عبر سردها النقدي للشريط السينمائي تتأمل الناقدة السورية سيمياء الشخصيات وحراك المشاهد الدلالي من خلال عين الكاميرا، ومن وجهة نظرها. تستبين صوت الشعر، والصور الصامتة، وسريان المسرح، ودفق الواقع في تلافيف الفيلم، وهي تدور حول يوتوبيا الحب والوله للفن.

"أبناء الجنة" لمارسيل كارنيه

Les Enfants du Paradis

أثير محمد على



يسمع الجالس أمام الشاشة البيضاء قرعاً على خشبة مسرح يعلن بداية عرضٍ ما، ثم يبدأ المشهد السينمائي الأول بستارة ترتفع عالياً ليظهر خلفها "بوليفار الجريمة" المستعاد من عام 1840، وهو الحين الذي تدور فيه أحداث فيلم "أبناء الجنة".

ترصد كاميرا غير مرئية، وهي تتحرك فوق سكتها الممتدة على طول شارع عريض، ومن خلال لقطة الـ Traveling تموّج حشدٍ بشري يستسلم لنشوة الفرجة، ويُؤخذ ببهلوانٍ يتغلب على اختلال التوازن فوق حبلٍ مشدود، بينما العربات تسير متمايلة تقلّ بلا كلل روّاد المسارح التي تحفّ بضفتي الطريق.

في عام 1943 بدأ مارسيل كارنيه (1906 ـ 1996) بإخراج "أبناء الجنة": فيلم فرنسي يدرج في قائمة أهم الأعمال العظيمة التي تلمست طريقها إلى الشاشة الكبيرة في تاريخ السينما العالمية، إضافة لتصنيفه "فيلم فرنسا على مر العصور".

قليلة هي الأفلام التي تتدفق من لحظتها التاريخية إلى الآتي من الأزمنة، ومعدودة هي الأعمال الفنية التي تهرم بكل بهاء فتوتها، متجاوزة آنها إلى حاضرنا، وهنا ينحو القول إلى أن "أبناء الجنة" هو واحد من هذه الأفلام.

يحتفي الفيلم بأدواته الجمالية السينمائية بعالم المسرح وبحالة الشعر، وقبل كل شيئ بمدينة باريس المؤسلبة إلى فضاء الشارع الذي يعرف بـ "بوليفار الجريمة". 

قام البعض بترجمة عنوان الفيلم الفرنسي إلى العربية حرفياً بـ "أطفال الجنة"، إلا أن منطق وسياق الفيلم الداخلي كانا وراء الدافع لاعتماد ترجمة العنوان بـ "أبناء الجنة" عند كتابة هذه السطور، حيث تُحيل "الجنة" في الفيلم إلى المقاصير العلويّة القريبة من السقف في عمارة المسرح، والتي كانت تحتلها الطبقات الشعبية لرخص أسعارها. بمعنى أن الجنة تقع في الأعلى حيث الناس البسطاء، أما أبناؤها فهناك في القاع يؤدون أدوارهم فوق خشبة المسرح. 

تاريخياً، اعتبر "بوليفار الجريمة" في باريس القرن التاسع عشر كنوع من برودوي مصغرة، لكثرة العروض الأدائيّة التي كانت تمارس في كل ركن من أركانه، ولحيوية الاحتفالات الكرنفاليّة المقامة فيه، إلى جانب العديد من المسارح التي كانت تقدم الأعمال الميلودرامية الدموية العنيفة والتي كانت السبب في تسميته. إضافة إلى ذلك، وكما يذكر في الفيلم نفسه، كان الشارع يعرف أيضاً بـ "بوليفار الزمن"، نسبة للزمن الدرامي للمسرحيات كانت تعرض فيه، وكأن ارتياد المسرح أشبه ما يكون برحلة تخيلية في الوقت ومنه إلى فضاء من زوال ووهم. 

مع "أبناء الجنة" نحن أمام عمل إبداعي جماعي بامتياز، فقد أخرجه مارسيل كارنيه، وكتب له السيناريو والحوار الشاعر السوريالي جاك بريفير (1900 ـ 1977)، وقام بلعب أهم أدوار شخصياته السينمائية كل من آرلتي، وجان لوي بارو، وبيير براسور، ومارسيل آران، وماريا كاسارس.

ومن بين فريق العاملين في الفيلم يحضر اسمي الكسندر تراونر، وليون بورساك بقوة، لما لتصميم الديكور وإيحاءات معمار اللقطة السينمائية من أهمية خاصة في هذا العمل. كذلك لا يمكن نسيان جوزيف كوسما الذي شارك بوضع قسم واسع من موسيقاه التصويرية.

ليس بخافٍ على من يقلب صفحات تاريخ السينما ما للأسماء السابق ذكرها ـ جميعهم باريسيون ما عدا الهنغاري تراونر والمنفية الاسبانية بفعل الحرب الأهلية ماريا كاسارس ـ من صلةٍ وطيدة بـ "الطليعة التاريخية" لتلك المرحلة، مما أعطى الفيلم تلك الأرضية التحتيّة المميزة لواقعيته الشعرية. 

كما ذكر سابقاً، بدأ العمل على تصوير الفيلم عام 1943 تحت وطأة الاحتلال النازي لفرنسا، وبمشاركة كوادر فنية اضطرت للعمل في الخفاء، مخافة اليد العسكرية التي طالت حقول الثقافة والفن بالملاحقة والاعتقال، وعرض لأول مرة عام 1945 بعد خروج القوات الألمانية المحتلة، من هنا ينعته البعض بـ "فيلم التحرير"، رغم أن فريق العمل أراد بشكلٍ جلي الابتعاد كلياً و "الهرب" من السياق السياسي للحظته الراهنة، بغية خلق عالم شعري منعزلٍ تُبعَث فيه فرنسا الحرة سينمائياً من ماضٍ كان قد مرّ عليه قرن كامل من الزمن.

لاقى هذا الإنتاج السينمائي الضخم إقبالاً جماهيرياً ضخماًً، وحافظ على نجاحه حتى في أقسى السنوات التي هوجم فيها العديد من أعمال مارسيل كارنيه، خاصة من قبل نقاد "الموجة الجديدة"، الذين أرادوا الدخول إلى حقول صناعة السينما في عقد الستينات من القرن العشرين. 

يُغيب عن الفيلم البطل الأوحد، ومعه تختفي القصة المركزية لصالح القصص المتنوعة، تبعاً للشخصيات العديدة التي تشارك في نسج أحداث الفيلم، فكل شخصية تعرض قصتها، ومن ثم تفسح المجال لشريكتها كي تدفع مجريات الفعل والحدث إلى الأمام.

من بين هذه الشخصيات نتعرف على فريدريك ليمتر: شاب مندفع، دنجواني السلوك لا يعرف لغيرة المحب من معنى، واقعي يدرك ما يريد ويتطلع إلى أن يكون ممثلاً مسرحياً مشهوراً. وعلى الطرف النقيض منه، أو مرآته المعارضة، يقف بابتيست ممثل البانتوميم الموهوب، الذي يتسم بأنه شخص انطوائي صموت، وحالم استثنائي، ومثالي في عشقه.

أما ليسنير فهو لص مثقف، فوضوي في رؤيته للمجتمع وللحب، وفوق ذلك هو كاتب مسرحي، وفي الجانب المقابل له تُقدم شخصية الكونت مونتيري بأرستقراطيّةٍ تُكمّل بروح صيادٍ غيور لا ينفك عن ملاحقة طريدته الجميلة، كي يمتلكها ويحنّطها بلا روح في سيرته الذاتية.

يقع كل من هؤلاء على طريقته في حب غارانس: مَنْ لعينيها نظرة تشوبها غواية كآبة مبهمة، الأنثى/ القدر المعلن، والفاتنة الحية، مَنْ تُصرّح ببساطة امرأة حرة إرادتها ورغبتها في فعل الحب والشبق. بالتقابل مع غارانس يتسلل العجوز القبيح جيريكو من بين الجموع، يمارس التلصص والبصبصة voyerisme، يقرأ الكف ويفسر الأحلام، ويُوصَف بالمنفّر والغدّار كما لو كان قدر الجميع غير المعلن.

مع "أبناء الجنة" ينعزل المخرج مع ممثليه وفريق العمل الفني ليقدم قصة حب مكثفة، في عالم منسوج من مشاهد شاعرية من وجهة نظر الرومانسية الفرنسية، حيث تتلحّف الأحاسيس بالأدب والشعر وجمال العبارة الشفيفة.

من وجهة نظر تاريخ الفن السابع يترك هذا الفيلم السينمائي وثيقة بصرية تعبر عن رؤية منتصف القرن العشرين لسينما واقعه الراهن، ولمسرح القرن التاسع عشر. كما أن أداء جان لوي بارو لدور ممثل البانتوميم بابتيست في الفيلم له بُعد توثيقي مسرحي هام لأي دارس للمسرح، سواء كان ممثلاً أم مخرجاً أم ناقداً. وهو الأداء الذي بقي الممثل الفرنسي مارسيل مارسو (1923 ـ 2007) وفياً له حتى تاريخ وفاته. كذلك فإن الفيلم يشير بلا لبث لموهبة الممثلة الفرنسية آرلتي، التي قامت بأداء دور غارنس، والتي عُتِمت عليها الأضواء، وتم تجاهلها كلياً فيما بعد لارتباطها الحميمي بأحد الضباط الألمان أثناء الاحتلال النازي. 

من جانب أخر، ومع الأخذ بعين الاعتبار التطور التقني المتاح حين إنجاز الفيلم، فإن قيام المخرج مارسيل كارنيه بتصوير فيلمه داخل استوديو يدعو للتساؤل عن المسوغ الذي يقف خلف هذا الخيار، خاصة أن إمكانية التصوير في شوارع باريس وأماكنها الحقيقية لم تكن من الصعوبة بمكان. ربما تتأتى تفضيله لبناء ديكور كامل من الخشب والكرتون من حرصه على التحكم بإضاءة المشهد السينمائي وضبابية تفاصيله، وبالتالي تحقيق تلك الخصوصية المميزة للمناخ الشعوري والحسي الذي تتحرك فيه كل شخصية ضمن الكادر السينمائي. أو لعل لقراره هذا أثر متبقٍ لإرثٍ يعود إلى السينما الصامته، أو أن فيه تأكيد غير مباشر على تقديم واقع شعري يتجاوز الواقع العياني ويعلو عليه. بمعنى أن وراء هذا "البوليفار" الشاعري المصنوع من ورق، والمعروض على المتفرج، يكمن واقع مفارق آخر غير مرئي، يمكن الحدس به لباريس المحتلة.

شيّد مصمم الديكور تراونر لأجل "بوليفار الجريمة" السينمائي شارعاً بطول 85 متراً، وفي البُعد الأخير منه ترك مجالاً لحركة أفراد قصار القامة، يتلوهم أقزام، فمجموعة من الأطفال في نهاية المطاف. لعل هذا الأمر يشير إلى هاجس تراونر لخلق انسجام جمالي وانسيابية بصرية لعين الناظر/ المتفرج، انسجامٌ يساير خطوط المنظور حتى نقطة الفرار في كادر المشهد. ويبدو أن هذا الأمر كان وراء دافع كثير من النقاد للتفكير أن تصميم الديكور يتغيا الإيهام أو المصداقية الواقعية في المشهد البانورامي للشارع، وهو أمر صحيح، إلا أن تفاصيل الديكور التي تبدو في اللقطات الأضيق في المشاهد المتنوعة الأخرى في الفيلم تبوح بقصدية الإحساس بالديكور في اللقطات السينمائية عامةً، ونية كسر الايهام في المشاهد المخصصة لفضاء المسرح المقدم في الفيلم على نحو خاص. وعليه يمكن القول أن ما خصّ به المخرج فيلمه، من ناحية التصوير في استديو وتصميم مصطنع للديكور، كان له الأثر البارز في شحن الفيلم بتلك الغنائية الفريدة والمميزة، دون أن نغفل هنا عن التنويه للدور الأساسي لأداء الممثلين من في ألق الفيلم. 

تتجلى في "أبناء الجنة" ثنائيات (الفن والحياة)، أو (الحلم واليقظة)، أو (الفانتازيا والواقع) كفضاءات معشّقة ذات أقطاب مبلبلة بحدود غير واضحة المعالم، فمن شاشة الفيلم نلج زمن واقع "شارع الجريمة" السينمائي، ومنه نعبر إلى زمان ومكان المسرحيات المقدمة فيه. وباستمرار تضيع الحدود بين الزمنين والواقعين، ويكسر الإيهام بين جمهور المسرح والخشبة أثناء عرض مسرحية ما داخل شاشة الفيلم. أما الممثلون فيؤدون في محصلة الأمر نفس الأدوار في كل من الزمنين، وكأن الفن منصهر بالحياة والعكس بالعكس.

يلح المخرج على مدار الفيلم على تعطيل زمن السينما مفسحاً المجال لمقاطع مسرحية مطولة يؤديها ممثل البانتوميم بابتيست (جان لوي بارو). ومع هذا الأخير يختفي الصوت واللغة المسموعة، لتحضر لغة الجسد وميم قناع الوجه. يؤكد بابتيست بصمت في زمن السينما، وزمن المسرح داخل الفيلم، على طاقات الجسد وقدرة مفرداته على التعبير كما لو كان قصيدة تنحت في فضاء المكان.

أما الشاعر جاك بريفير فقد غلّف واقعية المادة الحكائية في الفيلم بحالةٍ غنائية مرهفة. فذوّب الحوار اليومي بالشعر، وبرعشة سكون حي يباعد بين الكلمات المنطوقة. وغرَّب بين الحين والآخر ما يُسمع وما يُصغى إليه. وكأن اكتشاف الشعر في الكلام والفعل الاعتيادي وصال مع المعنى والحس الداخلي لكل حالة في المشهد السينمائي. 

"أبناء الجنة" هو فيلم للحالمين بذلك البلد الذي يدعوه ممثل البانتوميم بابتيست "القمر"، لعله قمر كاليغولا المستحيل مرئي على ضوء زمن آخر. في كل الأحوال هو فيلم حول يوتوبيا الحب والوله للفن، فآن رمت غارنس بزهرة الحب نحو بابتيست، انقلب إلى ممثل بانتوميم وتحوّل إلى مبدع في فنه، ثم دفعه حبه اليائس ليقدّم أفضل ما عنده. أما فرديريك فيتحول هو الآخر إلى ممثل تراجيدي قادر على أداء شخصية عطيل، حينما تسللت تجربة الغيرة من محبي غارنس إلى قلبه وألهمته نسغ الدور الشكسبيري.

تؤكد غارانس ـ في الظاهر ـ على حبها لباتيست، إلا أنها فيما يبدو تحب عشقه الفريد، والكيفية التي يستسلم بها كلياً وبصمت للحب المستحيل. 

أخيراً لا بد من القول أن مارسيل كارنيه حقق في "أبناء الجنة" عملاً فنياً تطلع فيه إلى الوراء نحو سينما غريفيث (1875 ـ 1948) ومرناو (1888 ـ 1931)، والتفت إلى الوراء هارباً من التاريخ ليعود إليه من بوابة الماضي، مذكّراً المتفرج بتلك الباريس الحرة حينما الشوارع لم تكن ملوثة برصاصية اللون النازي. وعليه يمكن الاعتبار أن في فعل السينما نفسه، الذي قام به كارنيه في "أبناء الجنة"، يكمن معنى التفاؤل والمقاومة أمام واقع الاحتلال الألماني حينئذ. وهو الأمر الذي يختلف مع وجهة النظر التي اتهمته بالهروبية الرعوية بدافع التشاؤمية من الواقع الراهن. 

مع "أبناء الجنة" لمارسيل كارنيه (1945) تنتهي مرحلة "الواقعية الشعرية" و "الفرار" إلى الماضي في تاريخ السينما، لتبدأ مرحلة جديدة مع روسيليني (1906 ـ 1977) الذي كانت عينه على المستقبل، وهو يصور في ذات العام "روما مدينة مفتوحة".

من جهةٍ أخرى، وفي العام الذي سهرت فيه فرنسا لمشاهدة "أبناء الجنة"، إلى جانب احتفالاتها بالنصر والتحرير، كانت مدن سطيف وغيلما في الجزائر المحتلة تكفن ظلال مأساتها وتدفن أشلاء قتلاها في مجازر تلك السنة.

وبدأت المستعمرات الفرنسية القديمة مقاومتها ضد "المتروبول".