يقارب الناقد العراقي نص الكاتبة ميسلون هادي، من خلال العتبة الأولى "الغلاف" الى رصد موضوعة النص والشخصيات. مستلهما سمات "الواقعية السحرية" في عمل يحاول أن يستلهمها داخل أجوائه.

عن ميسلون هادي ونبوءة فرعون

عبد الستار ناصر

أغلفة الكتب هي التي ترغمني أحياناً على قراءة ما فيها، وتأتي ثانية أسماء مبدعيها، لا أحد يدري ما يفعله الغلاف من سحر في النفس قبل أن تفتح الصفحات وترى أبطال الروايات والقصص والحكايات تتحرك ثمة بين السطور والفوارز. غلاف (نبوءة فرعون) واحد من تلك اللوحات المذهلة التي رسمها الفنان البولوني الكبير (فيسلاف فالكوسكي) وكان من حظ الكاتبة ميسلون هادي أن يكون من نصيبها مع تصميم حاذق للفنان الشاعر زهير أبو شايب. أعرفها وأقرأ لها منذ ما يزيد على ثلاثين سنة، هل يقال عن المرأة (عصامية) في حياتها كما يقال عن الرجل؟ لكنها صبورة أيضاً عندما يتعلق الأمر بإبداعها، فما زلت أتذكر كتاباتها، وبخاصة تلك القصص القصيرة التي أشارت منذ البداية الى موهبتها والتي قرأناها في أجمل مجاميعها القصصية: رومانس، رجل خلف الباب، لا تنظر الى الساعة، وأشياء لم تحدث، التي نشرتها ما بين القاهرة وبغداد ودمشق، وقد سبق لي القول إن ميسلون هادي في قصتها (أجنحة للفراشات) كانت قريبة من أجواء الكاتبة الشهيرة كاترين مانسفيلد، واعترفت ميسلون في سيرتها بأن تلك القصة كانت هي البداية الصحيحة لها.

كثيرة متشعبة هي أفكارها، لا تستقر على حال واحد في المخبوء من شخصياتها كما هو حال العشرات من كاتباتنا العربيات، وكم من اسم توارى في زمن نسبي بسبب تكرار الفكرة أو تكرار ملامح الشخصية، وهو العيب الذي سقطت فيه أسماء من كتبن القصة القصيرة واللواتي خسرن آخر أوراقهن حينما ذهبن دونما سلاح الى جبهة الرواية، مع أن الشوط الى هناك يحتاج الى خبرة عالية وتجربة حياتية عسيرة المنال.

في روايتها (نبوءة فرعون) اختصرت ميسلون زمن الشخصيات في ستة سطور، إذ تبدأ في نهاية القرن العشرين وأواخر العصر التلفزيوني الوسيط، وهو العصر الذي يقع بين أيام (أورزدي باك) وليالي الستلايت، وهو زمن خبيث رسمته الكاتبة بدقة رسام خرائط عفوي المزاج،وفي السطور الستة نفسها نتعرف على الشخصيات أيضاً: منصور ماشي السالمدار وزوجته بلقيس وعشرة أخوة وتوأم بنات قضت إحداهما مخنوقة في رحم الأم والثانية نصف منغولية بلهاء.

منصور الأب يموت في الحرب أيام غزو الكويت، العالم مزحوم بالقاذفات والقنابل والطائرات، والبلاد صارت محض خراب يتناسل عن خراب سابق في طريقها الى خراب أعم، لكن النسوة (يحبلن) برغم ذلك ولا أحد يسأل عما سيحدث من زحام وجوع وأسى، حتى الكاتبة نفسها صارت في حيرة من أمرها، وانقلب السرد الى ما يشبه الشعر حيث نسمع المطربة فيروز وهي تروي قصة عذاب وحب وحكاية غرام. الموروث الشعبي له حصة كبيرة في نبوءة فرعون، والمسميات لها وقع غنائي عند ذكرها، ربما نسينا الكثير منها، لكن ميسلون هادي تتذكرها بقوة، وتعمل على سحبها نحو متن الرواية، وحتى اختيارها ما ورد في سورة هود، جاء في مكانه الصحيح (وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء اقلعي وغيض الماء وقضي الأمر....) فهذا هو حال البلاد التي كان اسمها العراق منذ آلاف السنين والتي عانت من أهوال ومن نكبات لا يقوى على وصفها أحد.

شخصيات ميسلون تأتي عادة من قاع المدينة حيث لا وزراء ولا رجال أعمال ولا مجتمع مخملي، بل هي ذاك النوع من البشر المشائين البسطاء القانعين بكل ما هم عليه من ضنك ورزق حلال مع حفنة أحلام لا تزيد على وفرة أكبر في التموين وحياة هادئة بلا أوجاع أو منغصات، وبرغم ذلك نجدهم (هم وقناعاتهم) في أول طابور الشقاء والبلاوي، كما لو أن القدر لا يرى غيرهم في الطريق. بلقيس مثلاً تأتي من الدائرة نحو بيتها مشياً على قدمين، تكتفي بالنظر الى العطور والمجوهرات والتحف المنزلية دون أن تشتري شيئاً منها، فهي لا تعرف حتى الفرق بين ماعون الطعام ومنفضة السجائر الكرستال، هي تعرف الجوري والبزرنكوش والسرخس ولسان الثور، وإذا ما ضحكت ستخاف من ضحكتها وتقول (ضحكة خير وشرها على إبليس).. وبقية أبطالها من الطينة نفسها، يعلمون أن (الإنسان المسكين) عادة ما يحترق في كبرياء الشرير كما جاء في مزامير داوود، وقد اقترحت ميسلون هذا القول في مبتدأ الرواية ص 9.

ليس من عواطف مؤجلة في كتابات ميسلون هادي، بل نراها تسفحها مع أبطالها دفعة واحدة، بنسبة ما يمتلكه بطل أو بطلة القصة من صفات، حتى السيئون لهم حصة من عواطفها، إذ ترمي بهم، كعقاب، ما بين الحلم والتوهم، من يدري، ربما تستيقظ الشخصية في منتصف الدرب وتشعر بوخز ضمير يمنعها من تكرار الإساءة. ولها في عناوين أعمالها ما ينطوي على كثير من الريبة والتوجس، ربما تكتب العنوان أكثر من مرة حتى تهتدي صوب ما تحبه في آخر الشوط،ثمة نكهة خاصة في عملية الوصول الى (عنوان) كما هو الحال مع: رجل خلف الباب، لا تنظر الى الساعة، العالم ناقصاً واحد، وأيضاً نبوءة فرعون الرواية التي وقفت عندها أكثر من سواها، وجماليات العنوان تأخذ على ما يبدو الكثير من انشغالات المبدعين في كل مكان، ولدى ميسلون هادي أرى عمقاً وزواجاً ناجحاً ما بين المعنى والعنوان في أغلب ما كتبت.

ثمة أشياء ينبغي ذكرها، نحن في العراق لا نقول (خيال المآتة) بل نقول (فزاعة خضرة) أو (فزاعة طيور) وبنات الفنان جارهم عبد الملك، أعطى بناته الثلاث أسماء جاءت ثقيلة على السمع والقراءة في سياق السرد، برغم أنها أسماء تبدو أنيقة طبعاً (ملائكة، ليلك، ناي) وغير ذلك ما تفعله الكاتبة عند ذكر الأشياء، فهي لا تكتفي بذكر ثلاثة أو خمسة أو حتى سبعة أشياء بل تأتي على ذكر كل ما تعرفه من أعشاب أو خضروات أو معلومات أو أسلحة، وسوف أختار من ذلك ما ورد في الصفحتين 41 و42 عندما تنتقل بطلة الرواية بلقيس بين البيوت الزجاجية وهي تسأل عن (السرخس والصبار واللبلاب وقدم البط وأذن الفيل ولسان الطير وجلد النمر ومخلب القط وعرف الديك ودمعة الطفل وإبرة آدم والشمشار والبزرنكوش والعطرة والجوري والقرنفل والجربرة وعيون البزون والشبوي والجورانيوم والكاردينيا) وغيرها من النباتات، وكان على ميسلون هادي أن تتذكر أن الرواية (أية رواية) برغم طولها لا تحتاج الى المعلومات كلها لاسيما إذا جاءت في مكان واحد.

***

تستفيد ميسلون من إرث الواقعية السحرية، عندما تركت الابن (يحيا) يسمع أصواتاً تنبعث من هنا وهناك حيث لا أصوات تسمع بالنسبة لبقية الشخوص، وعلى الصفحة 80 يكرر الطفل كلمة (صاروخ) سرعان ما تسمع أمه وبقية العائلة صوت زجاج يتكسر وستائر تتمزق وسندانة اللبلاب انكسرت أيضاً وعجاجة رهيبة دفنت الحديقة بأكوام من التراب، وتأكد لهم جميعاً أن ما يتناهى الى (يحيا) ليست غير أصوات يسمعها هذا الطفل قبل غيره بمسافة زمنية لا تصدق، فها هو الصاروخ وقد أصاب إحدى البنايات الحكومية على مقربة من البيت وماتت دجاجات (هنية) اختناقاً، بينما نجا الديك وحده من موت محقق.

تأخذ الرواية (نبوءة فرعون) أفضل حالاتها منذ الصفحة 137 حتى نهايتها،يتغير الكلام من صيغة الصراخ الصامت الى الصمت الجارح، الى الاعتراض على كل شيء والخوف من أي شيء، فقد قامت الحرب (وانفتح قميص بغداد) وحلت الطامة الكبرى ولم يعد من أحد يصدق أناشيد النصر ومعزوفات الطبول الصاخبة، ليس من شك أن ساعة الحسم قد غمرت بغداد بطوفان مسبوك من الخوف والماء والسؤال المبهم: ماذا حدث فعلاً وما هو شكل المصير الذي ينتظر العراقيين؟

ميسلون هادي تكتب الرواية من نهايتها، لغة صادمة وشخصيات مصدومة والرصاص وحده من يقرر آخر المطاف، والشخصيات المهمشة تأخذ دورها أيضاً في هذا المصير، كما لو أن الحرب جمعتهم ثانية في صورة واحدة، وعندما يختفي (يحيا) ابن بلقيس، تشعر أن الدنيا كلها تبحث عن (يحيا) حتى تحيا، فقد تم اختيار اسمه عن سابق تصميم من أول الرواية. ما يزال الرصاص (يلعلع) في الطرقات وقميص (يحيا) ما يزال بدون أكمام،ثوب المدرسة، وعلى شاكرين (أخته) أن تخيط بقية القميص، ثم يبدأ مسلسل الموت مع الجار الفنان عبد الملك وتماثيل الأمس تتحطم في كل مكان، لا فرق بين هذا وذاك، البلد خربانة والسرقات لم تترك وزارة ولا مؤسسة ولا أسواق إلا وجاء اللصوص إليها، اللامعقول وحده الذي يمشي في الشوارع وليس من أحد يمشي معه غير الجنون.

سطور كثيرة من الرواية نحتاج الى تكرار ذكرها (هنا) لكنها ستأخذ عشرات الصفحات، نكتفي بالإشارة إليها (ص 151 و 153 و 160 و 176) وحتى آخر صفحة من نبوءة فرعون. تنتهي الرواية صوب السرمدية، هناك حيث نرى الموتى وهم أحياء، أو أحياء لكنهم موتى منذ زمان بعيد، تختلط الحقائق بالأوهام، ليس من عشبة للخلود، فمنهم من يصل أرذل العمر ومنهم من ينتظر، لكن (يحيا) يموت في عتمة مضيئة، حيث لا أحد يدري كيف يجيء الضوء دامساً مثل قبر مفتوح تحت سماء بلا قمر ولا نجوم، والنهاية أيضاً جاءت مفتوحة على سؤال لا جواب عليه سوى القول (إن القدر مكان) ونحن جئنا الى المكان على غفلة من القدر، وقد رأينا ما لم يره غيرنا من البشر.

نبوءة من، أن نكون وحدنا في المكان الذي لا يأتي إليه أحد غيرنا؟

كاتب من العراق