تجادل المقالة المترجمة فعل إقصاء التاريخ عن دراسات "النقد الجديد"، والتي منحت النص دوراً مركزياً متعالياً، وأقامت نظريتها الأدبيّة على المقاربات التفسيرية والتقويم، وغضت الطرف عن المعرفة المتشكلة في التاريخ وعن التفاعل بين المؤلف والنص

قراءة النُّصُوص وتاريخ الأفكار

ترجمة: يونس لشهب

جاك روجي

ينماز النقد الجديد(1) بمجموعة من الخصائص العامة، ومنها، بلا شك، رفضُ كلِّ ما هو تاريخي رفضاً كليّاً. ويريد النقدُ الجديد أن يُحيطَ عِلْمًا بحقيقة العمل الأدبي (oeuvre) الآنية والمباشِرة، أي بالحقيقة الملموسة لذلك الكتاب الذي نأخذه من رَفِّ المكتبة.

إن ما يُراد نسيانه أن هذا الكتاب قد ألَّفَهُ إنسان حي. فيكون العمل الأدبي عند طائفة لعبةَ بنيات شكلية، مُنْجَرِدة من المحتوى ومن الْمَقَاصِدِ (intention). وطائفةٌ أخرى قد رأتْ أيضا أنه لعبةُ مضامينَ، تُعَبِّرُ عن مؤلِّف لا سبيل إلى معرفته، إلا في العمل الأدبي ومن خلاله، ذلك أن التاريخ وسيرة الكاتب لا يُزَوِّدانِنا بشيء عن المؤلف، أنْ كانتْ كينونَتُهُ رهينةً بوجودِ العمل الأدبي، فهو يَحضُرُنا مباشرةً، مثل العمل الأدبي نفسه.

ولعل من النتائج الثانوية التي يمكن استخلاصها من هذه المبادئ الأولى، اشتراكَ كل القراءات الْمُمْكِنَةِ لعمل أدبي، وهي قراءات يُشترط فيها الانسجام والشمولية، في قيمة واحدة تتمثل في إنكارِ أي فَضْلٍ على قراءةٍ يُقَدِّمُهَا المؤلفُ نفسُه أو معاصروه، ورفضِ اعتبارها قراءةً "صحيحة" يتعين علينا تجديدُ بنائها بناءً تاريخياً.

وهكذا، أُنكر التاريخ من جهة موضوعه، بحجة أن العمل الأدبي مقتطف من سلسلة الوقائع الإنسانية الزمنية. وأُنكر من جهة منهجه، لَمَّا رُدَّ عليه إمكانُ أن يُوَضِّحَ العملَ الأدبِيَّ مقامٌ (situation) تاريخي مُعَيَّن. وكأنما العملُ الأدبي تلك "الكتلة الهادئة" التي تحدث عنها مالارمي(2)، والموجودة "وحيدةً في الخلود"، كما قال كوتيي(3).

هذا، ويرى المؤرخ في إنكار التاريخ ذاك، وَهْمًا ومستحيلا قطعيين، سواء علينا أقُمنا، في المجهود اللازم لإدراك العمل الأدبي، بِتَجْرِيدٍ (abstraction) للمؤلِّف أم تركناه. وذلك لأن العمل الأدبي، أولا يَجُرُّ معه كلَّ ما نعرفه عنه، أي تاريخه.

إن إقصاء التاريخ من مجال القراءة ينطوي على وهم كبير، يتجلى في عدم وجود قراءة بريئة، وفي أنّ نَظَرَنَا إلى النص، في حقيقة الأمر، ليس نَظَرَ خالي الذِّهْنِ، وإنما هو، ودون أن نُلْقِيَ له بالاًً، نظرٌ مُبَنْيَنٍ (structure)، مثل نظرنا إلى الأشياء تماماً. وتلك المعرفة التي تُلابِسُه هي معرفة تاريخية.

قد يَصْدُقُ ذلك في النَّقْدِ القائم على التَّماهِي (identification)، فلا يستطيع أحدٌ اليومَ، ولا يريدُ التماهيَ مع الرَّجل الذي كان اسمه جون راسين(4). وما من أحد يستطيع التماهيَ تماهياً بريئاً مع ذلك الرجل، الذي كَتب أعمالَ راسين الأدبية، والذي نعرفه من خلالها، لأن هذا الرجل يتحدث لسانًا كان يُتداول منذ ثلاثة قرون، وقد اتُّخِذَ اليومَ مهجوراً. ونَتَوَهَّمُ أننا نَنْفُذُ في يُسر إلى لغة التراجيديا "الراسينيّة"، لِمَا نَغْفُلُ عنه من أننّا تعلّمناها تَعَلُّمَ لغةٍ غريبة، عن طريق تربية تاريخيّة. وحتى عندما يحلم الناقد بالتماهي مع مؤلف المسرحيات "الراسينيّة"، وقد خلّى لِلمؤرخين شخصيةً لا يَأْبَهُ بها تُسمى: "راسين"، فإنه ينسى أن مبتغاه يستلزم اختصار مسافة تاريخية، لا يمكن أن يختصرها إلا التاريخ.

وَلْنَمْضِ بعيداً، ولْنتساءلْ عن ضرورة بعث الزّوج المنبوذ، والأخوين الممقوتين: النّزعة النفسية والسيرة (biographie) من مرقدهما.

إنني أُقر طائعاً أن موضوع الناقد هو العمل الأدبي، وليس حياةَ أحدٍ من الرجال، وأنه لو احتاج أحدًا لكان المؤلفَ، وليس بطلَ العمل الأدبي، الذي قد يكون ساخراً، وذا سيرة خاملة. وبالرغم من ذلك، أَفَلا يوجد شيء مشترك بين ذلك الواحد من الرجال والمؤلف؟ أَوَلَمْ تكنِ الأحلام والوساوس التي نكتشفها في العمل الأدبي من عَمَلِ رَجُل حيّ؟ وهل يقبل المحللون النفسيون أن تكون "الْخُطَّةُ الوُجوديّة" التي يكشف عنها العمل الأدبي مُنْقطعة الأوصال مع تاريخ تأثيرٍ معين؟

وَهَبْ أنّ هذه الخطةَ تظهر دائماً أكثرَ وضوحاً وانسجاماً في العمل الأدبي، ألا يعني ذلك أنها تسعى إلى الظهور في المجتمع؟

وأخيراً، أيمكن تجاهُل ما أسميه، لعدم وجود تسمية أفضلَ، "طَبْعَ" كاتب من الكتاب؟ وهذا الخليط من اليأس والطعام الدَّسِمِ، الذي نجده في روايات فلوبير(5)، أليس له أيّ مُعادل عند فلوبير صاحبِ السيرة؟ وبأي تأثير مُعجِز يمكن لفعل الكتابة أن يَنْزَعَ رَجُلاً من نفسه، حتى يُدخله في عالَمٍ من الأحلام والرموز الغريبة كُلَّ الغرابة عن عالم وجوده اليوميّ الغارق، هو أيضاً، في الأساطير؟

أفلا يكون بين الرجل والمؤلِّف، على أقلّ تقدير، علاقاتٌ مُمْكِنَةٌ في غاية التنوع؟ لا امْتِراءَ في أننا بصدد فِعْلٍ (acte) أدبيّ له خصوصيته وتفرّده، بالرغم من وجود أعمالٍ أدبية بل وأجناس أدبية متنوعة جداً. ولقد تحدثنا عن راسين وفلوبير، ولا ننسى مونطيني(6) و(بليز) باسكال(7) وجون جاك روسو(8)، الذين لن يكون من السهل إجراء التمييز الجوهري فيهم بين رجل العمل الأدبي ورجل السيرة.

إن كُتّاباً من هذا النوع يُجَلّون واقعاً عاماً، يُصَرَّحُ به عفواً، وإن كانت تبعاته تُنسى، ألا وهو أن العمل الأدبي يَصْنَعُ الكاتبَ، مثلما أنّ الكاتبَ يصنع ذلك العمل. ويعني هذا أن الرجل الحي الذي كتب عملاً أدبياً، يحمل سِمَةَ (marque) عَمَلِهِ، التي تطبع حتى حياته. فهذا جون راسين يلوذ بالصمت بعد "فيدر"(9)، وهذا ميشيل دومونطيني ينتفض وهو يؤلف "المحاولات"، وهذا جون جاك روسو يقرر أن يصلح شؤونه ويترك المعارك والعيش الرغد، لأنه كتب "خطابا في أصل اللامساواة" (10). وقد بين روبير أوسمون، وهو يُنْعِمُ النّظر في التواريخ، أن روسو قد حاول أن يعيش مع السيدة دوديطو(11) فصول روايته "هيلويز الجديدة"(12) كما كتبها.

لقد حاول روسو أن يكون الرَّجُلَ الذي في مؤلَّفه، وليس الذي في سيرته. وتقتضي هذه الخطة الأساسية، التي تُجَلّي روسو أمام أعيننا، معرفةً تاريخية دقيقة بسيرة، قد تكون أحياناً إبداعاً أدبياً. ويكون كل تمييز بين رجل العمل ورجل السيرة اعتباطياً، كما أنه يبعثر فهمنا للعمل الأدبي.

وإذا كان العمل الأدبي، على حدّ تعبير مالارمي هو: (تلك) "الكتلة الهادئة، التي اسّاقَطَتْ على الأرض مِنْ كارثة مُظْلِمَةٍ"، فهل يمكن إهمال شروط هذه الكارثة، دون أن يستتبع ذلك، على نحو تلقائي، إفقارَ فَهْمِنَا للعمل الأدبي؟

لقد ذَكَّرَنا ميشيل باسطي بأن في داخل فاليري(13) المؤلِّفِ: حيواناً عقلياً، وآلية معياريّة، وكائنا للذّكْرى. ويُعَدُّ كل واحد من هذه الشخصيات شخصيةً تاريخية، فمن البَدَهيّ أن يوجد كائن للذكرى، لأن ماضياً شخصياً بِرُمَّتِهِ، وتاريخاً جماعياً كاملاً يُكَوِّنُ هذه الذاكرة. وكذلك الشأن فيما يتعلق بالآلية المعيارية، لأن المعايير لا تخضع لنفس الْبُنَى العقلية في جميع العصور. وأخيراً، فالحيوان العقلي، ذلك الكائن الغريزيّ المنحرف، هو أيضاً، نتيجةٌ لتاريخ معين، إذ إن الحقيقة التي تبدو لنا طبيعية، هي بالتأكيد، كما قال (بليز) باسكال، ليست سوى عادة ثانية.

ولست أدري كيف أن هذا الكائن التاريخي، عندما ينخرط في لغة ما، هي أيضاً نِتاجٌ تاريخي، يخرج من التاريخ، كي يَدْخُلَ في الخلود. ولكن، لِنَقُلْ إن من يدخل في الخلود ليس الكاتبَ، وإنما هو عمله الذي لا ينفك عنه بحال من الأحوال، إلى حد يجعل كلَّ اعتبارٍ للمؤلِّف ولِمَقاصده غيرَ ذي نفع.

وبقي أن نؤكد أن من يقدم لنا هذا العمل الأدبي، حتى في هذه الحالة، هو التاريخ. وإن التاريخ هو الذي يرتب الأعمال الأدبية كلها، ما عدا الأعمال المعاصرة، بالمعنى الضيق للكلمة، والتي لن تبقى كذلك طويلا. فنحن اليوم نعدّ نتاج ماريفو(14)، مثلاً، نتاجاً أدبياً، بينما كان يُعَدُّ رَدْحاً مِنَ الدَّهْرِ مُزْجَى البضاعةِ الأدبيّة، وهذا الأمر نتيجةُ ظاهرةٍ تاريخية. بل إنني أَزيدُ على ما قُلتُه، أن الناقد الذي لا يَعْتَدُّ بالتاريخ هو الأكثرُ خضوعاً وتبعاً، في هذا الصدد، لتاريخ زمانه وللذوق الذي يفرضه ذلك التاريخ. وإن النقد الأكثر انسلاخاً عن التاريخ، وعن الزمن الذي يُمارَس فيه، لهو النقد الذي يمارسه المؤرِّخ. وما أكثر النصوص التي حاز فضلَ إخراجها إلينا رجال حَمِسوا بعملٍ قديم وبَعثوه من مرقده، غَيْرَ عابئينَ بِسَنَنِ (modes) زمانهم.

وإذا كان المؤرخ هو الذي يقدّم لنا العمل الأدبي بوصفه عملاً أدبياً، فغالباً ما يكون الكِتَابُ الذي سيقرأه الناقد، ما دام يمسكه بين يديه، قد قدّمه له المؤرخُ الذي أخرج تلك الطبعةَ.

ومَن غَيْرُ المؤرخ يُعلّمنا لغةَ الماضي، التي تبقى الحاجةُ إليها أمرا بدَهياً، وإن كانت معرفتها، يقيناً، غيرُ كافية لمن أراد أن يحظى بفرصة الولوج إلى العمل الأدبي. ومع ذلك، فإذا أردنا أن نَضْرِبَ صَفْحًا عن ماضي العمل الأدبي، وعن المعنى الذي ربما دلت عليه الكلمات حين ولادته، بوصفهما معا الشرطين اللذين أفْرَزَا ذاك العملَ الأدبي، فنحسب العملَ لعبة بنيات محضة، وبتعبير باسكال (بليز)، نحسبها بنياتٍ صوريةً بالمعنى الشامل للكلمة، فإن هذه البنياتِ الشكليةَ تظلّ، هي أيضا، مُنخرطةً في التاريخ، وتظل بعض البنيات التي تعود إلى حقبة بعيدة، غريبةً عنا غُرْبَةَ اللغات الميتة. فهل يرتضي الناقدُ لنفسه أن يَجهل هذه البنيات، بدعوى غُموضها وإشكالها عليه؟

لقد ذهب جون ريكاردو(15) إلى أن النقد المعاصر قد صار أخيراً نقداً يُمَكِّنُ من فهم الأدب المعاصر. ولو صحّ هذا، وأفضى كل هذا الجهد لإدراك "الخلود" إلى اختصار هذا الأخير في اللحظة المحدَّدة من الحاضر، لَحَقَّ لنا حينئذٍ أن نتساءل عن الذي يتبقى من كل هذا الأدب، ومن كل هذا النقد بعد عشر سنين أو بعد عشرين.

وفي المقابل، فإننا إذا ما أعدنا وَصْلَ ما انقطع مع التاريخ، في معالجة قضية الأشكال (formes) التي طرحها جون روسي(16)، سنتبين أن مشكل الأشكال الفارغة والأشكال المملوءة يَنْكَشِفُ انكشافا. وذلك لأنه لا وجود لأشكال فارغة، إننا لا نكتشف في الأدب إلا أشكالاً "تَغْتَمِرُها المادّة" بعبارة أرسطو(17). والعلاقات التي تقيمها الأشكال مع هذه المادة تختلف في حالة الأشكال عنها في حالة الصِّيَغِ (formules)، أقول الأشكال والصيغ، حتى أستعيد التمييز الذي أقامه روسي.

وستبدو لنا "حياة الأشكال" والانتقالُ من شكل إلى آخر، وكذلك لَعِبُ الشكل والمادة الْمُتَبادَلُ، كل ألئك سيبدو لنا أكثرَ وضوحا إنْ مَحّصْنا مُتَغَيِّراتِهِ في خِضَمّ التاريخ.

ولا يقتصر البحث التاريخي على ما شاعت تسميته بـ "خارجيات النص" فقطّ، وإنما التاريخ حاضر حتى في صُلْبِ العمل الأدبي نفسِه حُضوراً لا ينحصر في حالة بحثنا عن سيرة واحد من الرجال فقط، وإنما يحضر أيضا إنْ نظرنا إلى العمل الأدبي في حدّ ذاته، معزولاً عن مؤلفه. فهل يلزمنا التدليل، بعد هذا، على أن التاريخ حاضر في القارئ أيضاً؟

على هذا، وإذا كانت القراءةُ لقاءً بين كائنين، فلا يمكنها أن تكون إلا لقاء بين كائنين تاريخيين. وعلينا أن ننظر إلى قدرة المعرفة التاريخية على التقليل، في ذلك اللقاء، من حالات سوء الفهم، التي كان فاليري يتبرّم منها. أو بالأحرى، قدرتها على طمسها طمسا. لِنَجِدَ أن المعرفة التاريخية تستطيع التقليل من سوء الفهم، وتَعْجَزُ عن طمسه، لأنها، وهي تُوَضِّحُ المسافة التاريخية، لا تُلغيها. وأيّا يكنِ الأمر، يَظَلّ تغايُر الوعي، حتى بَعيدا عن المسافة التاريخية، مصدراً كافياً لسوء الفهم.

والحال أن رواد النّقد الجديد يعرفون كل هذا كما يعرفون أبناءَهم، ويكفي مُجَرَّدُ ذكر مؤلفاتهم لِتَبَيُّنِ ذلك. ولكن أزعم أنني لو أَلْحَقْتُ جورج بولي مثلاً، بحقل تاريخ الأفكار، فَلِيَ اليقينُ أنه مُجِيبُنِي، كما فَعَلَ البارحةَ، بأنه يَعُدُّ نفسه "كاتباً موضوعُ كِتابته الْكُتّابُ أنفسُهم". وأظن أن وراء رَفْضِ تاريخ الأفكار قضيةً لا بُدَّ من التّوقُّف عندها قليلا، وهي قضية الموضوعيّة (objectivite).

لطالما سمعت كلاماً في الموضوعية منذ بضعة أيام. وقد كان، كما هو الحال دائماً، كلاماً عن "الموضوعية الكاذبة"، موضوعيةِ المؤرخين وعلماء الاجتماع وكلِّ الّذين يبحثون عن حقيقةٍ "غيرِ مُجْدِية" خارجَ العمل الأدبي، ظانين أنهم قد ملكوها بِطُرُقٍ علمية.

وقد يَحْمِلُ المؤرخ على الناقد، عند الحديث عن الموضوعية الكاذبة، وإحاطةُ الناقد بـ "خارجيات النص" أفضلُ مما يتظاهر به. بيد أن من الأجدى التذكيرَ بأن الموضوعية العلمية، وموضوعية المؤرخ بصفة خاصة، ليست اليومَ بَتَاتاً ما كانت تريده منذ نصف قرن. فالمؤرخ لا يدّعي أنه مُدَوِّنٌ مجهول، أو رُؤية تتجاوز الفرديةَ، وهي بَصَرٌ حَديدٌ يَنْكَبُّ على حقيقة الأشياء. ويعلم المؤرخُ عِلْمَ اليقين أنه معاصرٌ لقُرّائه، وليس معاصرَ التاريخ الذي يرويه، وأنه لا يدرك هذا التاريخَ في اللحظة التاريخية التي حَدَثَ فيها، بل في اللحظة التاريخية التي يَعيشها هو. إنه يدرك في الحاضر عملا أدبيا من الماضي، مثل الناقد تماما، ولهذا يوجد تاريخٌ للتاريخ وكأنه تاريخ للنقد. من أجل ذلك، وَمِنْ أجل كلٍّ مِنْ طبيعة الحقيقة التي يتناولها التاريخ، وطريقةِ ذلك التّناوُل عبر مسافة تاريخية، كان التاريخ الكليّ مُتَعَذِّرًا تَعَذّرَ النّقد الكلّيّ.

وأخيرا، فإننا ندرك إدراكا أنّ الواقعةَ (fait) التاريخيةَ معزولةً غَيْرُ ذاتِ أهميةٍ في حَدّ ذاتها، وأن ما يُعتد به هو العلاقات التي تقيمها مع وقائعَ أخرى، أي نسقُ العلاقاتِ/ شبكةُ القراءة التي يُدْرِجُ المؤرِّخُ الواقعةَ فيها.

هل يسعنا القول، بعد الذي مَرَّ، إنه لا وجود لموضوعية تاريخية؟ الجواب، دون شك، بالنفي، وبأن هذه الموضوعيةَ التاريخية في أساسها مِنْ نَفْسِ طِينَةِ نظيرتِها النقدية، حيث إن المؤرخ، مثل الناقد، مُلْزَمٌ بأن يحرص كل الحرص على أن تكون قراءته/الشبكة التي يُسقِطها على الماضي مُلْتَئِمَةً (coherente)، وتأخذُ في حسبانها كلَّ الوقائع المعروفة. وفي هذا، وفي هذا فقط، تظهر الاختلافات بين المجالين التاريخي والنقدي، فالوقائع التاريخيةُ أقلّ طَواعَةً من الوقائع الأدبية، على جميع الأصعدة، بسبب ما سماه إرنست بلوش سنة 1959 "مقاومة الموضوع".

ولكن يكون لِزاما على المؤرخ، بوجه خاص، أن يُدْرِجَ في شبكته عددا مُعْتَبَرًا من الوقائع المتنافِرة. ولو أنه أراد لشبكاته أن تكون ملتئمة فإن العدد الممكن منها يصير محدوداً جداً. على أن المؤرخ لا يستطيع ادعاء الوصول إلى القراءة المطلقة والكلية والنهائية، وهو والناقد في هذا سَوَاءٌ.

إن التاريخ، مثل العمل الأدبي، يتجاوز المؤرخ والناقد، بل الأمر أكثر من هذا، لأنه يستغرقُهُما.

والنتيجة أن المؤرخ لا يُجاوِزُ طائعًا حقل النقد والمناهج الإحصائية، مدفوعًا بـ "موضوعية كاذبة"، ولا لأنه يدّعي تفسيرا مباشرا للعمل الأدبي بواسطة كل ما ليس منه في شيء، ولكنه يفعل ذلك سعيا وراء إدراكِ مقام (situation) تاريخيّ إدراكاً شاملاً ما أمكن، وهو يعلم أن هذا المقام حاضر في صُلب كل عمل أدبي، وإنْ على نحو أصيل. لأن المهم، والحالة هاته، ليس كونُ كلِّ عمل أدبي يوجد في حمأة التاريخ، وهو أمر بدهي، وإنما المهم أن يكون التاريخ في العمل الأدبي كلِّه.

بقي أن نقول إن البحث التاريخي مُطالَبٌ ببذل الجهود ابتغاءَ أن يُدْرِكَ عن كَثَبٍ الطريقةَ التي يُقَدَّمُ بها المقام التاريخي في قَلْبِ نِتاج فَنِّيٍّ ما.

ويَقَعُ على عاتق تاريخ الأفكار أن يُوَسِّعَ مباحِثَه، دون أن يتخلى عن مناهجه، وعن ذلك الحذرِ الذي يُلامُ عليه، بالرغم من أنه، على الأقل، يعصمه من التعميمات الأكثرِ براعةً. وعليه، بصفة خاصة، ألا يَسْتَنْكِفَ أنْ يدرسَ الأنساقَ المفهومية، التي يُعَبَّرُ فيها عن فِكْرِ عَصْرٍ من العصور، مَوْصولاً بِحُدوسِهِ المباشِرة وبِمنطقِه الخاصّ. ولن يتسنى هذا المطلب لتاريخ الأفكار إلا إذا عَمَّقَ بُحُوثَهُ تعميقاً، لِمُحاولةِ إدراك الأشكال التاريخية لبنيات الإحساس (sensibilite) والخيال العميقة.

ولا نَعْدَمُ بحوثا من هذا النوع، ولا بد من الْمُضِيِّ فيها بأكبر قدر من الإمعان والصرامة الدائمين، لعل ذلك أن يُعْقِبَنا الوصولَ إلى الْمَصْدَرِ السِّرِّيِّ، الذي يستقي منه رجالُ العصر نفسِه زُرافاتٍ ووُحْدانًا صِبْغَةَ ذلك العصرِ التاريخيةَ والاجتماعيةَ والسياسيةَ والاقتصاديةَ. وهي صبغة تَحْمِلُ أعمالُهم سِمَتَهَا بالتأكيد.

لَمْ أَذْكُرْ، في كل ما سبق، تَخَلّقَ (genese) الأعمال الأدبية، وذلك لأن التأصيل التاريخي، عندي، يُغَذِّي كلَّ عملٍ أدبي ويَسِمُهُ، ولكنه لا يُنْتِجُهُ. وإنّ عملاً من الأعمال الأدبية ليس أمرا وَارِدًا في أية لحظة من لحظات التاريخ. وفي المقابل، لا يمكن أن يكون ضروريّاً أبداً. إن العمل الأدبي يوجَد في التاريخ، ولا يوجد بواسطته، وهذا ما يجعله، في تقديري، صورةً للإنسان. 

أستاذ باحث وشاعر من المغرب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الهوامش من وضع المترجم، وكذلك ما هو بين معقوفتين في المتن.
* Les chemins actuelles de la critiques, centre culturel de Cerisy, ensemble dirige par: Georges Poulet, union generale d'edition, 1968, chapitre XIII.
(1) ـ النقد الجديد: مدرسة نقدية ازدهرت في النصف الأول من القرن العشرين، بالولايات المتحدة الأمريكية وإنجلترا. من أهم مبادئها الدعوة إلى عزل النص عن كل المعطيات الخارجية، والنظر إليه بوصفه بنية مكتفية بذاتها. وقد أثرت تأثيرا كبيرا على المدرسة البنيوية. ومن روادها: "جون كرو رانسوم" و "كلينيت بروكس". وقد أُطلقت هذه التسمية في الستينيات على البنيوية الفرنسية التي ثارت على ما سماه "رولان بارت"، في كتابه "النقد والحقيقة"، بـ "اللانصونية"، أو نقد الجامعة الكلاسيّ، والذي قرنه بالإيديولوجيا الوضعية البورجوازية وبالرجعية السياسية والفكرية. ينظر: "عصر البنيوية: من ليفي شتراوس على فوكو، إديث كيرزويل، ترجمة جابر عصفور، عيون، ط 2 / 1986، الدار البيضاء، ص: 187 ـ 188". و "مناهج النقد المعاصر، د. صلاح فضل، أفريقيا الشرق 2002، ص: 71 ـ 72".
(2) ـ "سطيفان مالارمي" (1842 ـ 1898): شاعر فرنسي من المجددين. من أعماله: "صفحات"، و "أشعار". والشاهد مقتطف من مرثية له في "إدكار بو"، عنوانها: "قبر إدكار بو". ويصور "مالارمي" في القصيدة انتصار عبقرية الشاعر على عصره. ينظر:
La poetique de Stephane Mallarme, Samir Marzouti et Kamal Gaha, Maison neuve et Larose, 2002, p: 161.
(3) ـ "تيوفيل كوتيي" (1811 ـ 1872): شاعر وناقد وفنان تشكيلي فرنسي. من أعماله: "الآنسة دوموبان" و "رحلة إلى روسيا". والعبارة في الفقرة مقتطفة من قصيدته "الفنان"، يقول فيه: "والفن العظيم وحيد في الخلود".
Relire Theophile Gautier, Freeman G. Henry, Rodopi, 1998, p: 130.
(4) ـ "جون راسين" (1639 ـ 1699): شاعر فرنسي برع في التراجيديا. ومن تراجيدياته: "الإسكندر الأكبر"، و "أندروماك"، و "فيدر".
(5) ـ "غوستاف فلوبير" (1821 ـ 1880): أديب فرنسي، من أعماله: "مدام بوفاري" و "صلامبو". تميزت أعماله بالتحليلات النفسية العميقة وبخصوبتها الدلالية.
(6) ـ "ميشال دو مونطيني" (1533 ـ 1529): فيلسوف وسياسي فرنسي من رواد النهضة. عرف بالدفاع عن مذهب الشك. وفد جاء كتابه "محاولات" مزعزعا كل اليقينيات، حتى اضطرت الكنيسة إلى منعه وتحويره.
(7) ـ "بليز باسكال" (1623 ـ 1662): فيزيائي ورياضي وفيلسوف فرنسي. من أعماله: "أفكار"، و "حوار مع السيد دو ساسي". يمثل في نظر الماركسية تحول الفكر الغربي إلى فكر جدلي، ينظر:
Le XVII eme siecle en litterature, Xavier Darcos et Bernard Tartayare, Hachette, 1987, p: 166.
(8) ـ "جون جاك روسو" (1712 ـ 1778): فيلسوف وموسيقي وأديب ومنظر في التربية. ولد في جنيف. يعد من أكبر رواد الرومانسية، وذا أثر عميق في فكر النهضة. ومن أعماله: "إميل"، و "رسائل أخلاقية"، و "العقد الاجتماعي".
(9) ـ "فيدر": تدل في اللغة اليونانية على النّور، وهي شخصية أسطورية. و "فيدر" عنوان آخر مسرحيات راسين. ويعدها أفضل تراجيدياته. وقد ألبت عليه الحساد، وانصرف بعدها عن الكتابة إلى خدمة الملك والدين. ينظر لمزيد من التفصيل:
Le XVII eme siecle en litterature, oc, p: 289.
(10) ـ "خطاب في اللامساواة": نشرته أكاديمية "ديجون" سنة 1755، تحت عنوان: "ما أصل اللامساواة بين البشر؟ وهل يسمح بها القانون الطبيعي"؟
(11) ـ "إليزابيت صوفي دوديطو" (1730 ـ 1813): حاكمة كونية (comtesse)، عُرفت باحتضان رجال الفكر والأدب في "صالونها". أحبها "روسو" أثناء كتابة روايته "هيلويز الجديدة"، لكنها ظلت وفية للشاعر جان فرانسوا دو سان لامبير.
(12) ـ "هيلويز الجديدة" أو "جولي": وعنوانها الأول: "رسائل عاشقين"، صدرت سنة 1761. تناولت العواطف الإنسانية الجارفة ومفاتن الطبيعة.
(13) ـ "بول فاليري" (1871 ـ 1945): شاعر وفيلسوف فرنسي. من أعماله: "أزمة الفكر"، و "مدخل إلى منهج ليونار دو فانسي".
(14) ـ "بيير كارلي دو شومبلان ماريفو" (1688 ـ 1763): صحفي وروائي ومسرحي فرنسي. من أعماله رواية "حياة ماريان"، ومسرحية "جزيرة العبيد".
(15) ـ للتوسع في موقف "جون ريكاردو" ينظر:
Les chemins actuelles de la critiques, oc, p: 214.
(16) ـ يقترح "جون روسي" التمييز بين "الشكل" (forme)، ويقصد به مزيجا من الرؤية/ المحتوى والشكل/ الخُطاطة، وهو ما يشكل مجموع العمل الأدبي، وبين الصيغة (formule) التي يعدها شكلا صغيرا، أي شكلا خرج من الاستخدام العام النمطي إلى الاستخدام الخاص بكل مبدع. ويرى أن الصيغة قد تصبح شكلا إذا تعلق الأمر بإبداع خلّاق أصيل. وقد كان هذا التمييز بغاية إقصاء ما يسميه الشكل الفارغ، وهو مجموع الإمكانات الأجناسية لجنس معين مُجَرَّدَةً، من مثل الحذف والمناجاة والحوار والحذف والاستباق في جنس الرواية مثلا. للتوسع في موقفه ينظر:
Les chemins actuelles de la critiques, oc, p: 67 - 68, et voir aussi: A l'ombre de la litterature, Brian T. Fitch, XYZ editeur, 2000, p: 171.
(17) ـ استعار الناقد هذه العبارة من موقف أرسطو من العلاقة بين الإدراك العقلي والمادة الْمُدْرَكَةِ، وهو موقف وسط بين المادية والروحية، حيث يرى أرسطو أن الإدراك متعالق مع المادة. ينظر موقف أرسطو وتأويلات الفلاسفة، في:
Correspondance, 1633 - 1672, Gottfried Wilhelm Leibniz, Jacob Thomasius, Richard Bodeus, Librairie philosophique, J. Vrin, 1993, p: 91.