قاعة التدريس وقف أحد الموكلين بامتحان التلامذة وهو غريب اللغة والوطن، وقد بقي لانتهاء الفحص مادة واحدة شاء أن يجعلها لديهم من السهولة بمكان ـ سأل الأول ما هو الخط الحديدي الذي يصل حيفا ـ سوريا. وقف الولد مفكراً حائراً ثم أطرق صامتاً خجلاً وكان جواب الأستاذ هزة رأس تغني عن كلام كثير...

أتى دور الثاني وهو ابن البقاع، ألقى عليه سؤالاً أكثر سهولة ما هي المحطات التي يمر بها قطار بيروت ـ الشام، أجاب مبتدئاً من المحطة الكبرى حتى بلغ صوفر وإذا به يطرق حائراً أيضاً، والأستاذ يزيد ابتساماً، ولو أن دماغ الشاب حوى قوة التحليل لما أحجم عن الاعتذار في أن آلة القطار تعطلت في محطة صوفر فلم يعد بامكانها المسير. وبينما التلامذة يطرقون خجلين... صامتين، إذا بدعاة الوطنية يهيئون الاحتجاجات ويتفقون على أن لا يتفقوا.

فأمر بهم باسمة... بسمة ألم على تشتت شمل الشعوب. 

بسمات أربع لمشاهد أربعة استفزّت مني الشعور فجعلت مني كائناًً مكتئباً يمشي في طريقه والكآبة تتمشى بين أضالعه.

أربعة مشاهد تتمثل لدي عند كل لحظة لدى كل خطوة، فأقرأ فيها صوتاً صارخاً هو حشرجة تخرجها قوة متلاشية وعزم خائر، فأسير مطرقة حزينة واليأس يملك مني الفؤاد.

هكذا سرت تتوكأ نفسي على نفسي إلى أن استوقفني مشهد خامس، يالعذوبته من مشهد، حوّل وجودي إلى معنى مطرب وأزاح إلى حين تلك الرسوم الموجعة.

أبناء الوطن يشتركون بحفلات العيد يعانق هلالهم الصليب، ينشدون الأغاني الحماسية، يسيرون تحت راية واحدة هي راية الاتحاد، ويتشيعون لنصرة مذهب واحد هو مذهب الوطنية.

فقلت اللهمّ، إن لم يكن في هذه المظاهر كل الحقيقة المرجوّة، فهي لا تخلو من بعضها لعلها تكون بشير خير بنجاح قريب مرجوّ.

فسرت وعلى ثغري بسمة... هي بسمة رجاء بتحقيق آمال الشعوب.

(مينرفا، ع 7، س 1، بيروت، 15 تشرين الأول 1923).