تكشف القاصة المصرية هنا كيف يكون انتظار زمن سيأتي، وسيلة لتأمل لحظتها الراهنة، ومواجهة مخاوفها، بقدر ما هو وسيلة لإظهار رغباتها وأحلامها وذلك من خلال تفاصيل يومية مكتوبة بحساسية وبراعة.

صباح يأتي لك

أسماء عواد

في صباح يأتي لك دون أن تذهب له، كأن تكون مستيقظا طوال الليل، تتجول في شوارع المدينة، فيتسلل إليك دون أن تشعر به، دون أن تكون مضطرا لأن تصحو من النوم كي تشاهده. في صباح مثل هذا سيكون لقاؤنا الأول. في أحد المقاهي القديمة أو حتى الحديثة، لا يهم، المهم أنه سيكون مطلا على البحر وهذا ما سأسعى إليه، أن نجلس متواجهين، وجهي للبحر وظهرك له كي أتمكن من رؤيتك ضمن اتساعه الكبير. وسأسأل نفسي عندما أرى موجه، ما وجه الشبه بيني وبينه؟ كلانا جامع مانع، بحر من العطاء والحرمان معا، مهما أعطى يظل مالحا، لعل هذا أيضا هو وجه الشبه بيني وبينك. سأنظر أسفل رقبتك لأرى الشعر الأسود في صدرك يخالطه البياض، وسأفكر وهو يطل من فتحة قميصك لو أني أستطيع أن ألمسه، ولما لا أستطيع سأرى نفسي مثل البحر الذي يقف عاجزا أمام ما يملك، فلا يستطيع أن يسقي نفسه شربة ماء. 

في ذلك المقهى المطل على شاطئ البحر، ستتأمل وجهي الأسمر في محاولة لقراءته، سأتوتر بعض الشيء عندما تتفحصني بعينيك، لكني سأعود لتوازني عندما أسمع نبرات صوتك الهادئ من جديد. هدوئك وأنت تنطق بحروف المد سيذكرني بالأحدب في "نوتردام". ستستفز طيبتك ما أخبئه في صندوقي تحت الفراش، ستجعلني أعتقد بأنك ذلك الآخر الذي أتمنى أن يلمسني عندما أرغب في البكاء، وعندما أصل إلى هذا المنعطف سأتسلح بالصمت. 

في ذلك اليوم ستسأل عن أشياء معتمة، وستأخذني أسئلتك إلى مناطق مليئة بالأشواك لا يجوز أن ألقي بها في طريقك في أوائل لقاءاتنا، سأنسى ذلك وأنا أقارن بين هدوئك الخارجي الذي يوحي به نبرة صوتك، وصخبك الداخلي الذي يظهر في أسئلتك المتلاحقة. شراهتك في معرفة الآخر والدخول إلى عالمه ستجعلني أتلقى أسئلتك بحذر، ستقرب إلي الظن بأني لست سوى كتاب ترغب في قراءته. 

في ذلك الصباح سأقترح أن نسير معا على الشاطئ، وسأطلب منك أن تأخذني إلى مكان مليء بالصخور، حيث يمكننا أن نجلس متجاورين، نراقب أمواج البحر وهي تتحول من اللون الأزرق إلى الأبيض، نتأملها وهي تتكسر على صخور الشاطئ مثل قطع من زجاج أو جليد. ستذكرني الرغاوى الفضية التي تتركها على الطحالب الخضراء بأشخاص قد مروا من هنا، وسأفكر أنني وأنت سنعد أيضا ممن قدمر من هنا. لن نستطيع أن نترك بصمتنا على المكان، ولن نسمح له بأن يفعل معنا. ستضع يدك على الصخور وتبحث عن مواضع لقدميك، ثم تقفز برشاقة وتمد يدك إليّ، سأفكر حينها بمدى حاجتي إليك. عندها سأمد يدي، وعندما تسحبني إلى الأعلى سأفاجأ بقوتك فأستسلم لك. ستذكرني قوتك بقوة ذلك الرجل الذي أنقذني من التدحرج على سلالم المترو عندما اختل توازني وسقطت في وضع عكسي. كنت قد فقدت الأمل في وقوفي على قدمي عندما بدأت أتدحرج على درجات السلم الكهربائي. وكان الدرج كلما ارتفع إلى الأعلى كلما ازداد تدحرجي إلى الأسفل. وأنا في هذا الوضع المقلوب رأيت قدمين تقفزان السلالم مسرعة من أجلي، وفي ثوان كان صاحبهما يمسك بي، حاولت مساعدته لتجميع أطرافي المبعثرة، ولكن محاولاتي كانت تعيق تحركه فسكنت تماما وتركت له عبء الموقف. تركته يحملني بقوة، عندها سرى في جسدي شعور بضعف لذيذ استسلمت له حتى أوقفني على قدمي.

كان لملمس يديه حضور عجيب، وكانت المرة الأولى التي أقتنع فيها بحاجتي إلى قوة رجل. لأول مرة تقترن فيها القوة بالفروسية عندي، وفي الوقت الذي تحولت فيه إلى ماء عذب كي أشكره.. في نفس الوقت الذي تمنيت أن أنساب فيه بين يديه، كان قد قفز داخل القطار مختفيا إلى الأبد. سأتذكر كل هذا وأنت تجذبني إلى الأعلى وتجعلني أتمنى أن تكون ذلك الذي اختفى قبل أن أحدثه ولو لدقائق قليلة.

على إحدى الصخور سنجلس متجاورين، ستعاود أسئلتك عن ماضي وحاضر لا يتفقان، سأقترح عليك لعبة توقف نزف الأسئلة: أن نصمت لدقائق نتأمل فيها الفضاء ويغوص كل منا في الآخر، فجأة ينقلب صفاء عينيك إلى حزن بعيد، تصمت وتراقب الفضاء من أمامك، تبدو وكأنك تستعيد شيئا قد تسرب من بين أصابعك. سأجدها فرصة كي أتأمل وجهك عن قرب، وأرى ثغرات بشرتك وشقوقها. خال صغير، وندبة ربما تكون أثر جرح من أيام الطفولة. سأنظر إلى رأسك وأتمنى أن أمرر أصابعي في شعرك لكني سأتراجع عندما تسألني سؤالك الأخير:

ـ هل تخافين مني؟

سيكون هذا هو السؤال الأول الذي أتمنى أن نبدأ به الطريق إلى حيث تأخذنا أقدامنا...

لأجل هذا كله سأخرج الليلة إلى الطريق، ربما يتسلل إلي صباح يأتي لي دون أن أذهب له.